غذاء الروح
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 رواية انت لي

اذهب الى الأسفل 
3 مشترك
انتقل الى الصفحة : الصفحة السابقة  1, 2, 3  الصفحة التالية
كاتب الموضوعرسالة
اللؤلؤة السوداء
القائد "V"
القائد
اللؤلؤة السوداء


عدد المساهمات : 186
النقاط : 10340
التقييم : 5
تاريخ التسجيل : 21/07/2011
العمر : 38

رواية انت لي - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رواية انت لي   رواية انت لي - صفحة 2 Emptyالأحد يوليو 24, 2011 6:06 am

تذكير بمساهمة فاتح الموضوع :

حبيت اشاركم بالروايه الرائعة انت لي
اناحبيتها كتير ان شاء الله تعجبكم


مخلوقة إقتحمت حياتي !

توفي عمي و زوجته في حادث مؤسف قبل شهرين ، و تركا طفلتهما الوحيدة ( رغد ) و التي تقترب من الثالثة من عمرها ... لتعيش يتيمة مدى الحياة .

في البداية ، بقيت الصغيرة في بيت خالتها لترعاها ، و لكن ، و نظرا لظروف خالتها العائلية ، اتفق الجميع على أن يضمها والدي إلينا و يتولى رعايتها
من الآن فصاعدا .

أنا و أخوتي لا نزال صغارا ، و لأنني أكبرهم سنا فقد تحولت فجأة إلى
( رجل راشد و مسؤول ) بعد حضور رغد إلى بيتنا .

كنا ننتظر عودة أبي بالصغيرة ، (سامر) و ( دانة ) كانا في قمة السعادة لأن عضوا جديدا سينضم إليهما و يشاركهما اللعب !

أما والدتي فكانت متوترة و قلقة

أنا لم يعن ِ لي الأمر الكثير

أو هكذا كنت أظن !


وصل أبي أخيرا ..

قبل أن يدخل الغرفة حيث كنا نجلس وصلنا صوت صراخ رغد !

سامر و دانة قفزا فرحا و ذهبا نحو الباب راكضين


" بابا بابا ... أخيرا ! "


قالت دانه و هي تقفز نحو أبي ، و الذي كان يحمل رغد على ذراعه و يحاول تهدئتها لكن رغد عندما رأتنا ازدادت صرخاتها و دوت المنزل بصوتها الحاد !


تنهدت و قلت في نفسي :


" أوه ! ها قد بدأنا ! "


أخذت أمي الصغيرة و جعلت تداعبها و تقدم إليها الحلوى علها تسكت !

في الواقع ، لقد قضينا وقتا عصيبا و مزعجا مع هذه الصغيرة ذلك اليوم .

" أين ستنام الطفلة ؟ "

سأل والدي والدتي مساء ذلك اليوم .

" مع سامر و دانه في غرفتهما ! "

دانه قفزت فرحا لهذا الأمر ، إلا أن أبي قال :

" لا يمكن يا أم وليد ! دعينا نبقيها معنا بضع ليال إلى أن تعتاد أجواء المنزل، أخشى أن تستيقظ ليلا و تفزع و نحن بعيدان عنها ! "

و يبدو أن أمي استساغت الفكرة ، فقالت :

" معك حق ، إذن دعنا ننقل السرير إلى غرفتنا "

ثم التفتت إلي :

" وليد ،انقل سرير رغد إلى غرفتنا "

اعترض والدي :

" سأنقله أنا ، إنه ثقيل ! "

قالت أمي :

" لكن وليد رجل قوي ! إنه من وضعه في غرفة الصغيرين على أية حال ! "

(( رجل قوي )) هو وصف يعجبني كثيرا !

أمي أصبحت تعتبرني رجلا و أنا في الحادية عشرة من عمري ! هذا رائع !

قمت بكل زهو و ذهبت إلى غرفة شقيقي و نقلت السرير الصغير إلى غرفة والدي .

عندما عدتُ إلى حيث كان البقية يجلسون ، وجدتُ الصغيرة نائمة بسلام !

لابد أنها تعبت كثيرا بعد ساعات الصراخ و البكاء التي عاشتها هذا اليوم !

أنا أيضا أحسست بالتعب، و لذلك أويت إلى فراشي باكرا .
~~~~~~~~~
نهضت في ساعة مبكرة من اليوم التالي على صوت صراخ اخترق جدران الغرفة من حدته !

إنها رغد المزعجة

خرجت من غرفتي متذمرا ، و ذهبت إلى المطبخ المنبعثة منه صرخات ابنة عمي هذه

" أمي ! أسكتي هذه المخلوقة فأنا أريد أن أنام ! "

تأوهت أمي و قالت بضيق :

" أو تظنني لا أحاول ذلك ! إنها فتاة ٌصعبة ٌ جدا ! لم تدعنا ننام غير ساعتين أو ثلاث والدك ذهب للعمل دون نوم ! "

كانت رغد تصرخ و تصرخ بلا توقف .

حاولت أن أداعبها قليلا و أسألها :

" ماذا تريدين يا صغيرتي ؟ "

لم تجب !

حاولت أن أحملها و أهزها ... فهاجمتني بأظافرها الحادة !

و أخيرا أحضرت إليها بعض ألعاب دانه فرمتني بها !

إنها طفلة مشاكسة ، هل ستظل في بيتنا دائما ؟؟؟ ليتهم يعيدوها من حيث جاءت !

في وقت لاحق ، كان والداي يتناقشان بشأنها .

" إن استمرت بهذه الحال يا أبا وليد فسوف تمرض ! ماذا يمكنني أن أفعل من أجلها ؟ "

" صبرا يا أم وليد ، حتى تألف العيش بيننا "

قاطعتهما قائلا :

" و لماذا لا تعيدها إلى خالتها لترعاها ؟ ربما هي تفضل ذلك ! "

أزعجت جملتي هذه والدي فقال :

" كلا يا وليد ، إنها ابنة أخي و أنا المسؤول عن رعايتها من الآن فصاعدا . مسألة وقت و تعتاد على بيتنا "

و يبدو أن هذا الوقت لن ينتهي ...

مرت عدة أيام و الصغيرة على هذه الحال ، و إن تحسنت بعض الشيء و صارت تلعب مع دانه و سامر بمرح نوعا ما

كانت أمي غاية في الصبر معها ، كنت أراقبها و هي تعتني بها ، تطعمها ، تنظفها ، تلبسها ملابسها ، تسرح شعرها الخفيف الناعم !

مع الأيام ، تقبلت الصغيرة عائلتها الجديدة ، و لم تعد تستيقظ بصراخ و كان على وليد ( الرجل القوي ) أن ينقل سرير هذه المخلوقة إلى غرفة الطفلين !

بعد أن نامت بهدوء ، حملتها أمي إلى سريرها في موضعه الجديد . كان أخواي قد خلدا للنوم منذ ساعة أو يزيد .

أودعت الطفلة سريرها بهدوء .

تركت والدتي الباب مفتوحا حتى يصلها صوت رغد فيما لو نهضت و بدأت بالصراخ

قلت :

" لا داعي يا أمي ! فصوت هذه المخلوقة يخترق الجدران ! أبقه مغلقا ! "

ابتسمت والدتي براحة ، و قبلتني و قالت :

" هيا إلى فراشك يا وليد البطل ! تصبح على خير "

كم أحب سماع المدح الجميل من أمي !

إنني أصبحت بطلا في نظرها ! هذا شيء رائع ... رائع جدا !

و نمت بسرعة قرير العين مرتاح البال .

الشيء الذي أنهضني و أقض مضجعي كان صوتا تعودت سماعه مؤخرا

إنه بكاء رغد !

حاولت تجاهله لكن دون جدوى !

يا لهذه الـ رغد ... ! متى تسكتيها يا أمي !

طال الأمر ، لم أعد أحتمل ، خرجت من غرفتي غاضبا و في نيتي أن أتذمر بشدة لدى والدتي ، إلا أنني لاحظت أن الصوت منبعث من غرفة شقيقي ّ
نعم ، فأنا البارحة نقلت سريرها إلى هناك !

ذهبت إلى غرفة شقيقي ّ ، و كان الباب شبه مغلق ، فوجدت الطفلة في سريرها تبكي دون أن ينتبه لها أحد منهما !

لم تكن والدتي موجودة معها .

اقتربت منها و أخذتها من فوق السرير ، و حملتها على كتفي و بدأت أطبطب عليها و أحاول تهدئتها .

و لأنها استمرت في البكاء ، خرجت بها من الغرفة و تجولت بها قليلا في المنزل

لم يبد ُ أنها عازمة على السكوت !

يجب أن أوقظ أمي حتى تتصرف ...

كنت في طريقي إلى غرفة أمي لإيقاظها ، و لكن ...

توقفت في منتصف الطريق ، و عدت أدراجي ... و دخلت غرفتي و أغلقت الباب .

والدتي لم تذق للراحة طعما منذ أتت هذه الصغيرة إلينا .

و والدي لا ينام كفايته بسببها .

لن أفسد عليهما النوم هذه المرة !

جلست على سريري و أخذت أداعب الصغيرة المزعجة و ألهيها بطريقة أو بأخرى حتى تعبت ، و نامت ، بعد جهد طويل !

أدركت أنها ستنهض فيما لو حاولت تحريكها ، لذا تركتها نائمة ببساطة على سريري و لا أدري ، كيف نمت ُ بعدها !

هذه المرة استيقظت على صوت أمي !

" وليد ! ما الذي حدث ؟ "

" آه أمي ! "

ألقيت نظرة من حولي فوجدتني أنام إلى جانب الصغيرة رغد ، و التي تغط في نوم عميق و هادىء !

" لقد نهضت ليلا و كانت تبكي .. لم أشأ إزعاجك لذا أحضرتها إلى هنا ! "

ابتسمت والدتي ، إذن فهي راضية عن تصرفي ، و مدت يدها لتحمل رغد فاعترضت :

" أرجوك لا ! أخشى أن تنهض ، نامت بصعوبة ! "

و نهضت عن سريري و أنا أتثاءب بكسل .

" أدي الصلاة ثم تابع نومك في غرفة الضيوف . سأبقى معها "

ألقيت نظرة على الصغيرة قبل نهوضي !

يا للهدوء العجيب الذي يحيط بها الآن!

بعد ساعات ، و عندما عدت إلى غرفتي ، وجدت دانه تجلس على سريري بمفردها . ما أن رأتني حتى بادرت بقول :

" أنا أيضا سأنام هنا الليلة ! "

أصبح سريري الخاص حضانة أطفال !

فدانه ، و البالغة من العمر 5 سنوات ، أقامت الدنيا و أقعدتها من أجل المبيت على سريري الجذاب هذه الليلة ، مثل رغد !

ليس هذا الأمر فقط ، بل ابتدأت سلسلة لا نهائية من ( مثل رغد ) ...

ففي كل شيء ، تود أن تحظى بما حظيت به رغد . و كلما حملت أمي رغد على كتفيها لسبب أو لآخر ، مدت دانه ذراعيها لأمها مطالبة بحملها (مثل رغد ) .

أظن أن هذا المصطلح يسمى ( الغيرة ) !

يا لهؤلاء الأطفال !

كم هي عقولهم صغيرة و تافهة !
~~~~~~
كانت المرة الأولي و لكنها لم تكن الأخيرة ... فبعد أيام ، تكرر نفس الموقف ، و سمعت رغد تبكي فأحضرتها إلى غرفتي و أخذت ألاعبها .

هذه المرة استجابت لملاعبتي و هدأت ، بل و ضحكت !

و كم كانت ضحكتها جميلة ! أسمعها للمرة الأولى !

فرحت بهذا الإنجاز العظيم ! فأنا جعلت رغد الباكية تضحك أخيرا !

و الآن سأجعلها تتعلم مناداتي باسمي !

" أيتها الصغيرة الجميلة ! هل تعرفين ما اسمي ؟ "

نظرت إلي باندهاش و كأنها لم تفهم لغتي . إنها تستطيع النطق بكلمات مبعثرة ، و لكن ( وليد ) ليس من ضمنها !

" أنا وليد ! "

لازالت تنظر إلى باستغراب !

" اسمي وليد ! هيا قولي : وليد ! "

لم يبد ُ الأمر سهلا ! كيف يتعلم الأطفال الأسماء ؟

أشرت إلى عدة أشياء ، كالعين و الفم و الأنف و غيرها ، كلها أسماء تنطق بها و تعرفها . حتى حين أسألها :
" أين رغد ؟ "

فإنها تشير إلى نفسها .

" و الآن يا صغيرتي ، أين وليد ؟ "

أخذت أشير إلى نفسي و أكرر :

" وليد ! وليـــد ! أنا وليد !

أنت ِ رغد ، و أنا وليد !

من أنتِ ؟ "

" رغد "

" عظيم ! أنتِ رغد ! أنا وليد ! هيا قولي وليد ! قولي أنت َ وليد ! "

كانت تراقب حركات شفتيّ و لساني ، إنها طفلة نبيهة على ما أظن .

و كنت مصرا جدا على جعلها تنطق باسمي !
" قولي : أنــت ولـيـــد ! ولــيـــــــد ...

قولي : وليد ... أنت ولـــــيـــــــــــــــــــــد ! "

" أنت َ لــــــــــــــــــــي " !!

كانت هذه هي الكلمة التي نطقت بها رغد !
( أنت َ لي ! )

للحظة ، بقيت اتأملها باستغراب و دهشة و عجب !

فقد بترت اسمي الجميل من الطرفين و حوّلته إلى ( لي ) بدلا من
( وليد ) !

ابتسمت ، و قلت مصححا :

" أنت َ وليـــــــــــــد ! "

" أنت َ لــــــــــــــــــي "
كررت جملتها ببساطة و براءة !

لم أتمالك نفسي ، وانفجرت ضحكا ....

و لأنني ضحكت بشكل غريب فإن رغد أخذت تضحك هي الأخرى !

و كلما سمعت ضحكاتها الجميلة ازدادت ضحكاتي !

سألتها مرة أخرى :
" من أنا ؟ "

" أنت َ لـــــــــــــي " !

يا لهذه الصغيرة المضحكة !

حملتها و أخذت أؤرجحها في الهواء بسرور ...

منذ ذلك اليوم ، بدأت الصغيرة تألفني ، و أصبحت أكبر المسؤولين عن تهدئتها متى ما قررت زعزعة الجدران بصوتها الحاد ....
~~~~~~
انتهت العطلة الصيفية و عدنا للمدارس .
كنت كلما عدت من المدرسة ، استقبلتني الصغيرة رغد استقبالا حارا !

كانت تركض نحوي و تمد ذراعيها نحوي ، طالبة أن أحملها و أؤرجحها في الهواء !

كان ذلك يفرحها كثيرا جدا ، و تنطلق ضحكاتها الرائعة لتدغدغ جداران المنزل !

و من الناحية الأخرى ، كانت دانة تطلق صرخات الاعتراض و الغضب ، ثم تهجم على رجلي بسيل من الضربات و اللكمات آمرة إياي بأن أحملها ( مثل رغد ) .

و شيئا فشيا أصبح الوضع لا يطاق ! و بعد أن كانت شديدة الفرح لقدوم الصغيرة إلينا أصبحت تلاحقها لتؤذيها بشكل أو بآخر ...

في أحد الأيام كنت مشغولا بتأدية واجباتي المدرسية حين سمعت صوت بكاء رغد الشهير !

لم أعر الأمر اهتماما فقد أصبح عاديا و متوقعا كل لحظة .

تابعت عملي و تجاهلت البكاء الذي كان يزداد و يقترب !

انقطع الصوت ، فتوقعت أن تكون أمي قد اهتمت بالأمر .

لحظات ، وسمعت طرقات خفيفة على باب غرفتي .

" أدخل ! "

ألا أن أحدا لم يدخل .

انتظرت قليلا ، ثم نهضت استطلع الأمر ...

و كم كانت دهشتي حين رأيت رغد واقفة خلف الباب !

لقد كانت الدموع تنهمر من عينيها بغزارة ، و وجهها عابس و كئيب ، و بكاؤها مكبوت في صدرها ، تتنهد بألم ... و بعض الخدوش الدامية ترتسم عشوائيا على وجهها البريء ، و كدمة محمرة تنتصف جبينها الأبيض !

أحسست بقبضة مؤلمة في قلبي ....

" رغد ! ما الذي حدث ؟؟؟ "

انفجرت الصغيرة ببكاء قوي ، كانت تحبسه في صدرها

مددت يدي و رفعتها إلى حضني و جعلت أطبطب عليها و أحاول تهدئتها .

هذه المرة كانت تبكي من الألم .

" أهي دانة ؟ هل هي من هاجمك ؟ "

لابد أنها دانة الشقية !

شعرت بالغضب ، و توجهت إلى حيث دانة ، و رغد فوق ذراعي .

كانت دانة في غرفتها تجلس بين مجموعة من الألعاب .

عندما رأتني وقفت ، و لم تأت إلي طالبة حملها ( مثل رغد ) كالعادة ، بل ظلت واقفة تنظر إلى الغضب المشتعل على وجهي .

" دانة أأنت من ضرب رغد الصغيرة ؟ "

لم تجب ، فعاودت السؤال بصوت أعلى :

" ألست من ضرب رغد ؟ أيتها الشقية ؟ "

" إنها تأخذ ألعابي ! لا أريدها أن تلمس ألعابي "

اقتربت من دانة و أمسكت بيدها و ضربتها ضربة خفيفة على راحتها و أنا أقول :

" إياك أن تكرري ذلك أيها الشقية و إلا ألقيت بألعابك من النافذة "

لم تكن الضربة مؤلمة إلا أن دانة بدأت بالبكاء !

أما رغد فقد توقفت عنه ، بينما ظلت آخر دمعتين معلقتين على خديها المشوهين بالخدوش .

نظرت إليها و مسحت دمعتيها .

ما كان من الصغيرة إلا أن طبعت قبلة مليئة باللعاب على خدي امتنانا !

ابتسمت ، لقد كانت المرة الأولى التي تقبلني فيها هذه المخلوقة ! إلا أنها لم تكن الأخيرة ....
~~~~~~
توالت الأيام و نحن على نفس هذه الحال ...

إلا أن رغد مع مرور الوقت أصبحت غاية في المرح ...

أصبحت بهجة تملأ المنزل ... و تعلق الجميع بها و أحبوها كثيرا ...

إنها طفلة يتمنى أي شخص أن تعيش في منزله ...

و لأن الغيرة كبرت بين رغد و دانة مع كبرهما ، فإنه كان لابد من فصل الفتاتين في غرفتين بعيدا عن بعضهما ، و كان علي نقل ذلك السرير و للمرة الثالثة إلى مكان آخر ...

و هذا المكان كان غرفة وليد !

ظلت رغد تنام في غرفتي لحين إشعار آخر .

في الواقع لم يزعجني الأمر ، فهي لم تعد تنهض مفزوعة و تصرخ في الليل إلا نادرا ...

كنت أقرأ إحدى المجلات و أنا مضطجع على سريري ، و كانت الساعة العاشرة ليلا و كانت رغد تغط في نوم هادئ

و يبدو أنها رأت حلما مزعجا لأنها نهضت فجأة و أخذت تبكي بفزع ...

أسرعت إليها و انتشلتها من على السرير و أخذت أهدئ من روعها

كان بكاؤها غريبا ... و حزينا ...

" اهدئي يا صغيرتي ... هيا عودي للنوم ! "

و بين أناتها و بكاؤها قالت :

" ماما "

نظرت إلى الصغيرة و شعرت بالحزن ...

ربما تكون قد رأت والدتها في الحلم

" أتريدين الـ ماما أيتها الصغيرة ؟ "

" ماما "

ضممتها إلى صدري بعطف ، فهذه اليتيمة فقدت أغلى من في الكون قبل أن تفهم معناهما ...

جعلت أطبطب عليها ، و أهزها في حجري و أغني لها إلى أنا استسلمت للنوم .

تأملت وجهها البريء الجميل ... و شعرت بالأسى من أجلها .

تمنيت لحظتها لو كان باستطاعتي أن أتحول إلى أمها أو أبيها لأعوضها عما فقدت .

صممت في قرارة نفسي أن أرعى هذه اليتيمة و أفعل كل ما يمكن من أجلها ...

و قد فعلت الكثير ...

و الأيام .... أثبتت ذلك ...
~~~~~~
ذهبنا ذات يوم إلى الشاطئ في رحلة ممتعة ، و لكوننا أنا و أبي و سامر الصغير ( 8 سنوات ) نجيد السباحة ، فقد قضينا معظم الوقت وسط الماء .

أما والدتي ، فقد لاقت وقتا شاقا و مزعجا مع دانة و رغد !

كانت رغد تلهو و تلعب بالرمال المبللة ببراءة ، و تلوح باتجاهي أنا و سامر ، أما دانة فكانت لا تفتأ تضايقها ، تضربها أو ترميها بالرمال !

" وليد ، تعال إلى هنا "

نادتني والدتي ، فيما كنت أسبح بمرح .

" نعم أمي ؟ ماذا تريدين ؟ "

و اقتربت منها شيئا فشيئا . قالت :

" خذ رغد لبعض الوقت ! "

" ماذا ؟؟؟ لا أمي ! "

لم أكن أريد أن أقطع متعتي في السباحة من أجل رعاية هذه المخلوقة ! اعترضت :

" أريد أن أسبح ! "

" هيا يا وليد ! لبعض الوقت ! لأرتاح قليلا "

أذعنت للأمر كارها ... و توجهت للصغيرة و هي تعبث بالرمال ، و ناديتها :

" هيا يا رغد ! تعالي إلي ! "

ابتهجت كثيرا و أسرعت نحوي و عانقت رجي المبللة بذراعيها العالقة بهما حبيبات الرمل الرطب ، و بكل سرور !

جلست إلى جانبها و أخذت أحفر حفرة معها . كانت تبدو غاية في السعادة أما أنا فكنت متضايقا لحرماني من السباحة !

اقتربت أكثر من الساحل ، و رغد إلى جانبي ، و جعلتها تجلس عند طرفه و تبلل نفسها بمياه البحر المالحة الباردة

رغد تكاد تطير من السعادة ، تلعب هنا و هناك ، ربما تكون المرة الأولى بحياتها التي تقابل فيها البحر !

أثناء لعبها تعثرت و وقعت في الماء على وجهها ...

" أوه كلا ! "

أسرعت إليها و انتشلتها من الماء ، كانت قد شربت كميه منه ، و بدأت بالسعال و البكاء معا .

غضبت مني والدتي لأنني لم أراقبها جيدا

" وليد كيف تركتها تغرق ؟ "

" أمي ! إنها لم تغرق ، وقعت لثوان لا أكثر "

" ماذا لو حدث شيء لا سمح الله ؟ يجب أن تنتبه أكثر . ابتعد عن الساحل . "

غضبت ، فأنا جئت إلى هنا كي استمتع بالسباحة ، لا لكي أراقب الأطفال !

" أمي اهتمي بها و أنا سأعود للبحر "

و حملتها إلى أمي و وضعتها في حجرها ، و استدرت مولّيا .

في نفس اللحظة صرخت دانة معترضة و دفعت برغد جانبا ، قاصدة إبعادها عن أمي

رغد ، و التي لم تكد تتوقف عن البكاء عاودته من جديد .

" أرأيت ؟ "

استدرت إلى أمي ، فوجدت الطفلة البكاءة تمد يديها إلي ...

كأنها تستنجد بي و تطلب مني أخذها بعيدا .

عدت فحملتها على ذراعي فتوقفت عن البكاء ، و أطلقت ضحكة جميلة !

يا لخبث هؤلاء الأطفال !

نظرت إلى أمي ، فابتسمت هي الأخرى و قالت :

" إنها تحبك أنت َ يا وليد ! "
قبيل عودتنا من هذه الرحلة ، أخذت أمي تنظف الأغراض ، و الأطفال .

" وليد ، نظف أطراف الصغيرة و ألبسها هذه الملابس "

تفاجأت من هذا الطلب ، فأنا لم أعتد على تنظيف الأطفال أو إلباسهم الملابس !

ربما أكون قد سمعت شيئا خطا !

" ماذا أمي ؟؟؟ "

" هيا يا وليد ، نظف الرمال عنها و ألبسها هذه ، فيما اهتم أنا بدانة و بقية الأشياء "

كنت أظن أنني أصبحت رجلا ، في نظر أمي على الأقل ...

و لكن الظاهر أنني أصبحت أما !

أما جديدة لرغد !

نعم ... لقد كنت أما لهذه المخلوقة ...

فأنا من كان يطعمها في كثير من الأحيان ، و ينيمها في سريره ، و يغني لها ، و يلعب معها ، و يتحمل صراخها ، و يستبدل لها ملابسها في أحيان أخرى !

و في الواقع ...

كنت أستمتع بهذا الدور الجديد ...

و في المساء ، كنت أغني لها و أتعمد أن أجعلها تنام في سريري ، و أبقى أتأمل وجهها الملائكي البريء الرائع ... و أشعر بسعادة لا توصف !

هكذا ، مرت الأيام ...
و كبرنا ... شيئا فشيئا ...

و أنا بمثابة الأم أو المربية الخاصة بالمدللة رغد ، و التي دون أن أدرك ... أو يدرك أحد ... أصبحت تعني لي ...

أكثر من مجرد مخلوقة مزعجة اقتحمت حياتي منذ الصغر ! ..


عدل سابقا من قبل Black Pearl في الأحد يوليو 24, 2011 6:24 am عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

كاتب الموضوعرسالة
اللؤلؤة السوداء
القائد "V"
القائد
اللؤلؤة السوداء


عدد المساهمات : 186
النقاط : 10340
التقييم : 5
تاريخ التسجيل : 21/07/2011
العمر : 38

رواية انت لي - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: رواية انت لي   رواية انت لي - صفحة 2 Emptyالخميس يوليو 28, 2011 2:10 am


الحلقةالخامسةوالعشرون
********






على الرمال الناعمة بمحاذاة الشارع جلست بين الفتاتين بعدما أعيانا طول الوقوف و الانتظار..

و من حولنا أناس كثر متفرقون .. نسمع بكاء النساء و الأطفال ..

أرى رغد تفرك يديها ببعضهما البعض بقوة و باستمرار و تهف عليهما طالبة شيئا من الدفء . لقد كانت ترتجف بردا.. أكاد أسمع اصطكاك أسنانها بعضها ببعض..

أما دانة فكان وجهها مغمورا تحت ثنايا القميص و مستسلمة لصمت موحش..

لم تكن الشمس قد أشرقت بعد.. و كان التعب قد أخذ منا ما أخذ و نرى رجال الشرطة يجولون ذهابا و جيئة و أعيننا متشبثة بهم..

التفت ناحية رغد و سألتها:

" أتشعرين بالبرد؟"

الصغيرة أجابت بقشعريرة سرت في جسدها..

أنا أيضا كنت أشعر بالبرد لا يدفئ جدعي سوى سترتي الداخلية الخفيفة..

لكن إن تحمّلت أنا ذلك ، فأنّى لفتاة صغيرة تحمّله ؟؟

ألقيت ُ نظرة على مجموعة من رجال الشرطة المتمركزين قرب السيارات ثم قلت:

" دعانا نذهب إلى السيارة "

و وقفت فوقفت الفتاتان من بعدي و سرت فسارتا خلفي تمسك كل منهما بالأخرى حتى صرت قرب رجال الشرطة..

نظروا إلى بتشكك.. و سألني أحدهم عما أريد

" أود البقاء في سيارتي فقد قرصنا البرد"

" عد من حيث أتيت يا هذا "

" لكن الجو بارد ٌ جدا لا تتحمل قسوته الفتاتان "

الشرطي نظر إلى الفتاتين و لم يعلّق.

فقال آخر :

" ابقوا حيث الآخرين"

قلت بإصرار:

" ستموتان بردا! "

ثم أضفت :

" هل تعتقدون أننا سنهرب ؟ سأعطيك مفتاح السيارة لتتأكد"

و أدخلت يدي في جيبي و استخرجت ُ مفاتيحي و مددتها إليه...

الشرطي تبادل النظرة مع زملائه ثم همّ بأخذ المفاتيح بما احتواها.

لقد كانت المفاتيح مضمومة في ميدالية أهدتني إياها رغد ليلة العيد.. انتزعت مفتاح السيارة من بينها و قدّمته إلى الشرطي و احتفظت بالميدالية و بقية المفاتيح.

حين أعطيته المفتاح ، سمح لنا بالتوجه إلى السيارة.

عندما فتحت الباب الأمامي الأيمن وقفت الفتاتان عنده تنظران إلى بعضهما البعض، ثم تنحت رغد جانبا سامحة لدانة بالدخول .. و فتحت هي الباب الخلفي .

حينما جلسنا في السيارة ، أخذنا الصمت فترة طويلة.. و بدأت أجسادنا تسترد شيئا من دفئها المفقود...

لم يكن أحدنا يعرف كيف يفكر ، كنا فقط في حالة ذهول و عدم تصديق .. منتظرين ما يخبئه لنا القدر خلف ظلام الليل..

أسندنا رؤوسنا إلى المقاعد علّها تمتص شيئا من الشحنات المتعاركة في داخلها..

و من حين لآخر ، ألقي نظرة على الفتاتين أطمئن عليهما..
رغد اضطجعت على المقاعد الخلفية و ربما غلبها النوم...

أطل من خلال النافذة على السماء فأرى خيوط الفجر تتسلل خلسة.. فيلقي الله في نفسي ذكره..

" الصلاة "

قلت ُ ذلك و التفت إلى دانة التي تجلس إلى جواري ملقية بثقل رأسها على مسند المقعد. نظرت إلي، ثم أغمضت عينيها.

أما رغد فلم تتحرك.

نظرت إلى الناس فوجدت بعضهم يركعون و يسجدون..على الرمال

قلت :

" سأذهب لأصلي "

فتحت عينيها مجددا ثم أغمضتهما.

" توخيا الحذر ، دقائق و أعود"

و مددت ُ يدي إلى مقبض الباب ففتحته و خرجت.. أغلقت الباب و مشيت بضع خطى مبتعدا قبل أن أسمع صوب باب ينفتح بسرعة و أسمع من يناديني..

" وليــــد "

التفت إليها فرأيتها تخرج من السيارة مسرعة، تقصدني

أتيت إليها فأبصرت في وجهها الفزع المهول

" إلى أين تذهب ؟ "

قالت لاهثة ، فأجبت مطمئنا :

" سأصلّي مع الناس "

و أشرت إلى الطرف الآخر من الشارع حيث المصلين..

رغد هتفت بسرعة :

" لا تذهب "

قلت :

" سأصلي و أعود مباشرة "

" لا تذهب ! لا تتركني وحدي "

قلت مطمئنا :

" دانة معك ، لحظة فقط "

رغد حركت رأسها اعتراضا و إصرارا و هي تقول :

" لا تذهب .. ألا يكفي ما نحن فيه ؟ لا تبتعد وليد أرجوك "

لم أستطع إلا أن أعود أدراجي ، و أتيمم و أؤدي الصلاة ملتصقا بالسيارة.

ما إن فرغت ُ من ذلك ، حتى سمعنا ضجيجا يقتحم السماء..

نظرنا جميعنا إلى الأعلى فأبصرنا طائرة تخترق سكون الفجر...

صرخ بعض الموجودين :

" قنابل ! "

و هنا .. بدأ الناس يتصايحون و يصرخون و يركضون فارين .. محدثين ضجة و جلبة شديدين..

رأيتهم جميعا يجرون على الشارع مبتعدين.. فتحت ُ بابي السيارة بسرعة و هتفت

" هيا بنا "

و أمسكت بيدي الفتاتين و جررتهما ليركضا معي بأسرع ما أوتينا من قوّة..

" أركضا.. أركضا بسرعة "



اقتحمنا أفواج الهاربين الصارخين المستصرخين .. هذا يدفع هذا و هذا يسحب هذا و ذاك يصطدم بالآخر .. و آخر يدوس على غيره.. و الحابل مختلط بالنابل..

نحن نركض و نركض دون التعقيب.. دون أي التفات إلي الوراء.. و دوي الطائرة يعلو سماءنا.. و يجلجل أرضنا المهتزة تحت أقدامنا الراكضة..الحافية.. أسمع صراخا من كل ناحية.. أسمع صراخ دانة و رغد.. و صراخي أنا أيضا.. و أشد قبضي عليهما و أطلق ساقي ّ للريح..

يتعثر من يتعثر.. ينزلق من ينزلق.. يتدحرج من يتدحرج.. يقع من يقع و ينكسر ما ينكسر و يداس ما يداس.. لا شيء يستدعيني لأوقف انجراف رجليّ .. أسابق الزمن.. و أكاد أسبقه ..

كان ذلك من أشد الأوقات هولا و فظاعة.. لن يفوقهما شدة إلا هول يوم الحشر...

سيارات الشرطة و سيارات أخرى رأيناها تشق الطريق فرارا سابقة إيانا.. و سمعنا أصوات رشق ناري زادنا رعبا على رعب و صراخا فوق صراخ..

قطعت مسافة لا علم لي بطولها، أسحب الفتاتين خلفي و هما عاجزتان عن مجاراة خطواتي الواسعة ، تقفزان قفزا بل تطيران طيرانا..



فجأة وقعت رغد أرضا فصرت أسحبها سحبا إلى أن تمكنت ُ من إيقاف اندفاعي الشديد في الركض..

و أقبل الناس من خلفنا يرتطمون بنا و داسها أحدهم في طريقه..

صرخت :

" قومي رغد "

إلا أنها كانت تمسك بقدمها و تتلوى ألما و تصرخ :

" قدمي .. قدمي .. "

جثوت نحوها و أمسكت بقدمها الحافية فإذا بقطعة من الزجاج مغروسة فيها و الدماء تتدفق من الجرح..

لابد أنها داست عنوة على كسرة الزجاج هذه أثناء جرينا المبهم..

أمسكت بقطعة الزجاج بين إصبعي و انتزعتها بعنف و رغد تصرخ بشدة.. بعد ذلك سحبتها من يدها لنستوي واقفين و طرت راكضا ممسكا بالفتاتين.. عنوة..

رغد كانت تصرخ ألما و تركض على أطراف أصابع قدمها المصابة فيما الدماء تقطر منها و تهتف :

" لا أستطيع .. آي .. لا أستطيع "

مما أبطأ سرعة انطلاقنا ..

ثم عادت و هوت أرضا من جديد.. و ضغطت على قدمها المصابة بيدها الحرة ..

" انهضي رغد بسرعة "

" لا أستطيع .. قدمي تؤلمي .. آي.. تؤلمني بشدة .. لا أستطيع "

" هيا يا رغد لننج ُ بأنفسنا "

" لا أستطيع .. كلا "

لأن أفكر، لا مجال .. ، لأن أتردد .. لا مجال ..، لكي أنجو بحياتي و حياة شقيقتي و حبيبتي .. سأقدم على أي شيء..

انتشلت صغيرتي من على الأرض بذراعي و حملتها على كتفي.. وجهها إلى ظهري و قدماها إلى أمامي .. منكبة على رأسها..

هتفت :

" تشبثي بي جيدا "

و أنا أطبق عليها بقوة بإحدى يدي ّ خشية أن تنزلق، فيما أمسك بشقيقتي باليد الأخرى ، ثم أسابق الريح...



تارة أزيد و تارة أخفف السرعة.. ألتقط بعض الأنفاس و أسمح لشقيقتي بتنفس الصعداء..

كان الإعياء قد أصابنا و نال منا ما نال حين رفعت بصري إلى السماء فلم أبصر أية طائرة و أصغيت أذني فلم أسمع أي ضجيج... و تفلت من حولي فوجدت الناس متهالكين على الشارع و معظمهم مضطجعين هنا أو هناك.. من فرط التعب و نفاذ الطاقة..

انحرفت يسارا و خرجت عن الشارع إلى الرمال على حافته.. و هويت جاثيا على الأرض..

حررت رغد و دانة من بين يدي و ارتميت على الرمال منكبا على وجهي و أخذت أتنفس بقوّة .. تجعل ذرات الرمل و الغبار المتطايرة من حولي تقتحم فمي مع تيارات الهواء...

أخذت أسعل و أتحشرج.. و قد أغلقت عيني لأحميهما من الغبار..

لزمت وضعي هذا لدقيقتين دون حراك.. فجسدي كان منهكا جدا و بحاجة إلى كمية أكبر من الأوكسجين ليطرد غازاته الضارة خارجا..

عندما فتحت عيني ّ و نظرت يمنة و يسرة رأيت الفتاتين مرتميتين على الرمال مثلي.. دانة متمددة على ظهرتها تتنفس بسرعة ، و رغد جالسة تمسّد قدمها المصابة و تئن ألما..

لم أجد في جسدي من الطاقة ما يمكنني الآن من النهوض..

الشمس كانت قد أرسلت أول جيوش أشعتها الذهبية الباهتة لتغزو السماء و تطرد الظلام .. و شيئا فشيئا بدأت تحتل السماء.. وتنير الكون.. وتكشف ما كان خافيا و تفضح ما كان مستورا..

جلست بعدما استرددت بعض قواي.. وأنا أراقب رغد المتألمة.. المكشوفة الرأس.. يتدلى خمارها ( شماغي ) على كتفيها ...
كان الجرح لا يزال ينزف.. و الدماء سقت الرمال.. كما لطخت ملابس رغد بل و وجدت بقعا منها على ملابسي أنا أيضا..

فقد كانت تقطر و أنا أحملها..

" دعيني أرى "

قلت ذلك و قرّبت وجهي من قدمها أتأمل الجرح العميق.. و ما علق به من الرمال و الشظايا و الأتربة..

مسحت ما حولي بنظرة سريعة فلم أجد ما أغطي به هذا الجرح النازف..

نفس القميص الذي كانت دانة تختمر به ، نزعت أحد كمّيه و لففته حول قدم رغد ..

كما لففت خمارها حول رأسها بنفسي...


دانة قالت بعد ذلك بانهيار:

" ماذا يحدث برب السماء ؟؟ فليخبرني أحد.. هل هذه حقيقة؟؟ لماذا فعلوا هذا بنا؟؟ ما حلّ بنوّار؟؟ و سامر ؟؟ "

و أجهشت بكاء و نواحا.. فضممتها إلى صدري أحاول تهدئتها .. و أبقيتها بين ذراعي مقدارا من الزمن.. بينما رغد تراقبنا..

بعد ذلك رأينا الناس ينهضون و يسيرون في نفس الاتجاه.. فوجا بعد فوج.. و جماعة بعد أخرى..

قلت :

" هيا بنا "

قالت دانة :

" إلى أين ؟؟ "

" لا أعرف.. سنسير مع الآخرين"

قالت :

" سنموت في الطريق.. "

قلت :

" لو لم توقفنا الشرطة و تخرجنا من سياراتنا لربما كنا الآن قد بلغنا مكانا آمنا.. لا أريد العودة للوراء و لا التخلف عن الآخرين.. كما أنهم أخذوا مفتاح سيارتي.. أظننا على مقربة من إحدى المدن "

فقد كانت اللافتة على جانب الطريق تشير إلى ذلك..

نهضت معهما و سرنا على مهل، و رغد تعرج و تستند إلى دانة... و تتوقف من حين لآخر..

قطعنا مسافة طويلة بلا هدف ... نسير زمنا و نرتاح فترة .. و تعامدت الشمس فوق رؤوسنا و نحن تائهون في البر..

كنا نشعر بتعب شديد.. و مهما نسير نجد الطريق طويلا .. و لا تعبره أية سيارات..

توقفنا بعد مدة لنيل قسطا من الراحة.. و أي راحة ؟؟

قالت رغد :

" أنا عطشى..."

و نظرت إلي باستغاثة..

ماذا بيدي يا رغد ؟؟ لو كانت عيني عينا لسقيتك منها و إن شربتها كلها و أبقيتني جافا .. أو أعمى.. لكنني مثلك ، يكاد العطش يقتلني و ما تبقى من طاقتي لا يكفي لقطع المزيد من الطريق..

إننا سنموت حتما إذا بقينا هنا.. أنا أرى الناس ينهارون من حولي من التعب و العطش و الجوع.. و يتخلّف من يتخلّف منهم بعد مسيرتنا..

يجب أن نسرع و إلا هلكنا..


" هيا بنا "

قالت دانة :

" أنا متعبة ، دعنا نرتاح قليلا بعد "

قلت بإصرار :

" كلا .. يجب أن نسرع بالفرار قبل أن يدركنا حتفنا "

و أجبرت الفتاتين على النهوض و السير مجددا و بأسرع ما أمكنهما ..

قوى رغد يبدو أنها انتهت.. إنها تترنح في السير.. تمشي ببطء.. تجر قدميها جرا.. تئن و تلهث.. تسير مغمضة العينين متدلية الذراعين.. ثم أخيرا تقع أرضا..

أسرعت إليها و أمسكت بكتفيها و هززتها و أنا أقول :

" رغد .. رغد تماسكي .."

رغد تدور بعينيها الغائرتين النصف مغلقتين و تنطلق حروف من فيها الفاغر مع أنفاسها الضعيفة السطحية :

" ماء.. عطشى.. سأموت.. وليد.. لا تتركني "


ثم تغيب عن الوعي..

أخذت أهزها بقوة أكبر و أصرخ :

" رغد .. أفيقي.. أفيقي .. هيا يا رغد تشجعي.. "

فتفتح عينيها لثوان ، ثم تغمضهما باستسلام...


ثم أسمع صوت ارتطام فالتفت ، فأرى شقيقتي تهوي أرضا هي الأخرى..

أسرع إليها و أوقظها :

" دانة انهضي... هيا قومي سنصل قريبا "

" متعبة.. دعني أرتاح.. قليلا "


و انظر إلى الشمس فأراها تقترب من الأفق.. و تنذر بقرب الرحيل..و ختم النهار..

تركتهما ترتاحان فترة بسيطة ، ثم جعلتهما تنهضان .. دانة تسحب قدميها سحبا .. و رغد مستندة إلي.. أجرها معي ..

وصلنا بعد ذلك إلى محطة وقود .. و صار من بقي من الناس يركضون باتجاهها و يقتحمون البقالة الصغيرة التابعة لها كالمجانين بحثا عن الماء..

أسرعت أنا أيضا بدوري إلى هناك .. أسحب الفتاتين و حين اقتربت من الباب و رأيت الناس تتعارك يرصّ بعضهم بعضا قلت للفتاتين :

" انتظراني هنا "

و حررتهما من يدي وأنا أقول :

" لا تتحركا خطوة واحدة "

و هممت بالذهاب لمزاحمة الآخرين..

رغد صرخت صرخة حنجرة ميتة :

" لا تذهب "

قلت :

" سأجلب الماء .. انتظريني "

و حين سرت خطوة مدت هي يدها و أمسكت بذراعي تسحبني تجاهها و تقول في ذعر :

" لا تذهب وليد .. كلا ..كلا .. "

حررت ذراعي من يدها و زمجرت :

" دعيني أدرك الماء قبل أن يدركنا الموت.. ستموتين إن لم ألحق "

" سأموت إن ذهبت "

لا أعرف كيف أصف الشعور الذي انتابني لحظتها..

في قعر الضعف و اليأس و الاستسلام.. أرى صغيرتي متشبثة بي في خشية من أن الوحدة.. بينما الموت أولى بأن تخشاه و تهرب منه..

قلت موجها كلامي لدانة :

" أمسكي بها "

و دفعت بيدها بعيدا عني و أسرعت إلى البقالة..تلاحقني صيحاتها..

غصت وسط الزحام و لم استطع نيل أكثر من قارورتي ماء صغيرتين و علبة عصير انتشلتها انتشالا و ركلت من حاول سلبها مني..

خرجت بغنيمتي من المعركة و جريت نحو الموضع الذي تركت الفتاتين فيه فلم أجدهما..

تلفت يمنة و يسرة فلم أجدهما ...

جن جنوني و رحت أهتف مناديا :

" رغد... دانة ... أين أنتما ؟؟ "

ثم سمعت صوت دانة تهتف :

" وليد .. هنا "

و وجدتها تجلس عند خازنات الوقود و رغد ملقاة أرضا إلى جوارها..

ركضت نحوها فزعا..

" ماذا حدث ؟؟ "

" ربما ماتت ؟ لا أعرف إنها لا تستفيق "

مسكت رغد و هززتها بقوة و أنا أصرخ :

" رغد .. أفيقي.. لقد جلبت الماء.. أفيقي هيا .."

بالكاد ترمش بعينيها.. فتحت علبة العصير و أدخلت طرف الماصة بداخلها و الطرف الآخر في فم رغد و ضغطت على العلبة حتى يتدفق العصير إلى فم رغد.. رغد حركت شفتيها قليلا.. ثم أخذت تبلع العصير.. ثم تشربه..

" اشربي.. اشربي .."


أما دانة فأخذت إحدى قارورتي الماء و شربتها كاملة دفعة واحدة.. و تقاسمت أنا و رغد القارورة الأخرى..

" اشربي المزيد.. اشربيه كله.. "

الناس كانوا يدخلون و يخرجون من البقالة كل يحمل الطعام و الشراب.. دون مراعاة لأي حقوق.. و أي لياقة.. ففي وضع كالذي كنا عليه.. ينسى المرء نفسه..

استردت رغد وعيها الكامل .. و شيئا من قوتها..

" أأنت بخير الآن رغد ؟؟ أيمكنك النهوض ؟"

أومأت برأسها إيجابا فنهضنا نحن الثلاثة و أنا مسندا إياها..

قلت :

" سأجلب طعاما يمنحنا القوة لمتابعة السير"

رغد قالت :

" أنا متعبة.. لا أستطيع السير بعد.. لا أستطيع "

و نظرت إلى دانة ، فقالت هي الأخرى :

" و لا أنا.. دعنا نرتاح ساعة "

و في الواقع ، جميع من كانوا يسيرون جلسوا للراحة و تناول ما امتدت إليه أيدهم من الطعام..

اخترنا نحن بدورنا موضعا لنجلس فيه .. بعيدا بعض الشيء عن الآخرين .. ذاك أني لم أشأ جعل الفتاتين عرضة لأعين الغير..

بعدما استقررنا هناك، أردت العودة إلى البقالة و إحضار أي طعام.. إلا أن رغد منعتني .. فالتزمت مكاني ..

كنت أراها تضغط على جرحها من حين لآخر.. و تعبيرات وجهها تتألم و أسمعها تئن..

قلت :

" أهو مؤلم جدا ؟ تحمّلي صغيرتي.. قليلا بعد"

و لا يزيدها ذلك إلا أنينا..

" أنا متعبة "

قالت و هي بالكاد قادرة على حمل رأسها و تكاد تسقطه .. و تدور بعينيها في المكان .. و تفرك يديها من البرد ..

تفطّر قلبي لرؤيتها بهذا الشكل.. و لم أعرف ما أفعل؟؟ إن صغيرتي تتألم و على حافة الموت.. ماذا أفعل ؟

هي رأتني أراقب تحركاتها و تململها .. قالت :

" أريد أن أنام "

قلت :

" اضطجعي و نامي صغيرتي.. "

حركت رأسها اعتراضا.. بينما عيناها تكادان تنغلقان رغما عنها..

رأفت بحالها البائس.. و قلت بعطف :

" اضطجعي رغد.. أنت متعبة جدا .. استرخي هيا.."

رغد نظرت إلى دانة.. ثم إلى الناس ، ثم إلي بتردد..

قلت مشجعا :

" هيا صغيرتي .. لا تخشي شيئا "

و بادرت دانة بالاضطجاع .. بدورها.. فتشجعت رغد.. و همت بالانبطاح.. لكنها قالت قبل ذلك :

" لا تذهب إلى أي مكان وليد أرجوك "

قلت مطمئنا :

" لا تقلقي، أنا باق ٍ هاهنا "

ثم تمددت على الرمال.. و أغمضت عينيها ..

أنا أيضا استلقيت على الرمال المجردة.. طالبا بعض الراحة .. و سرعان ما رأيت رغد تجلس و هي تنظر إلي و تقول :

" هل ستنام ؟ "

قلت :

" كلا.. سأسترخي قليلا "

و بدت مترددة ..

قلت :

" عودي للنوم رغد .. اطمئني "

فعادت و استلقت على الأرض .. و سكنت قليلا .. قم عادت فجلست و ألقت نظرة علي !

قلت :

" ماذا ؟؟ "

قالت :

" لا تنم وليد أرجوك "

جلست مستويا ، و قلت :

" لن أنام صغيرتي .. نامي أنت و أنا سأبقى أراقب ما حولنا .. اطمئني "

و أخيرا اطمأن قلبها أو ربما تغلّب عليها النعاس و التعب ، فاستسلمت للنوم بسرعة..




في العراء.. ننام مفترشين الأرض الجرداء... ملتحفين السماء .. تهب علينا التيارات الباردة تجمّد أطرافنا .. فنرتجف .. و تقشعر أجسادنا و قلوبنا .. ثم لا تجد ما يدفئها و يهدئ روعها..


كان الليل يمر ساعة بعد أخرى.. دون أن نحسب الزمن..

عاد البدر يراقبنا و يشهد تشردنا .. و حال لم يخلق الله مثلها حالا ..

أراقب الفتاتين فأجدهما مستغرقتين في النوم .. و أنا شديد الإعياء .. و السكون و الظلام مخيم على الأجواء.. و معظم الناس رقود..


النعاس غلبني أنا أيضا.. فقد نلت ما نلته من الإجهاد.. لكنني كنت أقاومه بتحد ٍ .. كيف لعيني أن تغفوا و فتاتاي نائمتان في العراء.. عرضة لكل شيء .. و أي شيء ؟؟

وقفت كي أطرد سلطان النوم ، و جعلت أحوم حول الفتاتين و أذرع المكان ذهابا و جيئة.. و أقترب منهما كل حين أراقب أنفاسهما.. و أطمئن إلى أنهما نائمتان و على قيد الحياة..

أنا متعب.. متعب.. أكاد أنهار.. رأسي دائخ و الكون يدور من حولي.. و عيناي تزيغان ..
يا رب.. إن عينك لا تغيب و لا تغفل.. و لطفك و رحمتك وسعا كل شيء.. فاشملنا تحت حفظك..

أ اغمض عينيّ لحظة واحدة؟ فقط لحظة.. أهدئ من تهيجهما و حرارتهما.. لحظة واحدة يا رب..

و لم تطعني عيناي كما أبى قلبي أن يغفل عنهما طرفة عين...

فيما أنا بهذه الحال.. بعد مضي فترة من الزمن.. أبصرت نورا يقترب منا قادما من آخر الشارع..

إنها سيارة ! السيارة الأولى التي تعبر هذا الشارع مذ تشرّدنا فيه ..

لم تكن سوى سيارة حوض.. ما أن رآها بعض الناس حتى أسرعوا راكضين إليها طالبين النجدة..

أسرعت إلى الفتاتين و أيقظتهما :

" رغد.. دانة .. هيا بنا بسرعة "

فتحتا أعينهما مذعورتين ، و مددت يدي و أمسكت بيديهما و سحبتهما لتنهضا جالستين ثم واقفتين في فزع..

قلت :

" لنلحق بالسيارة "

و ركضت ساحبا إياهما حتى أدركنا السيارة و انضممنا إلى أفواج الناس الذين ركبوا حوضها

سائق السيارة كان يهتف :

" انتظروا لأعبئ خزانها وقودا "

إلا أن الناس تشبثوا بها بجنون ..

بعد ذلك انطلقت السيارة بمن حملت تسير بسرعة لا بأس بها.. كان بعضنا جالسا و البعض واقفا ، و كنا نحن الثلاثة ضمن الوقوف .

كنا واقفين عند مقدمة الحوض، الفتاتان ملتصقتان برأس السيارة و أنا أكاد ألتصق بهما، فاتحا ذراعيّ حولهما أصد الناس عن ملامستهما..

بعد مسيرة ساعة أو أكثر .. لا أعلم تحديدا.. بلغنا مشارف إحدى المدن.. و أوقف السائق السيارة و قال :

" امضوا في سبلكم"

هبطنا جميعا و تفرقنا .. هذا هنا و هذا هناك .. باحثين عن ملاجئ لهم..

وقفت أنا حائرا.. إلى أين أذهب في هذا الليل الكئيب.. و معي هاتان الفتاتان المنكوبتان ؟؟

و تلفت من حولي فرأيت لا فتة تدل إلى طريق المدينة الشمالية الزراعية ، و الكائنة على مقربة..

نجحت بعد جهد في إقناع السائق بإيصالنا إلى هناك ، و تحديدا إلى مزرعة نديم ،
فهي الفكرة التي طرأت على رأسي المرهق هذه اللحظة ،.. بمقابل..
و شكرت الله أن جعلني أحمل محفظتي في جيبي مع المفاتيح..


ولم تكن المسافة طويلة ، وصلنا بعد فترة قصيرة إلى هناك..


هبطنا من السيارة و شكرت السائق .. و حثثت الفتاتين على السير معي..

قالت دانة :

" إلى أين ؟ "

قلت :

" تقطن عائلة صديقي هنا، سأسألهم استضافتنا لهذه الليلة.. فنحن متعبون جدا "

لقد كان كل ما سبق أشبه بالكابوس .. إلا أنه كان الواقع..

بوابة المزرعة كانت مفتوحة كالعادة ، مشينا متجهين نحو المنزل.. دانة تمسك بقميصي الموضوع حول رأسها، و رغد تجر قدمها المصابة.. و كلاهما تمسكان بيدي من الجانبين..

عند عتبات باب المنزل.. تركتاني لأصعد العتبات ، ثم أقرع الجرس، ثم ينفتح أسمع صوتا يسأل عن الطارق ، فأجيب :

" وليد شاكر "

ثم أرى الباب ينفتح ، و تظهر من خلفه ... أروى نديم .







~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~






اتسعت حدقتا الفتاة التي أطلت من فتحة الباب ... و ألقت علينا جميعا نظرة مذهولة و قالت :


" سيد وليد ! "

وليد قال :

" مساء الخير.. هل العم إلياس موجود ؟؟ "

ردت الفتاة :

" خالي في طريقه إلى هنا .. "

ثم عاودت النظر إلينا أنا و دانة ، ثم قالت :

" ما الأمر ؟؟ "

قال وليد :

" فررنا من القصف الجوي... نجونا بأعجوبة "

الفتاة وضعت يدها على صدرها و شهقت .. ثم قالت :

" أ ... أنت ... تقيم في المدينة الصناعية ؟؟ "

أجاب وليد :

" نعم ، مع عائلتي .. "

و أشار إلينا..

ثم قال :

" تدمرت مدينتا.. و الآن.. أصبحنا بلا مأوى.. "

سرعان ما فتحت الفتاة الباب على مصراعيه و قالت :

" هلموا بالدخول "


وليد قال :

" سننتظر العم إلياس.. "

إلا أن الفتاة أصرت :

" تفضلوا رجاء ... "

ثم التفتت إلى الداخل و أخذت تنادي :

" أمي ... "


وليد الآن التفت إلينا و قال :

" تعالا"

ترددنا قليلا إلا أننا سرنا معه إلى الداخل ...

و في النور استطعت أن أرى وجه الفتاة الذي لم يكن جليا قبل قليل...

فتاة شديدة البياض و الشقرة... زرقاء العينين حمراء الخدّين.. أجنبية الملامح..

أقبلت سيدة أخرى نحونا و حين رأت وليد تهللت و رحبت به بحرارة..

السيدة كانت شديدة الشبة بالفتاة..

قالت الفتاة :

" هربوا من المدينة الصناعية يا أمي ! "

امتقع وجه السيدة ثم قالت :

" أوه ربّاه ! حمدا لله على سلامتكم "

و أخذت الفتاة تكرر ذلك أيضا ..

قال وليد :

" سلمكما الله ، شكرا لكما و أعتذر على حضوري إلى هنا ..لكننا بحاجة لمكان آمن نبات فيه ليلتنا هذه "

السيدة الكبرى أشارت إلى وليد بالتوقف عن الحديث و عادت ترحب من جديد .. و التفتت إلينا أنا و دانة ..

وليد قال :

" شقيقتي و ابنة عمّي "

قالت السيدة :

" و أين أبواك ؟ "

قلت :

" لم يعودا من الحج بعد .. أو .. لا أعرف ما حصل معهما ! "

قالت السيدة و هي تشير بيدها نحو المقاعد :

" تفضلوا رجاء .. تفضلوا "


أنا و دانة كنا ممسكتين بيد بعضنا البعض .. واقفتين بحذر و تردد..

وليد تحدّث إلينا قائلا :

" تعالا .. لنجلس هناك "

و سرنا معه إلى المقاعد..

و جلست دانة ملتصقة به و أنا ملتصقة بها..

وليد ألقى نظرة علينا ثم قال مخاطبا الفتاة :

" هل لنا ببعض الماء من فضلك ؟؟ "

" فورا "

و ذهبت الفتاة و عادت تحمل قارورة كبيرة من الماء المعدني و كأسين اثنين..

ملأتهما ماءا و قدّمت الأول إلي و الثاني إلى دانة.. فشربنا بنهم شديد... المزيد و المزيد و المزيد... و وليد و الفتاة و السيدة يراقبوننا بشفقة !

ذهبت الفتاة و أحضرت قارورة أخرى و كأسا ثالثا و دفعتهما نحو وليد ...

" تفضّل "

وليد تناولهما و بدأ يشرب الكأس بعد الآخر حتى أفرغ معظم محتويات القارورة في جوفه..

أيّكم جرّب عطشا كهذا العطش ؟؟

ألا لعنة الله على الظالمين ...





قالت السيدة مخاطبة الفتاة :

" اذهبي و حضّري بعض الطعام.. حضّري الحساء و الشطائر "

و أسرعت الفتاة منصرفة إلى حيث أمرت ..

وليد قال :

" نحن آسفون يا سيدة ليندا .. إننا"

فقاطعته السيدة و قالت :

" لا .. لا داعي لقول شيء يا بني .. ألف حمد لله على نجاتكم .. "

ثم سمعنا صوت الباب ينفتح ، و يدخل منه رجل عجوز ...

ما إن دخل حتى وقف وليد فوقفنا أن و دانة تباعا ..

الرجل ذهل ، و قال بتعجب :

" وليد ؟؟ "

و أقبل وليد نحوه فصافحه ثم أخبره عما حصل معنا و ما دعانا للحضور إلى هنا..

و العجوز لم يقل كرما عن السيدة و الفتاة .. بل رحب بوليد و عانقه و حمد الله كثيرا على سلامته..

حتى هذه الساعة لازلت بين الإدراك و إلا إدراك .. بين الحقيقة و الحلم ، و التصديق و التكذيب...

و لازلت أشعر بتعب لا يسمح لي بالوقوف أكثر من ذلك.. خصوصا على قدم جريحة متألمة.. لذا فإنني هويت على المقعد و ألقيت برأسي على مسنده..

دانة جلست إلى جواري و ربتت على كتفي و قالت :

" رغد.. أأنت بخير ؟؟ "

أنا تنهّدت و أننت .. وليد أقبل هو الآخر نحوي قلقا .. و قال :

" أأنت على ما يرام ؟؟ "

أشرت إلى قدمي .. أنا أتألم..

وليد قال مخاطبا الرجل العجوز :

" أيوجد لديكم مطهرا و ضمادا للجروح ؟؟"

السيدة غابت ثوان ثم عادت تحمل ما يلزم .. وليد قال :

" يجب غسلها أولا .. "

السيدة قالت :

" دورة المياه من هنا "

إلا أنني هزت رأسي ممانعة.. و لزمت مكاني..

دانة قالت بصوت هامس تكلم وليد :

" أنا أريد استخدام دورة المياه "

وليد أستأذن أصحاب المنزل ، ثم نهضت دانة واقفة ، تغطي معظم وجهها بالقميص الموضوع على رأسها...

اعتقد أن الرجل العجوز انصرف هذه اللحظة .. أما السيدة الأخرى فعادت تشير إلى ناحية الحمام :

" من هنا .. "

ذهبت دانة إلى دورة المياه ، و السيدة استأذنت و غادرت لدقائق.. و بقيت أنا متهالكة على المقعد و وليد واقف إلى جواري..

قال :

" أأنت بخير صغيرتي ؟؟"

لا ! كيف لي أن أكون بخير ؟؟ إنني في حال من أسوأ الأحوال التي مرت علي ّ ... بدأت بالبكاء إلا أن دموعا لم تخرج من عيني ...

وليد جلس بقربي و قال :

" ستكونين بخير.. نجونا من الموت .. الحمد لله "

شعرت لحظتها برغبة في الارتماء في حضنه.. و البكاء على صدره.. و الاسترخاء بين ذراعيه.. أنا متعبة و أتألم.. أريد من يواسيني و يشجعني.. أريد حضنا يشملني و يدا تربت علي.. أريد أمي.. أريد أبي.. أريد وليد.. و لم أنل منه غير نظرات مشجعة..


أقبلت السيدة تحمل معها وشاحين.. قدّمتهما إلي..

نزعت ُ عن رأسي ما كنت أتحجّب به، و لففت أحد الوشاحين حول رأسي ، على مرأى من وليد ... !


و عندما عادت دانة ، و قد غسلت وجهها و قدميها الحافيتين أعطيتها الوشاح الآخر...

قالت :

" تعالي لأغسل جرحك رغد..."

و أيضا لم أتحرّك .. ففوق تعبي و إعيائي و الدوار الذي أشعر به.. أنا خائفة..
نعم خائفة..

السيدة قامت بنفسها بإحضار وعاء يحوي ماء .. و وضعته عند قدمي ّ و قالت :

" هل أساعدك ؟ "

دانة قالت :

" شكرا لك ، سأفعل ذلك "

ثم أخذت تحل الضماد ـ و الذي هو عبارة عن كم قميص وليد ـ من حول قدمي .. و غمرتها بعد ذلك في الماء النظيف الدافئ..

بدأت الأوجاع تتفاقم و تتزايد.. و أخذت أئن و أصيح .. لكنني لم أقاوم.. و استسلمت لما فعلته دانة بقدمي.. و أنا مغمضة العينين..

عندما فتحتهما كانت قد انتهت من لف قدمي بالضماد ... كما أن السيدة أحضرت ماءا نظيفا لأغسل قدمي الأخرى...

كل هذا و أنا ملتزمة الصمت و السكون إلا عن أنات و صياح ألم..

و الآن، جاءت الفتاة تحمل صينية ملآى بالشطائر بينما يتبعها العجوز حاملا صينية أخرى رُصّت علب العصير الورقية فوقها...

و وضعا الطعام و الشراب أمامنا و الفتاة تقول :

" تفضلوا هذا لحين نضج الحساء "

لم يمد أحدنا يده.. ما الذي يجعلنا نفكّر بالطعام في وقت كهذا ؟؟ فراح أصحاب المنزل يحثوننا على الطعام..

وليد تناول اثنتين من علب العصير و قدمهما لي و لدانة، فأخذت علبتي و شربت ما بها ببطء...

أصحاب المنزل الثلاثة استأذنوا منصرفين عنا، ربما لنتصرف بحرية أكبر..


وليد أيضا وزع الشطائر علينا إلا أنني رفضت تناولها..

" خذي يا رغد.. لابد أنك جائعة جدا.. كلي واحدة على الأقل"

" لا أريد "

" هيا أرجوك .. ستموتين إن بقيت بلا طعام ساعة بعد "

و لم يفلح في إقناعي.. لكنه و دانة تناولا شيئا من الطعام بصمت..


لحظات و إذا بالفتاة تقبل بأقداح الحساء الساخن.. و تقدمها إلينا ثم تنصرف..


أجبرت نفسي على رشف ملعقتين من الحساء.. ثم أسندت رأسي إلى المقعد و أغمضت عيني..




كنت أسمع أصوات الملاعق .. و حركة الأواني .. و ربما حتى صوت بلعهما للطعام و هضم معدتيهما له ! و أسمع كذلك صوت نبضي يطن في أذني.. و أنفاسي تنحشر في أنفي.. و الآن .. صوت وليد يناديني ..

" رغد "

فتحت عيني فوجدته ينظر إلي بقلق.. و يعيد السؤال :

" أأنت بخير ؟؟ "

قلت :

" أنا متعبة "

قال :

" سأتحدّث معهم .. "

ثم نهض و نادى :

" أيها العم الطيب .. "

ظهر الثلاثة من حيث كانوا يختبئون عنا ..

قال وليد :

" اعذرونا رجاء ً.. إننا في غاية التعب فقد قضينا ساعات طويلة نسير في الخلاء.. أين يمكننا المبيت بعد إذنكم ؟؟ "

قالت السيدة :

" ستنام ابنتي معي في غرفتي و يمكن للفتاتين المبيت في غرفتها.. سنعد فراشا أرضيا إضافيا "

و قال العجوز مخاطبا وليد :

" و أنت غرفتك كما هي "

قال وليد :

" هذا جيّد ... "

ثم أضاف :

" أشكركم جميعا جزيل الشكر.. إنني ... "

و مرة أخرى قاطعته السيدة و قالت :

" لا داعي لكل ذلك يا سيد وليد، ألم نكن كالعائلة؟ جميعكم أبنائي.. "

ثم أضافت مخاطبة الفتاة :

" خذي الفتاتين إلى غرفتك "

الفتاة أقبلت نحونا و هي تبتسم و تقول :

" تفضلا معي .. "

كلانا نظرت إلى وليد بتردد.. فقال الأخير :

" هيا عزيزتاي "

و هز رأسه مطمئنا.. يبدو أنه على علاقة وطيدة بهم.. و يثق بهم كثيرا..

وقفت دانة و وقفت معها .. ثم قلت لوليد :

" و أنت ؟ "

قال :

" سأبات في غرفة في الخارج تابعة للمنزل "

هززت رأسي اعتراضا شديدا ... مستحيل ! و عوضا عن مرافقة الفتاة اقتربت منه هو ، و قلت :

" لن تذهب و تتركنا "

قال :

" إنها غرفة خارجية اعتدت المبيت فيها.. ملاصقة للمنزل تماما "

هززت رأسي بإصرار أشد :

" لا .. لا "

وليد نظر إلي بضيق و تعب و أسى .. كأنه يرجوني أن أطلق سراحه و أدعه يرتاح قليلا..

قال :

" ستكونين بخير.. هذه عائلتي "

إلا أنني ازددت إصرارا و رفضا و قلت :

" سأذهب معك "

وليد و دانة تبادلا النظرات .. و لم يعرف أي منهما ما يقول..

مددت يدي فأمسكت بيده مؤكدة أكثر و أكثر بأنني لن أسمح له بالابتعاد عني..

أخيرا تكلّم وليد مخاطبا أصحاب المنزل :

" إن لم يكن في ذلك ما يزعجكم .. فسنبيت في الغرفة الخارجية نحن الثلاثة.. و نحن آسفون لكل ما سببناه لكم من إزعاج .. "

العجوز تكلّم و قال :

" كما تشاءون يا بني.. سأجلب المزيد من الفرش و البطانيات لكم "

و تحرك الثلاثة ، و أحضروا البطانيات و حملوها سائرين نحو الباب، و سرنا معهم إلى خارج المنزل ..

كانت الغرفة المقصودة هي غرفة تابعة للمنزل مفصولة عنه بجدار مشترك.. و كانت صغيرة نسبيا و بداخلها سرير صغير و أثاث بسيط ، و تتبعها دورة مياه صغيرة قريبة من الباب..

الثلاثة و معهم وليد تعاونوا في تحضير فراشين أرضيين على المساحة الحرة من الغرفة.. و حالما انتهوا ، قال العجوز ..

" أتمنى لكم نوما هانئا "

و عقّبت السيدة :

" تصبحون على خير"

أما الفتاة فقد أسرعت بالذهاب ثم العودة بصينية الشطائر و بعض العصائر .. و وضعتها على المنضدة الصغيرة التابعة لأثاث الغرفة و هي تقول :

" فيم لو احتجتم أي شيء فلا تترددوا في طلبه ! "

وليد قال :

" شكرا جزيلا..هل نستطيع استخدام الهاتف ؟ "

قال العجوز :

" بكل تأكيد.. "

فشكرهم كثيرا و كذلك فعلت دانة ، ثم انصرفوا ...

و فور خروجهم أقفل وليد الباب و أقبل إلى الهاتف .. و اتصل بأحد الأرقام .. و كان أول ما نطق به بعدها و بلهفة شديدة :

" سامر يا عزيزي .. أأنت بخير ؟؟ "

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
اللؤلؤة السوداء
القائد "V"
القائد
اللؤلؤة السوداء


عدد المساهمات : 186
النقاط : 10340
التقييم : 5
تاريخ التسجيل : 21/07/2011
العمر : 38

رواية انت لي - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: رواية انت لي   رواية انت لي - صفحة 2 Emptyالخميس يوليو 28, 2011 2:12 am


الحلقةالسادسةوالعشرون
*********






مضطجعة على السرير.. في غرفة أناس غرباء..
مكان مظلم و بارد.. ألتحف لحافا و بطانية خفيفين.. لا يكادان يدفئان أطرافي كما ينبغي.. أتقلب يمينا و يسارا.. محاولة ضبط جسدي في وضع يريحه و يخفف آلام قدمي الممتدة لكامل الرجل و الظهر أيضا..

و كلما التفت ُّ يمنة .. وقع نظري على تلك الكومة من اللحم و الشحم البشري المتمددة على فراش أرضي.. و المدثرة بلحاف و بطانية شبيهين باللذين يغطياني، يخفيان الرأس و لا يكادان يغطيان القدمين اللتين تبرزان من تحتهما.. بحجميهما الكبيرين و شكليهما الأشبه بالسفينة !

مسكين وليد !

لابد أن عدد الخلايا الحسية في قدمه هو أكثر بكثير من قدمي أنا.. و لابد أنه تألم كثيرا و هو يركض و يمشي حافيا عليها !

أوه و لكن لم علي التفكير بقدم وليد في ساعة كهذه و حال كهذه ؟؟

أم أن الآلام التي أشعر بها في قدمي أنا جعلتني مهووسة بالأقدام؟؟

أكثر شيء أراحني ، و جعلني أستلقي بطمأنينة على هذا السرير هو تحدّثي إلى والدي ّ و اطمئناني عليهما ، و كذلك على سامر و خالتي و عائلتها..

الحمد لله إنهم جميعا بخير ...

و رغم التعب الذي كنت أعانيه، لم أنم مباشرة مثلما نام وليد و دانة على فراشيهما الأرضيين.. لقد كنت أشعر بالبرد... رغم أن جسدي متعرق..

جلست.. و أخذت أنظر نحوهما..

كانا مستغرقين في نوم عميق .. لا تصدر عن أي منهما أي حركة...

نهضت عن سريري و توجهت نحو الخزانة الصغيرة الموجودة في الغرفة، و أنا أعرج .. بحثا عن بطانية أخرى...

فتحت الخزانة و ألقيت نظرة على ما بداخلها، لم أجد أي بطانية أو لحاف ..

أثناء إغلاقي لها أصدرت صوتا ... فالتفت مباشرة إلى النائمين أستوثق من عدم استيقاظهما بسبب الصوت.. دانة لم تتحرك البتة ، أما كومة الشحم و اللحم البشرية تلك فقد تحركت .. و أُزيحت البطانية قليلا.. فظهر الرأس .. و العينان.. و الأنف المعقوف .. و الشفتان.. و الذقن الملتحي أيضا !

وليد نظر إلي برهة نظرة ساذجة، ربما كان نصف نائم.. ثم بدأ تركيزه يحتد و يشتد .. ثم حملق بي في قلق و استوى جالسا

" ما الأمر ؟ "

سألني ذلك ، فقلت :

" آسفة.. كنت أبحث عن بطانية أو ما شابه"

نظر وليد نحو السرير ليتأكد من وجود بطانية معدة لي ، ثم إلي .. فقلت موضحة :

" إنها خفيفة .. "

قال :

" أتشعرين بالبرد ؟ "

" نعم.. "

ثم رأيته ينهض، و يحمل بطانيته و يضعها فوق بطانيتي...

قال :

" ستدفئين هكذا "

شعرت بالخجل من تصرفه و الحرج .. قلت بسرعة :

" أوه كلا وليد.. "

قال :

" إنني لا أشعر بالبرد على أية حال.. اللحاف هذا يكفيني "

طأطأت رأسي خجلا و أنا أنطق بحروف الشكر ... وليد عاد إلى فراشه الأرضي و غطى جسده كاملا باللحاف !

رجعت أعرج نحو السرير و تدثرت بالبطانيتين مع اللحاف... و استمد جسمي الحرارة ، لا من الأغطية المنشورة فوقي ، بل من المدفئة الملتهبة التي تبعث حرارة و تقدح لهيبا في الغرفة ... مكومة هناك.. على ذلك المفرش الأرضي، ملفوفة باللحاف كالشرنقة !

يا إلهي ما أجمله من شعور !

و لأنه لم يعد باستطاعتي رؤية أية أقدام كلما تلفت ، فإن هوس التفكير بها غاب عنّي .. و سمح لدماغي بالصفاء.. و بالتالي بالاستسلام للنوم...


نومتي لم تكن بالنومة الطبيعية على الإطلاق.. رأيت كوابيس مزعجة جدا و استيقظت عدّة مرات فزعة.. أرى نفسي في العراء.. و الناس تركض... و النار تحيط بنا ..

أسمع صراخ الناس.. و دوي الانفجارات.. و أرى جنودا يركضون نحوي..

أحاول الوقوف لأهرب، لكن قدمي المصابة تعيقني...

أصرخ و أصرخ ... و أرى وليد يركض مع دانة مبتعدين .. فأمد يدي طالبة العون.. و ما من معين..

ثم تقترب النيران مني و تلسعني ألسنتها... فأصرخ بأعلى صوتي.. ثم يظهر سامر لا أعلم من أي مكان.. و وجهه يحترق.. و يقول :

" لماذا فعلت ِ هذا بي ؟؟ "


استيقظ من النوم فزعة مرعوبة ، أتلفت إلى ما حولي ، فأجد نفسي في غرفة صغيرة مظلمة ... مضطجعة على سرير .. و أرى وليد و دانة نائمين على مقربة مني...

أنهض عن سريري و اقترب منهما لأتأكد .. أهما وليد و دانة ؟؟ أأنا في حلم ؟؟ فأرى وجه دانة الغارق في النوم .. و شعرها المبعثر على الوسادة... نعم هي دانة..
و هي حية .. و تتنفس..

ثم التفت ناحية وليد.. المغطى باللحاف كليا ، فلا أجد ما يثبت أنه وليد..
و أنه حي .. و يتنفس !

أبقى أراقبه بتركيز حتى ألحظ حركة طفيفة يصدرها صدره .. فيطمئن قلبي إلى أنه حي .. و يتنفس .. لكن .. هل هذا وليد ؟؟

أمد يدي بحذر و بطء.. و جنون.. نحو طرف اللحاف فأزيحه قليلا عن قدمه..

كبيرة كالسفينة !

لا شيء يدعو للشك !

إنه وليد حتما !

يطمئن قلبي و أعود أدراجي إلى سريري الدافىء... نعم أنا بخير.. نعم لقد نجونا.. نعم كان كابوسا.. نعم أنا متعبة.. و بالتأكيد سأنام ...


في المرة الأخيرة التي نهضت فيها..كانت حالتي سيئة جدا ...





~ ~ ~ ~ ~





كنت غارق في النوم لأبعد الحدود ، بعد العناء الذي مررنا به .. توقعت ألا أنهض قبل مضي 20 ساعة على الأقل !

إلا أنني نهضت على صوت ما ...

فتحت عيني و بقيت لحظة في سكون ، إلى أن أفاقت جميع خلايا الوعي النائمة في دماغي ، ثم بدأت حواسي تعمل بشكل جيد ، و تميز الصوت و معناه ...

كان صوت رغد.. و كانت تناديني ..

التفت ناحية السرير الذي كانت رغد تنام فوقه فرأيتها تجلس على حافته في إعياء شديد ، بالكاد تسند جدعها

كانت عيناها شديدتي الإحمرار .. و وجهها شديد الشحوب .. تعبيراتها تنم عن التألم و الإرهاق

اجتاحني القلق بغتة ، وقفت بسرعة و قلت :

" رغد .. ما بك ؟؟ "


نبست شفتاها عن أنة .. تلتها تنهيدة وجع ... ثم قالت بوهن :

" متعبة.. دوار.. "

ثم رأيت القشعريرة تسري في جسدها ...

اقتربت منها قلقا .. و أبصرت زخات من العرق تبلل وجهها

قلت :

" سلامتك "

قالت :

" أظن أنني محمومة .. أريد مسكنا "

ثم ارتمت على السرير بضعف ...

رغد تبدو مريضة جدا..

قلت :

" أ نذهب إلى الطبيب ؟ "

رغد أنت.. أنين مريض مرهق.

قلت :

" استعدي للذهاب . سأعود في الحال "

و توجهت نحو الباب ، فنادتني بوهن :

" وليد "

التفت إليها فوجدتها عاجزة عن رفع رأسها عن السرير .. قلت :

" سأطلب من العم إعارتنا سيارته "

و قبل خروجي نظرت إلى دانة ، و ناديتها عدة مرات إلا أنها كانت في نوم عميق..

عندما خرجت من الغرفة و سرت باتجاه باب المنزل لمحت العم إلياس على مقربة.. و كان يزيل بعض الأوراق و الأغصان المتساقطة من على الأرض..

إنه الصباح الباكر و هذا الرجل معتاد على النهوض باكرا من أجل العمل ...

اقتربت منه و أنا أقول :

" صباح الخير أيها العم الطيب "

التفت إلي و ابتسم ابتسامة جميلة و رحب بي بكل بشاشة و بشر ...

قال :

" نهضت باكرا ! هل اكتفيت من النوم بهذه السرعة ؟؟ "

قلت :

" لازلت متعبا أيها العم ، بصعوبة أديت صلاتي قبل فوات وقتها.. "

" إذن لم قمت باكرا هكذا ؟ "

قلت :

" ابنة عمّي متعبة.. أريد أخذها إلى المستوصف القريب.. فهل تسمح بإعارتي سيارتك؟؟"

العم قال بسرعة :

" أيعقل أن تسأل هذا يا وليد؟ بل أنا من سيوصلكما إلى هناك.. أنسيت يوم اصطحبتنا نحن إلى هناك؟ جاء وقت رد الجميل ! "

قلت :

" لا أريد إزعاجك أيها العم "

" عن أي إزعاج تتحدّث ؟ كما و أن لي حاجة من مكان قريب من المستوصف ، أنا ذاهب لجلب السيارة أمام المنزل "

و ولى مسرعا ...

لم يكن لدى العائلة سوى سيارة حوض .. زرقاء اللون ، يستخدمونها رئيسيا لنقل الثمار إلى سوق الخضار..

و هي سيارة لا تتسع لأكثر من ثلاثة أشخاص...

قبل أن أعود إلى الغرفة ، ظهرت الآنسة أروى خارجة من المنزل ، تحمل طبقا مسطحا كبيرا حاويا كمية من حبوب الأرز...

أروى حالما رأتني بادرت بالتحية :

" صباح الخير يا سيد وليد "

قلت ببعض الحرج :

" صباح الخير سيدتي "

قالت :

" أنتمتم بشكل جيد ؟ "

" الحمد لله "

" هل نهضت الفتاتان ؟ "

" كلا ، أعني نعم.. أقصد واحدة نعم و واحدة لا "

قالت :

" الباب مفتوح لكم لدخول المنزل أنى شئتم.. سأعد لكم طعام الفطور بعد قليل "

" شكرا لكم. غمرتمونا بكرمكم "

" إنه واجبنا بل من دواعي سرورنا .. "

و هنا أقبل العم يقود سيارته... و أوقفها على مقربة ..

سألت الفتاة :

" إلى أين يا خالي ؟؟ "

قال :

" إلى المستوصف "

" المستوصف ؟؟ "

قلت موضحا :

" لأخذ ابنة عمّي فهي متعبة "

قالت :

" سلامتها "

" سلمكم الله "

شكرتها و استأذنت و عدت إلى الغرفة..

كانت رغد لا تزال على نفس الوضع الذي تركتها عليه... و مغمضة العينين

حين أحسّت باقترابي فتحتهما بإعياء ...

" صغيرتي .. هيا بنا "

بصعوبة بالغة تحركت.. و مشت خطواتها العرجاء فلما صارت قربي التفتت إلى دانة ..

حرت في أمري...

فمن جهة ، لا أريد ترك دانة وحدها هنا.. و من جهة أخرى لا أريد إفساد نومها العميق ، كما و أنا السيارة لا تتسع لها ..

في النهاية قلت :

" سندعها نائمة .. "

و لولا التعب لنطقت رغد بكلمات الاعتراض المرسومة على وجهها ، إلا أنها سارت باستسلام و عجز...

أغلقت الباب تاركا المفتاح في الداخل.. و حين أصبحنا قرب السيارة قلت مخاطبا الآنسة أروى :

" من فضلك سيدتي.. هل لا تفقدّت شقيقتي بين حين و آخر ؟ إنها لا تزال نائمة هناك .. و لا تعرف عن خروجنا "

أروى قالت :

" اطمئن .. لسوف أذهب و ألازم الغرفة لحين عودتكما ! "

قلت :

" شكرا لك ، أخبريها أننا ذهبنا للمستوصف القريب و سنعود قريبا "

التفتت بدورها إلى رغد و قالت :

" سلامتك "

رغد لم تجب و اكتفت بنظرة كئيبة نحو الآنسة أروى.

قلت أنا :

" شيء آخر يا سيدتي و استميحك عذرا على ثقل ظلّنا... "

" تفضّل دون حرج يا سيد وليد "

نظرت إلى رغد في خجل و قلت :

" عباءة .. إذا أمكن "

الآنسة أروى قالت :

" بالتأكيد "

و أسرعت إلى داخل المنزل ، و عادت تحمل عباءة .. و زوجين من الأحذية المطاطية ، التي يرتدونها عادة أثناء العمل ...

انتبهت حينها فقط إلى أنني و رغد كنا لا نزال حافيين أيضا !

بعدما ارتدينا الأحذية المطاطية تلك ، و ارتدت رغد العباءة ، تقدمنا نحو السيارة فصعدت أنا أولا ثم رغد من بعدي... و قد كادت تتعثر .. إن من شدة التعب و الدوار ، أو من علو عتبة السيارة ، أو من طول العباءة التي ترتديها !

حينما بلغنا المستوصف، دخلته و رغد فيما ذهب العم لقضاء حاجاته على اتفاق بالعودة فور فراغه منها..

هناك، استلقت رغد على سرير الفحص و أقبلت الممرضة لقياس العلامات الحيوية لها، ثم قالت :

" حرارتها مرتفعة جدا! أربعون درجة و نصف !"

و أحضرت كيسا يحوي مجروش الثلج و وضعته على رأس رغد، بينما قامت ممرضة أخرى باستدعاء الطبيب المسؤول.

ثوان و إذا بالطبيب يحضر..

و هو رجل في نحو الثلاثين من العمر.. ما أن أقبل حتى استوت رغد جالسة..

اتخذ الطبيب مجلسه على مقعده الوثير خلف المكتب، و أمسك بالقلم و إحدى الأوراق بين يديه و بدأ يسأل :

" مم تشكو الفتاة ؟ "

توليت أنا شرح حالتها مجملا .. و أخبرته عن الجرح العميق في قدمها.

الآن .. يقف الطبيب و يقبل نحو سرير الفحص و يقول :

" بعد إذنك "

وقفت أنا دون حراك ، بينما حاولت الممرضة إغلاق الستارة حول السرير.. لتحول بيني و بينه..
و بادرت الممرضة الأخرى بفتح الضماد من حول قدم رغد المصابة...

في هذه اللحظة هتفت رغد :

" وليد "

لم أتحرك من مكاني، لا للأمام و لا للخلف.. و الممرضة تنظر إلي منتظره ابتعادي..

قال الطبيب :

" أنت شقيقها ؟ "

قلت :

" تقريبا...، ابن عمّها "

و نظرت إلى رغد فقرأت على وجهها الفزع المهول...

قال الطبيب :

" استلقي يا آنسة "

و الذي فعلته رغد هو أنها همت بالنهوض فجأة...

اقتربت أنا منها فأمسكت بذراعي ...لأساعدها على النهوض...

قلت :

" رغد .. "

رغد هزت رأسها نهيا بإصرار...

قال الطبيب :

" ألا تريدين مني أن أفحصك ؟ "

رغد قفزت من السرير واقفة على قدميها ، ثم صرخت تألما ...

قلت :

" رغد اصعدي .. دعيهم يرون الجرح على الأقل "

لكنها عوضا عن ذلك تشبثت بي أكثر و قالت :

" لا "

التفت إلى الطبيب الواقف جوارنا ينظر باستغراب و قلت :

" إنها خجولة جدا "

ثم أضفت :

" ألا يوجد طبيبة امرأة ؟ "

قال :

" للأسف لا "

ثم تنحى جانبا .. و ابتعد..

تحدّثت إلى رغد الواقفة على قدمها بألم و قلت :

" أرجوك صغيرتي ، لندع الممرضة تعقم الجرح "

و لم تقتنع بسهولة..

بعدما صعدت على السرير ، و هي لا تزال متشبثة بي، و كشفت الممرضة عن الجرح.. تأملته ثم قالت موجهة الحديث إلى الطبيب :

" دكتور.. إنه ملتهب جدا "

الطبيب أقبل من جديد يريد إلقاء نظرة على الجرح فرفضت رغد ذلك و دلت رجليها أسفلا..

قال الطبيب يحدث الممرضة :

" خرّاج ؟ "

" نعم يا دكتور.. ملوث جدا "

الكلمات أقلقتني.. قلت مخاطبا رغد :

" دعيه يلقي نظرة "

لكنها أصرت على موقفها بل و همّت بالنهوض...

" هيا رغد فنحن جئنا للعلاج .. "

و خاطبت ُ الطبيب :

" أرجوكم طهروه و اعتنوا به كما يجب "

بصعوبة بالغة سمحت رغد للطبيب فقط بإلقاء نظرة عن كثب على الجرح.. و ما أن رآه حتى قال :

" بحاجة إلى تنظيف جراحي "

قلت قلقا :

" تنظيف جراحي ؟؟ "

" نعم ، في غرفة العمليات الصغرى.. و لابد من أدوية قوية لأن الجرح ملتهب للغاية "

الخوف تملكني أنا ربما أكثر من رغد المذعورة بين يدي...
رغد .. جرح .. التهاب.. عملية .. أدوية .. ؟؟
ألطف يا رب.. ألطف يا رب..


قلت :

" ماذا علينا فعله ؟؟ "

" ننقلها إلى غرفة العمليات الصغرى الآن ، و تحت المخدر الموضعي يقوم الجراح بتنظيف الجرح و تعقيمه.. "


نظرت إلى رغد .. و الذعر المخيم على وجهها .. و الرفض الصارخ من عينيها.. فقلت :

" رغد "

و لم أتم ، إذ أنها هتفت فجأة مقاطعة :

" لا "


واجهت وقتا عصيبا مع هذه الفتاة حتى وصلنا إلى غرفة العمليات المعنية ، و خرقت القوانين بدخولي رغم عدم السماح بذلك..

أنى لي أن أترك صغيرتي وحدها هكذا !؟ مستحيل

و رغم المخدر الموضعي الذي حقنت به ، إلا أنها تألمت بشدة و صرخت بعنف و هي تستنجد :

" وليد.. وليد .. "

كانت تمسك بي بقوة، تغرس أظافرها في ذراعي.. و كلّما لُمِست قدمها ، صرخت و أو عضت على أسنانها ..

و كلما فعلت ذلك صرخت أنا بهم :

" على مهلكم إنها تتألم .. أي مخدّر هذا ؟؟ "

أنظر إليها و أهدىء و أشجع ، و أنظر إليهم و أصرخ و أعنّف .. و أنظر إلى نفسي فأرى النار تكاد تندلع من أعصابي و تشب في جسدي من صراخ رغد...

كم تمنيت.. لو أن الجرح كان في قدمي أنا.. في قدمي ّ الاثنتين .. في كل جسدي .. يقطعني و يحرقني و يكويني .. و لا أن يصيب خدش واحد حتى أحد أظافر قدمها..

كم كنت قاسيا يوم جعلتها تركض حافية القدمين و عرضتها لكل هذا...

أما كان باستطاعتي حملها طوال المشوار ؟؟ أأعجز عن رفع صغيرتي عن أذى الأرض.. و هي التي تربت متعلقة بعنقي ؟؟

ما ينفعني الندم الآن .. و قد سمحت للآه بالانطلاق من صدر فتاتي .. و للدموع بالانسكاب من محجريها .. و للألم باعتصار قدمها و تعذيبها كل هذا الوقت..
يا رغد..
إنك إن تصرخين مرة تصرخ شرايين قلبي ألف مرّة ... و إن تبكين دمعة يبكي قلبي بحرا من الدم ... و إن تتلوين ألما فإن أحشائي في داخلي تتمزق إربا إربا ..
و إن تغرسين أظافرك في بدني فأنا مغروس في حبك بعمق طبقات الأرض كلها...


في نهاية الأمر اضطر الطبيب لحقنها بمخدر منوم... ثوان ٍ و إذا بي أشعر بأظافرها تخرج من جسدي.. و قبضتها تخف الضغط علي .. و عضلاتها ترتخي .. و شيئا فشيئا تسقط يديها على جانبيها و يترنح رأسها للأسفل ...

فزعت، رفعت رأسها و ناديت :

" رغد ؟؟ "

لكنها كانت غائبة عن الوعي..

التفت إلى الطبيب الجرّاح و الممرضات و قلت :

" ماذا حدث لها ؟؟ "

قال إحداهن :

" نامت تحت تأثير المخدّر "

لم أشعر بالطمأنينة ، قلت موجها كلامي إلى الطبيب :

" أهي بخير يا دكتور ؟؟ "

قال :

" نعم ، إنه مجرد مخدّر .. ستنام لساعة أو أكثر...

أسندت رأس صغيرتي إلى الوسادة.. و تأملت وجهها ببقايا من القلق.. كانت هناك دمعتان معلقتان على خديها .. آخر السيل ... و ببساطة ...مددت يدي و مسحتهما ...

بعد ذلك ظللت أراقب الطبيب و من معه و هم يعقمون الجرح ... و حالما فرغوا قال الجرّاح :

" أنصح بنقلها إلى مستشفى حيث يتم إدخالها و إعطائها الجرعات اللازمة من الأدوية الضرورية لفترة من الزمن "

ذهلت و تملكني الهلع ، فقلت :

" لم يا دكتور ؟ ما بها ؟؟ "

قال :

" الجرح ملتهب بشكل سيء .. نحن نظفناه و عقمناه جيدا و حقناها بمضادات السموم و لكنها بحاجة إلى أدوية أخرى لإتمام العلاج "

زاد قلقي

" هل هناك خطر عليها ؟ أخبرني رجاء ؟ "

" الخشية من أن ينتشر الالتهاب أعمق من ذلك . جرح عميق .. قدم حافية .. شارع طويل .. خطورة أكبر "


فيما بعد ، نقلت رغد إلى غرفة للملاحظة.. فإضافة إلى جرحها الملتهب ، هي مصابة بجفاف و انخفاض في سكر الدم ..

كانت غرفة صغيرة حاوية سريرين تفصل بينهما ستارة قماشية

لم تحس رغد بالدنيا من حولها مذ حقنت بالمخدر.. وضعناها على السرير و استبدلت الممرضة قارورة السائل الوريدي الفارغة بقارورة أخرى أكبر حجما.. ثم انصرف الجميع تاركينها نائمة و أنا جالس على مقعد إلى جوارها...

كانت هادئة جدا.. و غارقة في النوم لأبعد الحدود.. كطفل بريء..

رؤيتها هكذا قلبت في رأسي ذكريات الماضي...

كم و كم من المرات... كنت أتسلل خلسة إلى غرفة طفلتي ألقي عليها نظرة و هي نائمة بسلام... و أحيانا أجلس بقربها .. و أداعب خصلات شعرها الأمس...
و في أحيان أخرى.. كنت أطبع قبلة خفيفة على جبينها و أهمس في أذنها :

" أحلاما سعيدة صغيرتي "

لم أحتمل ألم هذه الذكرى ...

انطلقت دموعي رغما عني .. شاقة طريقها النهائي إلى الموت.. لو كان الزمان يعود للوراء تسع سنين فقط.. تسع سنين فقط.. لكنت اقتربت من صغيرتي أكثر.. و أخذتها بين ذراعي .. و ضممتها إلى صدري بقوة .. بقوة.. أواسيها .. أشجعها.. أشعرها بالأمان و الطمأنينة.. و الحنان و الحب.. بالدفء و الحرارة..

آه لو يرجع الزمان للوراء ...

آه لو يرجع ...




و فيما أنا أبكي في نوبة الذكرى الجنونية هذه ، طرق الباب ثم أقبلت إحدى الممرضات تقول :

" معذرة هل اسمك السيد وليد شاكر ؟؟ "

مسحت دموعي بسرعة و هببت واقفا مجيبا :

" نعم "

قالت و هي تنظر إلى بشيء من الاستغراب :

" هناك رجل عجوز يسأل عنك في الخارج "

و تذكرت لحظتها إلياس و اتفاقي معه !



خرجت معها فرأيت العم إلياس يقف عند الممر .. ما أن رآني حتى بادر بسؤالي عن حال قريبتي ..

" الحمد لله.. ستتحسن "

قال :

" هل تحتاج للبقاء هنا ؟ "

" أنا آسف لأنني عطّلت مشاغلك يا عمي ، إنها تتلقى سائلا وريديا الآن.. و قد يطول هذا لساعة أو ربما أكثر ... "

قال :

" لا بأس عليكم . أ هناك ما تود مني فعله يا بني ؟؟ "

" شكرا لك عمّاه ، فعلت الكثير .. أرجوك انه ِ مشاغلك و أنا سأبقى معها لحين تحسنها.. سأستقل سيارة أجرة أو أتصل بكم حين فراغنا "


و على هذا افترقنا . عمدت إلى هاتف وجدته أمامي فاتصلت بمنزل نديم و اطمأننت على دانة، و التي كما أُخبِرت ُ كانت لا تزال نائمة !

عدت من ثم إلى صغيرتي فوجدتها كما تركتها ، نائمة كالملاك... غير أنها رفعت ذراعها فوق الوسادة ، في وضع اعتقدت أنه يعيق جريان السائل الوريدي إلى عروقها..

لذا اقتربت منها و ببطء و هدوء و حذر شديد حرّكت يدها و مددت ذراعها إلى جنبها ..

في هذه اللحظة فتحت رغد عينها نصف فتحة .. فوقعت ُ في أمري و تسارعت ضربات قلبي فجأة... دافعة الدماء إلى وجهي بعنف و غزارة !
تركت ُ يدها تنزلق من بين أصابعي خجلا ..

رغد قالت بصوت خفيف غير طبيعي :

" وليد.. أنت لم تُضِع الميدالية أليس كذلك ؟؟ "

اضطربت .. و لم استوعب ما قالت ...

قلت :

" ماذا ؟ "

لكن رغد أغمضت عينيها و بدت غارقة في النوم !

" رغد ..؟؟ "

لم تجبني .. ما جعلني استنتج أنها ربما كانت تحلم .. و أنها لم تكن واعية .. و أنها لن تتذكر هذا !

الحمد لله !

ضبطت البطانية لتشمل ذراعها تحتها .. و عدت إلى مقعدي المجاور ..

مرت الدقيقة بعد الأخرى.. شعرت بالإعياء و عاودتني الأوجاع الجسدية التي تجاهلتها منذ نهوضي على صوت رغد هذا الصباح .. و غزاني النعاس...
و النوم سلطان على من لا سلطان عليه !






~ ~~~~~~~




كأنني أحلّق في عالم جميل... أطير فوق السحاب.. في قمة الراحة و الاسترخاء.. لا ألم .. لا ضيق .. لا شيء سوى شعور بالدغدغة في داخلي !

فتحت عيني لأرى الجنة التي أحس بنفسي أنعم فيها.. فرأيت جنة مختلفة لا تتفق و الشعور الجميل الذي أحسه ..

أنام على سرير أبيض الألحفة.. تحيط بي الستائر البيضاء.. و تتدلى قارورة ما من أعلى عمود ما.. موصولة بأنبوب طويل ينتهي طرفه الثاني داخل وريدي !

جلست بسرعة أتلفت من حولي.. إنني في المستشفى راقدة على سرير المرض !

متى وصلت إلى هنا ؟؟ كيف وصلت إلى هنا؟؟

أين وليد ؟؟

أصابني الروع ، دفعت باللحاف بعيدا عني و قفزت من على السرير .. و طأت الأرض مرتكزة على قدمي المصابة ، فشعرت ببعض الألم ..

سحبت ذلك العمود الحديدي ذا العجلات معي و سرت خطوة و أنا حافية ، و فتحت الستارة.. كنت أتوقع رؤية وليد خلفها.. لكنه لم يكن هناك

تزايدت خفقات قلبي و تزاحمت أنفاسي و هي تعبر مجرى هوائي...

توجهت إلى الباب مسرعة ، أعرج بشدة.. و فتحته باندفاع.. و صار مشرعا أمامي كاشفا ما خلفه .. ممر .. غرف.. انعطافات.. أناس يمشون إلى اليمين ، و أناس إلى الشمال.. و ممرضة تقف في الجوار.. تنظر إلي.. و تتحدث إلى طبيب ما .. آخرون يقفون على مبعدة.. أناس كثر..كثر.. إلا أن وليد ليس من بينهم..

كدت أنهار.. كدت أصرخ.. كدت أهتف.. لكن الشهقة التي انحشرت داخل صدري حُبست عن الخروج..

الممرضة و الطبيب الآن يقتربان نحوي.. أنا أتراجع.. داخل الغرفة.. يصلان عند الباب و يوشكان على الدخول .. تبتسم الممرضة و تقول :

" هل أنت أفضل حالا الآن ؟؟ "

يسأل الطبيب :

" كيف تشعرين ؟ "

أنا أنظر إليهما بذعر .. يداي ترتعشان.. و رجلاي أيضا.. أفقد توازني و أقع أرضا ... و ينشد الأنبوب الموصل بوريدي خارجا من يدي.. و يترنح في الهواء راشا السائل من حولي ..

الممرضة تنحني مادة يدها إلي..

أنا أصدها و أصرخ :

" ابتعدا عني "

يتبادلان النظرات .. ثم يقولان معا :

" أ أنت بخير ؟ "

أنا أصرخ مستغيثة :

" وليد .. وليد "

يتبادلان النظرات ، ثم تقول الممرضة و هي تشير بيدها نحو الستارة :

" قريبك ِ هناك ! "

التفت نحو ما أشارت إليه ، السرير الثاني في الغرفة و شبه المحجوب بالستارة..

أنظر إليها، ثم أحاول النهوض و جسدي ترتجف..

تحاول هي مساعدتي فأصرخ :

" لا "

أهب واقفة قافزة نحو الستارة .. أمسك بها و أفتحها باندفاع.. فتقع عيناي على وليد نائما فوق السرير... !

" وليد ! "

اقتربت منه أكثر و أكثر... و هتفت :

" وليد .. "

وليد لم يفق ، أمسكت بكتفه و هززته و أنا أناديه لأوقظه ...

وليد أحس أخيرا ، و فتح عينيه و نظر إلي...

الذعر كان محفورا على وجهي مما جعل وليد يجلس بسرعة متوترا و يقول باضطراب :

" صغيرتي ماذا جرى ؟ "

بجنون التصقت بذراعه و أنا أرتجف خوفا.. كنت خائفة حد الموت..

صرخت بوجهه :

" لماذا تركتني وحيدي ؟ "

و قفزت دموعي من عيني..

" لماذا وليد ؟ إنهم يريدون إيذائي .. لماذا تتركني وحدي ؟ "


وليد أمسك بيدي و حاول تهدئتي :

" بسم الله الرحمن الرحيم ، صغيرتي أنا هنا معك "

نظرت إليه وسط الدمع و صرخت :

" لماذا تركتني وحدي ؟ "

" أنا هنا رغد.. معك ! غلبني النعاس فنمت على هذا السرير.. لا تفزعي أرجوك "

قلت ُ مجهشة باكية :

" أنا أخاف من البقاء وحيدة.. متى تدرك ذلك؟ لماذا تبتعد عني ؟ أتريد أن تقتلني ؟ "

وليد جعلني أجلس على السرير .. و وقف هو أمامي يردد عبارات الأسف و التهدئة و الطمأنة ... كل هذا و الطبيب و الممرضة لا يزالان واقفين مندهشين في مكانيهما..

بعدما سكنت روحي من روعها و استرددت طمأنة نفسي .. سألني وليد :

" أتشعرين بتحسن ؟ "

" نعم "

وليد نظر إلى الساعة المعلقة على الحائط المقابل ، و كانت تشير إلى الحادية عشرة و النصف ..

ثم وجه خطابه إلى الطبيب قائلا :

" أيمكننا الانصراف الآن ؟ "

قال الطبيب:

" نعم ، سأكتب للمريضة وصفة أدوية ، إلا أنني أفضل نقلها للمستشفى "

وليد نظر إلي.. ثم إلى الطبيب و قال :

" لا يمكننا ذلك"

" أحضرها لتطهير الجرح يوميا إذن "


ثم غادرنا المكان..

في الواقع ، لم يكن يفصل بين السريرين في تلك الغرفة سوى ستارة مشتركة ، و بضع أقدام ...


عدنا إلى منزل صديق وليد في نفس السيارة التي قدمنا فيها..

العجوز أوصلنا و غادر...



حين دخلنا إلى هناك ، و على نفس المقاعد التي كنا نجلس عليها البارحة رأيت دانة جالسة مع السيدة الصغرى ، بينما الأخرى تستقبلنا و ترحب بعودتنا..

وقفت دانة و الفتاة لدى رؤيتنا..

دانة كانت ترتدي عباءة أشبه بالعباءة التي أجرها حول قدمي ّ !

قالت السيدة الكبرى :

" تفضلا رجاءا "

أقبلنا نحو المقاعد و تبادلنا التحيات، ثم تقدمت دانة مني و هي تقول بقلق :

" أأنت بخير ؟ "

قلت بهدوء :

" نعم "

لقد كان القلق الشديد ظاهرا على وجهها.. و هذا ما أدهشني ، فهي المرة الأولى التي أشعر فيها بقلق دانة علي !

تحدثت الفتاة الآن قائلة :

" سلامتك يا رغد "

ألقيت عليها نظرة حاوية لشيء من الاستغراب... فابتسمت هي و قالت :

" اسمك ِ جميل "

تأملتها بعمق.. و حدّثت نفسي ...

( بل أنت الجميلة ! ما أشد جمال هذه الفتاة !)

قلت :

" شكرا لك.. "

قال وليد مؤكدا :

" شكرا لكم جميعا "

قالت السيدة الأخرى :

" لا شكر على واجب أيها الأعزة ، تفضلوا جميعا بالجلوس "

و جلست قرب دانة.. و التي قالت مخاطبة وليد :

" اتصلت بوالدي ّ و بسامر و نوّار قبل قليل ، الجميع بخير.. لن يُسمح لأبوي ّ بدخول البلاد لحين من الزمن "

وليد قال بارتياح :

" هذا أفضل، ليبقيا بعيدا آمنين .. "

و كان والداي و جميع المسافرين قد منعوا من دخول البلدة و ألغيت جميع الرحلات القادمة إليها..

أضافت دانة :

" لكن سامر في طريقه إلينا "

توتر وليد و قال :

" مجنون .. أمرته بأن يلزم مكانه لحين استقرار الأمور.. لماذا يعرّض نفسه للخطر الآن ؟؟ "

قالت دانة :

" فليحفظه الله ... يا رب "

حل الصمت علينا برهة ، ثم قالت السيدة الكبرى :

" سيكون كل شيء بخير إن شاء الله "

ثم التفتت إلى الفتاة و قالت :

" أعدي المائدة الآن بنيتي و استدعي خالك "

وقفت الفتاة و هي تقول :

" في الحال أمي "

و همّت بالذهاب ...

وليد قال :

" اعتقد أن العم إلياس قد ذهب إلى المسجد، فهذا ما قاله و نحن في طريقنا إلى هنا "

قالت السيدة :

" هل تحب أن تنتظره أم .. ؟ "

قال وليد :

" نعم ، في الواقع سأذهب لأصلي أنا أيضا "

قلت بسرعة :

" وليد ؟؟ "

أتم جملته :

" في الغرفة .. "

وقف وليد ، فوقفت معه.. و وقف دانة و السيدة أيضا..

ثم نطق بعبارات الشكر و الاستئذان و هم بالانصراف..

قال الفتاة الجميلة مخاطبة إياي بابتسام :

" لقد وضعت بعض الملابس في الخزانة لأجلك "

و التفتت إلى وليد بنفس الابتسام و قالت :

" خالي أيضا ترك بعضها لك يا سيد وليد "

وليد قال :

" نحن ممتنون لكم .. شكرا آنسة أروى "

ثم التفت إلينا أنا و دانة قائلا :

" أتأتيان ؟ "

دانة تحركت مباشرة و سارت نحو وليد الذي سار بدوره نحو الباب.. أما أنا فبقيت محدّقة في الفتاة الحسناء برهة !

( أروى ) ؟؟

أروى ...

ألم أسمع بهذا الاسم على لسان وليد قبل أيام !؟

بلى سمعته...

إنها الفتاة التي اتصل هاتفيا ليبارك لها ليلة العيد !

إذن .. فـ ( أروى ) تلك ليست طفلة كما ظننت.. ! إنها فتاة راشدة تكبرني سنا..

فتاة أقل ما يمكن أن أصفها به هو أنها ... فاتنة الجمال !
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
اللؤلؤة السوداء
القائد "V"
القائد
اللؤلؤة السوداء


عدد المساهمات : 186
النقاط : 10340
التقييم : 5
تاريخ التسجيل : 21/07/2011
العمر : 38

رواية انت لي - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: رواية انت لي   رواية انت لي - صفحة 2 Emptyالخميس يوليو 28, 2011 2:14 am


الحلقةالسابعةوالعشرون
***********





جالس على السرير الوحيد في تلك الغرفة الصغيرة، بعدما فرغت من استحمامي و صلاتي ، أمسك بيدي محفظتي و أعد نقودي..

ليس لدي سوى مبلغ ضئيل لا يكفي لتوفير مأوى آخر أو طعام لنا و لفترة لا يعلم بها إلا الله..

أشعر بخجل شديد من نفسي إذ جئت بعائلتي إلى هنا ، و رغم أن عائلة إلياس هي عائلة طيبة كريمة لأبعد الحدود إلا أن وجودنا لا يجب أن يطول..

علي التصرف بشكل من الأشكال...

دانة واقفة أمام المرآة ، ثم تلتفت إلي و تراقبني دون أن اهتم لها ، ثم تسألني بقلق :

" ماذا سنفعل ؟؟ "

أفكر بعمق، و بصمت .. و في عجز عن إيجاد حل مناسب.. فقد احترق بيتنا بما حوى.. و نحن الآن مشردون و حفاة معدمون..

تكرر دانة سؤالها :

" وليد ماذا سنفعل ؟؟ "

ارفع بصري إليها ، و أرفع حاجبي ّ و أقوّس فمي للأسفل.. ماذا سنفعل ؟؟

رغد كانت في دورة المياه..

اقتربت مني دانة و قالت :

" نوّار و عائلته سيغادرون البلدة "

و صمتت... و ظلت تراقبيني قليلا ثم قالت :

" و يريدون أخذي معهم "

تغيرت تعبيرات وجهي و قلت باضطراب :

" ماذا ؟؟ "

قالت بتردد :

" إنه نوّار... يريد أن .. يبعدني عن البلدة و الخطر .. "

قلت :

" و الزفاف ؟؟ "

تنهّدت دانة و قالت :

" الزفاف ؟؟ احترق مع فستانه ! "

ثم أخذت تبكي...

و يحق لها أن تبكي بمرارة.. و هي العروس التي كانت تعد لزفافها المرتقب بعد أيام فقط..

شعرت بقهر و غيظ في داخلي فوقفت و أحطتها بذراعي ّ محاولا مواساتها..

بعد قليل قالت :

" دعنا نسافر نحن أيضا "

" إلى أين ؟ كيف ؟ الرحلات محظورة "

" سيسافرون للبلدة المجاورة بالسيارة ، ثم يطيرون إلى بلد بعيد و آمن.. دعنا ننضم إليهم وليد "

" كيف يا دانة كيف ؟؟ إننا حتى لا نملك جوازات سفر أو بطاقات شخصية ! لا أنت و لا رغد على الأقل "

و هنا سمعنا صوت المفتاح يدار في باب الحمام .. فأسرعت أنا بالخروج من الغرفة لأدع المجال لرغد للتصرف دون حرج ..

في الخارج صادفت الآنسة أروى مقبلة نحو الغرفة ..

قالت :

" مرحبا "

" مرحبا سيدتي "

" لقد أعددنا المائدة .. هللا استدعيت الفتاتين ؟ "

" شكرا.. "

" و خالي ينتظرك أيضا في المجلس "

" لا نعرف كيف نفيكم حق الشكر ؟ "

" لم عليك تكرير ذلك يا سيد وليد ؟؟ بل نحن من يتوجب علينا شكرك.. لقد قدّمت لنا الكثير من المساعدات طوال عدّة أسابيع ! أنت شخص نبيل الخلق و تستحق التكريم "

شعرت بالخجل من كلماتها و كلامها معي.. خفضت بصري حرجا نحو الأرض .. و حرت .. ماذا علي أن أقول ؟؟

هنا فتح باب الغرفة و ظهرت منه رغد ..

رغد وقفت تنظر إلي برهة في صمت ، ثم تنظر إلى الآنسة أروى بوجه جامد

الآنسة أروى ابتسمت و قالت :

" كيف حالك ألان يا رغد ؟؟ "

و لم يبد أن الصغيرة عازمة على الإجابة !

لكنها قالت أخيرا :

" بخير "

قالت أروى :

" المائدة جاهزة... أين أختك ؟ "

قالت رغد :

" دانة أخت وليد.. ابن عمي "

و لم أجد الرد مناسبا للسؤال ! قالت أروى :

" نعم أعرف ! و لكنها كانت تتحدث عنك بوصف أختي ! "

ظهرت دانة الآن من خلف رغد .. فحيتها أروى و كررت دعوتنا إلى المائدة..

ذهبنا إلى المنزل ، أنا و العم إلياس في المجلس ، و النسوة في غرفة المائدة ، و تناولنا وجبة شهية مغذية بعد طول الجوع و العطش ..

بعد ذلك تحدثت و إلياس ساردا ما حصل لنا بشيء من التفصيل.. فأبدى تعاطفه الشديد و رحّب ببقائنا في ضيافته إلى أن نجد حلا آخر.. و أنا وعدته بأن أبدأ العمل في المزرعة منذ اليوم ...
و رغم اعتراضه ، إلا أنني أصررت على ذلك و نفذته

كان ذلك بعد الغذاء بثلاث ساعات.. تركت الفتاتين نائمتين في الغرفة ، تعوّضان حرمانهما السابق من النوم ، و خرجت إلى ساحة المزرعة و باشرت العمل...

كانت هناك شتلات شجيرات صغيرة جديدة مطلوب غرسها في الأرض.. و توليت أنا هذه المهمة .. أحفر الأرض ، و أغرس الشجيرات ، و أسوي التراب ...

العم إلياس و كذلك أروى كانا أيضا يعملان من حولي..

كنت أشعر بالتعب و الإعياء فأنا لم أنل قسطي الوافي من النوم و الراحة بعد ، إلا أنني لم أطق تأجيل العمل إلى الغد..

أروى كانت تساعدني .. و تتحدث معي من حين لآخر..

إنها فتاة جريئة بالفعل !

فيما أنا جاث ٍ على الأرض أغرس إحدى الشجيرات و أهيل عليها التراب.. و أروى واقفة قربي و ممسكة بالطرف العلوي لتلك الشجيرة .. سمعتها تقول :

" أهلا رغد ! "

رفعت رأسي إليها فرأيتها تنظر في إتجاه معين ...

التفت إلى ذلك الاتجاه فرأيت رغد واقفة تنظر إلي.. و لم تكن تعبيرات وجهها مريحة... البتة

وقفت ببطء .. و نفضت يدي و ثيابي مما علق بها من التراب .. ثم قلت :

" أهلا صغيرتي .. "

النظرات التي رشقتني بها رغد جعلتني انصهر حرجا .. و أهرب ببصري بعيدا عنها..

كانت مذهولة مصعوقة.. تحدّق بي بدهشة لا تضاهيها دهشة..

آلمتني نظراتها و غرست في صدري ألف خنجر.. لم أجرؤ على إعادة بصري إليها من جديد ...

سألت بدهشة :

" وليد.. ماذا تفعل ؟؟ "

ماذا أفعل ؟؟ ماذا أفعل يا رغد؟؟

ألا ترين ؟؟

أزرع الأرض.. ألوث يدي و ملابسي و جسدي بالأتربة و السماد.. و الوحل أيضا..

نعم .. أجثو على الأرض ضئيلا منخفضا وضيع الشأن.. بسيط الحال .. عوضا عن علو السماء و المركز و المنصب ..

احتقرت نفسي لحظتها أيما احتقار..

و تمنيت لو أنني دفنت نفسي عوضا عن الأشجار..

ماذا تظنين يا رغد ؟؟

أنني أصبحت شخصا مرموقا عالي الشأن ؟ هذه هي حقيقتي .. مجرد مزارع بسيط يعمل بجد فقط من أجل وجبة طعام و مأوى ...


" وليد .. ماذا تفعل ؟؟ "

أجبرت ُ عيني على النظر إليها ، فهالني ما رأيت على وجهها ...

أرجوك كفى يا رغد.. أنت تذبحينني .. كفى ... كفى ...

اعترفت بخجل :

" أفلح الأرض .. فهذا هو عملي منذ زمن "

و لن أصف لكم كيف تحوّل وجه رغد إلى غابة ذهول مخيفة ...

من منكم جرّب هذا ؟؟ دعوه يصف لكم إذن ما أعجز أنا عن التعبير عنه ...

رغد تراجعت للوراء .. ربما لتبتعد عن صفعة الواقع الذي تكتشفه للمرة الأولى..

سارت إلى الوراء بعرج.. و عيناها المفتوحتان أوسعهما لا تزالان ترميان سهام الذبح نحو جسدي... من أعلاه إلى أسفله...

و فيما هي تسير إلى الوراء بهذا الذهول و أنا ساكن في مكاني ، رأيت العم إلياس يقبل من ناحيتها و يشير إلي ّ بيده مخاطبا الرجل الذي معه :

" هذا هو شقيقك ! "






~ ~ ~ ~ ~ ~





لدى سماعي صوت الرجل العجوز قادما من خلفي ، التفت إلى الوراء بسرعة ، فرأيت سامر يقف أمام عيني ...

شهقت :

" سامر ! "

قال :

" رغد ! "

و أسرع نحوي و جذبني إلى صدره بقوة و عانقني بحرارة شديدة ... جدا !

" أوه رغد يا حبيبتي... لا أصدق عيني .. الحمد لله .. الحمد لله .. أنت حية ؟؟ شكرا لك يا رب .. شكرا لك يا رب "

و صار يبكي و أنا أبكي معه ..

و أخذ يقبّل يدي ّ و جبيني بلهفة .. لم أعهدها عليه من ذي قبل ..

" لقد نجونا يا سامر ! كدنا نموت لكننا نجونا بأعجوبة ! "

أقول ذلك و أتذكر ما مررنا به ، فأدفن رأسي في صدره و أغلق حصار ذراعي حول جدعه...

بعدما فرغ من نوبة الشوق هذه ، التفت إلى وليد ...

" وليد .. "

أقبل وليد إليه و فتح كل منهما ذراعيه للآخر و تعانقا بحمية ...

سامر بملابسه الأنيقة و هندامه المرتب النظيف ، و وليد بلباسه الملوث و يديه المتسختين بحبيبات الرمال ...

الناظر إليهما يجد فرقا كبيرا ...

و أنا وجدت ذلك الفرق أيضا ...

كان لقاء دانة بسامر دراميا ...

دانة تحب سامر أكثر من وليد.. السبب في ذلك أن وليد غاب عنا لسنين.. سنين لا أعرف أين كان فيها و لا ما عمل ؟؟

إذا كانت الحقيقة التي أراها أمام عيني .. هي حقيقة رجل يعمل في فلاحة الأرض !

بعد فترة ، كنا نحن الأربعة في تلك الغرفة...

وليد لم يتحدّث إلي بل لم ينظر إلي مذ رأيته يغرس الشجرة قبل ساعات... و أنا بدوري تحاشيته .. و ركزت اهتمامي على سامر و ما يقوله ..

" سنذهب إلى شقتي ، سأستأجر شقة أكبر حجما تسعنا و والدي ّ جميعا "

كانت هذه فكرته ، و دانة رحبت بها بشدة :

" إذن هيا بنا الآن "

قالت ذلك ، إلا أن وليد قال :

" اصبروا قليلا .. إنه المساء و لا يصلح للسفر.. كما أن المسافة ليست قصيرة و لابد أنك متعب ألآن يا سامر "

قال سامر :

" مطلقا ، رؤيتكم أزالت عني أي أثر للتعب ... "

ثم نظر نحوي و قال :

" ألف حمد لله على نجاتكم أيها الأحبة "

قال وليد مؤكدا :

" كما أن الطريق غير آمن.. و لم يكن يجدر بك الحضور يا سامر و تعريض نفسك للخطر "

قال سامر :

" و هل تعتقد أنه كان باستطاعتي البقاء هكذا ؟؟ "

قال وليد :

" على كل ٍ .. سنبقى هنا الليلة "

قال سامر ، بعدما جال ببصره في أنحاء الغرفة بشيء من الإستهانة و أشار إلى الأرض :

" هنا ؟؟ "

قال وليد :

" معذرة فأنا لم أملك من النقود ما يكفي لاستئجار شقة "

قال سامر بثقة :

" لا تقلق بهذا الشأن.. "

قالت دانة :

" إذن لم لا نعجّل الخروج ؟ هيا سامر دعنا نبحث عن شقة مناسبة "

جميعنا ننظر إلى وليد و الذي يُظهر استياء ً في غير محله !

أليس من الطبيعي أن نغادر هذا المكان شاكرين للعائلة كرم ضيافتهم ؟؟

قال وليد أخيرا :

" كما تشاءون "

و من ثم ّ غادر الغرفة ...

أخذنا نحن الثلاثة نتحدّث عما مررنا به .. و عما نحن مقبلون عليه.. في الحقيقة ، التزمت أنا جانب الصمت و الاستماع معظم الوقت... فتفكيري كان قد خرج مع وليد لحظة خروجه..

رؤيته بالشكل الذي رأيته عليه صدمتني كثيرا ...

وليد .. ذلك العملاق الضخم .. الذي أرفع رأسي عاليا إذا نظرت إليه.. الذي أشعر به سمائي .. و نجمتي.. و شمسي .. و جبلي أيضا.. أراه جاثيا على التراب يحفر الأرض.. و يغرس الشجر.. و يلوث يديه بالطين !؟

وليد ؟؟

لطالما كنت أراه عظيما عاليا.. شيئا معلقا في السماء..

أما أن تغوص يداه في الأرض.. فهذا أشبه بالكابوس الذي مررت به يوم القصف..


فيما نحن كذلك رن هاتف سامر المحمول ، فتحدث إلى الطرف الآخر .. و من حديثه معه استنتجت أنه صديق وليد ( سيف )

أراد سامر أخذ الهاتف إلى وليد، فلما غادر الغرفة غادرت من بعده..

كان الظلام قد حل .. و ما أن فتحنا الباب حتى تدفقت أنسام عطرة منعشة قادمة من بين الأشجار و الزهور الفواحة ..

لحظتها فقط التفت إلى جمال المكان الذي كنا فيه ...
تماما كجمال أصحابه ... شكلا على الأقل !

في الخارج ، في الساحة الواسعة أمام المنزل ، رأينا أفراد العائلة المضيفة يجلسون جميعا على بساط أرضي ، و وليد معهم ...

الإنارة كانت خفيفة صفراء منبعثة من مصباح المنزل الخارجي..

كان الرجل العجوز يجلس إلى جانب وليد و يمسك في يده سلة سعفية نصف مكتملة الصنع ، و يظهر أنه يشرح له كيف يصنع مثلها..

و إلى الجانب الآخر من وليد تجلس أروى الحسناء .. تصنع سلة أخرى هي بدورها.. و تلقي بالملاحظات على الاثنين ، أما أم أروى فكانت منشغلة بتكسير بعض الثمار الصلبة ، و استخراج بذورها..

تنحنح سامر فالتفتوا نحونا.. وقف وليد و أقبل إلينا.. مد سامر الهاتف نحوه و قال :

" صديقك الحميم يود الاطمئنان عليك "

" سيف ؟ "

" نعم ! اتصل عدة مرات ... "

أخذ وليد الهاتف و تحدث معه محادثة استمرت عدة دقائق ..

و حالما انتهى و أعاد الهاتف إلي سامر قال الأخير :

" فلنذهب الآن يا وليد ... "


وليد التفت ناحية العائلة و قال :

" سأشكرهم و أودعهم ... "

نحن الثلاثة أقبلنا إليهم فوقفوا... و بدأ وليد يكرر عبارات الشكر و الامتنان ، و هم يعبرون عن سرورهم باستضافتنا بل و يصرون على بقائنا بعد..

قالت أروى :

" إذن لن تبقى معنا ؟؟ أ لن تعود إلينا ؟ "

و كان ظاهرا على وجهها الأسف...

وليد قال :

" بلى.. سأعود حالما اطمئن على سير الأمور كما يجب.. "

ثم أضاف :

" أنتم عائلتي و هنا عملي "

أروى ابتسمت بسرور... أما أنا فشعرت بغصة في حلقي ...

قالت :

" مكانك محجوز لك و غرفتك جاهزة فأهلا بك في أي وقت "

شكرها وليد .. ثم استدار نحونا و قال :

" أ ننطلق ؟ "

قال أروى :

" لحظة "

و ذهبت إلى المنزل و عادت تحمل كيسا قدمته إلى وليد و قالت :

" ملابسكم .. نظيفة و مطوية "

فتناول وليد الكيس من يدها و كرر شكرها ..

كل هذا أمام عيني .. و يشعرني بالغضب !

واضح أنها معتادة على وليد و تخاطبه و كأنه أحد أقاربها ، لا رجلا غريبا...

لا يعجبني ذلك أبدا ...

بعد وداع العائلة ، ذهبنا إلى شقة قريبة قضينا فيها ليلتنا تلك ، و من الصباح الباكر غادرنا المدينة متجهين إلى مقر سامر...

طول تلك الفترة و أنا في حالة من الذهول... لم استفق منها بعد..

و وليد لم يكن يكلمني.. بل أنه كان يتحاشاني عن عمد.. و كأن شيئا لم يكن...

استأجر سامر شقة متوسطة الحجم في نفس المبنى الذي كان يقطنه .. شقة جمعتنا نحن الأربعة تحت سقف واحد ..

والداي كانا يتصلان مرة أو مرتين في اليوم بنا ليطمئنا على أحوالنا، و الحظر عن دخول المسافرين الى البلد استمر عدة أسابيع...

شفي الجرح الذي في قدمي شيئا فشيئا.. و قد كان سامر يصطحبني كل يوم إلى المستشفى من أجل تطهيره..

كنت على اتصال مستمر بعائلة خالتي ، و التي بقيت في المدينة تعيش على ما تبقى من حطامها..

في أحد الأيام ، جاءنا نوّار خطيب دانة، يطلب أخذ دانة معه إلى الخارج.. حيث سيستقر هو و عائلته عدة أشهر إلى أن تهدأ الأوضاع ..

نوار كان قد تحدّث بهذا الشأن إلى والدي و الذي يبدو أنه أيد الفكرة من باب إبعاد دانة عن البلدة .. كما أيدها سامر و تحمّست لها دانة كثيرا ، إلا أن وليد كان معارضا

" كيف يا دانة ؟ دون زفاف ؟ دون عرس ؟؟ دون وجود والدي ّ ؟؟ "

" و هل تعتقد أنني سأعيد شراء كل ما احترق من جديد ؟ دعونا نقيم حفلة بسيطة خاصة بنا.. أنا أريد أن أغادر هذه البلدة و التعاسة المخيمة عليها "

" و والداي ؟؟ "

" إنهما يؤيدان الفكرة .. و سوف نذهب إليهما أولا ثم نغادر "

" كلا.. سننتظر حتى يسمح لهما بالعودة ، ثم نقيم حفلة عرس متواضعة.. لن ننقص من قدرك أمام ذلك المغرور "

حينما قال وليد ذلك، اغتاظت دانة و قالت بحدة :

" من هو المغرور ؟ "

لزم وليد الصمت ، فقالت :

" لا أسمح لك بإهانة خطيبي ! أي قدْر هذا الذي تتحدّث عنه ؟؟ أ بعْد حطّتي في القدر باكتشاف حقيقة مخجلة مخزية عنك ، تجرؤ على الحديث عن القدر ! "

نشبت مشاحنة حادة بين الاثنين ، و أنا و سامر نتفرج بصمت..

قال وليد في معرضها :

" لن تفعلي ما يحلو لك .. و أنا المسؤول عنك في غياب والدي شئت أم أبيت "

دانة ردت بحدّة :

" و من قال أنني أنتظر الإذن منك أو أتشرف بمسؤوليتك هذه ؟؟سأسافر مع نوار يعني سأسافر معه.. و أنت عد من حيث أتيت فذلك أنسب لحالك و مثلك "

وليد رفع يده و كاد يصفعها ، إلا أنه توقف في منتصف الطريق.. و كتم غيظه..

لم أتمالك أنا نفسي ، فقلت غاضبة :

" ألا تحترمين شقيقك الأكبر ؟ ! "

قالت :

" اخرسي أنت..إنه شخص لا يستحق الاحترام "

جميعنا ننظر إلى دانة بغضب .. و هي تدور ببصرها حولنا ..

سامر نطق أخيرا و قال غاضبا :

" دانة ! يكفي "

" أجدر بك ألا تخشى على مشاعره ! أنسيت ما فعل بك ؟ "

هتف وليد :

" دانة "

صرخت هي :

" اضربني ! أليس هذا ما يتعلمه المجرمون في السجون ؟؟ "

وليد أمسك بكتفي دانة و هزّها بعنف و هو يصرخ :

" يكفي.. إياك و قول المزيد.. أتفهمين ؟؟ إن نطقت بحرف بعد فسأقطع لسانك .. أنا خارج من حياتك فاهنئي بمن تريدين "

و حررها من بين يده و قال مخاطبا سامر :

" افعلوا ما تشاءون .. فأنا لم يعد يهمني من أمركم شيئا "

ثم التفت إلي ففزعت من نظرته المرعبة ... و زمجر هو :

" و هذه أيضا.. تزوجها بالمرة و خلصوني منكم جميعا.. "

و أسرع خارجا من الشقة ...

مرت الساعات و لم يعد.. و انتصف الليل و لم يعد.. قلقت كثيرا عليه.. خرجت من غرفتي في قلق فإذا بي أرى سامر يجلس في الصالة أيضا ...

" ألم تنم ؟ "

" أشعر بالأرق "

" هل عاد وليد ؟ "

" كلا "

" إلى أين ذهب ؟ "

" لا علم لي ... "

" ربما عاد للمزرعة ! "

قلتها و أنا أضع يدي على صدري خوفا من أن تكون حقيقة ...

سامر نهض واقفا .. و اقترب مني و قال :

" ما رأيك بما قال ؟ "

" ما ذا تعني ؟؟ "

أمسك بيدي و قال :

" بأن .. نتزوج نحن أيضا .. "

هنا احتقنت الدماء في وجهي و اضطربت تعبيراته... رأى سامر الرفض على وجهي و قال :

" أرجوك .. رغد .. "

هويت بنظري أرضا ...

لماذا يعود لفتح الموضوع الآن ؟ لماذا يا سامر لا تعتقني ..

سامر رفع وجهي بيديه كلتيهما و قال بصوت شديد الدفء و الحنان :

" كدت أجن .. لما حصل معك ..لا أريد أن تفترقي عني لحظة واحدة .. أحبك ِ بجنون "

أبعدت وجهي عنه و استدرت و أنا أقول :

" كفى .. أرجوك ... "

و انهمرت دموعي ...

حاصرني سامر .. حاولت الفرار إلا أنه لم يدع لي المجال ..

" رغد .. لماذا ؟ بالله عليك أخبريني بصدق .. لماذا ؟ "

أردت أن أعود إلى غرفتي إلا أنه منعني ... كان مصرا على مواجهتي ...
قرع الجرس الآن... لابد أنه وليد...

فتح سامر الباب فإذا به وليد بالفعل...

كان وجهه حزينا كئيبا مهموما.. منظره يثير القلق و الحيرة ..

لم يتكلم.. نظر إلينا قليلا ، ثم ذهب إلى غرفته..

ثوان و إذا به يخرج ثانية ، ممسكا بمحفظته و مفاتيحه..

و سار نحو الباب ..

سامر استوقفه سائلا :

" إلى أين ... وليد ؟ "

استدار وليد إلى سامر و قال بنبرة نامة عن الحزن و الاستسلام :

" إلى المزرعة "

دهشنا و اشرأب عنقانا عجبا ..

قال سامر :

" ماذا ؟؟ "

قال وليد :

" فقد انتهى دوري "

و فتح الباب و همّ بالخروج ...

أسرع سامر إليه و أوقفه :

" وليد ! هل تعني ما تقول ؟؟ إلى المزرعة في هذا الوقت ؟؟ "

استدار إليه و قال :

" نعم ، فهي المكان الذي يناسب أمثالي "

و خرج ...

و رغم نداءات سامر و محاولاته المستميتة لإيقافه إلا أن وليد أبعده ، واستمر في طريقه ...

الجنون أصابني أنا لحظتها... ركضت نحو الباب و صرخت :

" وليد .. لا تذهب "

إلا أن وليد لم يلتفت إلي .. و تظاهر بعدم سماعه لي ..

" وليد ... وليد عد .. "

هتفت و هتفت ، إلا أنه ابتعد... و اختفى عن أنظاري ...

سامر أغلق الباب.. و تنهّد بأسف ...

قلت بعصبية :

" ماذا تنتظر؟ الحق به ! امنعه ! "

إلا أن سامر هزّ رأسه بقلة حيلة ..

تفجرت دموعي و أغرقت وجهي كما الطوفان ، و زمجرت :

" الحق به يا سامر دعه يعود "

" لن يفعل يا رغد.. لن يفعل "

رفعت يدي و أمسكت بذراعي سامر و صحت :

" كيف تتركه يذهب ؟ ماذا إن أصابه مكروه ؟ الحق به سامر أرجوك "

سامر قال بضيق :

" ألم أفعل ؟ لا جدوى من ذلك .. أنا أعرفه "

هززت رأسي باعتراض شديد و صرخت :

" كلا .. كلا كلا ... "

نظر إلي باستغراب ...

قال :

" رغد ! ؟ "

قلت بانفعال :

" سأذهب معه "

ذهل سامر ، و قال :

" ماذا ؟؟ "

صحت :

" سأذهب معه ... لا أريد البقاء هنا .. لا أريد البقاء هنا.. لماذا ذهب و تركني .. لماذا ؟ "

سامر أمسك بذراعي بقوة و بذهول قال و هو يحدّق بي :

" تذهبين معه .. و تتركيني ؟؟ "

ابتلعت لساني و لم أنطق بأي كلمة ... سامر كان يحملق بي بحدة .. نظرات فاحصة مدققة مدركة مستنتجة .. قارئة لما اعترى وجهي من تعبيرات صارخة ...

" رغد ... تتركيني من أجله ؟؟ أليس كذلك ؟؟ "

صعقت .. و توقف قلبي عن الخفقان ... و لم أشعر بالدنيا من حولي سوى عيني سامر اللاسعتين .. و يديه القابضتين علي بعنف ..

قال :

" تكلمي يا رغد ؟؟ أهذا هو السبب ؟؟ "

لم أجبه ..

بدأ يهزني بقوة .. و آلمني كثيرا ...

" رغد تكلّمي ... قولي ما تخفينه .. اعترفي هيا "

" دعني سامر "

لكنه هزني بعنف أقوى و بحدة صاح بوجهي :

" تكلمي يا رغد هيا..ماذا لديك؟ انطقي بسرعة..لماذا قررت ِ التخلص مني؟ قولي هيا؟ "

فقد ت السيطرة على نفسي و صرخت :

" لأنني لا أحبك .. لا أحبك يا سامر .. هل ارتحت الآن ؟ "

سامر دار بي حتى رطمني بالباب .. و هتف صارخا :

" .. وليد ؟؟ "

تفجّرت لحظتها و صرخت بأعلى صوتي مطلقة سراح ما حبسته في صدري عنوة :

" نعم أحبه.. أحبه هو .. أحبه هو .. أحبه هو .. هو .. هو "

بعد هذا الانفجار .. و الذي خرج من صدري دون شعور و إدراك .. و وعي ، وعيت على الواقع بصفعتين قويتين تلقيتهما من كف سامر الثائر..

أفقت فجأة فرأيت نفسي أقف مسنودة إلى الباب .. و دموعي تجري كشلال ضخم.. و سامر يقف أمامي كأسد ثائر ... يكاد يفترسني ...

لم أدرك أنني أفصحت عمّا في قلبي إلا بعد حين ...

توقفت أنفاسي .. في حالة من الذهول مما أنا فيه ...

كالجمرة المتقدة كان وجه سامر محمرا متوهجا .. و كانت يداه توشكان على الانقضاض علي ...

قال :

" لقد كنت ُ أحمقا إذ لم أعر شكوكي اهتماما يومها ... كم كنت ُ غبيا ... لقد كنتِ تحبينه كل ذلك الوقت و تستغفلينني ؟ "

لم أستطع النطق بأي كلمة ..

تابع هو :

" نعم .. فأنت ِ ركضتِ نحوه هو يوم كنا عند الشاطئ.. و تركتني أنا واقفا كالأبله جواره تماما.. "

ثم أطبق علي ّ بيديه و قال :

" لهذا تريدين التخلص مني ؟؟ لن تفعلي هذا بي يا رغد.. لن أسمح لك ِ بهذا أبدا "

و سحبني بعنف .. و سار بي يجرني إلى غرفتي ، و دفع بي بقوة نحو السرير ... فارتطمت به بآهة ...

زمجر :

" لن أسمح لكما بذلك .. أتفهمين ؟؟ أبدا يا رغد "

و خرج من الغرفة و هو يصفع بالباب ...





~ ~ ~ ~ ~ ~





حينما وصلت ُ إلى المزرعة.. كان ذلك قبيل أذان الفجر...

دفعت مبلغا كنتُ أنا الأحوج إليه إلى السائق الذي أوصلني... و أخذتُ أعد ما تبقى لدي من جديد...

لزمت المسجد لحين ارتفاع الشمس في صدر السماء... و ناجيت ُ الله طويلا .. شاكيا له حالي و باثا إليه همومي و سائلا إياه الرحمة و اللطف ...

ذهبت إلى المزرعة بعد ذلك و استقبلني العم الطيب و ابنة أخته استقبالا حافلا ... و علمت ُ منهما أن السيدة ليندا عادت إلى المستشفى من جديد ، في نوبة جديدة ...

كلما تذكرت أنني كنت السبب في المرض التي اعترى قلب هذه السيدة كرهت ُ نفسي أكثر .. و شعرت بمسؤولية أكبر تجاهها و تجاه المزرعة و من فيها...

قمنا بزيارتها مساء ذلك اليوم.. ففرحت هي بزيارتي و طلبت مني مساعدة أخيها و ابنتها في العناية بالمزرعة ..

عملت بجد و اجتهاد في الأيام التي تلت .. و لم أتصل بأهلي إلا اليوم ..

كان العم و أروى قد ذهبا لزيارة السيدة ليندا ، وأنا بقيت في المنزل وحيدا ...
تحدّث سامر إلي و طمأنني على أحوالهم ، و أخبرني أنه و رغد ، كما نوّار و دانة سيحتفلون بزواجهم بعد ليلتين...

أقفلت ُ السماعة ، و حاولت ُ منع رأسي من التفكير في أي شيء...

فبعد اللقاء الحميم الذي جمعهما في المزرعة أول وصوله ، فقدت ُ أي اهتمام يذكر بشأن عرقلة هذا الزواج .. سواء ً كان برضا من رغد أو باضطرار منها..

أنى لها أن تجد الزوج الأنسب ؟؟

و كيف أسمح لنفسي بالتفكير بها .. و ما أنا إلا رجل فقير معدم .. لا يملك مأوى و لا قوتا ؟

و إن عشت ألف سنة بعد ، لن أنسى نظرة الازدراء التي رمتني بها يوم كنا في المزرعة ...

صدقت َ يا سامر

رغد لا تستحق الزواج من مجرم قاتل .. فقير معدم .. وحيد منبوذ مثلي ..

عاد العم و أروى من المستشفى فرأياني شاردا سارحا تائها في أفكاري ...

كما رأيا الدمعة التي هربت من مقلتي ..

رأيت في عينيهما القلق .. و سألاني عما إذا كان شيء ما قد حصل ، فأجبتهما :

" لا شيء "

الفتاة ذهبت إلى المطبخ أما العجوز فعاد يسألني :

" ما بك يا بني ؟ تبدو في غاية الحزن ؟؟ "

قلت :

" و هل ترى في حالي ما يدعو للسرور أيها العم ؟ إنني في أسوأ حال "

" قل الحمد لله يا ولدي.. "

" الحمد لله "

تنهدت ، ثم قلت بمرارة ...

" إلى متى سيظل حالي هكذا ؟؟ لسوف أبحث عن عمل من جديد .. إنني بحاجة للمال .. لتكوين نفسي و بناء مستقبلي "

" ماذا عن .. العمل معنا ؟؟ "

نظرت إلى الرجل العجوز نظرة امتنان و قلت :

" لكن إلى متى ..؟؟ إنني تائه ! بلا بيت و لا أهل ... "

" و نحن ؟؟ "

" أنتم .. عائلتي حتما و لكن .. "

و صمت ...

العم قال :

" و لكن لا يربطنا نسب أو دم .. "

لم أعلّق ، قال :

" مشكلة سهلة الحل "

نظرت إليه بحيرة ...

ابتسم العجوز و قال :

" إن كنت تريد لها هذا الحل "

قلت :

" عفوا ؟؟ "

العم إلياس أمسك بيدي و ظهر الجد على تعبيرات وجهه و قال :

" أزوّجك ابنة أختي ! "

تملّكني الذهول و المفاجأة .. رمقته بنظرة بلهاء غير واعية لحقائق الأمور ..

" ماذا ؟ "

أجاب العم :

" إذا كنت ترى ذلك طبعا ... مثلما نراه نحن .. "

تلك الليلة لم تسمح لي الفكرة هذه بالنوم.. خرجت من غرفتي أحمل علبة سجائري التي اشتريتها مؤخرا... و التي عدت استهلكها بشراهة .. سرت متجولا في المزرعة في تفكير عميق ...

قضيت وقتا في الخارج ، و لما عدت .. لمحت أروى جالسة على عتبات المنزل ...

لما رأتني نهضت واقفة ... و ألقت علي التحية ..

ارتبكت.. و رددت باضطراب ..

قالت و هي تنظر إلى السيجارة في يدي :

" ألم تقلع عن التدخين ؟؟ "

" أأ .. صعب .. "

قالت :

" أنت تضر بصحتك ! لا تستحق هذه التافهة الاهتمام ! "

تنهّدت .. و نظرت إلى السماء ثم قلت :

" لا شيء في حياتي يستحق الاهتمام ... و لا حتى أنا "

" أنت مخطئ ! "

و ندمت على مقولتي هذه !

و رأيت نظرات الاهتمام في عينيها ...

غضضت بصري و قلت :

" بعد إذنك .. سأعود إلى غرفتي "

و خطوت بضع خطوات مبتعدا ، و أنا أحس بها تراقبني ...

التفت للوراء فوجدتها بالفعل تراقبني ... و تبتسم !

لا أعرف من أين استمددت هذه الجرأة و الجنون لأسألها :

" آنسة أروى .. "

" نعم ؟"
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
اللؤلؤة السوداء
القائد "V"
القائد
اللؤلؤة السوداء


عدد المساهمات : 186
النقاط : 10340
التقييم : 5
تاريخ التسجيل : 21/07/2011
العمر : 38

رواية انت لي - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: رواية انت لي   رواية انت لي - صفحة 2 Emptyالخميس يوليو 28, 2011 2:16 am


الحلقةالثامنةوالعشرون
********






" تتزوجيني ؟؟ "

أروى حملقت بي لبرهة ، ثم ابتسمت و نظرت إلى الأرض بخجل !

العرق صار يتصبب مني و ملابسي تحترق من حرارة جسدي.. أما لساني فانعقد تماما !

أي جنون هذا ؟؟

ظللنا واقفين فترة هكذا ، أنا لا أجرؤ على قول شيء و لا الانصراف ، و هي لا ترفع عينيها عن الأرض...

نفحات الهواء الباردة أخذت تصافح جسدي و تطفئ اشتعاله.. و هبّت على الوشاح الذي تلفه أروى حول رأسها فتطايرت أطرافه.. كاشفة عن خصلات ذهبية ملساء انطلقت تتراقص مع النسيم ..

غضضتُ بصري بسرعة ، و استدرت جانبا و قلت :

" أنا آسف "

" لم ؟؟ "

قالتها بتعجب ، فكساني تعجبها تعجبا !

أعدت النظر نحوها فوجدتها واقفة في مكانها و قد ضبطت الوشاح حول رأسها بإحكام...

و لا تزال تبتسم بخجل !

تشجعت حينها و قلت :

" ألا تمانعين من الزواج من رجل مثلي ؟ "

قالت دون أن تنظر إلي :

" مثلك .. يعني ماذا ؟؟ "

قلت :

" فقير.. مشرد.. خريج سجون.. عاطل ! "

قالت :

" لكنك .. رجل نبيل يا وليد "

ثم ألقت علي ّ نظرة خجولة ... و انصرفت مسرعة !

في صباح اليوم التالي ، كنا أنا و العم إلياس ننظم أغصان بعض الأشجار...و كان الموضوع يلعب برأسي منذ الأمس... و كنت أحاول التقاط أي خيط من الكلام لفتحه أمام العجوز ..

و ربما هو لاحظ ارتباكي إلا أنه لم يعلّق..

قلت :

" أليس لديكم أقارب آخرون يا عمي ؟ "

قال :

" هنا ؟ لا يوجد . إنني و أختي كما تعلم من خارج البلدة و لا أهل لنا هنا . نديم رحمه الله كان يقطن المدينة الساحلية هو و عائلته قبل استقراره هنا في هذه المدينة قبل زمن طويل .. و هو الآخر لم يكن لديه أقارب كثر "

و المدينة الساحلية هي مدينتي الأم

قلت :

" و ماذا عنك ؟ ألم يكن لديك زوجة و أبناء ؟ "

قال :

" زوجة رحمها الله. لم أرزق الأبناء بقضاء من الله. الحمد لله "

ثم أضاف :

" لذلك أحب ابنة أختي حبا جما .. و أسأل الله أن يرزقها زوجا صالحا أطمئن إلى تركها معه بعد فنائي "

قلت بسرعة :

" أطال الله في عمرك عمّاه "

قال :

" فقط إلى أن أزوّجها و أرتاح "

و غمز إلي بنظرة ذات معنى !

احمر وجهي خجلا.. فصمت ، أما هو.. فنظر بعيدا مفكرا و قال :

" أنا قلق عليها و على مستقبلها .. إنها فتاة بلا سند.. أريد أن أزوجها بسرعة لرجل جدير بالثقة.. أأتمنه عليها.. "

و نظر نحوي.... يقصدني !

قلت متلعثما :

" أأ أحقا لا تمانع من زواجها من.. من .. "

أتم العم الجملة :

" منك يا وليد ؟ مطلقا.. فأنت رجل خلوق و مهذّب . بارك الله فيك "

قلت مترددا :

" لكنني .. كما تعرف "

قاطعني :

" لا يهم ، فهاهي المزرعة أمامك اعمل بها عملا شريفا نظيفا و إن كان بسيطا.. و إن كنت تود العمل في مكان آخر فاسع يا بني و الله يرزقك "

طمأنني قوله كثيرا .. تماما كما كانت كلمات نديم رحمه الله تبعث في نفسي الطمأنينة في سني السجن ...

قلت أخيرا :

" لكنني.. خرجت من السجن "

قال :

" نديم كان في السجن أيضا ، و لم أر في حياتي من هو أشرف منه و لا أحسن خلقا "

ابتسمت .. للتقدير و الاحترام اللذين يكنهما هذا الرجل لي.. و اللذين رفعا من معنوياتي المحطمة بعد كلمات دانة الجارحة ...

العم ابتسم أيضا و قال و هو يصافح يدي :

" أ نقول على بركة الله ؟؟ "





~ ~ ~ ~ ~ ~




" ماذا عنّي أنا ؟؟ تتركيني وحدي ؟؟ "

سألتُ دانة التي تقف أمام المرآة تجرّب ارتداء فستان السهرة الجديد ، الذي اشترته لارتدائه في الحفلة البسيطة ... يوم الغد

لم تكن تعيريني أي اهتمام.. و خلال الأيام الماضية عوملت معاملة جافة من قبلها و قبل سامر .. بتهمة الخيانة !

" دانة أحدّثك ! ألا تسمعين ؟؟ "

" ماذا تريدين يا رغد ؟ "

" لا أريد البقاء وحدي هنا "

" سامر معك "

قلت باستياء :

" لا أريد البقاء مع سامر بمفردنا "

الآن التفتت إلي و قالت :

" إنه خطيبك .. فإن كنت لا تثقين به فهذه مشكلتك ! "

شعرت بضعف شديد و قلة حيلة .. فوليد ، الشخص الذي كان يقف إلى جانبي و يتولى الدفاع عني قد اختفى.. و لابد لي من الرضوخ لقدري أخيرا...

خرجت من غرفتها و ذهبت إلى غرفتي، و من هناك اتصلت بوالدي ّ و طلبت منهما أن يعودا بأي وسيلة.. لأنني وحيدة و تعيسة جدا..

و يا ليتني لم أفعل ...

بعد ذلك ، جاء سامر إلى غرفتي يحمل علبة هدّية ما ...

كان يبتسم .. اقترب مني و حاول التحدث معي بلطف و كرر الاعتذار عما بدر منه تلك الليلة ، إلا أنني صددته بجفاء.

" وفر هداياك يا سامر .. فأنا لن أقتنع بفكرة الزواج بهذا الشكل مطلقا.."

غضب سامر و تحوّل لطفه إلى خشونة و نعومة حديثه إلى قسوة..

قال :

" حين يعود والداي سيتم كل شيء "

قلت :

" حين يعود والداي سينتهي كل شيء "

سامر فقد السيطرة على أعصابه و زمجر بعنف :

" كل هذا من أجل وليد ؟؟ "

ونظرت إليه نظرة تحد ٍ لم يستطع تجاهلها..

أطبق علي بقسوة و قال :

" و إن تخليت ِ عني ، لن أسمح له بأخذك مطلقا .. أتفهمين ؟؟ "

" بل سأطلب منه أن يأتي لأخذي فأنا لن أعيش معك بمفردي "

" رغد لا تثيري جنوني.. لا تجعليني أؤذيك .. إنني أحبك .. أتفهمين معنى أحبك ؟ "

هتفت :

" لكني أحب وليد .. ألم تفهم بعد ؟؟ "

سامر دفع بي نحو السرير ، و تناول علبة الهدية و رطمها بالجدار بقوة ...

قال :

" ماذا تحبين فيه ؟ أخبريني ؟؟ ماذا رأيت منه جعل رأسك يدور هكذا ؟؟ "

ثم أقبل نحوي و هزني بعنف و هو يقول :

" أ تحبّين رجلا قاتلا ؟ مجرما ؟ سفاحا ؟؟ "

صرخت بفزع :

" ما الذي تقوله ؟؟ "

قال مندفعا :

" ألا تعلمين ؟؟ إنها الحقيقة أيتها المغفلة .. كنت ِ تظنين أنه سافر ليدرس في الخارج ..طوال تلك السنين .. أتعلمين أين كان وقتها ؟؟ أتعلمين ؟؟ "

كان الشرر يتطاير من عيني سامر .. المرة الأولى في حياتي التي أرى فيها عينيه بهذا الشكل ... أصابني الروع من نظراته و كلماته ..

أتم جملته :

" لقد كان في السجن "

صعقت ، و لم أصدّق ... هززت رأسي تكذيبا ، إلا أن سامر هزني و قال بحدة :

" نعم في السجن .. ثمان سنوات قضاها مرميا في السجن مع المجرمين و القتلة.. ألا تصدقين ؟ اسألي والدي ّ .. أو اسأليه هو.. في السجن يا رغد.. السجن.. و قد أخفينا الأمر عنكما أنت و دانة لصغر سنكما "

صرخت غير مصدقة ..

" كلا .. كلا .. أنت تكذب ! "

قال بحدّة :

" تأكدّي بنفسك.. و لسوف تندمين على صرف مشاعرك على قاتل متوحّش "

دفعت سامر بعيدا عني و ركضت مسرعة نحو غرفة دانة ، التي كانت لا تزال أمام المرآة ...

" دانة "

هتفت بقوة أجبرتها على الالتفات إلي بشيء من الدهشة و الخوف ...
قلت :

" وليد .. وليد... "

فزعت دانة ، قالت :

" ما به ؟؟"

قلت :

" كان في السجن ؟؟ "

دانة تحملق بي في دهشة و عدم استيعاب .. صرخت ُ :

" وليد كان في السجن ؟؟ أخبريني ؟؟ "

ظهر سامر من خلفي فنظرت إليه دانة

قال :

" أخبريها فهي لا تصدقني "

دانة جالت ببصرها بيننا ثم قالت :

" أجل... لثمان سنين .. "

صرخت :

" لا ! "

قالت :

" بلى ، و بجريمة قتل "

" مستحيل ! "

لم أشأ أن أسمع .. أن أفهم .. أن أصدق .. أن أدرك ..

دارت بي الدنيا و تراقصت الأرض و تمايلت الجدران.. و أظلمت الأنوار.. و لم أشعر بنفسي إلا و سامر يمسكني بسرعة و يجلسني أرضا ...

بدأت الأنوار تضاء.. و بدأت أسمع نداءاتهما و أرى أعينهما القلقة حولي.. و أحس بأيديهما الممسكة بي ...

" رغد حبيبتي تماسكي "

" رغد ماذا جرى لك ؟؟ "

" ابقي مسترخية "

" اسم الله يحفظك "


حينما وعيت تماما وجدت نفسي ممدة على الأرضة و رأسي في حضن سامر و يدي بين يدي دانة ... و كنت أشعر ببلل الدموع الجارية على وجنتي...

قال سامر :

" أ أنت بخير ؟ "

أغمضت عيني بمرارة و تركت المجال لدموعي لتتدفق كيفما شاءت...

قالت دانة :

" رغد ... "

فتحت عيني و حاولت أن أتكلم، و عجزت إلا عن إصدار أنات متلاحقة... لا معنى لها و لا تفسير..

ساعدني الاثنان على النهوض و التوجه إلى غرفتي حيث استلقيت على سريري.. و جلس الاثنان قربي.. سامر يمسح على رأسي و دانة تشد على يدي...

قالت :

" لا بأس عليك.. كانت صدمة بالنسبة لي أنا أيضا "

تحشرج صوتي في حنجرتي ثم انطلق ناطقا :

" لماذا أخفيتم عني ؟؟ "

دانة نظرت إلى سامر.. كأنها تنقل السؤال إليه..

نظرت إلى سامر فرأيت وجهه متجهما حزينا...

" لماذا ؟ "

سامر حار في أمره .. و بعثر أنظاره فيما حولي ثم قال :

" كنتما صغيرتين .. ثم .. لم نشأ تقليب المواجع بعد خروجه .. "

" لا أصدق .. لا أصدٌق.. لا يمكن.. "

و انفجرت في بكاء أبكى دانة.. و كاد يبكي سامر أيضا..

قلت مخاطبة دانة :

" لماذا فعل ذلك ؟؟ "

و أيضا أحالت السؤال إلى سامر ..

قلت مخاطبة سامر :

" لماذا ؟؟ "

هذه المرّة سامر دقق النظر إلي .. نظرات عميقة غريبة ، ثم قال :

" ألا تعرفين ؟؟ "

" أنا ؟؟ "

سامر قال :

" لا نعرف الحقيقة بالضبط، لكن ... "

" لكن ماذا ؟؟ "

تردد سامر ثم قال :

" إنه يخفي سرا .. "

صمت ثوان ثم قال :

" سر على ما يبدو .. له علاقة بـ ... "

و تراجع عن إتمام جملته..

" بماذا ؟؟ "

سألت ، فظل ينظر إلي بتمعن .. و كأنه يشير إلي !

" بي أنا ؟؟!! "

و لم ينف كلامي ، فسألته دانة باستغراب :

" و ما علاقة رغد بالأمر ؟؟ "

سامر تردد و من ثم قال بنبرة غير الواثق من كلامه :

" لا أدري .. القضية غامضة .. و حزام الزي المدرسي الذي كانت رغد ترتديه ذلك اليوم – وهي نائمة في سيارة وليد - .. وجد للغرابة في مسرح الجريمة قرب القتيل مباشرة ! "


ما إن أتم سامر جملته .. حتى تهدّم في رأسي سد الذكريات فجأة .. و تدفقت شلالات الذكرى المفزعة .. و انتفضت و شهقت ثم هتفت بغتة :

" عمّار !!؟؟ "

الاثنان نظرا إلي بتعجب ..

جلست فجأة و وضعت يدي الاثنتين على صدري فاتحة عيني و فاغرة في ّ بذهول ما بعده ذهول ...

" رغد ؟؟ "

ناداني سامر ، فالتفت إليه .. ثم إلى دانة .. ثم إلى سامر فدانة بشكل تثير الشكوك ..

عاد سامر يقول :

" رغد ..؟؟ "

صرخت :

" لا "

" رغد .. هل رأيت شيئا ؟؟ "

صرخت بفزع :

" لا "

قال :

" أتذكرين شيئا ؟؟ "

" لا .. لا كلا .. "

و جذبت دانة نحوي و وضعت رأسي في حضنها و لففت ذراعي ّ حولها و أنا أصرخ بجنون :

" كلا .. كلا .. وليد.. وليد .. "

حتى غشي علي ...






~ ~ ~ ~ ~ ~ ~




في نفس اليوم ، و الذي عادت فيه السيدة ليندا من المستشفى ، عقدنا قراننا أنا و أروى ..

العائلة كانت سعيدة و مبتهجة ... و قد صنعت أروى كعكتين لذيذتين و عشاء مميزا، احتفالا بالمناسبة..

لم يشاركنا الحفلة الصغيرة سوى سيدة واحدة هي صديقة للسيدة ليندا ، و ابناها اللذين شهدا على العقد..

بالنسبة لي ، كان حدثا غريبا و أشبه بالوهم..نعم الوهم..لقد كنت هناك ، لكنني لم أكن.. و انتظرت أن أصحو من هذا الحلم الغريب.. إلا أنني لم أصح ُ ..

بعد تناولنا العشاء.. أوحت إلينا السيدة ليندا بأن نخرج للتجوّل في المزرعة.. أنا كنت أتتصبب عرقا و في غاية الخجل.. و لا أجرؤ على النظر نحو أروى.. و لا أعرف كيف هي حالتها و تعبيراتها!

خرجنا معا إلى المزرعة، و سرنا صامتين لا يلتفت أحدنا إلى الآخر..
قطعنا شوطا طويلا في السير.. و كان الجو باردا فسمعت صوت كفّي أروى يحتكان ببعضهما.. و هنا التفت و نظرت إليها لأول مرّة مذ فارقتها البارحة ..

قلت بتلعثم :

" أتشعرين بالبرد؟؟ "

أروى ابتسمت و نظرت للأسفل و قالت :

" قليلا "

" أتودين أن .. نعود ؟ "

رفعت نظرها إلي و قالت :

" لا.. "

هربت أنا بنظري إلى الأشجار و أنا أتنحنح و ألمس عنقي بيدي.. و أشعر بالحر !

حقيقة أنا لا أعرف ما أقول و لا كيف أتصرّف !

و لا حتى كيف أفكّر ! و اسمعوا ما قلت :

" هذه الأغصان بحاجة إلى ترتيب ! "

و أنا أشير إلى الشجرة التي كنت أنظر إليها..

أروى قالت :

" نعم "

" سوف أقوم بتنظيمها غدا "

" نعم "

لا أزال أحدق في الشجرة.. كأنني أفتش عن المفردات بين أوراقها !

كيف يجب أن يتصرّف رجل عقد قرانه من فتاة قبل قليل ؟؟

أنا لا أعرف بالضبط، فهي تجربتي الأولى، و لكن بالتأكيد.. ليس التحديق في أغصان الأشجار و أوراقها !

" وليد "

نادتني أروى.. فاقشعر جسدي خجلا ، التفت إليها بحرج .. و أنا أمسح قطيرات العرق المتجمعة على جبيني :

" نعم ؟ "

قال بخجل :

" هل أنت .. سعيد بارتباطنا ؟؟ "

تسارع نبض قلبي.. توترت كثيرا إلا أنني قلت أخيرا :

" نعم، و .. أتمنى أن تكوني أنت سعيدة ! "

ابتسمت هي مومئة إيجابا..

ثم قالت و هي تعبث بأصابعها بارتباك :

" أنا.. معجبة بك "

أنا سكنت تماما عن أي حركة أو كلام.. تماما كسيارة نفذ وقودها كليا ! صامت جامد في مكاني بينما الأشجار تتحرك و الأوراق تتمايل !

الآن رفعت أروى بصرها إلي بابتسامة خجولة لتستشف ردة فعلي...

تسللت من بين شفتي هذه الكلمة :

" معجبة بي .. أنا ؟؟ "

ضحكت أروى ضحكة خفيفة و هي تقول :

" نعم أنت ! "

قلت متأتئا متلعثما :

" أأ لكن .. أنا.. شخص بسيط أعني.. إنني .. خريج سجون و .. "

لم أتم ، فقد نفذت الحروف التي كانت مخزنة على لساني فجأة !

أروى قالت :

" أعرف، و لا يهمني ذلك .. "

تبادلنا الآن نظرات عميقة .. أمددتني بطاقة أحلت عقدة لساني ..

قلت :

" أروى .. ألا يهمك أن تعرفي .. لم دخلت السجن ؟؟ "

أروى هزّت رأسها سلبا..

لكنني قلت :

" يجب أن تعرفي... "

ثم قلت :

" دخلت السجن لأنني ... ... قتلت حيوانا "

دهشت أروى و ارتفع حاجباها الأشقرين للأعلى :

" ماذا ؟؟ "

قلت ، و قد تبدّلت تعبيرات وجهي من الخجل و التوتر ، إلى الجدية و الغضب :

" نعم حيوان.. حيوان بشري.. قذر.. كان يجب أن يموت ... "






~ ~ ~ ~ ~ ~








لا أزال مضطجعة على سريري أذرف الدموع الحزينة المريرة... و أعيد في رأسي تقليب الذكريات... و قد مضت ساعات و أنا على هذه الحال

كلما دخل سامر أو دانة هتفت :

" دعوني وحدي ... دعوني وحدي ... "

فالصاعقة لم تكن بالشيء الهيّن ...

أعوذ بذاكرتي للوراء.. ذكريات مغبرة غير واضحة ، لا أستطيع سبر غورها و كشف غموضها و فهم أسرارها...

مبهمة الملامح .. لا تتضح لي صورتها كما ينبغي ... فأبعدها بسرعة و أجبر رأسي على التفكير بشؤون أخرى ...

مساء الغد.. ستغادر دانة مع عريسها بعيدا.. و أظل أنا و سامر.. في الشقة وحدنا.. و مئات من الشحنات المتنافرة تتضارب فيما بيننا...

تموت الفكرة في رأسي .. تحت أقدام أفكار أقوى .. في وجه إعصار الذكريات التعيسة المشؤومة التي عشتها قبل تسع سنين ...

أتخيل نفسي و أنا في تلك السيارة .. أصرخ .. و أصرخ .. و أهتف و استنجد و أستغيث ... و ما من معين..

ما من شيء .. إلا صفعات متتالية على وجهي.. و كف تمتد إلى وجهي و تكتم أنفي و فمي مانعة إياي من الاستغاثة.. و يد تربط أطرافي الأربعة بذلك الحزام الطويل... ثم ترميني عند المدوسة .. تحت المقعد..

بح صوتي من الصراخ ... كنت وحيدة .. لا أحد من أهلي حولي.. و لا من الناس ... في طريق بري مخيف موحش ...بعيدا عن أدنى معاني الأمان و الطمأنينة
و أسمعه يقول :

" سيأتي وليد إليك فاخرسي "

أحاول أن أتحرر من القيد.. أحاول الركل و الرفس.. و العض.. و كل شيء .. دون جدوى.. فقد كنت أضعف و أوهن من أن أتغلب على ذلك الوحش القذر...

حينما ظهر وليد أخيرا .. فتح لي الباب ..

قفزت من السيارة راكضة مسرعة نحو وليد.. تعلقّت بعنقه.. أردت أن أحتمي داخل صدره.. أردته أن يبعدني بسرعة عن ذلك المكان.. أن يطير بي عاليا .. إلى حيث لا تصلني يد مؤذ و لا نظراته...

وليد...

آه وليد...

وليد...

أخذت أبكي بقوّة.. بكل ما أوتي جسدي المنهك المصعوق من قوة ..

سمعتني دانة فوافتني إلى الغرفة قلقة .. اقتربت مني و هي تراني في حالة انهيار لا مثيل لها.. أبكي دما لا دموعا ...

" رغد.. أرجوك يكفي ! إلى متى ستظلين هكذا ؟؟ لم لا تنامين فقد انتصف الليل "

" لماذا لم تخبروني بالحقيقة ؟ لماذا كذبتم علي ؟ أعيدوا وليد إلي .. أريد وليد .. أريد وليد "

دانة أمسكت بوجهي في حيرة و اضطراب ، و قالت :

" رغد ! ما الذي تهذين به ؟ أ عاودتك الحمى من جديد ؟؟ "

قلت و أنا أنظر إليها بعمق و تشتت في آن معا في تخبط و ضياع و تيه :

" لم أعتقد أنه مات .. رأيته يهوي أرضا.. لم أفهم ما حصل .. لكن وليد ضربه بسببي أنا .. أنا .. أنا "

و انهرت باكية بحدة على صدرها ...

دانة كانت تحاول إبعادي عنها ليتسنى لها النظر إلى وجهي ، و قراءة ما ارتسم عليه، إلا أنني كنت أدفن رأسي في صدرها بإصرار...

" رغد .. ما الذي تقولينه ؟؟ "

صرّحت :

" لم أفهم ذلك .. لم أع ِ شيئا.. لا أذكر ماذا فعل بي .. لكنه ضربني كثيرا .. و ربطني بالحزام .. "

" عمّ تتحدثين يا رغد بالله عليك أفصحي ما تقولين ؟؟ "

رفعت رأسي أخيرا و نظرت إليها و انفجرت قائلة :

" عمار .. الحقير .. الجبان .. اللعين .. القذر .. اختطفني و حبسني في السيارة.. وليد جاء لإنقاذي و ضربه بالصخرة .. أفهمت الآن؟؟ أفهمت ؟؟ أفهمت ؟؟ "

لم أزد على ما قلت حرفا واحدا، إذ أنني انهرت كليا .. كما انهارت دانة الجالسة قربي.. و عندما طلبت مني سرد الأحداث ، قلت :

" لا أريد أن أتذكر شيئا.. لا أريد أن أتذكر..، وليد .. أريد وليد.. أريد العودة إلى وليد"





~ ~ ~ ~ ~





الآن.. و في هذا الصباح الجميل .. و تحت أشعة هذه الشمس الجديدة ، أشعر بأنني شخص آخر .. رجل ولد من جديد...

ابتداء من هذا اليوم، دخلت عالما جديدا.. و ودعت عالمي الماضي .. للأبد

أنا اليوم ، وليد .. المزارع البسيط الذي يعمل مع خطيبته و عائلتها في مزرعة صغيرة .. في مدينة بعيدة عن مدينته و أصله و أهله ..

الحياة الماضية قد انتهت ، لا رغد و لا حب و لا جنون.. لا ألم و لا عذاب و لا معاناة.. و لا حرب...

الليلة ، ستدخل رغد عالم المتزوجين، و تصبح زوجة لأخي ، و أقطع آخر خيط أمل في استعادتها ذات يوم..

الذكرى الحزينة أجبرتها على مغادرة رأسي ،، فأنا لا أريد لدمعة واحدة أن تسيل من عيني على ما فات.. و لأعش حياتي الجديدة كما قدّر الله لها أن تكون ...

تخرج أروى من المنزل.. مقبلة نحوي ، تحمل صينية تحوي طعاما...

كنت أقف في الساحة أتنفس الصعداء و أشم رائحة الزهور الفواحة ...

إنه مكان يستحق أن يضحي المرء بأي شيء من أجل العيش فيه ...

" صباح الخير .. وليد "

تبتسم لي و يتورد خداها خجلا.. فيجعلها كلوحة طبيعية بديعة من صنع الإله..

أدقق النظر إليها .. فاكتشف أنها آية في الجمال.. جمال لم ألحظه مسبقا و لم أكن لأعره اهتماما ..

ملونة مثل الزهور.. و خصلات شعرها الذهبي تتراقص مع تيارات الهواء.. لامعة مثل أشعة الشمس..

سبحان الله ..

أحقا ..هذه الحسناء هي زوجة مستقبلي ؟

تقبل إلي و تقول :

" أعددت فطورا خاصا بنا "

ابتسم ، و أقول :

" شكرا .. "

ثم نجلس على البساط المفروش في الساحة، و ننعم بفطور شهي لذيذ.. فمخطوبتي هذه ماهرة جدا في الطهو !

ميزة أخرى تجعلني أشعر بالزهو ...

إضافة إلى كونها طيبة القلب مثل والديها و خالها..

و أكرر في نفسي :

" الحمد لله "

لقد لعبت الأقدار دورها الدرامي معي.. و حين ألقت بي في السجن لثمان سنين ، عرّفتني على رجل عظيم، أصبحت في نهاية المطاف زوجا لابنته !

أظن أن على المرء أن يشكر الله في جميع الأحوال و لا يتذمّر من شيء ، فهو لا يعلم ما الحكمة من وراء بعض الأحداث التي يفرضها عليه القدر ...

سبحان الله

أكثر ما شدّني في الأمر ، هو أنها اعترفت لي البارحة بإعجابها بي !

برغم كل عيوبي و مساوئي، و رغم جهلها بالكثير عن ماضي و أصلي .. إلا أنها ببساطة قالت :

" أنا معجبة بك ! "

اعتقد أن لهذه الجملة تأثيرها الخاص ... و خصوصا على رجل يسمعها للمرة الأولى في حياته من لسان فتاة !

تحدّثنا عن أمور كثيرة... فوجدتها حلوة المعشر و راقية الأسلوب، و اكتشفت أنها أنهت دراستها الثانوية و درست في أحد المعاهد المحلية أيضا ...

قلت :

" كان حلمي أن أدرس في الجامعة ! "

" أي مجال ؟؟ "

" الإدارة و الاقتصاد ، كنت أطمح لامتهان إدارة الأعمال .. تخيّلت نفسي رجل أعمال مرموق ! "

و ضحكت ُ بسخرية من نفسي ...

قالت :

" و هل تخلّيت عن هذا الحلم ؟؟ "

قلت بأسف :

" بل هو من تخلّى عنّي .. "

ابتسمت أروى و قالت :

" إذن فطارده ! و أثبت له جدارتك ! "

" كيف ؟؟ "

قالت :

" لم لا تلتحق بمعهد إداري محلي ؟ أتعرف.. زوج السيدة التي كانت معنا البارحة يدير أحد المعاهد و قد ييسر أمورك بتوصية من أمي ! "

بدت لكي فكرة وهمية ... كالبخار.. إلا أن أروى تحدثت بجد أكبر و جعلتني انظر للفكرة بعين الاعتبار.. و أنميها في رأسي...





~ ~ ~ ~ ~




أتتني دانة و أنا لا أزال على سريري و قالت :

" أحضر سامر الفطور... ألن تشاركينا ؟؟ "

لم أجب عليها، فانسحبت من الغرفة..

بعد قليل ، طرق الباب مجددا و دخل سامر هذه المرة ، و أغلق الباب من بعده ..

أقبل نحوي حتى صار جواري مباشرة ، و قال بصوت حنون أجش :

" رغد ... هل ستبقين حبيسة الغرفة هكذا ؟؟ "

و لم أجبه ...

جلس سامر على السرير و مد يده نحو رأسي، و أخذ يمسح على شعري بحنان...

" رغد .. بالله عليك .. "

لكنني لم أتفاعل معه ..

أدار وجهي نحو وجهه و أجبرني على النظر إليه ...

نظراتنا كانت عميقة ذات معنى ...

" رغد .. أنا أتعذب برؤيتك هكذا ... أرجوك .. كفى "

و لم أجب ..

قال :

" أ تحبينه لهذا الحد ؟؟ "

لما سمعت جملته هذه لم أتمالك نفسي.. و بدأت بالبكاء ...

سامر أخذ يمسح الدموع الفائضة من محجري... بلطف و عطف .. ثم قال :

" أنا .. لا أرضى عليك بالحزن .. لا أقبل أن أكون سبب تعاسة أحب مخلوقة إلى قلبي ... "

اعترى نظراتي الآن بعض الاهتمام ..

تابع هو حديثه :

" رغد .. سوف .. اتصل به الآن ، و اطلب منه الحضور .. لأخذك معه "

ذهلت ، و فتحت جفوني لأقصى حد .. غير مصدقة لما التقطته أذناي ...

قال :

" لا تقلقي.. فأنا لن أجبرك على الزواج مني.. و بمجرد عودة والدي ّ .. سأطلق سراحك ... "

شهقت ...

نطقت :

" سامر .. !! "

سامر ابتسم ابتسامة واهنة حزينة .. ثم قرب رأسي من شفتيه، و قبّل جبيني قبلة دافئة طويلة ...

بعد ذلك قال :

" سأتصل به في الحال..، هيا.. فدانة تنتظرك على المائدة .. "


و قام و غادر الغرفة ...







~ ~ ~ ~ ~ ~






ما كدت أنتهي من وجبة فطوري اللذيذة الطويلة ، حتى أقبلت السيدة ليندا تستدعيني ...

" وليد يا بني ، اتصال لك .. "

تبادلت و أروى نظرة سريعة ، ثم وقفت و الاضطراب يعتريني...

قلت :

" من ؟؟ "

" شقيقك "

و زاد اضطرابي ...

أسرعت إلى الهاتف و التقطت السماعة و تحدثت بقلق :

" نعم ؟ هنا وليد "

" مرحبا يا وليد.. كيف أنت ؟ "

" بخير .. "

و صمت قليلا.. كنت متوجسا من سماع شيء سيئ ، فقد كان اتصالنا الأخير قبل ليلة فقط ...

" ما الأمر سامر ؟؟ "

" لا تقلق ! إنني فقط أريد أن أؤكد عليك الحضور الليلة .. "

فكرت في نفسي .. و من قال إنني أود الحضور ؟؟؟ لم يكن ينقصني إلا أن أشهد يوم تزف فيه رغد.. حبيبتي الغالية.. معشوقة قلبي الصغيرة إلى أخي .. و أنا واقف أتفرج و أبار ك؟؟

" آسف، لن يمكنني الحضور "

" لماذا ؟؟ "

" لدي ارتباطات أخرى.. كما أنني متعب و لا طاقة لي بالسفر.."

" و دانة ؟؟ ألا تريد رؤيتها قبل رحيلها ؟؟ "

لم أجد الجواب المناسب...

ثم قلت :

" إنها لن تتشرف بوجودي على أية حال "

" سأجعلها تحدّثك بنفسها "

ثم ناول الهاتف إلى دانة .. فسمعت صوتها يحييني و يسأل عن أحوالي ، ثم تقول :

" تعال يا وليد.. يجب أن تحضر عرسي "

" آسف ..لا أريد إحراجك أمام زوجك و أهله.. بانتسابك إلى رجل مجرم و خريج سجون "

هنا بدأت دانة بالبكاء و هي تقول :

" أرجوك وليد.. سامحني.."

لم أعقّب .. قالت :

" سأكون أتعس عروس ما لم تحضر .. من أجلي "

" ستكونين أسعد بدون حضوري "

عادت تبكي ثم قالت :

" حسنا ، ليس من أجلي .. بل من أجل رغد "

و شعرت برغبة مفاجئة في التقيؤ .. أ أحضر من أجل زف حبيبتي إلى عريسها ؟؟

إنني إن حضرت سأرتكب جريمة ثانية ، لا محالة ...

زمجرت :

" لن أحضر "

" و لا من أجلها ؟؟ "

" و لا من أجل أي كان ... "

" لكنها تريدك أن تحضر .. وليد .. أرجوك "

" يكفي يا دانة .. "

" وليد.. رغد مريضة "

هنا.. تفجر قلبي نابضا بعنف و توترت معدتي و تصلبت عضلاتي و اندفعت أنفاسي بقوة و هتفت :

" ما بها رغد ؟؟ "

إلا أن دانة لم تجب .. بل أجهشت بكاء..

و يظهر أن سامر تناول السماعة من يدها

كنت أهتف :

" دانة اخبريني ما بها رغد ؟؟ تكلمي ؟؟ "

جاءني صوت سامر قائلا :

" لا تقلق ، إنها متوترة بعض الشيء "

هتفت بقوة :

" سامر اصدقني القول .. ما بها رغد ؟؟ "

" لا تخشى شيئا يا وليد.. "

" إياكما أن يكون أحدكما قد أذاها في شيء أو أجبرها على شيء ؟؟ "

" لا ، شقيقك ليس وغدا ليجبر فتاة على الزواج منه، و هي كارهة "


كأن كتلة كبيرة من الثلج وقعت فوق رأسي.. أفقدتني السيطرة على لساني و على أطرافي بل و عيني كذلك...

كأنه أغشى علي ... كأني فقدت الوعي و الإدراك .. كأنني سبحت في فضاء رحيب من الوهم و الخيال ...

إنني فعلا على وشك إفراغ كل ما ابتلعته على الفطور خارجا من معدتي... و من فمي ...

و الشيء الذي خرج من فمي كان صوتا مبحوحا ضعيفا مخنوقا سائلا :

" ألن .. تتزوجا الليلة ؟ "

سامر لم يجب مباشرة ، ثم قال :

" إلا إذا عادت العروس و غيّرت رأيها قبل المساء ... "


بعدما أنهيت المكالمة تهالكت على معقد قريب.. و أغمضت عيني ..

كنت أريد فقط أن أتنفس .. كان صدري يتحرك بقوة ، تماما كقوة اندفاع الدم خارجا من قلبي ...

رغد لن تتزوج الليلة ...

رغد لا تزال طليقة ..

رغد لا تزال بين يدي ...

و شعرت بشيء يلامس يدي ...

فتحت عيني و لساني يكاد يصرخ :

" رغد ! "

فوقعت عيناي على أروى .. واقفة أمامي مباشرة تلامس يدي .. و تقول بابتسامة ممزوجة ببعض القلق :

" ما الأمر وليد ؟؟ "

كدت أضحك !

نعم إنني أريد الآن أن أضحك لسخرية القدر مني !

بل بدأت بالضحك فعلا ...

و أروى ضحكت لضحكي .. و هي تجهل ما حقائق الأمور ...

قالت :

" ما يضحكك وليد ؟ أضحكني معك ؟؟ "

حدّقت بها فرأيت ما لم أتمنى أن أراه ...

قلت :

" أختي دانة ستتزوّج الليلة .. "

اتسعت ابتسامتها و قالت :

" صحيح ؟ أين ؟ مبروك ! "

هززت رأسي ساخرا من حالي المضحك ، و قلت :

" حفلة صغيرة جدا ، في الشقة التي يسكنون فيها.. و هي تريد مني الحضور "

اتسعت ابتسامتها أكثر و قالت مبتهجة :

" عظيم ! رائع ! أيمكنني الذهاب معك ؟؟ "
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
اللؤلؤة السوداء
القائد "V"
القائد
اللؤلؤة السوداء


عدد المساهمات : 186
النقاط : 10340
التقييم : 5
تاريخ التسجيل : 21/07/2011
العمر : 38

رواية انت لي - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: رواية انت لي   رواية انت لي - صفحة 2 Emptyالخميس يوليو 28, 2011 2:41 am


الحلقةالتاسعةوالعشرون
********





أعد الدقائق واحدة تلو الأخرى ، في انتظار وصول وليد...

رغم أنها مجرد أيام، تلك التي فصلت بيننا مذ لقائنا الأخير ، إلا أنني أشعر بها كالشهور ...لا بل كالسنين ... نعم كالسنين التي قضيتها محرومة من رؤيته ، و معتقدة بأنه سافر يدرس.. بينما كان ...

كلما جالت هذه الخاطرة برأسي طردتها مسرعة ، و أجبرت نفسي على الفرح .. فهو سيصل اليوم في أية لحظة...

سامر تحاشى الحديث معي منذ الصباح، إنه فقط مهتم بالإعدادات للحفلة البسيطة ، و قد قام هو و دانة بترتيب مائدة في الصالة ، لاستقبال الرجال ، و أخرى في غرفة المجلس ، لاستقبال السيدات .

حاولت مساعدتهم إلا أنني كنت متعبة من آثار الصدمة التي تلقيتها مؤخرا و لم تسعفني قواي البدنية على فعل شيء أكثر من المراقبة عن كثب..

بعد تأدية صلاة العشاء ، أتتني دانة لتتحدث معي الحديث الأخير... قبل فراقنا..

ابتداء من هذه الليلة ، سوف لن يكون لدي أخت ٌ أتشاجر معها ! من سيعلّق على مظهري كلما ارتديت شيئا جديدا، من سيوبّخني كلما أخطأت ! من سيغار مني و أغار منه؟؟

من سيعلمني أشياء أجهلها و يفتح عيني على الحياة... دانة كانت بالنسبة لي .. الباب إلى الحياة ، فأنا لم أعرف من هذه الدنيا شيئا إلا عن طريقها...

و رغم أن الفرق بين عمرينا هو سنتان و نصف ، إلا أنني أشعر بنفسي صغيرة جدا أمامها .. و أحسها أختي الكبرى و معلّمتي الحبيبة ...

لذا ، عندما دخلت الغرفة و أنا لا أزال مرتدية حجاب الصلاة و قالت :

" سأتخلص منك أخيرا ! "

انفجرنا ضحكا ، ثم بكاء ... شديدا جدا .. جعل سامر يقف عند الباب مذهولا حائرا !

" لمن ستتركينني دانة ؟ سأبقى وحيدة منعزلة عن العالم من بعدك ! "

" هنيئا لك ! ستنفردين برعاية أبي و تدليله ! أنت مثل القطة رغد ! مهما كبرت تظلين تعشقين الدلال ! كان الله في عون الرجل الذي ستتزوجينه ! "

الآن صارت تشير إليه بالمجهول ! لم تذكر اسم سامر .. فهي إذن اقتنعت أخيرا بأن سامر لم يعد لي ...

نظرت أنا نحو سامر فوجدت وجهه المشوه غارقا في الحزن ... و كرهت نفسي...
كرهت قدري.. و ظروفي التي انتهت بي و به إلى هذه الحال...

أعدت نظري إلى دانة .. نظرة استغاثة.. استنجاد.. أريد من ينقذني من هذا كله.. فوجدت على وجهها ابتسامة خفيفة ، و سمعتها تهمس :

" على كل ٍ ، هو يحب تدليلك كثيرا ! "

ابتسمت ُ ، و ضممتها إلي ، و أنا أشعر بأنها المرة الأولى التي تفهمني فيها...

رباه ! كيف تغيّرت بهذا الشكل بين ليلة و ضحاها ؟؟

هل يعني أنها موافقة على و راضية عن انفصالي عن سامر ، و ارتباطي بوليد؟؟ هل تدرك هي أنني أحب وليد و وليد فقط؟؟

وليد قلبي ...

آه كم أنا متلهفة لرؤيتك ...

عد بسرعة .. اظهر فورا .. فقد أضناني الشوق و الحرمان ...

قمت بعد ذلك و لبست فستانا أهداني إياه سامر من أجل الحفلة ، و ووضعت بعض الحلي ، و التي أيضا أهداني إياها سامر... و ارتديت حذاء عالي الكعب جدا ، كالعادة ، و بصراحة .. أهداني إياه سامر أيضا !

إلا أنني لم أضع أيا من المساحيق على وجهي ، فأنا أريد مقابلة وليد قلبي وجها لوجه ...
بدوت مسرورة ، أحوم حولهما كالفراشة ... و عندما حضر الضيوف أحسنت استقبالهم و قدت النساء إلى المجلس ... كانت أم نوار و أخواته، في غاية الأناقة و الجمال.. يرتدين ملابس مبهرة و حلي كثيرة .. و قد تلوّنت وجوههن بالماكياج المتقن جدا !

شعرت ببعض الخجل من نفسي لكوني بلا ألوان ! مع ذلك ، أبدو جميلة فلا تلتفتوا لهذا الأمر !

حضرت العروس بعد ذلك ، في قمة الأناقة و الروعة .. و أخذنا نلتقط العديد من الصور التذكارية ، و سأظهر جميلة رغم كل شيء !

مر الوقت .. و مع انقضاء كل ساعة ينقضي خيط أمل في حضور وليد.. لماذا لم يحضر بعد ؟؟ أحقا سيأتي أم أنه ...

ذهبت إلى المطبخ لجلب المزيد من العصائر فإذا بي أصادف سامر هناك ، يحمل أطباق الجلي ...

قلت :

" ألم يحضر وليد ؟؟ "

سامر تظاهر بالابتسام و قال :

" ليس بعد "

قلت :

" هل أنت واثق من حضوره ؟ هل قال أنه آت ٍ بالفعل ؟؟ "

" قال إن لديه ارتباطات و مشاغل أخرى ، لكنه سيحاول الحضور ... "

نظرت إلى الساعة المعلقة على جدار المطبخ بيأس...

قال سامر :

" لا يزال الوقت مبكرا ... لا تقلقي... "

ثم غادر المطبخ ...





~ ~ ~ ~ ~ ~




اعتقد إن من حقّي أن آخذ هذه المساحة بين السطور .. لأصف لكم مشاعري المجروحة ...

إذا كان هناك رجل تعيس في الدنيا فهو أنا.. كيف لا و أنا أرى مخطوبتي.. محبوبتي رغد.. تعد الدقائق بلهفة في انتظار عودة وليد.. حبيب قلبها الغالي..

أصبت بجنون ما بعده جنون ، حين اعترفت لي و بلسانها أنها تحبه هو.. و أنه السبب في قرارها الانفصال عني ، بعد خطوبة استمرت أربع سنوات أو يزيد...

أربع سنوات من الشوق و اللهفة.. و الحب و الهيام.. في انتظار الليلة التي تجمعنا أنا و هي.. عريسين في عش الزوجية.. ثم يأتي وليد.. و في غضون شهور أو ربما أيام .. يسرق قلبها مني !

رغد لم تقل لي في السابق : ( أنا أحبك ) ، و لكنها لم تقل : ( أنا لا أحبك ) ..
بل كانت الأمور فيما بيننا تجري على خير ما يرام .. حتى أخبرني وليد نفسه ذات ليلة بأنها ترغب في تأجيل زواجنا...

الشيء الذي لا أعرفه حتى هذه اللحظة ، ما إذا كان وليد يعرف بحبها له أو يبادلها الشعور ذاته ، أم لا ...

أنا أعرف أنه يحبها و يهتم بها كأخت.. أو ابنة عم .. أما كحبيبة.. كزوجة .. فهذا ما لا أعرفه و لن أحتمل صدمة معرفته ، إن كان يحبها بالطريقة التي أحبها أنا بها..

أتذكر أنها في اليوم الذي عرض عليها ارتباطنا قبل سنين قالت : ( لننتظر وليد أولا )

و لأنه كان من المفترض ألا يعود إلا بعد أكثر من عشر سنين من ذلك الوقت، فإننا عقدنا قراننا بموافقة الجميع...

و أنا أنظر إليها هذه اللحظة و هي تراقب الساعة ، أشعر بأن خلايا قلبي تتمزّق خلية خلية ، بل ... و أنويتها تنشطر .. و ذراتها تتبعثر حول المجرّة بأكملها ...

لماذا فعلت ِ هذا بي يا رغد ؟؟

إن كنت تجهلين ، فأنا أحبك حبا لا يمكن لأي رجل في الدنيا أن يحمل في قلبه حبا مثله..

حبا يجعلني أدوس على مشاعري و أحرق أحاسيسي رغما عنها ، لأجعلك تحيين الحياة التي تريدينها مع الشخص الذي تختارينه..

و ليته كان أنا...

و إن اكتشفت أن وليد لا يكترث لك ، فإنني لن أقف صامتا ، و أدعك تبعثرين مشاعرَ أنا الأولى بها من أي رجل على وجه المعمورة ، بل سآخذك معي.. و أحيطك بكل ما أودع الله قلوب البشر من حب و مودة ، و أحملك إلى السحاب .. و إن شئت ِ .. أتحوّل إلى وليد .. أو إلى أي رجل آخر تريدين أن تصبي مشاعرك في قلبه ... فقط.. اقبلي بي...

غادرت المطبخ على عجل ، لئلا أدع الفرصة لرغد لرؤية العبرة المتلألئة في محجري...

نعم ، سأبكي لتضحكي أنت ... و سأحزن لتفرحي أنت .. و سأنكسر لتنجبري أنت .. و سأموت ... لتحيي أنت... يا حبيبة لم يعرف الفؤاد قبلها حبيبة .. و لا بعدها حبيبة .. و لا مثلها حبيبة... و سيفنى الفؤاد ، و تبقى هي الحبيبة .. و هي الحبيبة .. و هي الحبيبة ...

عندما وصل وليد، كانت الساعة تشير إلى الحادية عشر و خمس و أربعين دقيقة، أي قبل ربع ساعة من ولادة يوم جديد.. خال من رغد ...

قرع الجرس ، فأقبلت نحو الباب و سألت عن الطارق ، فأجاب :

" أنا وليد "

جمّدت مشاعري تحت طبقة من الجليد ، لا تقل سماكة عن الطبقات التي تغطي المحيط المتجمّد الجنوبي... و فتحت الباب ..

تلك الطبقة انصهرت شيئا فشيئا ، لا بل دفعة واحدة حين وقعت عيناي على الشخصين الواقفين خلفه ، وليد ، و الفتاة الشقراء !

" مرحبا ، سامر ... "

بصعوبة استطعت رد التحية و دعوتهما للدخول ...

وليد كان يرى الدهشة الجلية على وجهي مجردة من أي مداراة مفتعلة !

قال ، و هو يشير إلى الفتاة الواقفة إلى جانبه تبتسم بهدوء :

" أروى نديم ، تعرفها "

قلت :

" أأ .. أجل ... "

قال :

" خطيبتي "

و من القطب الجنوبي ، إلى أفريقيا الاستوائية !

اعتقد أنكم تستطيعون تصوّر الموقف خيرا من أي وصف أنقله لكم !

" خـ ... ــطيبتك !! "

" نعم ، ارتبطنا البارحة "

نظرت إلى الفتاة غير مصدّق ، أطلب منها تأكيدا على الكلام ، ابتسمت هي و نظرت نحو وليد ..

وليد قال :

" أ لن تبارك لنا ؟؟ "

" أأ ... نعم ...طبعا ... لكنني تفاجأت ، تفضلا على العموم ، مبروك لكما .. "

و قدتهما أولا إلى المجلس ، حيث النسوة...

طرقت الباب و أنا أنادي أختي دانة... ، فتحت هذه الأخيرة لي الباب و خرجت من فتحته الضيقة ، و حالما أغلقته انتبهت لوليد ...

" وليد ! "

أشرق وجهها و تفجرت الأسارير عليه .. ثم فتحت ذراعيها و أطبقت عليه معانقة إياه عناقا حميما...

" نعم .. كنت أعلم بأنك ستأتي و لن تخذلني ، فأنت لم تخذلني ليلة خطوبتي.. أنا سعيدة جدا.. "

وليد قال :

" مبروك عزيزتي... أتم الله سعادتك و بارك لك زواجك .. "

بعد ذلك ، رفعت رأسها لتنظر إليه ، ثم دفنته في صدره و هي تقول :

" سامحني... لم أكن أعلم .. سامحني يا أخي الحبيب .. أنا فخورة بك.. و أتباهى أمام جميع المخلوقات .. بأن لي أخا مثلك.. سامحني .. "

وليد ربت على ظهر دانة بحنان ، و إن كانت الدهشة و الحيرة تعلوان وجهه ، و قال مواسيا :

" لا بأس عزيزتي .. لا تبكي و إلا أفسدت ِ زينتك ، و غير المغرور رأيه بك ! "

رفعت دانة رأسها و انفجرت ضحكا ، و وكزته بمرفقها و هي تقول :

" لم تتغير ! سوف أطلب من نوّار أن يضربك قبل خروجنا ! "

قلت أنا :

" احذري ! و إلا خرج عريسك بعاهة مستديمة ! "

و ضحكنا بانفعال نحن الثلاثة...

التفت وليد للوراء حتى ظهرت خطيبته الجديدة ، و التي كانت تقف على بعد خطوات ...

قال :

" اقتربي أروى "

اقتربت الفتاة و هي تنظر نحو العروس ، و تحييها ..

" مبروك دانة ! كم أنت جميلة ! "

دانة حملقت في الفتاة قليلا ثم قالت محدثة وليد :

" هل حضرت عائلة المزارع ؟؟ "

وليد قال :

" أروى فقط.. "

فتعجبت دانة ، فوضّح :

" خطيبتي "

طغى الذهول على وجهها ربما أكثر مني ، قالت باستغراب شديد :

" خطيبتك !! "

قال وليد :

" نعم ، عقدنا قراننا البارحة... باركي لنا "

الاضطراب تملّك دانة ، و حارت في أمرها و لزمت الصمت لوهلة ، إلا أنها أخيرا تحدّثت :

" فاجأتماني ...بشدّة ! ... مبروك على كل حال "

و كان واضحا لنا، أو على الأقل واضحا لي استياؤها من المفاجأة...

قلت :

" فلتتفضل الآنسة ... "

دانة التفتت إلى أروى و قالت :

" تفضلي "

و فتحت الباب لتسمح لها بالدخول ... و قالت مخاطبة إيّاي :

" رغد في غرفتها .. ذهبت لاستبدال فيلم الكاميرا ... "

و كان القلق جليا على ملامحها ...

قال وليد :

" جيد ! أ أستطيع رؤيتها ؟؟ "

تبادلنا أنا و دانة النظرات ذات المعنى .. و قالت هي :

" نعم ، سأدخل لأقدّم أروى للجميع "

و دخلت الغرفة و أغلقت الباب تاركة إياي في المأزق بمفردي !

وليد التفت إلي و قال :

" أريد إلقاء التحية عليها.. إن أمكن "

أنا يا من كنت أدرك أنها تنتظره بلهفة منذ ساعات... و أنها ستطير فرحا متى ما رأته .. لم أملك من الأمر شيئا ..

قلت باستسلام :

" أجل ، تفضل ... "

و قدت ُ بنفسي ، حبيب خطيبتي إلى غرفتها لكي تقابله ...

طرقت ُ الباب و قلت :

" رغد .. وليد معي "

قاصدا أن أنبهها لحضوره ، لكي ترتدي حجابها..

إلا أنني ما كدت ُ أتم الجملة ، حتى انفتح الباب باندفاع سريع ، و ظهرت من خلفه رغد على حالها .. و هتفت بقوة :

" وليد ! "

أي رجل في هذا العالم ، يحمل ذرة حب واحدة لخطيبته ، أو حتى ذرة شعور بالملكية و الغيرة ، فإنه في لحظة كهذه سيرفع كفيه و يصفع وجهي الشخصين الماثلين أمامه في مشهد حميم كهذا ... إلا أنني أنا ... سامر العاشق المسلوب الحبيبة .. المغطّي لمشاعره بطبقة من الجليد .. وقفت ساكنا بلا حراك و بلا أي ردّة فعل .. أراقب خطيبتي و هي ترتمي في حضن أخي بقوة .. و تهتف بانفعال :

" وليد .. لماذا لم تخبرني .. لماذا .. لماذا .. "





~ ~ ~ ~ ~





و إن كنت أتظاهر بالبرود و الصمود ، إلا أن ما بداخلي كان يشتعل كالحمم...

و إن كنت أتظاهر بأنني فقط أود إلقاء التحية ، فإن حقيقة ما بداخلي هي أنني متلهف لرؤية صغيرتي الحبيبة و الإحساس بوجودها قريبة مني ...

لقد كنت أسير خطوة خطوة.. و مع كل خطوة أفقد مقدارا من قوتي كما يفقد قلبي السيطرة على خفقاته ، فتأتي هذه الأخيرة عشوائية غير منظمة .. تسبق الواحدة منها الأخرى...

و حين فتح الباب.. كنت ُ قد أحرقت آخر عصب من جسدي من شدة التوتر.. لدرجة أنني لم أعد أحس بشيء..

أي شيء ..

لم أع ِ إلا و قذيفة ملتهبة قوية تضرب صدري .. تكاد تكسر ضلوعي و تخترق قلبي...

بل إنها اخترقته ..

فرغد لم تكن تقف أمامي بل .. كانت تجلس في قلبي متربعة على عرش الحكم.. تزيد و تنقص ضرباته قدر ما تشاء .. تعبث بأعصابه كيفما تشاء.. تسيّر أحاسيسه حسبما تريد...

و لأنني كنت مذهولا و فاقدا للسيطرة على حركاتي تماما ، فقد بقيت ُ ساكنا.. دون أي ردّة فعل ...

كان صدري مثل البحر .. غاصت صغيرتي في أعماقه و قطعته طولا و عرضا .. و خرجت منه مبللة بالدموع و هي تنظر إلي و تهتف :

" لماذا لم تخبرني ؟؟ لماذا يا وليد ؟ لم أخفيت عنّي كل هذه السنين ؟؟ "

شيء ما بدأ يتحرّك في دماغي المغلق .. و يفتح أبواب الوعي و الإدراك لما يدور من حولي ...

بدأت أنتبه لما تقوله صغيرتي .. و بدأت أحس بأظافرها المغروسة في لوحي كتفي ّ كالمسامير ... و بدأت أرى اللآليء المتناثرة من محجريها ... أغلى ما في كوني ...

لا شعوريا رفعت يدي إلى وجهها أردم سيل العبر ...

" لا تبكي صغيرتي أرجوك .. "

فأنا أتحمّل أي شيء في هذه الدنيا ، إلا أن أرى دموع غاليتي تتبعثر سدى...

إنني أشعر بحرارة شديدة أجهل مصدرها الحقيقي ...

أهو داخلي ؟ أم حضن صغيرتي ؟ أم الشرر المتطاير من عيني ّ أخي، اللتين تحملقان بنا بحدّة..

رغد أزاحت يديها عني ، و ابتعدت خطوة.. و ذلك أثار توترا في المسافة التي بيننا.. تماما كالتوتر الذي يولّده ابتعاد قطعة حديد صغيرة عن مغناطيس !

قالت :

" لقد اكتشفت ذلك الآن فقط .. لماذا لم تخبرني بأنك .. بأنك .. كنت في السجن ؟؟ "

و إن كانت مشاعري قبل قليل مخدّرة من تأثير قرب رغد ، فإنها استيقظت كلها دفعة واحدة فجأة.. و تهيّجت .. فصرت أشعر بكل شيء ، حتى بحرارة البراكين الخامدة في اليابان !

نقلت نظري من رغد ، إلى سامر ، إلى رغد ، إلى سامر ... و حين استقرّت عيناي عليه، رأيت قنبلة متوهجة ، على وشك الانفجار...

لطفك يا رب ... !

قلت ُ أخيرا :

" أنت من أخبرها ؟؟ "

سامر لم يجب بكلمة ، بل بإيماءة و تنهيدة قوية نفثها صدره .. و شعرت أيضا بحرارتها...

أعدت ُ النظر إلى رغد.. فاسترسلت في سؤالي :

" لماذا لم تخبرني؟؟ "

أخبرك ؟؟ بأي شيء يا رغد ؟؟ أ لم تري الطريقة التي عاملتني بها دانة ، بل و الناس أجمعون؟

أتراك تنظرين إلي ّ الآن مثلهم ؟؟

لا يا رغد .. أرجوك لا ..

قلت بلا حول و لا قوة :

" ما حصل..، لكن... أرجو ألا يغيّر ذلك أي شيء ؟؟ "

و انتظرت إجابتها بقلق...

قالت :

" بل يغيّر كل شيء ... "

و أذهلتني هذه الإجابة بوضوحها و غموضها المقترنين في آن واحد...

قالت:

" وليد ... وليد أنا ... "

و لم تتم ، إذ أن دانة ظهرت في الصورة الآن مقبلة نحو غرفة رغد.. و تكسوها علامات القلق...

جالت بمقلتيها بيننا نحن الثلاثة و استقرت على سامر...
شعرت أنا بأن هناك شيء يدور في الخفاء أجهله ...

سألت :

" ما الأمر ؟؟ "

لم يجب أي منهم بادىء ذي بدء إلا أن دانة قالت أخيرا، مديرة دفة الحديث لمنعطف آخر:

" رغد ! الكاميرا ! سنستدعي نوّار الآن ! "

ثم التفتت نحو سامر :

" إنه منتصف الليل ! هيا استدعه ! "

و يبدو أن ترتيباتهم كانت على هذا النحو ، أن يدخل العريس إلى تلك الغرفة لالتقاط بعض الصور مع العروس و مع قريباته قبل المغادرة .

سامر نطق أخيرا :

" سأستدعيه... أخبريهن "

و رغد تحرّكت الآن من أمامي متجهة نحو المنضدة و من فوقها تناولت الكاميرا و أقبلت نحو دانة و مدّت الكاميرا إليها ، فقالت دانة:

" أعطها لسامر الآن .. "

التفتت رغد نحو سامر .. و قدّمتها إليه...

سامر نظر إلى رغد نظرة عميقة.. جعلتها تطأطىء رأسها أرضا ...

أخذ سامر الكاميرا منها.. و قال ..

" سنلتقط له معنا بعض الصور ثم نعيدها إليكن .. "

قال ذلك و وجه خطاه نحو الصالة...

هممت ُ أنا باللحاق به... إلا أنني توقفت ، و التفت إلى رغد ... و قلت :

" كيف قدمك الآن ؟ "

رغد و التي كانت لا تزال مطأطئة برأسها رفعته أخيرا و نظرت إلي مبتسمة و قالت :

" طاب الجرح... "

قلت :

" الحمد لله "

ثم أوليتها ظهري منصرفا إلى حيث انصرف أخي ...





~ ~ ~ ~ ~ ~




كنت ُ مجنونة، لكنني لم أتمالك نفسي بعدما رأيت وليد يقف أمامي... بطوله و عرضه و شحمه.. جسده و أطرافه... و عينيه و أنفه المعقوف أيضا ...

كأن سنينا قد انقضت مذ رأيته آخر مرة ، ينصرف من هذه الشقة جريحا مكسور الخاطر ...

اندفعت إليه بجنون... و أي جنون !

ظللت أراقبه و هو يولّي .. حتى اختفى عن ناظري.. و بقيت محدّقة في الموضع الذي كان كتفاه العريضان يظهران عنده قبل اختفائه، و كأنني لازلت أبصر الكتفين أمامي !

" رغد ! "

نادتني دانة ، فحررت أنظاري من ذلك الموضع و التفت إليها... و رأيتها تحدّق بي و علامات غريبة على وجهها...

أنا ابتسمت .. لقد قرّت عيني برؤية وليد قلبي.. و لأنه هنا ...، فقط لأنه هنا ، فإن هذا يعطيني أكبر سبب في الحياة لأبتسم !

لا أعرف لم كانت نظرة دانة غريبة.. ممزوجة بالأسى و القلق.. قلت :

" ما بك ؟ "

" لا ... لا شيء "

" سأغسل وجهي و أوافيكن... "

و أسرعت قاصدة الحمّام ... طائرة كالحمامة !

بعد ذلك ، ذهبت إلى غرفة المجلس...مرتدية حجابي ، إذ أنني سأبقى لأتفرج على العريسين و لمياء - شقيقة نوار - تلتقط الصور لهما..

جميعهن كن يجلسن في أماكنهن كما تركتهن قبل قليل، نظرن إلي ّ جميعا حالما دخلت.. فابتسمت في وجوههن...

فجأة لمحت وجها غريبا في غير موقعه !

وجه أروى الحسناء !

دُهشت و علاني التعجب ! وقفت هي مبتسمة و قائلة :

" مرحبا رغد ! كيف حالك ؟ و كيف صحتك ؟؟ "

" أروى ! "

" مفاجأة أليس كذلك ؟؟ "

اقتربت منها و صافحتها و الدهشة تتملكني...و نظرت في أوجه الأخريات بحثا عن وجه أم أروى ... أو حتى وجه العجوز !

قلت :

" أهلا بك ِ ! أحضرت ِ بمفردك ؟؟ "

ابتسمت و قالت :

" مع وليد "

مع من ؟؟ مع وليد ؟؟ ماذا تقصد هذه الفتاة ؟؟

" مع وليد ؟؟ "

ازدادت ابتسامتها اتساعا و حمرة وجنتيها حمرة و بريق عينيها بريقا ... و التفتت نحو دانة ثم نحوي و قالت :

" ألم تخبرك ِ دانة ؟؟ "

التفت نحو دانة و أنا في غاية الدهشة و القلق.. و رميتها بنظرات متسائلة حائرة..
دانة أيضا نظرت إلي بنفس القلق.. ثم قالت :

" إنها ... إنها و وليد... "

و لم تتم...

نظرت إلى أروى ، فسمعتها تقول متمة جملة دانة ، تلك الجملة التي قضت علي و أرسلتني للهلاك فورا :

" ارتبطنا .. البارحة "


عفوا ؟؟ عفوا ؟؟ فأنا ما عدت أسمع جيدا من هول ما سمعت أذناي مؤخرا ! ماذا تقول هذه الفتاة ؟؟

" ماذا ؟؟ "

و رأيتها تبتسم و تقول :

" مفاجأة ! أ ليس كذلك ؟؟ "

نظرت إلى دانة لتسعفني ...

دانة أنقذيني مما تهذي به هذه ... ما الذي تقوله فلغتها غريبة.. و شكلها غريب.. و وجودها في هذا المكان غريب أيضا...

دانة نظرت إلي بحزن ، لا ... بل بشفقة ، ثم أرسلت أنظارها إلى الأرض...

غير صحيح !

غير ممكن .. مستحيل ... لا لن أصدّق ...

" أنت و .. وليد ماذا ؟؟ ار... تبطـ.. ـتما ؟؟ "

" نعم ، البارحة .. و جئت ُ معه كي أبارك للعريسين زواجهما.."


خطوة إلى الوراء، ثم خطوة أخرى.. يقترب الباب مني، ثم ينفتح.. ثم أرى نفسي أخرج عبره.. ثم أرى الجدران تتمايل.. و السقف يهوي.. و الأرض تقترب مني.. و الدنيا تظلم.. تظلم.. تظلم..و يختفي كل شيء...


" سامر .. تعال بسرعة"

هتاف شخص ٌ ما.. يدوي في رأسي.. أيدي أشخاص ما تمسك بي.. أذرع أشخاص ما تحملني.. و تضعني فوق شيء ما.. مريح و واسع..
أكفف تضرب وجهي.. أصوات تناديني.. صياح.. دموع.. لا ليست دموع.. إنها قطرات من الماء ترش على وجهي.. أفتح عيني.. فأرى الصورة غير واضحة.. كل شيء مما حولي يتمايل و يتداخل ببعضه البعض.. الوجوه، الأيدي.. السقف.. الجدران.. أغمض عيني بشدة.. أحرّك يدي و أضعها فوق عيني ّ .. لا أتحمل النور المتسلل عبر جفنيّ .. أشعر بدوار.. سأتقيأ.. ابتعدوا.. ابتعدوا...







~ ~ ~ ~ ~





عندما استردّت رغد وعيها كاملا، كان ذلك بعد بضع دقائق من حضورنا إلى الممر و رؤيتنا لها مرمية على الأرض...

كنا قد سمعنا صوت ارتطام ، شيء ما بالأرض أو الجدران ، ثم سمعنا صوت دانة تهتف :

" سامر ..تعال بسرعة"

قفزنا نحن الاثنان، أنا و سامر هو يهرول و أنا أهرول خلفه تلقائيا حتى وصلنا إلى هناك..
دانة كانت ترفع رأس رغد على رجلها و تضرب وجهها محاولة إيقاظها.. و رغد كانت مغشي عليها...

أسرعنا إليها ، و مددت أنا يدي و انتشلتها عن الأرض بسرعة و نقلتها إلى سريرها و جميعنا نهتف

" رغد.. أفيقي... "

صرخت :

" ماذا حدث لها ؟؟ "

دانة أسرعت نحو دورة المياه، و عادت بمنديل مبلل عصرته فوق وجه رغد، و التي كانت تفتح عينيها و تغمضهما مرارا...

استردت رغد وعيها و أخذت تجول ببصرها فيما حولها.. و تنظر إلينا واحدا عقب الآخر...

قال سامر :

" سلامتك حبيبتي... هل تأذيت ؟؟ "

قالت دانة :

" أأنت على ما يرام رغد ؟؟ "

قلت أنا :

" ما ذا حدث صغيرتي ؟؟ "

نظرت رغد إلي نظرة غريبة.. ثم جلست و صاحت :

" سأتقيأ "



بعدما هدأت من نوبة التقيؤ ، وضعت رأسها على صدر سامر و طوقته بذراعيها و أخذت تبكي ...

سامر أخذ يمسح على رأسها المغطى بالحجاب... و يتمتم :

" يكفي حبيبتي، اهدئي أرجوك.. فداك أي شيء..."

قلت :

" صغيرتي ؟؟ "

رغد غمرت وجهها في صدر سامر... مبللة ملابسه بالدموع..

" صغيرتي ..؟؟ "

" دعوني وحدي.. دعوني وحدي .. "

و أجهشت بكاء شديدا...

لم أعزم الحراك و لم استطعه، إلا أن دانة قالت لي :

" لنخرج وليد "

قلت بقلق :

" ماذا حدث يا دانة ؟؟ "

قالت :

" قلت لك... إنها مريضة! هذه المرة الثالثة التي يغشى عليها فيها منذ الأمس... "

صعقني هذا النبأ..

قلت مخاطبا رغد:

" رغد هل أنت بخير..؟؟ "

لم تلتف إلي ، بل غاصت برأسها أكثر و أكثر في صدر سامر و قالت :

" دعوني وحدي... دعوني وحدي.."

يد دانة الآن أمسكت بيدي ، و حثّتني على السير إلى الخارج، ثم أغلقت الباب...

حاولت التحدث معها إلا أنها اعترضت حديثي قائلة :

" سوف أعود لأطمئن ضيفاتي.. وليد استدع نوّار ... "

و انصرفت...

بقيت واقفا عند باب غرفة رغد غير قادر على التزحزح خطوة واحدة.. ماذا حل ّ بصغيرتي ؟؟ و لماذا تتشبث بسامر بهذا الشكل ؟؟ هل صحتها في خطر؟ هل عدلت عن فك ارتباطها به ؟ ماذا يحدث من حولي..؟؟

لحظات و إذا بي أرى دانة تظهر من جديد

" وليد أ لم تتحرك بعد ! هيا استدعه "

" حسنا.. "

و عدت إلى صالة الرجال، و رأيتهم أيضا متوترين يتساءلون عما حدث، طمأنتهم و استدعيت العريس و قدته إلى مجلس النساء.. حيث قامت والدته أو إحدى شقيقاته بالتقاط الصور التذكارية لهن مع العريسين...

أروى كانت بالداخل أيضا..

عدت إلى بقية الضيوف و أنا مشغول البال .. بالكاد ابتسم ابتسامة مفتعلة في وجه من ينظر إلي...

فيما بعد، جاء نوّار و قال :

" سننطلق إلى الفندق الآن.."

و كان من المفروض أن يسير موكب العريسين إلى أحد الفنادق الراقية، حيث سيقضي العريسان ليلتهما قبل السفر يوم الغد مع بقية أفراد عائلة العريس إلى البلدة المجاورة و من ثم يستقلون طائرة راحلين إلى الخارج...

سامر كان من المفترض أن يقود هذا الموكب..

ذهبت إلى غرفة رغد.. و طرقت الباب..

" سامر.. العريسان يودان الذهاب الآن.."

فتح الباب، و خرج سامر.. ينظر إلي بنظرة ريب ..

قلت:

" كيف رغد؟؟ "

قال بجمود :

" أفضل قليلا"

أردت ُ أن أدخل للاطمئنان عليها، لكن سامر كان يقف سادا الباب.. حائلا دون تقدّمي و تحرجت من استئذانه بالدخول..

قلت :

" إنهما يودان الانصراف الآن... "

سامر نظر إلي ّ بحيرة .. ثم قال :

" أتستطيع مرافقتهما ؟؟ "

" أنا ؟؟ "

" نعم يا وليد، فرغد لن تتمكن من الذهاب معنا و علي البقاء معها "

فزعت، و قلت:

" أهي بحالة سيئة؟ "

" لا، لكنها لن ترافقنا ، بالتالي سأبقى هنا "

" إنني أجهل الطريق.. "

" اطلب من أحد أخوته مرافقتكم..."

لم تبد لي فكرة حسنة، قلت معترضا:

" اذهب أنت يا سامر، و أنا باق هنا مع رغد و أروى..."


أقبلت دانة الآن، و سألت عن حال رغد، ثم دخلت إلى غرفتها...





~ ~ ~ ~ ~



" أنا تعيسة جدا "

كان هذا جوابي على سؤال دانة التي أتتني بقلق لتطمئن علي..

دانة جلست إلى جواري على السرير و أخذت تواسيني.. إلا أن شيئا لا يمكنه مواساتي في الصاعقة التي أحلّت بي...

" أرجوك يا رغد.. كفى عزيزتي.. ألن تودّعينني ؟ إنني راحلة عنك للأبد ! "

و جاءت جملتها قاصمة لظهري...

" لا ! لا تذهبي و تتركيني ! سأكون وحيدة ! أريد أمي .. أريد أمي..."

و بكيت بتهيج..

" يكفي يا رغد ستجعلينني أبكي و أنا عروس في ليلة زفافي التعسة ! "

انتبهت لنفسي أخيرا.. كيف سمحت لنفسي بإتعاس أختي العروس في أهم ليالي عمرها؟ ألا يكفي أنها حرمت من حفل الزفاف الضخم الذي كانت تعد له منذ شهور... و خسرت كل ملابسها و حليها و أغراض زفافها.. و احترق فستان العرس تحت أنقاب المدينة المدمّرة !؟

طردت بسرعة الدموع المتطفلة على وجهي، و أظهرت ابتسامة مفتعلة لا أساس لها من الصحة و قلت :

" عزيزتي سأفتقدك ! ألف مبروك دانة "

تعانقنا عناقا طويلا.. عناق الفراق.. فبعد أكثر من 15 عاما من الملازمة المستمرة 30 يوما في الشهر، نفترق..و دموعنا مختلطة مع القبل...

قدم سامر.. و قال :

" هيا دانة .. "

صافحتها و قبلتها للمرة الأخيرة... ثم جاء دور سامر، و من ثمّ الرجل الضخم الذي كان يقف في الخارج عند الباب مباشرة...

لم استطع أن ألقي عليه و لا نظرة واحدة.. لم أشأ أن أنهار من جديد.. اضطجعت على سريري، و سحبت الغطاء حتى أخفيت وجهي أسفل منه...

سمعت سامر يقول :

" سآخذهما للفندق و أعود مباشرة.. وليد و خطيبته سيبقيان معك "

و لم تهز في ّ هذه الجملة شعرة واحدة ، بل أغمضت عيني و أنا أقول :

" سأنام.."

أحسست بالجميع يغادرون الغرفة و يغلقون الباب، ثم اختفت الأصوات و الحركات.. لقد غادر جميع الضيوف.. و في الشقة لم يبق إلا أنا.. و وليد.. و الأجنبية الدخيلة...

دخلت في نوم عميق أشبه بالغيبوبة.. إلا أنني في لحظة ما..أحسست بدخول شخص ما إلى الغرفة.. و اقترابه مني.. ثم شعرت بيد تمتد إلى لحافي فتضبطه فوقي، ثم تمسح على رأسي من فوق حجابي الذي لم أنزعه، ثم توهمت سماع همس في أذني ...

" أحلام سعيدة يا حبيبتي"

و ابتعد المجهول.. و سمعت صوت انغلاق الباب..

فتحت عيني الآن فوجدت الغرفة غارقة في السكون و الظلام.. هل كان ذلك وهما؟؟ هل كان تهيؤا ؟؟ حلما؟؟
لست أكيدة..
و إن كان حقيقة ، فالشيء الذي سأكون أكيدة منه ، هو أن الشخص كان سامر...






~ ~ ~ ~ ~ ~





استخدمت غرفتي السابقة بينما جعلت أروى تستعمل غرفة العروس، للمبيت تلك الليلة...

لقد كنت شديد القلق على صغيرتي .. و لم أنم كما يجب..

كنا قد قررنا البقاء ليومين قبل معاودة الرحيل، و كان هذان اليومان من أسوأ أيام حياتي !

رغد كانت مريضة جدا و ملازمة للفراش، و سامر كان يمنعني من الدخول إلى غرفتها أغلب المرات، و في المرات القليلة التي سمح لي بإلقاء نظرة، كنت أرى رغد شاحبة جدا و مكتئبة للغاية ، ترفض الحديث معي و تطلب منا تركها بمفردها
ضاق صدري للحالة التي كانت عليها و سألت سامر:

" ماذا حدث لها ؟ هل حدث شيء تخفونه عني؟ لم هي كئيبة هكذا؟؟ هل آذاها أحد بشيء ؟؟ "

قال سامر :

" إنها كئيبة لفراق دانة ، فكما تعرف كانت تلازمها كالظل... "

" لكن ليس لهذا الحد.. أنا أشعر بأن في الأمر سر ما.. "

نظر إلي شقيقي نظرة ارتياب و قال :

" أي سر؟؟ "

قلت :

" ليتني أعرف... "

كنا خلال هذين اليومين نتناول وجباتنا أنا و أروى في المطاعم، و في الليلة الأخيرة، عندما عدنا من المطعم ، وجدنا رغد و سامر في غرفة المائدة يتناولان العشاء...

فرحت كثيرا، فهي علامة جيدة مشيرة إلى تحسّن الصغيرة..

قلت :

" صغيرتي.. حمدا لله على سلامتك، أتشعرين بتحسّن ؟؟ "

رغد نظرت نحوي بجمود ، ثم نحو أروى ، ثم وقفت ، و غادرت الغرفة ذاهبة إلى غرفة نومها...

وقف سامر الآن و نظر إلي بعصبية :

" أ هذا جيّد؟ ما كدت أصدق أنها قبلت أخيرا تناول وجبة.. "

قلت ُ بانزعاج :

" هذه حال لا يصبر عليها، لسوف آخذها إلى الطبيب.. "

و سرت ُ مسرعا نحو غرفتها ، فأقبل شقيقي من بعدي مسرعا :

" هيه أنت.. إلي أين ؟؟ "

التفت ُ إليه و قلت :

"سآخذ الفتاة للمستشفى "

قال بغيظ :

" من تظن نفسك؟ ألا تراني أمامك؟؟ خطيبتك هي تلك و ليست هذه "

قلت مزمجرا :

" قبل أن تكون خطيبتك هي ابنة عمّي ، و إن كنت نسيت فأذكرك بأنها ستنفصل عنك، و لتعلم إن كنت جاهلا بأن أمورها كلها تهمني و أنا مسؤول عنها كليا ، مثل والدي تماما "

و هممت بمد يدي لطرق الباب و من ثم فتحه ، إلا أن سامر ثار... و أمسك بيدي و أبعدها بقوة..

تحررت من مسكته و هممت بفتح الباب ألا أنه صرخ :

" ابتعد "

و قرن الصرخة بانقضاض على ذراعي، و سحب لي بقوة...

دفعت به بعيدا عني فارتطم بالجدار، ثم ارتد إلي و لكمني بقبضته في بطني لكمة عنيفة...

اشتعلت المعركة فيما بيننا و دخلنا في دوامة جنونية من الضرب و الركل و اللطم و الرفس.. أتت في غير أوانها !

أروى واقفة تنظر إلينا بذهول.. و باب غرفة رغد انفتح .. و ظهرت منه رغد مفزوعة تنظر إلينا باستنكار و توتّر

" سامر... وليد... يكفي ... "

إلا أن أحدنا لم يتوقّف...

في العراك السابق كان سامر يستسلم لضرباتي .. أما الآن ، فأجده شانا الهجوم علي و يضربني بغيظ و بغض.. كأن بداخله ثأرا يود اقتصاصه مني...

بعد لحظات من العراك، و يد الغلبة لي، و أنا ممسك بذراع أخي ألويها للوراء و أؤلمه ، جاءت رغد تركض نحوي صارخة :

" أترك خطيبي أيها المتوحّش "

و رأيت يديها تمتدان إلي ، تحاولان تخليص سامر من بين يدي...

أمسكت بذراعي و شدّتني بقوة، فحررت أخي من قبضتي و استدرت لأواجهها...

صرخت بوجهي :

" وحش.. مجرم.. قاتل.. أكرهك.. أكرهك.. أكرهك "

و بقبضتيها كلتيهما راحت تضربني على صدري بانفعال ضربة بعد ضربة بعد ضربة... و أنا واقف كالجبل بلا حراك.. أشاهد.. و اسمع.. و أحس.. و أتألم..
و أحترق... و أتزلزل ... و أموت..
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
اللؤلؤة السوداء
القائد "V"
القائد
اللؤلؤة السوداء


عدد المساهمات : 186
النقاط : 10340
التقييم : 5
تاريخ التسجيل : 21/07/2011
العمر : 38

رواية انت لي - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: رواية انت لي   رواية انت لي - صفحة 2 Emptyالخميس يوليو 28, 2011 2:44 am


الحلقةالثلاثون
********






بعد سيل الضربات القوية التي وجهتها إلى صدر وليد ، بانفعال و ثورة.. بغضب و غيظ و قهر.. شعرت بألم في يدي ّ كان هو ما جعلني أوقف ذلك السيل...

رفعت رأسي إليه، فرأيته ينظر إلي بجمود .. لم تهزه ضرباتي و لم توجعه!
من أي نوع من الحجر أنت مخلوق؟؟ من أي نوع من المعادن صدرك مصنوع؟؟ ألا تحس بي؟؟

عيناي كانتا مغرورقتين بالعبرات الحارقة.. تمنيت لو يمسحها.. تمنيت لو يضمني إلى صدره..

تمنيت.. لو أصحو من النوم ، فأكتشف أن أروى هي مجرد حلم.. وهم .. لا وجود له.. و كم كانت أمان ٍ مستحيلة التحقق...

كان وليد ينظر إلي بعمق، كانت نظراته تنم عن الحزن.. و الاستسلام... فهو لم يقاومني و لا يبعدني.. بل تركني في ثورة غضبي أفرغ على صدره دون إدراك.. كل ما كتمته من غيظ مذ علمت بنبأ ارتباطه...

ابتعدت عنه، التفت إلى سامر، ثم إلى أروى، ثم إلى وليد مجددا... ثم ركضت داخلة غرفتي و صافعة الباب بقوة...

لم أسمح لسامر بالدخول عندما أراد ذلك بعد قليل، و بقيت أبكي لساعات...

في اليوم التالي، عندما خرجت من غرفتي قاصدة المطبخ، لمحت غرفة دانة سابقا ، الدخيلة حاليا مفتوحة الباب...

اقتربت منها بحذر .. و ألقيت نظرة شاملة عليها كانت خالية من أي أحد ..

أسرعت نحو غرفة وليد.. فوجدتها الأخرى مفتوحة و لا وجود لأي شيء يشير إلى أن وليد لم يرحل...

ركضت بسرعة نحو الصالة، رأيت سامر يجلس هناك شاردا ..
حين رآني ، ابتسم و وقف و ألقى علي تحية الصباح ..

قلت بسرعة :

" أين وليد ؟؟ "

ألقى علي سامر نظرة متألمة ثم قال :

" رحل "

صعقت ... هتفت :

" رحل ؟؟ متى ؟؟ "

قال :

" قبل قليل.. "

مستحيل ! لا ... غير ممكن ...

صرخت :

" لماذا تركته يرحل ؟؟ "

نظر إلي سامر بحيرة ..صرخت مجددا :

" لماذا تركته يرحل ؟؟ "

قال سامر مستاء ً :

" و هل كنت تتوقعين مني أن أربطه إلى المقعد حتى لا يذهب ؟ أخذ خطيبته و أغراضهما و ولا خارجين دون سلام "

صرخت :

" كان يجب أن تمنعه ! الحق به.. دعه يعود .. أعده إلي حالا "

سامر هتف بعصبية :

" لا تثيري جنوني يا رغد.. ماذا تريدين به ؟ لقد تزوّج من أخرى و قضي الأمر "

صرخت بقوة :

" لا "

" رغد ! "

" لن أصدّق.. إنكم تكذبون ... كلكم تكذبون.. وليد لم يرتبط بأحد.. وليد لم يدخل السجن.. وليد لم يقتل أحدا.. وليد لن يتخلّى عني...لن يبتعد عني.. أعده إلي.. أعده إلي..أعده إلي.. "

و انهرت باكية..حسرة على وليد قلبي

و على هذه الحال بقيت أياما... اشتد علي المرض و السقم.. و تدهورت حالتي النفسية كثيرا..كما ساءت حالة سامر و أصبح عصبيا جدا..و صرنا نتشاجر كل يوم..و الحال بيننا لا تطاق..

ما زاد الأمر سوءا هو أننا كلما اتصلنا بوالدي ّ وجدنا الهاتف مغلقا، و عندما اتصلنا بالفندق الذي كانا ينزلان به أُبلغنا بأنهما قد غادراه...

انقطعت أخبارهما عنا عدة أيام و حلّ التوتر الفظيع علينا و امتزجت المشاكل و المخاوف و المشاجرات مع بعضها البعض، و تحوّلت حياتنا أنا و سامر إلى جحيم... و جحيمنا صار يتفاقم و يتضاعف يوما بعد يوم، إلى أن طغى الطوفان المدمّر و حلّت الصاعقة الكبرى...أخيرا...





~ ~ ~ ~ ~




التحقت بمعهد إداري في مبنى قريب من المزرعة، و بتوفيق من الله أولا ، ثم بمساعدة من العم إلياس و السيدة ليندا، أصبحت طالبا رسميا في المعهد.

الحياة بدت مختلفة، و كل شيء سار على خير ما يرام، حظيت أخيرا بشيء من الراحة و السعادة..
خطيبتي..كانت إنسان رائع جدا.. في الأخلاق و الطيبة و المشاعر و الجمال و كل شيء... نعمة من رب السماء ..

حاولت جاهدا أن أصرف مشاعري نحوها... و أودع فيها ما يكنه قلبي من الحب و الحنان ، إلا أن رغد.. لم تسمح لي بذلك...

فقد كانت محتلة القلب من أول وريد إلى آخر شريان...و بُعدها و صحتها المتدهورة ما زاداني إلا تعلقا بها و لهفة إليها... و كلما تسللت يداي إلى الهاتف، و أدارتا رقم الشقة، ذكرني عقلي بكلماتها الأخيرة القاتلة... فوضعت السماعة و ابتعدت ...

لم أتصل للسؤال عن أي فرد من أسرتي، و أقنعت نفسي بأنني لم أعد أنتمي إليهم.. و أن عائلتي الحقيقية هي عائلة نديم رحمه الله...

لذلك ، حين وردتني مكالمة من سامر بعد أيام حاولت اصرافها، إلا أن أروى ألحّت علي بالإجابة .. و هي تقول :

" لو كان لدي أخ أو أخت لكنت فعلت أي شيء من أجلهما مهما تعاركا معي أو حتى قتلاني ! "

تناولت السماعة من يدها و أنا أشعر بالخجل من هروبي هذا... قربتها من أذني و فمي و تحدّثت :

" نعم يا سامر؟؟ "

" كيف حالك؟ "

" بخير.."

و ساد صمت استمر عدة ثواني ...

قلت :

" أهناك شيء ؟؟ "

فأنا لا أتوقع أن يتصل ليسأل عني فقط ، خصوصا بعد شجارنا الأخير...

قال سامر :

" يجب أن تحضر إلى هنا يا وليد "

ذهلت من عبارته، قلت متوترا و قد انتابني القلق المفاجئ :

" خير؟ هل حصل شيء ؟؟ "

" نعم، و لابد من حضورك "

هوى قلبي على الأرض..من القلق ، قلت و أنا بالكاد أحرك شفتي ّ :

" رغد بخير ؟؟ أ أصابها مكروه ؟؟ "

سامر صمت ، ما جعلني أوشك على الموت... قلت :

" ما بها رغد أخبرني ؟؟ "

قال :

"على ما هي عليه، أريدك حضورك فورا "

التقطت بعض أنفاسي و قلت :

" لم سامر؟ أخبرني ماذا حصل ؟؟ "

" لن أخبرك على الهاتف ، تعال بأسرع وقت يا وليد.. الأمر غاية في الأهمية "


لم استطع بعد تلك المكالمة السكون برهة واحدة ، تحركت بعصبية كالمجنون .. و من فوري ذهبت لأبحث عن سيارة أجرة، إذ أنني لم أكن أملك واحدة كما تعلمون...

أرادت أروى مرافقتي إلا أنني عارضت ذلك، و خلال ساعة، كنت أشق طريقي نحو شقة سامر.. و قلبي شديد الانقباض.. لابد أن مكروها قد حل ّ بصغيرتي و إن كان كذلك، فلن أسامح نفسي على البقاء بعيدا بينما هي مريضة...

قطعت المسافة في زمن قياسي، و حين وصلت أخيرا إلى الشقة، قرعت الباب بشكل متواصل إلى أن فتحه أخي أخيرا...

من النظرة الأولى إلى وجهه أدركت أن الموضوع أخطر مما تصوّرت.. كانت عيناه حمراوان و جفونه وارمة ، و وجهه شديد الكآبة... و السواد أيضا...
منظره أوقع قلبي تحت قدمي ّ في الحال...

و قبل أي كلمة أخرى هتفت مفزوعا :

" أين رغد ؟؟ "

و ركضت إلى الداخل مسرعا و أنا أنادي :

" رغد ... رغد ... "

و حين بلغت غرفتها طرقت الباب بقوة... و أنا أهتف بفزع...

" رغد... أأنت هنا ؟ "

فتح الباب و ظهرت رغد .. و ما أن وقعت أعيننا على بعضها البعض حتى كدت أخر صريعا..

" رغد ! "

" وليد ... "

" أنت ِ بخير صغيرتي ؟؟ أنت بخير ؟؟ "


انفجرت رغد باكية بقوة ، التفت إلى الوراء فإذا بسامر يقف خلفي ، هتفت :

" ماذا حصل ؟ "

رغد ازداد بكاؤها ..

قلت منفعلا :

" أخبراني ماذا حدث ؟؟ "

و نظرت إلى سامر في انتظار ما سيقول ...
سامر حرّك شفتاه و قال أخيرا :

" أصيب والدانا في الغارة على الحدود"

صعقت ، شهقت :

" ماذا ؟؟ "

طأطأ سامر رأسه للأسفل ، فقلت بسرعة :

" سامر ؟؟ "

لم يرفع عينيه في البداية، إلا أنه حين رفعهما كانتا غارقتين في الدموع، و قال أخيرا :

" قتلوهما.."







شهر كامل قد مضى، و أنا مقيم مع أخي و رغد في هذه الشقة... نسبح في بحر الدموع و الألم...

لا يقوى أحدنا حتى على النهوض من المقعد الذي يجلس عليه... أسوأ اللحظات.. كانت تلك اللحظات التي رأيت فيه رغد تلطم وجهها و تصرخ و تنوح و تصيح...

" لماذا كتب علي أن أيتّم مرتين؟؟ من بقي لي بعدهما؟؟ أريد أن ألحق بهما.. أمي .. أبي .. أنا مدللتكما العزيزة.. كيف تفعلان هذا بي ؟؟ كيف تتركاني يتيمة من جديد؟ و أنا في أمس الحاجة إليكما.. ليتني متّ منذ صغري..ليتني احترقت مع المنزل و لم أعش هذا اليوم... وا حسرتاه"

كانت تجول في الشقة و تصرخ و تنادي كالمجنونة.. و تصفع رأسها بأي شيء تصادفه في طريقها..

و كنت أمشي خلفها، محاولا تهدئتها و مواساتها ، بينما أنا الأكثر حاجة للمواساة..

أبعد حرماني منهما لثمان سنين.. ثمان سنين كان من الممكن أن أقضيها تحت رعايتهما و حبهما.. اللذين مهما كبرت سأبقى بحاجة إليهما، أفقدهما بهذا الشكل؟؟

حينما أتذكر يوم وداعهما...

آه يا أمي.. و يا أبي..

لو كنت أعرف أنه اللقاء الأخير.. ما كنت تركتكما تخرجان...

أتذكر وصايا أمي... (اعتني بشقيقتيك جيدا لحين عودتنا).. أماه.. هاأنا قد اعتنيت بهما و إن قصّرت.. فأين عودتك ؟؟

لو كنت أعلم أنه آخر العهد لي بكما... ما فارقتكما لحظة واحدة حتى أموت دونكما أو معكما..

لكنه قضاء الله.. و مشيئة الله..

يا رب.. فكما جاءاك ملبيين طائفين حول بيتك المشرّف، يا رب فأكرمهما بنعيم الجنة التي وعدت بها عبادك المؤمنين...

و لا حول و لا قوّة إلا بالله...




شهر كامل قد انقضى و لم تتحسن أحوالنا النفسية شيئا يذكر..
و هل يمكن أن يندمل جرح كهذا؟؟
لقد كانا في حافلة مع مجموعة من الحجيج عائدين إلى البلد، بعدما نفذ صبر الجميع و دفعهم الحنين لأهلهم للإقدام على السفر برا...و كانت مجازفة أودت بحياتهم جميعا ...
نحن.. و يا من كنا غارقين في بحر الحزن و المآسي.. و يا من تشردنا..و تشتتنا..و تفرّقنا و انتكست أحوالنا و تنافرت قلوبنا..و كنا ننتظر عودة والدينا لعل ّ الله يصلح الحال.. يأتينا نبأ مصرعهما المفاجئ المفجع.. و ينسف ما بقي لنا من قوة أيما نسف...

السلطات اتصلت بأخي سامر و أبلغته الخبر المفجع، ليذهب لاستلام الجثتين من إحدى المستشفيات، التي نقل إليها جميع راكبي الحافلة، و الذين قتلوا جميعا دون استثناء..

كنت أريد الذهب..فقط لألقي نظرة..فقط لأقبّل أي شيء منهما.. رأسيهما.. جبنيهما.. أيديهما..إقدامهما..أو حتى ملابسهما..أي شيء منهما و لهما.. لكني بقيت رغما عني ملازما رغد في المستشفى.. متوقعا أن أفقدها هي الأخرى.. بين لحظة و أخرى..

كانت أفظع أيام حياتي..

كانت نائمة معظم الوقت، و كلنا أفاقت سألتني :

" أين أبي؟؟ أين أمي ؟؟ ألا أزال حية ؟؟ متى سأموت؟؟"

و لا أجد شيئا أواسيها به غير آهات تنطلق من صدري ، و شلالات تتدفق من عيني.. ونيران تحرق جسدي و ترديني فتاتا.. رمادا..غبارا..

عندما عاد أخي.. كنت أنظر إلى عينيه بتمعن..أحدق بهما بجنون..علّ صورة والدي ّ قد انطبعت عليهما.. علّني أرى طيف ما رأتاه..

أخذت أضمه، و أشمه و أقبّله.. فقد كان معهما.. و ربما علق به شيء منهما..أي شيء... أي شيء...

و حين سألني عن رغد.. قلت باكيا :

" ستموت! إنني أراها تموت بين يدي.. ماذا أستطيع أن أفعل؟ ليتني متّ قبل هذا "

و حين تحدث معها ، سألته بلهفة :

" أين هما؟؟ هل عادا معك؟؟ هل عادا للمنزل؟ أعدني إليهما..فأنا أريد أن يشهدا عرسي..ليس مثل دانة !"


أي عرس يا رغد..أي فرح..أي لقاء تتحدثين عنه ؟؟

لقد انتهى كل شيء.. و الحبيبان اللذان كانا يدللانك و يحيطاننا جميعا بالحب و الرعاية.. ذهبا في رعاية من لا يحمد على مكروه قضى به سواه...

اللهم لا اعتراض على قضائك...

و إنا لله .. و إنا إليه راجعون....








اليوم، و كما قررت أخيرا، سأذهب إلى المزرعة.. فلا بد لي من مواصلة العمل، و الدراسة في ذلك المعهد.. و العودة إلى أهلي بعدما حصل.. أصبحت ضربا من المحال..

فمن يريد العودة إلى جحيم الذكريات... ؟؟

سامر..كان قد أهداني سيارة قبل أيام، جاءت منقذة لي في وقت الحاجة الحقيقية.. شكرته كثيرا.. و أذكر أنه يومها ابتسم ابتسامة واهية و قال :

" و لم كل هذا الشكر ! إنها مجرّد سيارة.. بلا روح و لا مشاعر !"

استغربت من ردّه، إلا أنه غير الحديث مباشرة...

زرت المزرعة مرتين اثنتين فقط مذ قدمت إلى هنا.. فقد كان بقائي قرب رغد هو مركز اهتمامي و بؤرته... أما أحوال العائلة هناك كانت مستقرة..

أجمع أشيائي في حقيبة أضعها على السرير، باب الغرفة مفتوح، يطل منه أخي سامر... و يتحدّث ...

" أحقا سترحل وليد؟؟ "

استدير إليه و أقول :

" كما ترى "

مشيرا إلى الحقيبة.. و أضيف :

" سأعود إلى عملي، و دراستي"

يظل واقفا عند الباب ، ثم يخطو خطوتين إلى الداخل و يقول بصوت خافت :

" أنا أيضا سأعود إلى عملي... انتهت إجازاتي الممددّة "

التفت إليه و أنا أدرك ما يعني، بل هو أكثر ما يشغل تفكيري على الإطلاق، لكنني أقول :

" و إذا ؟؟ "

يقول :

" رغد... "

نعم ، لا زلنا و منذ زمن..نقف عند هذه النقطة.. رغد...

قال :

" لا يمكن تركها وحيدة..، خذها معك "

و فاجأني هذا الطلب، فهو آخر ما كنت أتوقع أن يطلبه أخي مني...

لقد كنت أنا من سيطرح الفكرة، و خشيت أن أعقد الأمور أكثر في وقت نحن فيه في غنى تام عن أي تشويش يزيدنا ألما فوق ألم...

قلت :

" معي أنا ؟؟ "

" نعم يا وليد.. فهناك حيث تقيم، لديك عائلة يمكن لرغد أن تظل تحت رعايتهم أثناء غيابك.. لكن هنا في هذه الشقة..."

لم يتم كلامه..

لقد كان هذا الموضوع هو شغلي الشاغل منذ قررت العودة للمزرعة، ألا أنني لم أكن أعرف الطريق لفتحه أمام سامر، خطيب رغد...

قلت :

" ما كنتَ فاعلا لو أنكما تزوجتما إذن؟ "

قال :

" ربما ..أتركها في بيتنا مع والدي ّ "

و الكلمة قرصت قلبينا... و عصرت شعورنا...

تابع :

" ألا أنه .. لا والدين لنا الآن .. و لا بيت.."

" يكفي أرجوك.."

قلت ذلك محاولا إبعاد غيمة الهم عني، فقد اكتفيت من كل ذلك.. اكتفيت من الهموم التي حملتها على صدري مذ ارتكبت جريمتي و حتى هذا اليوم...

بددت أشباح الذكرى المؤلمة بعيدا عن رأسي.. و قلت :

" أتظنها ترحب بذلك ؟؟ "

ابتسم ابتسامة مائلة للسخرية و قال :

" جرّب سؤالها بنفسك..."

و رمقني بنظرة حادة، ثم غادر الغرفة...

بعدما انتهيت من جمع أشيائي، ذهبت ُ إلى غرفة رغد...

طوال الأيام الماضية لم تكن تغادرها .. حتى القليل من الطعام الذي كانت تعيش عليه، تتناوله على سريرها.. حالتها كانت سيئة جدا ولازمت المستشفى وقتا طويلا، و كنا نتناوب أنا و سامر على رعايتها...إلا أنها تحسّنت في الآونة الأخيرة.. و أحضرناها إلى هنا.. و الحمد لله

فلو أصابها شيء..هي الأخرى، فسوف أموت فورا لا محالة...لن يقوى قلبي على تحمّل صدمة أخرى.. و خصوصا للحبيبة رغد..لا قدّر الله ..

طرقت الباب و ذكرت اسمي، ثوان، ثم أذنت لي بالدخول...

دخلت، فرأيتها جالسة على السرير، كالعادة، إلا أنها ترسم شيئا ما في كراستها...

اقتربت لألقي نظرة على ما ترسم، كانت صورتين وهميتين لوالدي ّ رحمهما الله.. مرسومتين بالقلم الرصاصي، و بمعالم غامضة مبهمة...

" كيف أنت صغيرتي؟ "

لم ترفع عينيها عن الرسمة، قالت :

" كما أنا "

و هو جواب يقتلني...إن كنتم لا تعلمون...

قلت :

" أنت بخير، الحمد لله .."

قالت :

" نعم ، بخير.. يتيمة مرتين، وحيدة و بلا أهل.. و لا من يتولى رعايتي .. عالة على ابن عمّي ... "

مزقتني كلماتها هذه، قلت :

" عالة على خطيبك !؟ "

قالت مصححة :

" ابن عمّي.. فأنا لن أتزوّجه.. ما لم يحضر والداي و يباركا زواجنا.."

كادت الدمعة تقفز من عيني... اقتربت منها أكثر.. و قلت محاولا المواساة :

" حتى لو لم تتزوجيه، يبقى ابن عمّك و مسؤولا عنك.. فلا تأتي بذكر كلمة عالة هذه مرة أخرى "

الآن، قامت بالخربشة على الصورتين بخطوط عشوائية حادة، ثم .. نزعت الورقة من الكراسة، ثم مزّقتها..

أخيرا نظرت إلي :

" لم لا ترسلاني إلى دار لرعاية الأيتام ؟ "

" رغد بالله عليك.. لم تقولين ذلك ؟؟ "

" نعم فهو المكان الأنسب لي، سامر يريد العودة للعمل و أنا أعيقه "

قلت بألم :

" و أنا ؟ "

رمقتني بنظرة مبهمة ، ثم قالت :

" و أنت ستعود إلى عملك، و فتاتك..، و دانة تزوجت و استقرت مع زوجها في الخارج..، بلا بيت و لا والدين .. و لا أهل.. إما أن ترسلاني لبيت خالتي، أو لدار الأيتام "

اغتظت، و قلت بعصبية :

" كفّي عن ذلك يا رغد، بالله عليك... أتظنين أنني سأتخلى عنك بهذه السهولة ! "

رغد حدقت بي، متشككة مرتابة...

قلت :

" أبدا يا رغد ! لا تظني .. أنه بوفاة والدي رحمه الله.. لم يعد لك ولي مسؤول.. إنك من الآن فصاعدا، لا .. بل من يوم وفاته فصاعدا... بل و من يوم وفاة والديك الحقيقيين فصاعدا.. تحت مسؤوليتي أنا.."

لا تزال تحملق بي بريبة..

قلت :

" و من هذه اللحظة، اعتبريني أمك و أباك و أخاك و كل شيء.. "

شيء من التصديق ظهر على وجهها.. أرادت التحدث إلا أنها منعت نفسها .. قلت مؤكدا :

" نعم صغيرتي، و لتكوني واثقة مائة بالمائة.. من أنك ستبقين ملازمة لي كعيني هاتين.. و لسوف أفقأهما قبل أن أبعدك عني مترا واحدا ! "


الآن رغد راحت تنظر إلى المسافة التي تفصل بيننا، بضع خطوات تتجاوز المتر.. ثم تنظر إلي...

نظرت أنا إلى حيث نظرت، ثم خطوت خطوتين للأمام، و قلت :

" متر ! أليس كذلك ؟؟ "

هنا .. انطلقت ضحكة غير متوقعة من حنجرة رغد.. ضحكة صغيرة كصغر حجمها و حجم حنجرتها.. و قصيرة كقصر المسافة التي بيننا هذه اللحظة... و مبهجة كبهجة العيد !

لم أستطع منع نفسي من الابتسام.. و هل هناك أجمل من ابتسامة أو ضحكة عفوية تشق طريقها بين الدموع و الهموم؟؟

لما رأيت منها هذا التجاوب، فرحت كثيرا.. فضحكة رغد ليست بالأمر السهل..إنها أعجوبة حصلت في زمن المرض و المآسي...

قلت :

" بما أن سامر سيبدأ العمل و سينشغل ثمان ساعات من النهار خارج الشقة، و أنا لابد لي من العودة لعملي، فأنا سآخذك معي.. فهل تقبلين ؟؟ "

قالت :

" و سامر؟ يبقى وحيدا ؟ "

قلت :

" سنأتي أسبوعيا لزيارته أو يأتينا هو.. ربما تتغير ظروفنا فيما بعد.. و نستقر جميعا في مكان واحد.. ما رأيك ؟ "

نظرت إلى الأرض، ثم قالت :

" حسنا "

أثلج صدري، ارتخت عضلاتي و ارتاح قلبي من توتره.. قلت :

" إذن اجمعي أشياءك الآن، سنذهب عصرا "

وقفت رغد مباشرة، و بدأت بجمع قصاصات الورقة التي مزقتها قبل قليل..

أخذت تنظر إليها، و شردت...

قلت مداعبا :

" اطمئني يا رغد.. سترين..أي نوع من الآباء و الأمهات سأكون ! "

ابتسمت رغد، و ألقت القصاصات في سلة المهملات...





~ ~ ~ ~ ~





لم يكن لدي الكثير من الأشياء، لذا لم احتج أكثر من حقيبة صغيرة جمعت حاجياتي فيها، و وضعتها قرب الباب..

وليد ذهب إلى الحلاق، و حينما يعود .. سنغادر..

سوف لن أتحدث عن فاجعة موت والدي ّ لأنني لا أريد لدموعي و دموعكم أن تنهمر.. فقد اكتفيت..تشبّعت للحد الذي لم تعد فيه الدموع تحمل أي معنى...

لقد كنت أنا من أصرّ عليهما للحضور بأية وسيلة.. فقد كنت في حالة سيئة كما تعلمون.. و ربما هذا ما دفعهما لسلك الطريق البري الخطر..

أنا الآن فتاة يتيمة مرتين.. بلا ولي و لا أهل، غير خطيب لن أتزوجه يوما.. و ابن عم لن يتزوجني يوما.. لكنه لن يتخلى عني..

أجهل طبيعة الحياة التي سأعيشها من الآن فصاعدا.. إلا أنني لا أملك من الأمر شيئا

و إذا ما كتبت لي العودة إلى المدينة الصناعية ذات يوم، فلسوف استقر في بيت خالتي..

حتى يومنا هذا، و الحظر الشديد مستمر على المدينة الصناعية و مجموعة من المدن التي تعرضت أو لا تزال تتعرض للقصف و التدمير من قبل العدو...

أما هذه المدنية، و كذلك المدينة الزراعية، فهما بعيدتان عن دائرة الحرب...

ارتديت عباءتي، مستعدة للخروج .. و لمحت سامر يقبل نحوي..

وقفت أنظر إليه و هو ينظر إلي.. و كانت النظرات أبلغ من الكلمات..

قال :

" سأفتقدك"

قلت :

" و أنا كذلك.. سنأتي لزيارتك كل أسبوع"

ابتسم ابتسامة واهنة و من ثم قال :

" هل ستكونين على ما يرام هناك ؟؟"

لم أرد.. فأنا لا أعلم ما الذي ينتظرني..

" أينما كنت يا رغد..أتمنى لك السعادة و الراحة "

نظرت إليه نظرة امتنان..

أمسك يدي بحنان و قال :

" سأكون هنا.. متى ما احتجتني.. دائما في انتظارك و رهن إشارتك.."

لم أملك إلا أن طوّقته بيدي الأخرى.. و قلت :

" يا عزيزي..."

و تعانقنا عناقا هادئا صامتا.. طويلا..

بعد مدّة ، عاد وليد..

ودّعنا سامر.. و ركبنا السيارة، وليد في المقدمة و أنا خلفه.. وانطلقنا...

لكي يقطع الوقت و يقتل الملل، أدار المذياع.. فأخذت أصغي إلى كل شيء و أي شيء.. كما كنت أراقب الطريق... و رغم الصمت الذي كان رفيق لسانينا، إلا أنني شعرت به يكلّمني...

أكاد أسمع صوته، و أحس بأنفاسه.. و الحرارة المنبعثة من جسده الضخم... كان هو مركزا على الطريق.. بينما أنا أغلب الأحيان مركزة عليه هو...

الآن، و بعد كل الأحداث التي مررت بها..أعترف بأنني لا أزال أحبه..


وصلنا إلى نقطة تفتيش.. ما أن لمحتها حتى أصبت بالهلع.. فبعد الذي عشته تلك الفترة.. صرت أرتجف خوفا من مثل هذه الأمور...

الشرطي طلب من وليد البطاقة و رخصة القيادة..

ثم سأله عني..

" ابنة عمي "

" أين بطاقتها ؟ "

" إنها لا تحمل بطاقة خاصة، فهي صغيرة "

" إذن بطاقة والدها "

" والدها متوف، ووالدي الكافل كذلك، توفي مؤخرا..إلا أنها مضافة إلى بطاقة شقيقي، خطيبها حاليا "

قال الشرطي متشككا :

" هل هذا صحيح ؟؟ "

قال وليد :

" طبعا ! "

الشرطي التفت إلي أنا و قال :

" هل هذا ابن عمّك ؟ "

قلت بوجل :

" أجل "

" أهو خطيبك ؟ "

" لا ! شقيق خطيبي.."

" و أين خطيبك أو ولي أمرك ؟ "

" لم يأت ِ معنا، لكنه على علم بسفرنا "

" صحيح ؟ "



وليد قال بعصبية وضيق :

" و هل تظنني اختطفتها مثلا ؟ بربّك إنها مثل ابنتي "

ابتعد الشرطي مترددا ثم سمح لنا بالعبور...

أنا كنت أنظر إلى وليد عبر المرآة.. مندهشة و مستنكرة جملته الأخيرة !

ابنته !؟ أنا مثل ابنته ؟؟

فارق السن بيننا لا يتجاوز التسع سنين !

وليد أبي !

بابا وليد !

و شعرت ُ برغبة مفاجئة في الضحك !

لكن هذه الرغبة تحوّلت إلى حرج شديد جدا..عندما أصدرت معدتي نداء الجوع !

مباشرة نظر وليد عبر المرآة فالتقت أنظارنا.. و أبعدت عيني بسرعة في خجل شديد...

تكلم وليد قائلا :

" لم تأكلي شيئا منذ الصباح..أليس كذلك؟ "

تحرجت من الرد عليه..و علتني حمرة الخجل.. لم أكن في الآونة الأخيرة أتناول أكثر من وجبة واحدة في اليوم.. و كنت أجبر نفسي على أكلها فقط لأبقى حية..

أتذكر الآن.. الطبخات اللذيذة التي كانت أمي، و دانة تعدّانها..
آه أماه..
إنني مشتاقة لأي شيء من يديك.. حتى و لو كان السمك المشوي الذي تعدّينه، و اهرب أنا من المائدة كرها له...
كنت سأدخل متاهة الذكرى المؤلمة، لكن صوت وليد أغلق أبواب المتاهة حين سمعته يقول :

" سآخذك إلى مطعم جيد في المدينة الشمالية الزراعية .. سيعجبك طعامه "

المشوار كان طويلا.. و الهدوء جعل النعاس يطغى علي.. فمنت لبعض الوقت..

صحوت من النوم على صوت وليد يهمس باسمي...

" رغد.. رغد صغيرتي.."

فتحت عيني.. فوجدته ملتفتا إلى الوراء يناديني.. و تلفت من حولي فرأيت السيارة واقفة ..

قال وليد:

" وصلنا "

قلت :

" المزرعة ؟ "

و أنا أطالع ما حولي.. باستغراب..

قال :

" المطعم "

قلت :

" ماذا ؟ "

" المطعم صغيرتي.. نتناول عشاءنا ثم نذهب إلى المزرعة "

و تذكرت أنني كنت جائعة ! كانت الوقت لا يزال باكرا..

وليد فتح بابه و خرج من السيارة، ثم فتح الباب لي..

هبطت و صافحتني أنسام الهواء الباردة.. فضممت ذراعي ّ إلى بعضهما البعض..

" أتشعرين بالبرد؟ "

" قليلا"

" المكان دافئ في الداخل.. هيا بنا "

سرنا جنبا إلى جنب، أنا بقامتي الصغيرة و رأسي المنحني للأسفل، و هو بجسده العملاق.. و رأسه العالي فوق هامته الطويلة ! ثنائي عجيب متناقض ! دخلنا المطعم .. كان تصميم مدخله جميل.. و الكبائن متباعدة و متقنة الهندسة..

اختار وليد كبينة بعيدة، و جلسنا متقابلين، لكن ليس وجها لوجه!

شغلنا نفسينا بتقليب صفحات الكتيب الصغير، الحاوي لقوائم الأطعمة و المشروبات...

قال وليد :

" ماذا تودين ؟ "

في هذه اللحظة ، و أنا في توتري الشديد هذا، و الإحساس بقرب وليد يشويني.. قلت :

" دورة المياه "

" عفوا ! ؟ "

تركت الكتيب من يدي، قام وليد و قال :

" تفضلي.."

كانت دورة المياه النسائية في الطرف الآخر..على مقربة من الباب توقّف وليد.. و تركني أمشي وحدي..

التفت إليه.. قال :

" سأنتظر هنا "

لم أشعر بالطمأنينة.. تراجعت .. قلت:

" لنعد "

قال :

" هيا رغد ! سأبقى واقفا في مكاني.. "

" لا.."

وليد نظر إلى ما حولنا ثم قال :

" حسنا، سأقترب أكثر"

و مشى معي حتى بلغنا الباب...

نظرت إليه بشيء من التردد، إلا أنه قال :

" لا تتأخري رجاء ً "

و أنا أفتح الباب قلت :

" إياك أن تبتعد ! "

قال مطمئنا :

" لا تقلقي.. "

و عندما خرجت وجدته واقفا بالضبط عند نفس النقطة !

عدنا إلى تلك الكابينة و طلب لي وليد وجبة كبيرة، مليئة بالبطاطا المقلية !

لا أعرف أي شهية تلك التي تفجرت في جوفي، و التهمتها تقريبا كاملة..!

و لو كان طلب طبقا آخر بعد ، لربما التهمته أيضا عن آخره.. يكفي أن يكون وليد قريبا مني، حتى أشعر برغبة في التهام الدنيا كلها...

بعد العشاء.. قام وليد بجولة في المنطقة، بين المزارع.. و أراني بعض معالم المدينة، و كذلك المعهد الذي يدرس فيه، و السوق الذي تباع فيه الخضراوات...

منذ زمن.. و أنا حبيسة الشقة و المستشفى، لا أرى الشمس و لا أتنفس الهواء النقي.. لذلك فإن الجولة السريعة هذه روحت عن نفسي كثيرا...

كان كلما تحدّث عن أو أشار إلى شيء، أصغيت له باهتمام.. ودققت بتمعن، و كأنه درس علي حفظه قبل الامتحان!

قبيل وصولنا إلى المزرعة، سألني :

" أتودين بعض البوضا..؟"

و كان ينظر إلي عبر المرآة ...

قلت منفعلة مباشرة :

" ماذا !؟ البوضا مجددا ! كلا أرجوك ! أنا يتيمة بلا مأوى الآن !؟؟ "

و ليد، حدق بي برهة ، ثم انفجر ضاحكا !

أنا كذلك، لم أقو على كبت الضحكة في صدري، فأطلقتها بعفوية...

نعم ! فلن تغريني البوضا مرة أخرى و لن أنخدع بها!





عندما وصلنا إلى المزرعة كانت الساعة تقريبا التاسعة مساءا...

مباشرة توجهنا إلى المنزل، و قرع وليد الجرس، ففتح العجوز الباب...

تهلل وجهه لدى رؤية وليد و صافحه و عانقه، ثم رحب بي ترحيبا كريما...

قال وليد :

" ابنة عمي .. تحت وصايتي الآن.. و إن لم يكن في ذلك أي إزعاج.. فهي ستبقى معي هنا حتى نجد حلا آخر.."

شعرت أنا بالحرج، لكن ترحيب العجوز خفف علي ذلك، قال :

" عظم الله أجرك يا بنيتي، على الرحب و السعة، و إن لم تتسع المزرعة لكما نحملكما على رؤوسنا.."

ابتسمت للعجوز و شكرته..

قال العجوز مخاطبا وليد، الذي كان يجول ببصره فيما حوله :

" في المطبخ.. تفضلا "

لم يتغيّر في ذلك المنزل أي شيء... سرت تابعة لوليد الذي تقدّم نحو إحدى الغرف، و التي يبدو أنها المطبخ... و العجوز خلفنا

هناك.. وجدنا أروى و أمها تجلسان على الأرض حول سفرة العشاء... و بادرتا بالنهوض بمجرد رؤيتنا...

و حانت اللحظة التي كنت أخشى حينها... ما أن وقع نظري على أروى... حتى شعرت بشيء ما يتفجر في صدري... شيء حارق موجع..


كانت تجلس ببساطة على الأرض، مرتدية بنطالا ضيقا و بلوزة قصيرة الكمين واسعة الجيب، و شعرها الذهبي الأملس الطويل مربوط بخصلة منه، و ينساب على كتفيها و ظهرها كذيل الفرس !

رحبت الاثنتان بنا ، ثم توجهت أروى نحو المغسل، و غسلت يدها و نشفتها ، ثم أقبلت نحو وليد و مدّت يدها لتصافحه !

وليد ببساطة مدّ يده و صافحها !

" حمدا لله على سلامتكما ! كيف حالكما ؟ "

قالت ذلك و هي تشد على يد وليد، و وليد يبتسم و يطمئنها، و أنا أسلط أنظاري على يديهما ، ثم عينيهما ، ثم أعود إلى يديهما، ثم أعض على شفتي السفلى بغيظ...

إلى متى ستظل هذه ممسكة بيد ابن عمّي؟؟ هيا ابتعدي !

" مرحبا بك يا رغد، عظم الله أجرك "

رفعت بصري عن يديهما و نظرت إليها ببغض، و مددت يدي لأصافحها.. أعني لأجبرها على ترك يد وليد...

" أجرنا و أجركم، غفر الله لنا و لكم "

قالت :

" كيف صحتك الآن ؟ "

" بخير و لله الحمد "

عادت تنظر إلى وليد ، و تخاطبه :

" هل كانت رحلتكما متعبة ؟ "

قال :

" لا ، كانت ممتعة "

نظرت إلى وليد فرأيته ينظر إلي و يبتسم...

قالت أروى :

" تفضلا.. شاركانا العشاء "

و كررت أمها الجملة ذاتها

قال وليد :

" بالهناء و العافية، تناولنا عشاءنا في أحد المطاعم.. أتموا أنتم طعامكم و نحن سنجلس في المجلس "

و على هذا ذهبنا إلى المجلس، وبقي الثلاثة حول السفرة.. و يبدو أن وليد صار يتحرك في المنزل بحرية كيفما يشاء...

جلس على أحد المقعدين الكبيرين المتقابلين الموجودين في المجلس، فجلست أنا إلى جواره.. و سكنا عن أي كلام أو حركة لبضع دقائق... ثم قال وليد :

" رغد"

نظرت إليه.. فرأيت ملامح الجدية و القلق على وجهه... قال :

" أنا آسف و لكنني في الوقت الحالي لا أستطيع توفير سكن آخر.. كما و أن الظروف لن تمكننا من العيش في شقة مستقلة، لأن عملي هنا و أقضي كل ساعات النهار هنا.. "

لم أعلّق ، فقال :

" هل هذا يروق لك ؟ "

قلت :

" أخشى أن يسبب وجودي الضيق لهم .."

قال :

" لا ، إنهم أناس طيبون جدا.. و كرماء لأقصى حد..، لن يزعجهم وجودك، أريد أن أعرف .. هل يزعجك أنت ذلك؟؟ "

قلت :

" سأبقى حيث ما تبقى أنت..، ألست المسؤول عني الآن؟ "

بدا الضيق جليا على وليد، مال بجدعه للأمام و قال :

" رغد يا صغيرتي.. الأمر ليس متروكا لظروفي بل هو حسب رغبتك أنت.. إذا رغبت بأي شيء آخر فأبلغيني و سأنفذه حتما "

قلت :

" حقا وليد ؟؟ "

قال :

" طبعا، بدون شك.. تعرفين أنني من أجلك أفعل أي شيء..."

شعرت بالصدق ينبع من عينيه.. و آه من عينيه ..

لو تعرف يا وليد.. أنا لا أريد من هذه الدنيا غيرك أنت.. لقد فقدت كل شيء.. والداي ماتا. .و تيتّمت مرتين.. و أختي رحلت.. و سامر تركته جريحا متألما.. و خالتي و عائلتها ظلوا بعيدين عني.. لم يبق لي إلا أنت..

أنت الدنيا في عيني..

أنا أريد أن أبقى معك، قريبة منك و تحت رعايتك و حبك ما حييت.. أينما كنت.. هنا أو في أي مكان في المجرّة.. فقط أبقني قربك.. و أشعرني باهتمامك و حبك..

" وليد .."

همست بصوت أجش... وليد أجابني مسرعا :

" نعم صغيرتي ؟ "

قلت :

" أنا.. أنا..."

و لم أتم، إذ أن أروى أقبلت الآن، تحمل أقداح الشاي...

" تفضلا.."

لم تكن لدي أدنى رغبة في احتساء الشاي لكنني فعلت من باب المجاملة..

أروى جلست على المقعد المجاور، قرب وليد...

تبادلا حديثا قصيرا، ثم قالت مخاطبة إياي :

" يمكنك استخدام غرفتي، و أنا سأنام مع أمي لحين ترتيب غرفة خاصة بك "

نظرت إلى وليد و قلت :

" و أنت ؟ "

قال :

" في غرفتي ذاتها "

هززت رأسي اعتراضا..

وليد قال :

" لا تخشي شيئا يا رغد.. المكان آمن هنا و موثوق كبيتنا تماما "

" لا ! لن أبقى وحدي هنا "

قال :

" يمكن لأروى البقاء معك في الغرفة.. "

قلت :

" إذن خذني لمكان آخر "

تبادل وليد و أروى النظرات، ثم نظر إلى المقعد الذي نجلس عليه، ثم قال :

" حسنا.. سأبات أنا على هذا.. داخل المنزل"

لم تعجبني الفكرة أيضا.. فنظرت إليه باعتراض و عدم اقتناع..

قال :

" هذه الليلة على الأقل.. ثم نجد حلا آخر"

فاستسلمت للأمر...

ذهبت أروى بعد ذلك لإعداد فراش لي في غرفتها... عندها قلت لوليد :

" وليد.. لا تبتعد عني أرجوك "

وليد نظر إلي بعطف و قال :

" لا تخشي شيئا صغيرتي.. أتظنين أنه، لو كان مكانا غير آمن، كنت تركتك تباتين فيه ؟ "

قلت :

" لكني أخاف.. أخاف كثيرا.. المكان غريب و الناس كذلك.. لا تبتعد عني "

كنت أقول ذلك و أنا متوترة.. و لما لحظ وليد حركة أصابعي المضطربة..

قال :

" اطمئني رغد.. و لسوف أبقي الباب مفتوحا "

ذهبنا أنا و وليد و أروى للتعرف على أرجاء المنزل و انتهينا إلى غرفة أروى..

غرفة بسيطة كسائر المنزل، لا تحوي شيئا مميزا ...

كان الفراش دافئا.. و جسدي متعبا لكن القلق لم يسمح لي بالنوم..

أروى نامت بسرعة.. أما أنا فتلاعبت بي الهواجس حتى بدأت أوصالي ترتعد خوفا..

ارتديت عباءتي.. و خرجت من الغرفة بحذر.. شققت طريقي بهدوء تام نحو المجلس.. كان الباب شبه مغلق، و وليد كان نائما على المقعد الكبير.. و بصيص خفيف من الضوء يتسلل إلى الغرفة عبر فتحة الباب.. و عبرها تسللت أنا أيضا إلى الداخل...و أوصدت الباب من بعدي !

لأنه طويل جدا، فإن قدميه الكبيرتين كانتا تبرزان من فوق ذراع المقعد.. أما ذراعاه فقد كانتا مرفوعتين فوق رأسه، إذ أن مساحة المقعد لا تكفي لضمهما على جانبيه !
مسكين وليد! لابد أن جسده غير مرتاح في نومته هذه البتة !

و مع ذلك كان يغط في نوم عميق... !

جلست أنا على المعقد الكبير الآخر... لبضع دقائق.. شاعرة بالأمان و الطمأنينة، و الدفء أيضا.. فبقرب وليد يطيب لقلبي البقاء و لعضلاتي الاسترخاء و لعيني الإغماض..
استلقيت على المعقد.. و سمحت للنوم بالسيطرة علي.. بكل سهولة !






~ ~ ~ ~ ~




وضعت المنبه على المنضدة قرب المقعد، و نمت بعد أرق، لأنني كنت قلقا على رغد.. أفكر..هل ستتقبل الحياة هنا..؟ هل ستألف الأوضاع و ترضى بها؟ هل سيسرّها العيش في منزل متواضع، و حال متوسطة، و هي ابنة العز و الدلال و الغنى ..؟؟
إن علي ّ أن أجد أكثر من أجل تحسين وضعي المالي و العام..فرغد لم تعتد حياة الفقر و الحاجة... و لا تستحق حياة كهذه...

استيقظت بسرعة على رنين المنبه المزعج...

كنت قد ضبطته لإيقاظي وقت الفجر لأصلي...

حينما جلست، لمحت شيئا يتحرك على المقعد الكبير الآخر و الموازي للمقعد الذي نمت عليه ..! و ذلك الشيء جلس أيضا

دققت النظر فيه ..أظنه خيال رغد! أو ربما هوسي بها جعلني أتهيأ خيالها في كل مكان !؟ في اليقظة و المنام !

قلت متسائلا :

" رغد ؟"

ذلك الشيء تكلم مصدرا صوتا ناعسا ، يشبه صوت رغد !

" نعم "

قلت :

" رغد صغيرتي ! أهذه أنت ؟؟ "

" نعم، أريد أن أنام "

و استلقت على المقعد مجددا !

نهضت أنا عن مقعدي و وقفت أمدد أطرافي.. شاعرا بالإعياء ... إن هذا المقعد صغير و لا يتسع لجسد رجل مثلي !
تقدمت نحوها

" رغد ! ما الذي تفعلينه هنا ؟ "

قالت و هي شبه نائمة :

" كنت خائفة "

" مم ؟ "

" من الأشباح "

ماذا !؟ أهي نائمة أم تهذي ؟؟

" أي أشباح ؟؟ "

جلست رغد فجأة و نظرت من حولها يمينا و شمالا... و هي تقول :

" أشباح؟؟ أين ؟ أين ؟ "

و يبدو أنها استفاقت أخيرا .. ثم نظرت إلي .. ثم قالت :

" وليد .. "

قلت :

" نعم.. "

قالت :

" نحن في منزل أروى أليس كذلك ؟ "

" نعم صغيرتي، هل كنت تحلمين ؟ "

أخذت تفرك عينيها...

قلت :

" لم أنت هنا ؟ "

قالت :

" لم أشعر بالطمأنينة هناك.. "

" لم صغيرتي؟ "

قالت و هي تنظر إلي برجاء :

" أريد أن أبقى معك .. المكان غريب علي.."

" ستعتادينه.. لا تقلقي "

" لكن يا وليد... "

هنا طرق الباب و سمعت صوت العم يناديني...

" وليد .. انهض بني ..الصلاة "

و كاد يفتح الباب، إلا أنه كان موصدا ! إنها رغد !

صغيرتي المجنونة !

أجبت :

" نعم عمي أنا مستيقظ "

قال :

" هيا إذن "

قالت رغد :

" إلى أين ؟ "

" إلى المسجد "

قالت معترضة :

" و تتركني وحدي ؟؟ سآتي معك "

كنت أعرف أنها ستقول ذلك !

ذهبت إلى الباب مسرعا و فتحته فرأيت العم إلياس يسير نحو المخرج... و كنا قد اعتدنا الذهاب للصلاة في المسجد المجاور سيرا على الأقدام...

قلت :

" عمّي .. اذهب أنت سأصلي هنا "

تعجّب العم و قال :

" لم يا ولدي ؟ "

" أخبرك لا حقا.. تقبل الله منكم "

جعلت الباب شبه مغلق

و عدت إلى رغد التي بادرتني بالسؤال :

" الحمام قرب الغرفة أليس كذلك ؟ "

" بلى "

و همّت بالخروج قاصدة إياه ...

" انتظري رغد "

نظرت إلي باستغراب...

قلت :

" حتى يخرج العم ... "

و عدت أنظر من فتحة الباب حتى إذا ما غادر العم خارجا، فتحته و استدرت إلى رغد قائلا :

" تفضلي ... "

رغد سارت ببطء و هي تنظر إلى الأرض بخجل.. تنحيت أنا جانبا .. و لما صارت قربي .. رفعت رأسها إلي و قالت :

" أنا آسفة " ...

توترت، و لم يتجرأ لساني على النطق بشيء... فأخفيت نظري تحت الأرض.. منتظرا منها الخروج...

إلا أنها بقيت واقفة قربي هكذا لوهلة... و أنا شديد الحرج، ثم قالت :

" لكنك..أصبحت أبي الآن ! أليس كذلك ! "

رفعت نظري إليها بسرعة مندهشا، و ارتفع حاجباي تعجبا !

كانت تنظر إلي، و الآن.. ابتسامة مرسومة على شفتيها أستطيع أن أرى عذوبتها رغم الظلام...

قالت :

" بابا وليد ! "

و أسرعت خارجة من الغرفة ... تاركة إياي في ذهول و جنون !

إذا كانت ..هذه الفتاة.. اليتيمة المدللة.. الحبيبة الغالية.. ستعيش معي و تحت رعايتي أنا في بيت واحد.. فإنني و بدون أدنى شك.. سأفقد عقلي و أتحول خلال أيام، بل خلال ساعات.. إلى مجنون لم يخلق الله مثل جنونه جنونا...
و أنتم الشاهدون !

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Hind
وزير العدل "W"
وزير العدل
Hind


عدد المساهمات : 241
النقاط : 10615
التقييم : 31
تاريخ التسجيل : 21/07/2011
العمر : 36
الموقع : بعالمي الزهري بفضلكم

رواية انت لي - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: رواية انت لي   رواية انت لي - صفحة 2 Emptyالجمعة يوليو 29, 2011 1:25 am

يسلموووووووووووووو لولو والله رووواية روووعة وبتوجع القلب بشكل رائع هههههههههههه
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
اللؤلؤة السوداء
القائد "V"
القائد
اللؤلؤة السوداء


عدد المساهمات : 186
النقاط : 10340
التقييم : 5
تاريخ التسجيل : 21/07/2011
العمر : 38

رواية انت لي - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: رواية انت لي   رواية انت لي - صفحة 2 Emptyالجمعة يوليو 29, 2011 5:53 am

منوووووره هنود فعلا الروايه اكثر من رائعه
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
اللؤلؤة السوداء
القائد "V"
القائد
اللؤلؤة السوداء


عدد المساهمات : 186
النقاط : 10340
التقييم : 5
تاريخ التسجيل : 21/07/2011
العمر : 38

رواية انت لي - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: رواية انت لي   رواية انت لي - صفحة 2 Emptyالجمعة يوليو 29, 2011 6:16 am


الحلقةالواحدةوالثلاثون
*********




رغم أنني كنت نعسى في البداية، إلا أن النوم خاصمني ذلك الصباح..
وليد جلس في الصالة يقرأ القرآن، و جلست أنا على مقربة أنصت إليه..
إلى أن عاد الرجل العجوز بعد طلوع الشمس.. فختم وليد قراءته و راح يتحدّث معه..

كانا يتحدثان بشأن المزرعة و ما سيفعلانه هذا اليوم.. و كنت أستمع إليهما ببلاهة ! فأنا لا أفقه كثيرا مما يذكرون !

وليد التفت إلي ّ الآن و قال :

" سوف أخرج للمزرعة الآن، أتأتين معي ؟؟ "

وقفت من فوري و تقدّمت ناحيته.. قال متما عبارته السابقة ببطء :

" أم.. تفضلين العودة للنوم ؟ "

" سآتي معك.."

و خرجت معه إلى المزرعة..

الهواء كان باردا و كنت أرتدي العباءة فوق ملابس النوم، لذا شعرت بالبرودة تخترق عظامي

قال وليد :

" سنبدأ بجولة تفقدية "

حذائي كان عالي الكعب و لا يصلح للسير على الرمال، لذلك طلب مني وليد ارتداء أحد الأحذية المطاطية الموجودة عند مدخل المنزل...

سرنا في اتجاه شروق الشمس.. و كم كان منظرا جميلا لم أر مثله منذ زمن...
الرياح كانت في مواجهتنا، تغزو أنفي رغما عني ، و تزيد من شعوري بالبرد..

أخذت أفرك يدي بتكرار.. أما وليد فكان يسير بثبات في وجه الريح ، و لا يبدو على جسمه أنه يتأثر بها !

كالجبل تماما !

قال لي:

" الجو بارد.. أتفضلين العودة للمنزل ؟ "

" ماذا عنك ؟ "

قال :

" سأبدأ حرث منطقة معينة هنا، سنقوم بزرع بذور حولية جديدة فيها.. "

و أشار إلى المنطقة المقصودة...

قلت :

" أنت تحرثها ؟؟ "

و يبدو أن سؤالي هذا ضايقه أو أحرجه.. نظر إلي برهة صامتا ثم قال و هو يحدّق في تلك المنطقة :

" نعم أنا يا رغد.. فهذا هو عملي هنا.. و من هذا العمل أعيش و أعيل نفسي.. و صغيرتي .."

ثم التفت إلي و قال :

" فهل يصيبك هذا بخيبة أمل أو .. اشمئزاز ؟ "

قلت بسرعة :

" لا ! لم أٌقصد ذلك.. "

" إذن ؟ "

" تعرف يا وليد.. فخلال التسع سنين الماضية كنت أعتقد أنك... "

و بترت جملتي.. فقد أحسست أن هذا يؤلمه.. و إذا تألم وليد قلبي فأنا أموت ..

قلت :

" لكن ، ألا يمكنك مواصلة الدراسة الآن ؟؟ "

قال :

" إنني أدرس الآن في معهد محلي، و إن تخرجت منه بشهادة معتبرة فستكون لدي فرص أفضل للعمل ، لكن إلى ذلك الوقت سأظل مزارعا "

لم يعجبني ذلك، فأنا لا أريد لوليد أن يغمر يديه في التراب ..، بل أن يعلو السحاب، لكني لم أشأ إحراجه، فقلت :

" أتمنى لك التوفيق "

ابتسم وليد ابتسامة رضا، و تابعنا الطريق...

بقيت أراقبه و هو يعمل، تارة شاعره بإعجاب به ، و تارة شاعرة بشفقة عليه ، و تارة بغضب من الأقدار التي أوصلت ابن عمّي إلى هذا المستوى..

ليتني أستطيع منحه ثمان سنين من عمري، تعويضا عما خسر.. بل ليتني أهديه عمري كله.. و كل ما أملك..

الحماس الذي تملكني أثناء مراقبة وليد ، و الحرارة التي تنبعث من جسده و هو يعمل بجهد، و من صدره و هو يتنفس بعمق، و من عينيه و هو ينظر إلي ، كل هذه تجمعت معا متحدة مع أشعة الشمس التي ترتفع في السماء، و أكسبتني دفئا و حيوية لا نظير لهما !...

بعد فترة ، أقبلت أروى..

و الآن، لست فقط أشعر بالدفء ، بل و بالاشتعال ، و الاحتراق أيضا ...

" صباح الخير رغد ! نهضت باكرة ! "

باكرة جدا ! كم تبدين حيوية و نشطة بعد نوم هانىء ! أنا لم أنم كما ينبغي ..

قلت :

" صباح الخير"

وليد كان موليا ظهره إلينا هذه اللحظة ، رفعت أروى صوتها ، و كذلك يدها و هتفت و هي تلوّح :

" صباح الخير يا وليد "

وليد استدار و نظر إليها و رد التحية...

هتفت :

" تعال ، فقد أعددنا الفطور "

قال :

" حسنا ، أمهليني دقيقتين اثنتين "

و أتم ما كان يقوم به ...

أروى التفت إلي و قالت :

" أعددت فطورا مميزا من أجلك ! آمل أن يعجبك طهو يدي ! الجميع يصفني بالطاهية الماهرة ، و وليد يعشق أطباقي ! "

وليد ماذا ؟

يعشق أطباقها ؟؟ يا للمغرورة !

قلت :

" وليد يعشق أطباق والدتي فهي لا تقارن بشيء ! "

أروى قالت :

" رحمها الله "

و تذكرت أنه لم يعد لدي والدة ! و لم يعد بإمكان وليد تذوّق تلك الطبخات اللذيذة التي يلتهمها عن آخرها...

ضاق صدري لهذه الذكرى.. و أحنيت رأسي إلى الأسفل بحزن..

أورى لاحظت ذلك فقالت :

" آسفة.. "

لم أتجاوب معها... ، قالت :

" كم كنت متشوقة للتعرف إليها فقد حدّثني وليد عنها كثيرا.. و كان ينتظر عودتها بفارغ الصبر .. "

رفعت نظري الآن إليها، ليس الحزن هو البادي على وجهي بل الغيظ !

لماذا تتحدّث عن وليد أمامي ؟؟ و لماذا يتحدّث إليها وليد عن أمي ؟ أو عن أي شيء آخر في الدنيا ؟؟ هذه الدخيلة لا تمت إلينا بصلة و لا أريد لمواضيعنا أن تذكر على مسمع منها ...

وليد كان يمشي مقبلا نحونا.. و حين وصل ، شبكت أروى ذراعها اليمنى بذراعه اليسرى و هي تبتسم بسرور ...

وقفت أنا أنظر إليهما بغيظ و تحذير ! ما لم تفرقا ذراعيكما عن بعض فسأقطعهما !

لم يفهما تحذيري، بل سارا جنبا إلى جنب على هذا الوضع.. سرت أنا إلى الجانب الأيمن من وليد... و سرنا و نحن ندوس على ظلالنا.. و التي يظهر فيها جليا تشابك ذراعيهما ..

حسنا ! من تظن هذه نفسها ؟ وليد ابن عمّي أنا و ولي أمري أنا!

و بدون تفكير، رفعت أنا ذراعي و أمسكت بذراع وليد اليمني بنفس الطريقة ، و بكل تحدي !

وليد نظر إلي بسرعة و بنفس السرعة أضاع أنظاره في الرمال التي نسير فوقها... و بدا وجهه محمرا ! لكنه لم يسحب ذراعه مني ..

تابعنا السير و أنا أراقب الظل أمامي... و لم أترك يده حتّى فعلت هي ذلك... !

صحيح أن الفطور كان شهيا إلا أنني أصبت بعسر هضم من مشاهدة العلاقة الحميمة بين وليد و أروى.. كانا يجلسان متقابلين، و تجلس أم أروى على رأس المائدة، و أنا إلى جانب وليد، أما العجوز فلم يكن معنا بطبيعة الحال...

لا أريد منهما أن يجلسا متقابلين، و لا متجاورين، و لا في نفس المنزل، و لا حتى على نفس الكوكب..

فيما بعد، عاد وليد للعمل في المزرعة و أروى تشاركه ، و أنا أتفرّج عليهما بغضب.. و أحاول الإنصات جيدا لكل ما يقولان..

أراد وليد بعد ذلك الذهاب إلى مكان ما لإحضار بعض الأشياء، و سألني إن كنت أرغب في مرافقته، أجبت بسرعة :

" طبعا سأذهب معك ! هل ستتركني وحدي ؟؟"

أتذكرون سيارة الحوض الزرقاء التي ركبتها ذات يوم، للذهاب إلى المستوصف ؟
إنها هي.. نفس السيارة التي يحتاجها وليد في مشواره. فيما كنا نقترب منها أقبلت أروى مرتدية عباءتها و وشاحها الملون، قائلة :

" أوصلني للسوق سأشتري بعض الحاجيات "

و اقتربت من الباب و فتحته، فسار وليد نحو باب المقود.. و قبل أن ترفع أروى رجلها إلى العتبة، أسرعت أنا و ركبت السيارة لأجلس فاصلا بينهما! هذا ابن عمي أنا.. و أنا الأقرب إليه من كل بنات حواء ، و أبناء آدم أيضا ... أليس كذلك ؟؟

و من السوق اشتريت أنا أيضا بعض الأشياء، من ضمنها عدّة للرسم ، فالمزرعة و مناظرها البديعة أعجبتني كثيرا .. و لسوف أقضي صباح الغد في رسم مناظر خلابة منها ، عوضا عن مراقبة وليد و هو يعمل...

عندما عدنا ، وجدنا ترتيب أثاث الصالة قد تغيّر، لقد قام العجوز و أخته بنقل المقاعد من المجلس إلى الصالة، و نقل سرير وليد من الغرفة الخارجية إلى المجلس !

استغرب.. أي قوّة يملك هذا العجوز ليحرك هذه الأثقال !

ما شاء الله !

قالت أم أروى :

" ها قد أصبحت لديك غرفة داخلية يا وليد.. هل تحس بالاطمئنان على ابنة عمّك الآن ؟؟ "

وليد ابتسم، و وجهه متورد .. و شكر الاثنين .. ثم التفت إلي و قال :

" أيريحك هذا أكثر ؟ "

كنت أقف إلى جواره .. رفعت رأسي و همست في أذنه :

" لكن ابق الباب مفتوحا "

وليد ابتسم، و قال :

" حاضر "

همست :

" و اطلب منهم إعادة أحد المقعدين الكبيرين للداخل، أو قم أنت بذلك "

وليد تعجّب و قال :

" لم ؟ "

قلت :

" احتياط ! ربما تظهر الأشباح ثانية "

ضحك وليد، و البقية أخذوا ينظرون إليه باستغراب !

قال :

" حاضر ! "

قلت هامسة :

" قبل الليل "

قال :

" حاضر سيدتي ! كما تأمرين .."

و حين يقول وليد قلبي ذلك.. فأنا أشعر بدغدغة ناعمة تسري في جسدي ابتداء من باطن قدمي ّ و حتى رموش عيني ّ !

و من أطراف تلك الرموش ألقيت بنظرة حادة على أروى و أنا أخاطبها في رأسي :

" أرأيت ِ ؟ ستعرفين من تكون رغد بالنسبة لوليد.. و لن أكون رغد ما لم أزيحك عن طريقي ! "






~ ~ ~ ~ ~ ~






مضت الأيام هادئة و مستقرة ، و انشغالي بالعمل جعلني أتناسى وفاة والدي ّ و الحزن الذي خلّفه...

بصعوبة تمكنت من إقناع رغد بالبقاء في المزرعة أثناء غيابي كل يوم في فترة الدراسة.. و لأنها كانت فترة صباحية، و لخمسة أيام في الأسبوع، فإننا لم نعد نلتقي إلا عند الظهيرة...

و أثناء عملي في الحقل، تقوم هي بمراقبتي أو برسم بعض اللوحات.. بينما أروى تساعدني أو تساعد أمها في شؤون المنزل..

أنا كنت أقوم بعمل مضاعف و بأقصى ما أمكنني ، و لساعات أطول.. و رسمت بعض الخطط لتطوير المزرعة و الاستعانة ببعض العماّل الثابتين..

رغد بدأت تتأقلم مع العائلة و تشعر بالانتماء إليها بعد فترة من الزمن.. و صارت تساهم في بعض أعمال المنزل البسيطة، و التي لم أكن أنا أريد تحميلها عبئها، لولا أن الظروف قضت بذلك..

تعذّر علينا زيارة سامر نهاية الأسبوع الأول، إلا أننا زرناه في الأسبوع التالي، و في الواقع.. خرجت من تلك الزيارة متضايقا لما أثارته في قلبي من الذكرى الأليمة .. ذكرى والدي ّ..

سامر لم يبد أنه خرج من الأزمة بعد.. بل كان غارقا في الحزن.. و حتى زيارتنا له لم تحرز تقدما معه..

أما دانة ، فاتصلت بها مرات ثلاث خلال الأسبوعين، و أعطتني الانطباع بأنها امتصت الصدمة و في طور النقاهة.. عدا عن ذلك ، فهي سعيدة و مرتاحة مع زوجها و عائلته في تلك البلد..

أوضاع بلادنا لم تتحسن، بل بقيت بين كر و فر..مد و جزر.. أمدا طويلا..

الشيء الذي بدأ يقلقني هو الملاحظة التي أبدتها لي أروى إذ قالت :

" يبدو أن رغد تعاني اضطرابا نفسيا يا وليد.. إنها لا تنام بسهولة.. بل تبقى لما لا يقل عن الساعة تتقلب في الفراش، و أحيانا تجلس.. و تنهض.. و تذرع الغرفة جيئة و ذهابا في توتر.. و في أحيان أخرى، أسمعها تتحدّث أثناء النوم.. أو تصحو و تبكي و تنادي أمها ! أعتقد أن وفاة والدتها قد أثرت عليها كثيرا .. "

سألتها يومها :

" هل يتكرر ذلك كثيرا ؟؟ "

" تقريبا كل ليلة ! كما و أنها تصر على إبقاء مصباح النوم مضاء ً بينما أنزعج أنا من النوم مع وجود النور ! "

هذه الأمور لاحظتها أروى التي تشارك رغد في الغرفة، و التي يبدو أنها تعاني منها منذ فترة دون أن يلحظها أحد...

و هذه الأمور جعلتني أقلق بشأنها.. و أفكر في طريقة تجعلها تنام بطمأنينة و نوما هادئا.. و هداني الله إلى هذه الفكرة...

عندما كانت صغيرة ، رغد كانت تعشق سماع القصص.. و تطالبني بها كل ليلة حتى تنام بهدوء و قرّة عين..

و لأنها كبرت الآن، فلم يعد هناك مجال لتك القصص! و لكن.. لدينا كتاب هو أجل و أعظم من أي كتاب، و بذكر ما فيه تطمئن القلوب.. إنه القرآن.

في كل ليلة، قبيل نومهما أبقى مع رغد و أروى في غرفتهما و أتلو ما تيسر من آيات الذكر الحكيم .. و تظل رغد منصتة إلي، إلى أن يغلبها النعاس فتنام بهدوء و سكينة..

في إحدى الليالي، و بعدما نامت رغد، خرجنا أنا و أروى من الغرفة ..

لم نكن نشعر بالنعاس وقتها، فطلبت مني أروى القيام بجولة قصيرة معها في المزرعة ..

" لكن.. رغد تمانع خروجي و هي بالداخل، أو دخولي و هي بالخارج.. "

" لكنها نائمة الآن "

" نعم و لكن .. "

" هيا يا وليد ! إننا لم نتحدّث مع بعضنا منذ حضورها ! لم تفارقك ساعة واحدة إلا للنوم ! "

استأت من كلام أروى و قلت :

" أرجو ألا يكون وجودها قد أزعجك بشيء ؟ "

" لا لا ، لا تسىء فهمي، أقصد أنني أريد التحدث معك حديثا خاصا بنا أنا و أنت ! كأي خطيبين.. "

و أمسكت بيدي و حثّتني على السير معها إلى الخارج...

حديثنا كان في بعض شؤوننا الخاصة.. و كانت أروى تتكلم بسرور .. بل كانت في قمّة السعادة.. و أخذنا الحديث لساعة من الزمن..

فجأة ، سمعت صوت رغد يناديني ...

" وليــــــــــد "

سحبت يدي من يد أروى و ركضت مسرعا نحو المنزل ...

رغد كانت تقف في الساحة الأمامية تتلفت يمنة و يسرة..

" أنا هنا رغد "

و لوّحت بيدي، و أنا راكض باتجاهها...

لما رأتني رغد... وضعت يدها على صدرها و تنهدّت بقوة...

و حين صرت أمامها مباشرة، أمكنني رؤية علامات الفزع على وجهها و الذعر المنطلق من عينيها...

" صغيرتي ماذا حصل ؟؟ "

" إلى أين ذهبت ؟؟ "

" هنا في المزرعة، أتمشى قليلا "

و ظهرت الآن أروى فألقت عليها رغد نظرة .. ثم نظرت إلي .. و بدأت تعبيرات وجهها تتغير حتى صارت إلى الحزن و البكاء ..

" صغيرتي ما بك ؟ "

قالت رغد فجأة :

" إذن هذا ما تفعله ؟ تتركني أنام وحدي و تخرج للتنزه مع خطيبتك ؟؟ "

فوجئت بقولها ، أردت أن أوضّح لها أنها المرة الأولى التي نخرج فيها .. لم تعطني المجال، بل قال و هي مجهشة بكاء:

" إذا لم تكن متفرغا لرعايتي فارسلني إلى خالتي.. إذا كنت ُ عبئا يعوق دون تنزّهك مع خطيبتك فخذني لبيت خالتي و تخلّص منّي "

و انفجرت بكاء ً...

لم استوعب كلامها أول الأمر..

قلت مذهولا :

" رغد ! ما الذي تقولينه !؟ "

قالت :

" كنت أعرف أنها نهايتي.. ضعت ُ بعد والدي ّ .. لماذا ذهبا و تركاني؟ لمن تركتماني يا أمي و يا أبي ؟ يا لهواني على الناس أجمعين .. خذني يا رب إليهما.. خذني يا رب إليهما "

لم أتحمّل سماعها تدعو على نفسها هكذا .. صرخت :

" كفى يا رغد أرجوك.. ماذا حصل لكل هذا ؟؟ "

" و تسأل ؟؟ "

" فقط لأنني خرجت من المنزل و أنت بداخله ؟ "

قالت أروى :

" أنا من طلب منه ذلك، لم أكن أتوقع أن يضايقك الأمر لهذا الحد "

رغد نظرت إلى أروى نظرة غضب و صرخت :

" اسكتي أنت ِ "

قالت أروى :

" أنا آسفة "

لكن رغد عادت تصرخ :

" قلت اسكتي أنت.. ألا تسمعين ؟؟ "

أروى شعرت بالحرج، فغادرت الساحة عائدة إلى المنزل...

لم يكن تصرفا لائقا.. و أعرف أنه ليس بالوقت المناسب لأعاتب رغد عليه.. لكنني قلت :

" إنها قلقة بشأنك "

و يبدو أنها لم تكن الجملة المناسبة, لأن وجه رغد ازداد غضبا ، و قالت بحدّة :

" هل تخشى على مشاعرها لهذا الحد ؟ إذن هيا اذهب و طيّب خاطرها .. و دعني أنا أناجي الميتين، فلربما سمعاني و أحسا بهواني و ضياعي بعدهما ، و خرجا من قبريهما و أتيا إلي.. و أخذاني معهما .. و أرحتك مني "

و مرّة أخرى تدعو على نفسها بالموت أمامي .. قلت بحدّة :

" كفى يا رغد كفى.. "

رغد صرخت :

" لا تصرخ بوجهي "

" أنت تثيرين جنوني.. كيف تدعين على نفسك و أمامي ؟؟ "

و عوضا عن التراجع ، رفعت بصرها و يديها إلى السماء و راحت تهتف بصوت عال :

" يا رب خذني إليهما.. يا رب خذني إليهما .. يا رب خذني إليهما "

ثم جثت على الأرض و صارت تبكي بقوة و مرارة... مخفية وجهها خلف يديها

لم أعرف لم كل ذلك.. إلا أنني لم أحتمل.. هويت إلى جانبها، و ناديتها بلطف ، و لم تجبني...

أبعدت ُ يديها عن وجهها و قلت بعطف :

" كفى أرجوك.. "

نظرت إلي ّ نظرة لم أفهم طلاسمها... مددت يدي و مسحت على رأسها من فوق الحجاب، و قلت :

" أنا آسف يا صغيرتي.. أعدك بألا أخرج من المنزل ما دمت ِ فيه دون علمك و رضاك.. "

لم يتوقف سيل الدموع..

قلت :

" أرجوك رغد.. لا تجعلي المزيد من اللآليء تضيع هباء ً .. آسف و لن أكررها ثانية .. "

تحدّثت أخيرا و قالت :

" و إن طلبت منك الشقراء ذلك ؟ "

قلت :

" لا تهتمي.. "

قالت :

" وليد .. أنا أرى كوابيس مفزعة.. أمي.. أبي.. الحرب.. النار .. الحريق.. الجمر.. عمّار.. كلهم يعبثون بأحلامي.. لا أحد ليشعرني بالأمان.. سأموت من الخوف ذات ليلة.. سيتوقف قلبي و أموت فزعا.. و لا أحد قربي.. "

جذبتها إلي بسرعة، و أمسكتها بقوّة.. كحصن منيع يعوق أي نسمة عابرة من أذيتها...

" أعوذ بالله.. بعد ألف شر و شر يا عزيزتي.. لا تذكري الموت ثانية أرجوك يا رغد.. رأيت منه ما يكفي.. حاشاك أيتها الغالية "

نعم، رأيت من الموت ما يكفي.. ابتداءً بعمّار.. و مرورا بنديم و رفقاء السجن.. و عبورا على المدينة المدمّرة .. و انتهاء ً بوالدي ّ الحبيبين...

أبعدتها و قلت :

" أنا آسف، سامحيني هذه المرّة .."

رغد مسحت بقايا الدموع .. و قالت :

" لقد قلت مترا ، ألم تقل ذلك ؟ "

نظرت إليها بتعجّب.. و عدم فهم !

" أي متر ؟ "

قالت :

" هذا الذي ستفقأ عينيك إذا ما ازداد طوله فيما بيننا"

و تذكّرت حينها الجملة التي قلتها قبل أسابيع ، في آخر يوم لنا في شقة سامر قبل الرحيل !

و الآن ماذا ؟؟

رغد تمد يدها اليمنى ، و قد أبرزت إصبعيها السبابة و الوسطى ، و ثنت الأصابع الأخرى، و تحرّكها بسرعة نحو وجهي و توقفها أمام عيني مباشرة ، و تقول :

" أ أفقأهما لك الآن ؟؟ "


قلت لكم.. ستصيبني هذه الفتاة.. بالجنون !






~ ~ ~ ~ ~






هذه كانت البداية، أول شحنة متوترة بيني و بين الدخيلة الشقراء...

لكن الأمور بدأت تضطرب شيئا فشيئا.. و دائرة المشاحنات فيما بيننا آخذة بالتوسع... حتى استرعت اهتمام الجميع...

لم أكن أسمح لهما بالبقاء بمفرديهما إلا نادرا و لأوقات قصيرة.. فأنا جزء تابع من وليد و أذهب معه حيثما يذهب.. و خصوصا إذا كانت الشقراء معه..

وليد هو ابن عمي أنا... نعم أنا...

في أحد الأيام، و كان يوم أربعاء، و كنا في الحقل، وليد و أروى يعملان، و أنا أراقبهما، و الوقت كان المغرب.. إذا بي أسمع من يناديني من خلفي، و ألتفت فإذا به سامر !

كنا نزور سامر مرة كل أسبوع أو أسبوعين، و كان يفترض أن نذهب إليه غدا إلا أنه فاجأني بحضوره !

" سامر ! "

سامر فتح ذراعيه و هو يبتسم.. فابتسمت أنا و عانقته عناقا خفيفا...قصيرا باردا من ناحيتي..

" إنها مفاجأة ! كيف حالك ؟ "

" بخير.. هكذا أكون عندما أراك "

تجاهلت عبارته هذه ، و قلت :

" لم تعلمنا بقدومك ! كنا سنوافيك غدا "

" أحببت أن أزور المكان الذي فيه تعيشين و أرى أحوالك هنا "

ابتسمت و قلت :

" الحمد لله بخير "

قال و قد علاه الجد و القلق :

" هل أنت مرتاحة هنا ؟ "

قلت :

" نعم .. طبعا "

و لا أدري إن كان ردي هذا أراحه أم أزعجه ، لأن التعبيرات التي كست وجهه كانت غريبة و غامضة ...

سمعنا الآن صوت ضحكات قادمة من ناحية وليد و أروى، و اللذين كانا وسط الحقل، فالتفتنا إليهما..

شعرت أنا بالغيظ، و لا شعوريا قلت :

" تبا "

ثم انتبهت إلى أن سامر يقف قربي...

خجلت من نفسي، و لأبدد الخجل رحت أنادي :

" وليـــــــد، تعال... حضر سامر "

التفت وليد إلينا، و لما رأى سامر تهلل وجهه و ترك المعول من يده و جاء مسرعا ، و صافحه و عانقه ...

أروى أيضا جاءت ، و هي تضبط وشاحها الملوّن حول رأسها ... لم تكن أروى تخرج من المنزل إلا محجبة.. حتى أثناء العمل الشاق في المزرعة ! لكنها في الداخل، تتصرف بحرية و ترتدي ما تشاء و تتزين كيفما تشاء.. و يزداد حنقي كلما رأيتها تفعل ذلك، فيما أنا ملفوفة بالسواد من رأسي إلى قدمي كإصبع بسكويت مغطى بالشيكولا !

حالما صارت قربنا ألقت التحية على سامر، ثم ذهبنا نحن الأربعة إلى المقاعد الموجودة حول طاولة على مقربة ، و جلسنا سوية نتبادل الأحاديث...

أنا عملت هذه الساعة كبرج مراقبة ، أراقب الجميع ابتداء من أروى الحسناء، و انتهاء بسامر المشوّه ! كل حركة، كل كلمة ، أو حتى كحة تصدر من أي من الثلاثة ألتقطها بعيني و أذني و قلبي أيضا... و أستطيع أن أخبركم، بأن أروى كانت مسرورة، و وليد فرح جدا، و سامر.. حزين و مكتئب ، رغم كل الضحكات و الابتسامات التي يتبادلونها...

أروى، حسابي معها سأصفيه لاحقا، الآن .. سأصب جل اهتمامي على سامر إذ أن حدسي ينبئني بأنه يخفي شيئا.. شيئا يجعل صدره متكدرا كما هو واضح أمام عيني ...

وجود سامر اعتبر مناسبة تستحق الاحتفال ! و لذا ، صنعت أروى و أمها أطعمة خاصة من أجله على العشاء، و لأنني لا أجيد الطهو، و لا أجيد أعمال المزرعة، كما لا أجيد أعمال المنزل، و واقعا لا أجيد شيئا غير الرسم، فقد ساعدت فقط في الأكل، و تنظيف بعض الصحون !

ألحت العائلة على سامر لقضاء الليلة معنا، رغم اعتراضه إلا أن إصرارنا أحرجه فقبل أخيرا...

و تعرفون أين سينام !

طبعا في الغرفة الخارجية تلك !

بعد العشاء، اقترحت أروى أن نذهب جميعا للتنزه عند الكورنيش ... بالنسبة لي كانت فكرة جميلة، فأيدتها، إلا أنني ندمت على ذلك حينما وجدتها أروى فرصة ذهبية للاختلاء بوليد بعيدا عني، ذهبا يسيران معا، و تركاني و سامر وحدنا...

الأمر في أعين الجميع يبدو طبيعيا.. إذ أنهما خطيبان، و نحن خطيبان، إلا أنني اشتططت غضبا و صرت أراقبهما بعين ملؤها الشرر ...

سامر كان يتحدّث معي، لكنني لم أكن مركّزة معه، بل على ذينك اللئيمين..
و سوف ترى أروى ما سأفعل انتقاما لهذه اللحظات...

" هل تسمعينني ؟؟ "

التفت إلى سامر.. فوجدته يحدّق بي بحزن .. لم أكن قد انتبهت لآخر جملة قالها قلت :

" عفوا.. ماذا قلت سامر ؟ "

سامر رمقني بنظرة ذات معنى ، شديدة الكآبة ثم قال :

" لا، لا شيء"

" أرجوك سامر..أعد ما قلت فقد كنت..."

أتم هو الجملة :

" كنت ِ تراقبينهما بشغف "

خجلت من نفسي، و نظرت إلى البساط الذي كنا نجلس فوقه..

سامر قال :

" ألا زلت ِ تفكرين به ؟ "

تسارعت ضربات قلبي و توترت، و لم أجرؤ على رفع بصري إليه كما لم أقدر على التفوه بأي كلمة...

قال سامر :

" تؤذين نفسك يا رغد، و تهذرين مشاعرك... ألا ترين أنه رجل مرتبط و لديه زوجة.. و زوجة حسناء تغنيه عن التفكير بأي امرأة أخرى "

بانفعال و بدون تفكير قلت بسرعة :

" و هل يجب أن تكون المرأة بكل هذا القدر من الجمال حتى يلتفت إليها ؟ أنا لست أقل منها جمالا لهذا الحد.. فهل يجب أن أصبغ شعري و أضع عدسات زرقاء، و ألوّن وجهي حتى أنال إعجابه ؟؟ "

و انتبهت لخطورة ما قلت ، بعد فوات الأوان ...

سامر أخذ ينظر إلي بألم.. نعم بألم.. إن بسبب تجاهلي له و اهتمامي بوليد ، أو بسبب المرارة التي يراها منبعثة من صدري و أنا أراقبهما في حسرة...

لكن عطفه علي غلب عطفه على نفسه، فقال مواسيا :

" ليس الأمر كذلك، لا أظن وليد خطبها من أجل جمالها.. بل ربما لأنه يعمل هنا و أراد توثيق علاقته بأصحاب المزرعة... "

التفت إليهما، و نظرت و أنا أضيق فتحة عيني و أعض على أسناني :

" أو ربما... "

و تابعت :

" لأنه يحبها "

و هذه الفكرة تجعلني أصاب بالجنون، و أتحوّل إلى لبؤة تريد الانقضاض على القطط الجميلة الملونة.. الناعمة الشقراء.. و نتف وبرها شعرة شعرة، و تمزيق أعضائها بمخالبها و أسنانها الحادة، قطعة قطعة...

سامر قال :

" أ تريدين أن أتحدث معه ؟ "

التفت إليه بسرعة و أنا مندهشة ، و قلت :

" ماذا ؟؟ "

نظر إلي نظرة تأكيد... فقلت مسرعة :

" لا ! كلا ، كلا "

فلم يكن ينقصني إلا أن يتدخل سامر ليلفت انتباه وليد إلي !

قال :

" ما الجدوى إذن.. في صرف مشاعرك عليه.. إن كان سيتزوّج من أخرى ؟ "

قلت بحدة :

" لن يتزوّج منها "

سامر شعر بالقلق ، و نظر إلي بحيرة و خوف ، و قال :

" كيف ؟ "

قلت بتحد ٍ:

" لن أسمح لأي امرأة بالزواج من وليد.. أبدا "

سامر قال :

" رغد ! "

" مهما كانت "

" الأمر ليس متروكا لسماحك من عدمه ! ليس حسبما ترغبين أنت ! "

وقفت بعصبية ، و قلت بحدة و انفعال :

" بل حسبما أريد أنا.. فوليد ابن عمّي أنا.. و هو لي أنا.. و سوف لن يتخلّى عنّي.. و إن حاولت أي امرأة سرقته مني فسوف أشوه وجهها.. و إن حاول هو التخلّص منّي فسوف أفقأ عينيه ! "

اعتقد أنني بالغت في التعبير عن مشاعري المكبوتة، خصوصا أمام سامر الذي أدرك تماما أنه يعشقني بهوس...

التفت إليه شاعرة بالندم على تهوّري ، فرأيت آثار الصدمة المؤلمة مرسومة على وجهه.. تزيده كآبة فوق كآبة..

ما كان علي التفوّه بما تفوّهت به على مسمع منه... لكن.. لمن أعبّر عن مشاعري؟؟

لم يعد لدي شخص مقرب صديق أتحدّث معه... فدانة رحلت، و نهلة بعيدة ، و أمي... في عالم الأموات...

لمن أبث همومي و أعبر عما يختلج صدري من مشاعر ثائرة ، و أنا أرى وليد قلبي يلهو مع تلك الحسناء الدخيلة.. و أعيش علاقتهما لحظة بعد أخرى ..؟؟

قلت ، محاولة تبديد أثر تهديدي الجنوني ذاك :

" دعنا نمشي بمحاذاة البحر نحن أيضا "

و مشينا سوية، في الاتجاه الآخر مبتعدين عن الثنائي المزعج !

سمحت لنفسي بالهدوء، و أجّلت انفعالي لما بعد، فهي لحظات جميلة لا تستحق الإهمال.. الجو لطيف، يداعب الوجوه ، و أمواج البحر رائعة .. تدغدغ الأقدام.. و صوت البحر عذب، يطرب الآذان.. فترقص القلوب مبتهجة و فرحة ..
وقفت أتأمل جمال الكون.. و طبيعته الخلابة، و بديع صنع الله ، متحاشية قدر الإمكان النظر في أي شيء يعكر صفو هذه اللحظة، خصوصا وجوه البشر، و بالأخص من النوع ذوي الأنوف المعقوفة، أو العيون الزرقاء !


أمضينا وقتا، سأعترف بأنه كان ممتعا ، مع الكثير من الشوائب ! و كانت الساعة قد تجاوزت الواحدة و النصف ليلا حين قررنا العودة إلى المزرعة.. وليد يقود سيارته و سامر إلى جانبه، و أنا خلفه ، و الحسناء إلى جانبي.. أكاد أعصب عينيها بعصابة سوداء داكنة سميكة جدا، لأمنعها من النظر إلى وليد عبر المرآة !.



في اليوم التالي، لم يعمل وليد في المزرعة إلا لوقت قصير، و قضى بقية النهار معنا ..

و في العصر، قبيل مغادرة سامر، خرجنا جميعا إلى المزرعة نتجول مثنى مثنى !

و ليد و الحسناء في المقدمة، نتبعهما أنا و سامر على بعد عدة أمتار، يتبعنا العجوز و أم أروى على مبعدة... و سيري خلفهما جعلني أعود لممارسة جولات عيني الاستطلاعية بل التدقيقية التفتيشية على أقل حركة تصدر من أي منهما...

عادت البغيضة لتشبيك ذراعيهما ببعضهما البعض !

يا إلهي ! هل أركض نحوهما و أقف جدارا بينهما؟

قلت مخاطبة سامر :

" دعنا نسرع "

قال متعجبا :

" لم ؟ "

اخترعت أي سبب ، و لا سبب !

" أريد أن أعطي شيئا لأروى "

" أي شيء ؟؟ "

نظرت من حولي، فوجدت مجموعة من الزهور الجميلة الملونة، أسرعت باقتطاف بعضها و قلت :

" هذه ، فهي ملونة مثلها و تصلح طوقا على شعرها الذهبي ! "

و ناديتها مباشرة !

التفت كل من وليد و أروى استجابة لندائي، فحثثت السير إليهما حتى إذا ما بلغتهما قلت و أنا أرسم ابتسامة مفتعلة على شفتي :

" انظري يا أروى ! هذه الورود تشبهك ! "

أروى بدت مستغربة من مقولتي، ثم ابتسمت و شكرتني بعفوية !

قلت :

" اصنعي منها تاجا لشعرك ! ستبدين لوحة مذهلة ! "

أورى ابتسمت ثانية، و كررت شكرها و إن علاها بعض الشك !

التفت إلى وليد و قلت :

" أليس كذلك يا وليد ؟؟ "

وليد قال :

" بلى ، بالتأكيد "

بالتأكيد ؟؟ بالتأكيد يا وليد ؟؟

أنا بالتأكيد سأفقأ عينيك !

أخذت أورى بعض الورود، و تركت في يدي البعض الآخر...ثم استدارا ليتابعا طريقهما...

وقفت أنا على الجمر المتقد.. ازداد اشتعالا و احتراقا.. و أرمقهما بنظرات حادة خطره و هما يبتعدان... و ربما ذبلت الورود التي في يدي من شدة حرارتي !

شعرت بشيء يلمس كتفي فاستدرت بسرعة ، كان سامر...

سامر أوقف يده معلقة في الهواء.. لا أعرف لماذا ؟ ربما لأنها احترقت من ملامستي ؟؟

لكني لمحت عينيه تركزان في الساعة...

قال :

" يجب أن أذهب الآن.."

أعدت النظر إليهما ، ثم إليه.. ثم إلى الثنائي الأخير الذي يقترب منا، العجوز و أخته...ثم عدت أنظر إلى سامر :

" الآن ؟ "

" نعم ، قبل حلول الظلام "

نظرت بيأس نحو الورود التي بين يدي.. و لأنها أصبحت تمثّل أروى في نظري، كدت أرميها و أدوسها من الغيظ.. إلا أن سامر أخذها من بين أصابعي و قال :

" هذه تصلح لك أنت ِ .. أنت فقط "

رفعت بصري إليه و أبديت استيائي من جملته، و لما رأى هو ذلك قال :

" أو ربما لي أنا ! لمعادلة قبح وجهي ! سأحتفظ بها ذكرى "

ابتسمت.. لطالما كان سامر خفيف الظل ، لكنه في الفترة الأخيرة، بعد كل الذي حصل معنا، تغير كثيرا !

قلت :

" أنت لست قبيحا يا سامر! هذه الندبة لا تؤثر عليك مطلقا! إنها أجمل من هذه الورود "

ابتسم سامر بامتنان:

" شكرا ! "

عدت أنا فألقيت نظرة على الثنائي المزعج اللئيم، ثم نظرت إلى سامر...

سامر كان يشعر بتوتري، و يلحظ انجراف أنظاري نحو وليد و أروى.. و هو شيء لا أملك منع نفسي من الانقياد له !

سامر الآن نظر إلي نظرة جدية كئيبة، أخفت أي أثر وهمي للابتسامة التي كانت على وجهه قبل برهة، و قال :

" رغد .. "

من نبرته، شعرت بأنه سيقول شيئا مهما.. أصغيت أذني.. و ركزت معه..

قال :

" ابتداء ً من اليوم.. اعتبري نفسك حرة طليقة.."

دهشت.. أوقفت أنفاسي.. و حملقت به بعيني المفتوحتين لحد الحاجبين !

قال :

" بدأت ُ إجراءات انفصالنا.. و تستطيعين الارتباط بمن تريدين متى شئت ِ "

مأخوذة بهول المفاجأة و غير مصدقة لما تسمع أذناي.. سامر حررني من رباطنا؟؟

أحقا فعل ذلك؟؟

قلت لا شعوريا :

" طلّقتني ؟ "

سامر ابتسم بسخرية و قال :

" و هل تزوّجتك حتى أطلّقك ؟؟ "

و نظر إلى الزهور التي في يده ، ثم قال :

" سيتعين على وليد مراجعة الشؤون المدنية لنقل اسمك إلى بطاقته ، باعتباره ولي أمرك الجديد "

و سكت برهة ، ثم قرّب الزهور من أنفه و شمها، و تنهّد ، ثم نظر إلي و قال :

" أتمنى لك حياة سعيدة ، مليئة بالزهور الجميلة .. الرائعة مثلك "

لم أتمالك نفسي، و كادت الدمعة تقفز من عيني لكنني كبتها بصعوبة..

امتدت يده الآن إلى يدي ، فأمسك بي بلطف .. و قال بصوت أجش :

" حبيبتي... "

و سكت، ثم تابع :

" أتسمحين بأن .. أعانقك للمرة الأخيرة ؟؟ "

حملقت بعينيه، فرأيت الرجاء الشديد ينبع من بؤبؤيهما... لم أحتمل، انطلقت العبرة المكبوتة من عيني فجأة و هتفت :

" سامر ! "

و ارتميت في حضنه و أحطته بذراعي .. في عناق حميم.. حقيقي.. طويل.. مليء بالمشاعر و الدموع... و متوّج .. بالورود التي امتزج عبيرها الأخاذ بأنفاس صدرينا الملتهبة.. و محفوف بأنسام الهواء العليلة و أوراق الشجر المتطايرة من حولنا.. و التي حضرت لتشهد آخر لحظات وجودي في قفص سامر.. قبل أن أنطلق في الهواء حرة .. و أحلق في السماء مرفرفة بجناحي .. ميممة وجهي شطر الشجرة الضخمة الطويلة.. التي امتدت جذورها في قلبي منذ الطفولة.. و التي عليها سأعشش و أقيم لآخر العمر، طاردة بعيدا أي فراشة ملوّنة دخيلة تحاول الاقتراب من بيتي، ليبقى وليد.. وليد قلبي.. لي وحدي أنا.. و أنا فقط..
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
اللؤلؤة السوداء
القائد "V"
القائد
اللؤلؤة السوداء


عدد المساهمات : 186
النقاط : 10340
التقييم : 5
تاريخ التسجيل : 21/07/2011
العمر : 38

رواية انت لي - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: رواية انت لي   رواية انت لي - صفحة 2 Emptyالجمعة يوليو 29, 2011 6:20 am


الحلقةالثانيةوالثلاثون
********

لأن الظروف لم تسمح لنا قبل الآن بشراء خاتمي الخطوبة، و أقصد بذلك ظروف وليد ، فإنني فتحت الموضوع معه مؤخرا، بعدما مضت فترة على وفاة والديه، رحمهما الله.

قررنا أن نذهب لشراء الخاتمين و الشبْكة غدا.. لن نقيم أي احتفال، إنما عشاء خاص بي معه...

وليد، هو رجل رائع بكل المقاييس.. ربما كان التعويض الذي أرسله الله لي عوضا عما فقدت.

في مظهره، وسم، جذاب ! طويل القامة، عريض المنكبين، ممتلىء الجسم و الوجه!
في أخلاقه، كريم.. لطيف..نبيل.. متفان، مقدام !
في عمله، مخلص، صادق.. أمين.. مجتهد، نشيط جدا!

في أول مرة التقينا، كان ذلك قبل عدة أشهر، حين دخل رجل غريب إلى المنزل و هو يستنجد!

عندما أتذكر ذلك اليوم ، و رغم المرارة التي كانت فيه، أضحك !

لقد خرجت من المنزل راكضة .. بملابسي المجردة !

حينما عرض علي الزواج ، فرحت كثيرا.. أمي و خالي كانا يمدحانه أمامي باستمرار، و أنا كنت ألحظ إعجابهما بخلقه و طبعه، و أعجبت به مثلهما ...

علاقتي بوليد كانت بالكاد قد بدأت تتطور، ألا أن تطوّرها أخذ منحى آخر حين حضرت رغد للعيش معنا...

و هذه الرغد فتاة غريبة الأطوار !

أول الأمر كانت غارقة في الحزن، ثم بدأت تتفتح للحياة، و الآن بفرض وجودها في ساحة وليد !

إنه يهتم بها كثيرا جدا، و يعاملها و كأنها ملكة ! تصدر الأوامر و هو ينفّذ .. حتى أنه يفكر جديا في شراء طقم غرفة النوم الباهظ الذي أشارت إليه اليوم .. !

و يريد تحويل إحدى غرف المنزل إلى غرفة خاصة بها، بعدما طلبت هي مؤخرا أن تنام في غرفة مستقلة !

أنها فتاة مدللة جدا، و وجودها أبعد وليد عني ، و جعله يصرف جل الاهتمام لها هي .. و يهملني ...

اليوم ذهبنا إلى الأسواق تنفيذا لرغبتها، حيث اختارت طقم غرفة النوم ذاك، و اشترت العديد من الأشياء .. بمبالغ كبيرة !

أنا أخشى أن أتحدّث معها أو مع وليد حول هذه النقطة، حتى لا أسبب مشكلة و يتهمني أحد بشيء، لكن...

نحن في وضع مالي متواضع ! و هي، كانت من عائلة ثرية معتادة على نيل ما تريد بسهولة...و لا أعلم، متى سيمكنها أن تدرك تماما أن والديها قد توفيا... و أنها لم تعد تتربى في عزّهما و دلالهما!

و رغم ما أنفقته رغد هذا اليوم، فأنا لم أتنازل عن رغبتي في شراء خاتمي الخطوبة و طقم الشبكة، فهي من حقّي، و قد وعدني وليد بالذهاب لأسواق المجوهرات و شرائها...





~ ~ ~ ~ ~ ~




العلاقة بين رغد و أروى تزداد اضطرابا مرة بعد أخرى، و هذا يقلقني كثيرا...

رغد، في أحيان ليست بالقليلة تتصرف بغرابة، لا أعرف وصفا دقيقا أذكره لكم، لكن.. إنها .. تتدلل كثيرا !

و لأنها معتادة على الدلال، و تنفيذ جميع رغباتها دون استثناء، و لأنني الشخص الوحيد المتبقي أمامها من العائلة، فإنها .. باختصار تتدلل علي !

نعم حينما كانت صغيرة كنت أعشق تدليلها و أقبل على ذلك بشغف، ألا أن الأمر تغيّر الآن..إنها لم تعد طفلة كما أنني... إنني...
ماذا أقول ؟؟
لست أباها، أو أخاها، أو زوجها أو حتى ابنها لأستطيع مجاراتها ببساطة في كل تصرفاتها... أنا حائر.. حائر جدا!

البارحة، و بعدما عدنا من السوق، و قد اشترت هي العديد من الأشياء، فوجئت بها قادمة نحوي، و قد تغيّر لون عينيها إلى الأزرق ! و إذا بها تسألني :

" كيف أبدو ؟ "

كنت أجلس و أروى في الصالة، نتحدّث عن الخاتمين اللذين تصر أروى على شرائهما، و أظن هذا من حقّها فهي تود وضع خاتم للخطوبة مثل أي فتاة !
اعتقد أن الفتيات يهتممن بأمور تبدو في نظر الرجال، أو لنقل في نظري أنا كواحد من معشر الرجال ... لا تغضبن ! سخيفة أحيانا !

نظرت ُ إلى أروى ثم إلى رغد مندهشا.. و كانت لا تزال تنتظر رأيي في لون عينيها الجديد ! شعرت بالحرج الشديد .. فقلت :

" هل صبغتيهما بالفرشاة ؟! "

قاصدا أن تبدو دعابة خفيفة تلطّف الجو، ألا أن رغد نظرت إلى أروى و قالت :

" و هل أنت ِ صبغتِ عينيك بالفرشاة ؟ "

قالت أروى :

" لا ، صبغهما الله لي هكذا ، لذا فهما تناسباني تماما "

الجملة أزعجت رغد ، فقالت بغيظ :

" تعنين أن لون عيني الآن لا يناسبني ؟ "

صمتت أروى، و نظرت إلي، تقصد تحويل السؤال إلي .. ، و لذا نظرت رغد نحوي و أنا أرى الغضب يتطاير من عينيها هاتين.. و لم أجد جوابا مناسبا ألا أنني لم أشأ إحراجها فقلت :

" و إن ناسباك ، فالأصل هو الأنسب دائما "

و إجابتي الغبية هذه لم تزد الطين إلا بللا !

قالت غاضبة :

" نعم الأصل هو الأنسب دائما، هذا ما يجب أن تدركه أنت ! "

و لم أفهم ما ترمي إليه ! ثم أضافت :

" لو كان سامر هنا، لصفّر إعجابا "

ثم استدارت و غادرت الصالة...

تضايقت أنا من هذا الموقف.. و التزمت الصمت مدّة ، ألا أن أروى قطعت الحديث قائلة :

" ألم أقل لك !؟ إنها تغار مني "

التفت إليها و قلت :

" لا ، ليس الأمر كذلك ! لكنك لا تعرفين كم كانت مدللة تفعل ما تشاء في بيت أبي... كان رحمه الله يدللها كثيرا "

قالت أروى :

" و ها أنت ورثته ! "

التفت إلى أروى، فأشاحت بوجهها عني.. و كأنها غاضبة مني ..

قلت :

" ما بك أروى ؟ ماذا يزعجك ؟ "

التفتت إلي و أجابت :

" ألست تدللها أنت أيضا ؟ "

قلت :

" أ لأنني سمحت لها بشراء كل ما أرادت ؟ تعلمين أن أغراضنا احترقت في بيتنا و هي بحاجة لأشياء عدّة ! "

" أشياء عدّة كالملابس الباهظة التي اشترتها و الحلي أيضا ؟؟ بربّك ما هي فاعلة بها و هي باقية في هذا البيت بالحجاب و العباءة ! "

سكتت قليلا و قالت :

" لم لا ترسلها إلى خطيبها لبعض الوقت ؟ أظنها في حنين إليه "

وقفت منزعجا و رميت أروى بنظرة ثاقبة ، جعلتها تعتذر

" لم أقصد شيئا يا وليد إنما ..."

قلت مقاطعا :

" يجب أن تعرفي يا أروى.. أن رغد هي جزء من مسؤولياتي أنا، الجزء الأكبر.. و متى ما شعرت بالضيق من وجودها فأعلميني، و في الحال سآخذها و نرحل "

ظهر الذهول على ملامح أروى ، فوقفت و قالت :

" وليد ! "

قلت :

" نعم ، نرحل سوية.. لأنه لا يوجد سبب في هذا العالم يجعلني أتخلى عن ابنة عمي ساعة واحدة، مهما كان "

و كان هذا بمثابة التحذير ...

قالت أروى :

" و .. حين نتزوّج ؟ "

صمت فترة ، ثم قلت :

" لن يكون زواجنا قبل زواجها هي ، بحال من الأحوال "

" و .. متى ستتزوج هي و أخوك ؟ "

قلت بسرعة و بغضب :

" ليس الآن، لا أعرف ، ربما بعد عام أو عشرة .. أو حتى مئة ، لكن ما أعرفه هو أنني لن أتزّوج قبلها مطلقا "

و تركت أورى، و انصرفت قاصدا رغد...
نعم رغد، فهي من يشغل تفكيري هذه الساعة، و كل ساعة..


كنت أعرف أنني سأراها باكية.. و هكذا رأيتها بالفعل.. و قد نزعت العدستين الزرقاوين، و تحول بياض عينيها إلى احمرار شديد...

" صغيرتي.. يكفي ! "

طالعتني بنظرة غاضبة ، و قالت :

" كنتما تسخران مني ، أليس كذلك ؟ "

" لا أبدا ! لا يا رغد ! "

قالت بانفعال :

" لو كان سامر هنا ، لقال قولا لطيفا و لو من باب المجاملة.. "

و ذكر اسم سامر يجعلني أتكهرب !

قلت بدون تفكير :

" أنت ِ رائعة إن بهما أو بدونهما يا رغد "

و ابتلعت لساني بسرعة !

رغد تأملت عيني، و ربّما سرّها ما قلت.. فمسحت الدمعتين الجاريتين على خديها ، و قالت :

" حقا ؟ هل بدوت رائعة ؟ "

اضطربت، حرت في أمري.. بم أجيب ..؟؟

يا رغد أنت تثيرين جنوني.. ماذا تتوقعين مني ؟ أنا.. و للأسف، و بكل أسف.. لست زوجك حتى يحل لي أعجب بك و أبدي إعجابي لك.. كيف لي أن أصرّح أمامك : أنت رائعة، و أنت لست ِ ملكي..؟ أنى لي أن أتأملك و أنت لست ِ زوجتي أنا ؟؟
يا رغد.. أنت لستِ امرأتي و أنا لا أستطيع تخطي الحدود التي يجب أن تبقى بيننا..
و إن لم أر روعتك، و لم أتأملها و لم أعلّق عليها، فلتعلمي بأنك في قلبي أروع مخلوقة أوجدها الله في حياتي.. مهما كان مظهرك ..

لا تزال تنظر إلي منتظرة الإجابة.. كطفلة صغيرة بحاجة إلى كلمة طيبة من أحد.. قلت :

" بالطبع ! أنت دائما رائعة منذ صغرك ! "

رغد ابتسمت، أظن بفرح.. ثم قامت و اتجهت إلى أحد الأكياس التي تحوي ما اشترته من السوق، و أخرجت بعض الأشياء لتريني إياها !

أرتني أحد الفساتين، و هي تقول :

" هذا سيدهشك ! انظر .. ما رأيك ؟؟ "

الفستان كان أنيقا، و في الواقع أنا لست خبيرا بمثل هذه الأمور ، لكني أظن أنه من النوع الذي يعجب النساء !

قالت :

" سيغدو أجمل حين أرتديه ! "

و قربته من جسمها و ذهبت لتشاهد ذلك أمام المرآة..

كانت تبدو سعيدة ..

قالت تخاطب المرآة :

" متأكدة سيبهر دانة حين تراه ! و ستشعر بالغيظ ! "

ثم اكفهر وجهها فجأة .. و شردت برهة ، و استدارت إلي .. و رمت بالفستان على السرير..

قلت :

" ما الأمر ؟ "

قالت :

" أريد أن أرتديه "

قلت :

" إذن افعلي ! "

قالت و بريق من الدموع لمع في عينيها :

" أرتديه لأبقى حبيسة في هذه الغرفة ؟ "

و صمتت قليلا ثم قالت :

" لو كان والداي حيين.. لكنا الآن هناك، في بيتنا.. أريهما أشيائي هذه، و أسمع تعليقاتهما.. "

" رغد .. "

" و لكنت ارتديت ما أشاء.. و تزيّنت كيفما أريد .. بكل حرية.. "

" رغد صغيرتي ... "

" و لكنت اشتريت ما يحلو لي دون حساب.. و لطلبت من والدي تجديد طقم غرفة نومي .. لم يكن ليتضايق من طلباتي.. فقد كان يحبني كثيرا.. و يدللني كثيرا.. و يحرص على مشاعري كثيرا.. أكثر من أي أب آخر في الدنيا .. "

و ارتمت فوق الفستان المرمي على السرير، و أخذت تبكي بحرقة...

تمزّق قلبي أنا .. خلية خلية..لهذا الموقف الأليم المرير.. و رغما عنّي تمخّضت مقلتي عن دمعة كبيرة...

اقتربت منها محاولا المواساة :

" أرجوك يا رغد.. كفى عزيزتي .. "

رغد استمرت في البكاء ، و لم تنظر إلي ، لكنها قالت وسط الآهات :

" لن يشعر أحد بما أشعر به.. حبيسة و مقيّدة في هذا المكان..
ليتهما يعودان للحياة.. و يعيداني معهما إلى البيت.. و أنا سأتخلى عن كل شيء فقط لأعيش معهما ! "

مسحت دمعتي ، و قلت بصوت ألطف و أحن :

" بالله عليك يا رغد.. يكفي فقد تفطّر قلبي "

رغد استدارت نحوي، و أخذت تنظر إلي مطولا..

ثم قالت :

" هل تحس بما أحسّه يا وليد ؟؟ أتعرف معنى أن تفقد والديك، و مرتين، و بيتك و عائلتك، و مدينتك و جامعتك، و تبقى مشردا عالة متطفلا على غرباء ؟ في مكان لا يوفر لك أبسط حقوقك ؟ أن ترتدي ما تشاء ! "

" رغد ! ماذا بيدي ؟ أخبريني ؟ ماذا أستطيع أن أفعل ؟ و حتى لو خرجنا من هذا المنزل و سكنا منزلا آخر... لا حل للمشلكة ! "

" بلى ! "

قالت رغد ذلك بسرعة ، فقلت أنا مسرعا :

" ما هو ؟ "

رغد الآن.. عقدت لسانها و هي تنظر إلي نظرات عميقة، كأنها تفكّر فيما تود قوله ثم قالت للقهر :

" أرسلني إلى بيت خالتي "

ذهلت لسماع هذه الجملة ، و ترنحت قليلا ، ثم سألت :

" إلى بيت خالتك ؟؟ كيف ؟ و زوج خالتك ؟ و حسام ؟؟ "

قالت :

" أتزوّجه "

هنا .. توقّف قلبي عن النبض، و توقفت عيناي عن الرؤية، و أذناي عن السمع، و كل حواسي عن العمل ، بل و الساعة عن الدوران...

لم أسترد شيئا من حواسي المفقدوة إلا بعد فترة، و أنا في المزرعة ..
و كان أول شيء استعدته هو الشم، إذ غزت رائحة السيجارة أنفي و أيقظت إحساسه عنوة ...

قلبتني جملتها هذه رأسا على عقب... و بعد أن كنت شديد الحزن و التعاطف معها، أصبحت أرغب في خنقها..

حسام ؟ نعم حسام.. إنه الحبيب السري الذي يعيش في قلب رغد منذ الطفولة.. ليس في قلبها فقط، بل و في صندوق أمانيها الذي لم أنسه يوما...

أهذا ما تريدين يا رغد ؟؟




لم تمض تلك الليلة بسلام.. ظل قلبي ينزف ..من الطعنة العميقة التي سددتها رغد إلى صدري...

لذا فإنني عاملتها بشيء من الجفاء في اليوم التالي، و حين هممنا أنا و أروى بالذهاب إلى السوق لشراء الخاتمين و العقد، و سألتني إذا كنا نسمح بذهابها ، أجبت :

" أروى تريد أن نشتريهما بمفردينا "

" و تتركاني وحدي ؟؟ "

" لا ، بل مع الخالة ليندا "

و لم أسمح لها بإطالة الحديث، بل انصرفت مباشرة...





~ ~ ~ ~ ~




و ليته أحضرها عوضا عن كل هذا !

فبدلا من تأمل المجوهرات، يتأمل الساعة بين الفينة و الأخرى.. و اتصل مرتين لسؤال أمي عنها !

بصراحة، وليد يبالغ في اهتمامه بها و أنا منزعجة من هذا الأمر.. و أتمنى لو يأتي خطيبها و يعتني بها لبعض الوقت، حتى نتنفّس !

تجوّلنا كثيرا، بحثا عن طقم يناسبنا.. و وليد لم يكن مركزا معي جيدا، بل كان يقول عن أي كل عقد أسأله عن رأيه به :

" جميل، دعينا نشتريه ! "

اخترنا في النهاية طقما جميلا مناسبا، بالإضافة إلى خاتمي الخطوبة .. و أراد وليد أن نعود للمزرعة لكنني ألححت علي بالذهاب إلى مطعم و تناول العشاء هناك..
إنها فرصة ذهبية بالنسبة لي، لا وجود لرغد معنا!

" فيم تفكّر ؟ "

سألته و أنا أراه شاردا، قال :

" أأ .. في المزرعة ، تعرفين أننا تركنا عمل اليوم غير منجز .. حالما أعود فسأنجزه "

قلت :

" أوه وليد ! أتفكّر بالعمل حتى و أنت معي هنا ؟ دع عنك المزرعة و شؤونها و لنتحدّث في أمور تخصّنا "

لم تظهر عليه أمارة مشجعة ، تضايقت من شروده عني ، قلت :

" وليد ! أنا معك ! هل تراني ؟ "

الآن ابتسم و قال :

" طبعا أروى ! أنا آسف..، فيم تودّين الحديث ؟ "

قلت ببعض الخجل :

" في أمور بيتننا و خطط مستقبلنا ! "

قال وليد :

" أخبرتك بأننا لن نتزوّج قبل رغد "

رميت بالملعقة التي كانت بين أصابعي ، أتناول بها طبق المهلبية الباردة .. و قلت بانفعال :

" رغد ثانية ! أوه .. رغد ، رغد ، رغد ! وليد ! هللا توقفت عن ذكرها أمامي كل ساعة ؟؟ "

قال وليد و هو مرتبك :

" أروى ! ما حلّ بك ؟؟ "

قلت :

" ما حلّ بك أنت ؟؟ ألا تشعر بأنك تهملني من أجلها ؟ إنني خطيبتك ! "

قال :

" أنا آسف يا أروى، لكنك .. لا تعلمين ما تعنيه رغد بالنسبة لي .. "

قلت :

" ماذا تعني ؟؟ "

وليد غيّر الجملة و قلب السؤال ، إلى ما يعنيه هو بالنسبة لها ، إذ قال :

" إنها فتاة يتيمة، و بلا بيت و لا عائلة و لا ولي غيري، إن أهملتك أنت، فباستطاعتك اللجوء إلى أمك أو خالك، أما إن قصّرت مع ابنة عمي اليتيمة الوحيدة ، فإلى من ستلجأ ؟؟ "

أنا قلت مباشرة :

" إلى خطيبها "

و لا أدري لم انزعج وليد فجأة و قال :

" لنغيّر الحديث، ماذا كنت تودين قوله بشأن المزرعة ؟؟ "

قلت :

" أي مزرعة ؟؟ "

" المزرعة ! ألم تتحدثي عن المزرعة و مستقبلنا فيها ؟ "

اشتططت غضبا و قلت :

" بل عن عش الزوجية و خططنا المستقبلية فيه "

احمرّ وجه وليد ، و تمتم بجمل الاعتذار...

لكن ، أي اعتذار يا وليد؟ إنني أشعر بأنك لا تشعر بوجودي ... و كأنني لست خطيبتك.. و كأننا لن نتزوّج ذات يوم !

عندما عدنا إلى المزرعة ، و لم أكن أنا سعيدة بالقدر الذي تمنيت، دخلت إلى المنزل مباشرة ، أما وليد فذهب لينجز أعمال اليوم التي اضطر لتركها من أجل مرافقتي...

في الصالة، وجدت رغد جالسة تقرأ أحد الكتب..

" تأخرتما "

" نعم، فقد ذهبنا إلى المطعم.. و تنزهنا لبعض الوقت "

و ظهر الاستياء على وجهها، و قالت :

" و هل اشتريتما الخاتمين ؟ "

" أجل "

" هل أستطيع رؤيتهما ؟ "

قلت بحنق :

" نعم طبعا ، لكن غدا ، بعدما نلبسهما أنا و وليد لبعضنا البعض "

قالت :

" و أين وليد ؟ "

" في المزرعة ، سيعمل لبعض الوقت "

و استأذنت و ذهبت إلى غرفتي...






~ ~ ~ ~ ~ ~ ~





تركتني في غيظي ، اشتعل نارا كجهنم.. أكاد أحرق أوراق المجلة التي بين يدي
و لكن لا
لن أفوّت هذا بسهولة ! و لسوف أفسد عليهما سهرة الغد و أحرمهما من الهناء بخاتميهما !

نزعت الخاتم الذي ظل بنصري الأيمن محبوسا به لأربع سنين...
لم أكن قد نزعته قبل الليلة، كما لم أكن قد أبلغت وليد عن انفصالي الشرعي عن سامر.. رغم أن فترة قد مضت على ذلك..

لم أكن أريده أن يشعرني بأنه مهتم بي فقط و فقط لأنه ليس لدي من يهتم بي غيره.. كنت أود أن أشعر.. بأنه يهتم بي و يحبني و يريد بقائي معه حتى لو كان والداي على قيد الحياة ، ليس فقط حتى مع وجود خطيب لي..


عندما سألني :

" ماذا بيدي ؟ ما حل المشكلة "

كدت أقول :

" تزوّجني ! "

و كم كنت سأبدو بلهاء غبية و أنا أعرض على ابن عمّي ، و المرتبط، و الذي نعيش في بيت خطيبته أن يتزوّجني !

أردت أن ألفت نظره إلى وجود حل اسمه الزواج ، فقلت :

" أتزوج حسام "

و انتظرت ردة فعله، انتظرت أن أرى مقدار اهتمامه بي .. و رغبته في بقائي معه..كم تمنيت لو يهتف :

" مستحيل ! "

إلا أنه التزم الصمت، ثم غادر...

أحيانا.. أشعر بأنه يهتم بي و يحبني كثيرا.. لكن.. مثل حبه لدانة.. و أنا أريده أن يحبّني مثلما أحبه أنا.. و أن يعجب بي أنا.. و ألا ينظر إلى عيني امرأة غيري أنا !
و إن كان يريد رؤية عيون زرقاء، أو خضراء، أو حتى صفراء.. فأنا سأغير لون عيني و شعري و وجهي و كل شيء لإرضاء ذوقه !

لقد قال إنني رائعة منذ الطفولة ! كم أشعر بالسعادة كلما تذكرت هذه الجملة ! إنها كنزي الثمين الذي أفتحه و أنعش مشاعري به كلما أصابني اليأس ..

وليد و أروى يخططان لقضاء سهرة خاصة بهما ليلة الغد، للبس الخاتمين.. و أنا .. أخطط لأن أمرض غدا، و أقلق وليد بشأني، و أصرف تفكيره عن السهرة الخاصة، و أحرم أروى مما تصبو نفسها إليه !

سترين يا أروى !






~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~





لأنني لا أحب تأجيل عمل اليوم إلى الغد، و لأنني سأضطر لاختصار ساعات العمل غدا أيضا، من أجل السهرة التي تريدها أروى احتفالا بوضع الخاتمين ، فإنني قررت أن أقضي ساعات في العمل بالمزرعة الآن...

كنت متعبا، فقد قمت بعدة أشياء منذ الصباح، و كان يوما حافلا بالمهام التي كان علي إنجازها.. عدا عن هذا ، فهناك فتاة صغيرة تلعب في دماغي منذ الأمس، و تسبب لي صداعا رهيبا !

انتصف الليل، و أنا لا أزال في المزرعة أبذل مجهودا بدنيا لا يتناسب و الظلام و التوقيت، ألا أنني لم أشأ المغادرة قبل إتمامه...

كنت سأنقل بعض الأشياء إلى السيارة الحوض، إلا أنني حين وجدتها على مبعدة ، تقاعست عن تحريكها، فآخر شيء أفكر به هو قيادة سيارة الآن، اذا قمت بحمل بعض تلك الأشياء بجهد إلى الحوض، و تركت البقية لأنقلها في اليوم التالي، فقد أرهقت كثيرا جدا...

كنت أتصبب عرقا، و أشعر بإعياء شديد، و بحاجة ماسة و فورية للاستحمام ، و النوم مباشرة...

عدت إلى المنزل منهك القوى شديد التعب، متوقعا أن يكون الجميع نيام في مثل هذا الوقت ، لذا دهشت حين رأيت رغد جالسة في الصالة تقرأ كتابا !

" ألم تنامي بعد ؟ "

رفعت رغد عينيها عن الكتاب ، و قالت :

" ليس بعد "

و كانت نظراتها حادة توحي برغبة منها في الشجار !

و هو شيء أفضل الغرق في المحيط عليه، خصوصا و أنا بهذا الحال و التعب !

" تصبحين على خير "

قلت ذلك، و توجهت نحو غرفة نومي، لأنفذ بجلدي، و لكنني ما كدت أخطو بضع خطوات حتى سمعتها تناديني :

" وليــــد "

يا رب !

لست بمزاج جيّد لتلقي أي لوم و عتاب على تركك وحدك كل هذه الساعات ! أجّلي كل هذا للغد يا رغد ! و أعدك بأنني سأتلقى هجومك بأوسع صدر !

التفت إلى الوراء ، و لم أجب ... لكن لسان حالي أجاب : نعم ؟

أغلقت الكتاب الذي بين يديها، و وقفت ..

إنه التأهّب للهجوم ! رغد أرجوك الرحمة ! هذه الليلة فقط !

" أنا جائعة "

هل سمعتم شيئا كالذي سمعت ؟؟ تقول جائعة !

" ماذا ؟ "

" أنا جائعة ! "

تلفت يمينا و شمالا.. أبحث عن شخص يؤكد لي ما سمعت !

" ألم تتناولي عشاءا ؟ "

" كلا "

" حسنا ، لم لا تذهبين للمطبخ و تحضّرين وجبة لك ؟؟ "

قالت :

" أشتهي البيتزا "

" البيتزا ؟ "

" نعم ! البيتزا "

قلت :

" و لكن تحضيرها سيستغرق وقتا ! لم َ لم تعدّيها قبل الآن ؟ "

" لا أعرف طريقة لتحضيرها، و لا أريد أن أعرف، كما و أنني شعرت بالجوع الآن فقط "

و بالتالي ماذا ؟؟

قلت :

" حسنا ، حضّري شيئا آخر .. "

" أريد بيتزا "

" رغد ! و هل تعتقدين أنني أستطيع تحضير بيتزا ؟؟ "

" تستطيع شراءها من المطعم "

نظرت إلى الساعة ، كانت الواحدة ليلا !

" مطعم ؟ الآن ؟؟ "

" نعم ، لابد أنه يوجد مطعم واحد على الأقل مفتوح الآن "

و هذا يعني أن علي ّ أنا الذهاب للبحث عن مطعم و جلب البيتزا ! آخر عمل أفكّر في القيام به على الإطلاق !

" حضّري لك أي وجبة من الطبخ ، الوقت متأخر و أنا متعب .. "

" لا أشتهي غير البيتزا ! "

" كلي أي شيء الآن ، و غدا آخذك إلى المطعم "

قالت :

" معكما أنت و أروى ؟ "

و رمقتني بنظرة حادة .. ثم أضافت :

" هل تقبل العروس ؟ "

تنهّدت ، و قلت خاتما الموضوع :

" أمامك المطبخ بما حوى ... تصبحين على خير "

و استدرت و تابعت طريقي، و لما بلغت الباب و فتحته سمعتها تقول :

" لو كان سامر هنا ، لما سمح بأن أنام و أنا جائعة ! و لكان لفّ العالم ليحضر لي ما أريد "

أفلتت أعصابي، صفعت الباب بقوّة و أنا أستدير إليها ، و أراها تجلس على المقعد و تحني رأسها إلى الأرض، و تبدأ بالبكاء...

سرت إليها و وقفت قربها و قلت بعصبية :

" حسنا.. أنا ذاهب لإحضار ما تريدين "

و سكت لأتنفس، ثم تابعت :

" لا تستفزّيني هكذا ثانية ! "

رفعت رأسها و نظرت إلي، ربما نظرة استغراب أو اعتذار ، لم أكد أميّزها لأنني سرعان ما استدرت و ذهبت نحو الباب، و ما أن فتحت الباب حتى وصلني صوتها و هي تقول:

" مع عيدان البطاطا المقلية... ! "

التفت إليها فوجدتها تبتسم ! نعم تبتسم !

أتعرفون أي نوع من الابتسامات ؟؟ تلك التي تنسي المرء أنه يتصبب عرقا و أن عضلاته مرهقة حد الشلل ، و مشاعره متهيجة حد الغليان !

يا لهذه الفتاة !


لم يكن العثور على مطعم مفتوح أمرا سهلا، لكنني اشتريت لصغيرتي المدللة هذه ما تريد، و خلال 40 دقيقة ، عدت إلى المنزل ...

كانت لا تزال جالسة على نفس المقعد ، و الكتاب في حضنها و يداها موضوعتين على صفحتيه ...

لم تنهض لدى دخولي...

قلت :

" وصل عشاؤك ! "

لم ترد... اقتربت منها ، فوجدت عينيها مغمضتين... و ببساطة كانت نائمة !

" رغد .. "

لم تجب، اقترب أكثر و همست :

" رغد هل نمت ِ ؟ "

و لم تستفق.

ماذا أفعل بهذه الفتاة ؟؟

في منتصف الكتاب المفتوح، لمحت شيئا يلمع.. اقتربت أكثر، إنه ليس إلا خاتم خطوبة رغد.. ! مددت يدي و أخذت الخاتم...و دققت النظر فيه.. محفور بباطنه الحرفان الأولان من اسمي رغد و سامر، مع تاريخ الخطوبة...

بقيت واقفا في مكاني أعبث بذلك الخاتم، و أتمنى أن امحيه من الوجود، و أمحي معه كل علاقة ربطت بين سامر و رغد.. حتى رابطة الدم !

في آخر مرّة زارنا فيها سامر.. في آخر لحظة قضاها معنا.. في المزرعة ، و آخر صورة التقطتها عيناي لهما هو و رغد، كانا في عناق حميم.. حلل كل خلايا الدم الجارية في عروقي.. و أصابني بأنيميا حادة فتّاكة...

لكني حتى هذه اللحظة، أجهل مصير هذه العلاقة و لا أجسر على التحدّث مع رغد بشأنها...

التفت الآن إلى رغد، نائمة بعمق و هدوء... و تعرفون كم تطيب لي مشاهدتها هكذا.. و تعرفون كم أعاني و أجاهد نفسي أقف عند الحدود فيما بيننا..

اقتربت منها أكثر، و همست :

" رغد.. قومي إلى غرفتك "

لكنها لم تتحرك، ناديت :

" رغد انهضي يا صغيرتي.. هل ستنامين هنا ؟؟ "

و مددت يدي و ربت بخفة على يدها ، رغد تحركت، و مالت بجدعها على المقعد حتى أسندت رأسها عليه و هي تقول :

" أوه أروى حلّي عني ، أكرهك ! "

و صمتت !

دهشت ! بم تحلم صغيرتي هذه اللحظة ؟؟ و لم تقول شيئا كهذا ؟ و ماذا يعني ذلك؟؟

" هذا أنا وليد، أنت تنامين في الصالة رغد، قومي إلى غرفتك "

ابتسمت رغد، و هي نائمة ، ثم قالت :

" بابا .. أحبك .. "

و غطت في سكون عميق !

ليتني أدخل حلمك و أرى... بما و من تحلمين !

نوما هنيئا...صغيرتي..


~ ~ ~ ~ ~


عندما نهضت، و على صوت منبه مزعج ، رأيت نفسي نائمة على المقعد في وضع غير مريح ! و على المنضدة الموضوعة أمام المقعد ، وجدت كيسا يبدو أنه لأحد المطاعم !
نهضت و نظرت من حولي فلم أر أحدا، لكنني كنت أسمع صوت المنبه القوي قادما من ناحية غرفة وليد !

مددت يدي نحو الكيس أولا و تفقّدت ما به

" إنها البيتزا ! "

و صوّبت نظري ناحية غرفة وليد، فوجدت الباب مفتوحا على مصراعيه ... و كان المنبه يرن باستمرار ... دون أن ينهض وليد...

قمت أنا و تسللت إلى الغرفة، و أوقفته، و ألقيت نظرة على وليد...

كان مستلق ٍ على السرير و أطرافه الأربعة موزعة على جميع الزوايا ! كان يبدو غارقا في النوم جدا !

و مع ذلك ما أن نطقت باسمه :

" وليد "

حتى فتح عينيه بسرعة، ثم نهض جالسا باندفاع !

هل صوتي مفزع لهذا الحد ؟؟ لقد كان المنبه يرن حد البحة!

وليد تلفت يمينا و شمالا ثم نظر إلي

" رغد ؟ ما بك ؟ "

إنه بالفعل فزع !

قلت :

" لا شيء ! إنه وقت الصلاة ! "


خرجت من غرفته، و ذهبت إلى غرفة أروى،التي لا أزال أشاركها فيها، حاملة معي كيس المطعم !

وجدت الباب موصدا من الداخل !

" أروى! تبا لك ! سأعتبره طردا ! "

بعد قليل، و قد خرج وليد مع العجوز كالعادة للصلاة للمسجد، حملت كيسي و البطانية ، و ذهبت إلى غرفة وليد و تابعت نومي على المقعد !

وجدتها فرصة ذهبية لتوسيع دائرة الخلاف بيننا، أنا و أروى.. قلت مخاطبة وليد بعد عدة ساعات :

" إنها لا تريدني في غرفتها، و لا في بيتها و لا مزرعتها، أخرجني من هذا المكان "

وليد كان متضايقا جدا، قال :

" لا يمكن أن تتعمّد أروى إيصاد الباب دونك! ربما أقفلته خطأ ً "

" طبعا ستقول هي أنه خطأ، لكني متأكدّة من أنه مقصود ، وليد لا أريد العيش في هذا المكان.. "

امتقع وجه وليد و كأبت ملامحه بشدّة... و فرك جبينه براحة يده ثم قال :

" إلى أين نذهب إذن ؟ "

قلت :

" دعنا نعود إلى شقة سامر "

لم ترق الفكرة لوليد، و قال :

" و عملي ؟ "

" فتّش عن عمل آخر، إنه عمل متعب و لا يستحق اهتمامك و مجهودك على أية حال "

وليد حزن من قولي هذا، كما ظهر جليا على وجهه، ألا أنه قال :

" سأحاول إيجاد حل آخر..."

و صمت قليلا ، ثم تابع و هو يضيق فتحة عينيه :

" ألا أنني لن أسمح لك بالزواج قبل الخامسة و العشرين ! "

ذهلت من كلامه، و من نظرته فحملقت به بفضول ، و سألت :

" و لم الخامسة و العشرين بالذات ؟ "

" هذا على الأقل، فأنت لا تزالين صغيرة ، و ستظلين صغيرة لبضع سنين ! "

بشكل تلقائي، رفعت يدك اليمنى مبرزة إصبعي البنصر، لأثبت بأنني مخطوبة يعني كبرة ! و للدهشة ، لم أجد الخاتم !

تبدّلت ملامحي ، و أخذت أقلب كفي ظهرا و بطنا و أفتش عن الخاتم في أصابعي العشرة ! لا ، بل العشرين !

وليد كان يراقبني، و رآني و أنا أضطرب، ثم أذهب نحو المقعد و أفتّش ما حوله..

أقبل وليد يسير ببطء ، حتى وقف خلفي مباشرة، و كنت أنا جالسة على الأرض محنية رأسي للأسفل ، أتحسس بيدي الأرضية تحت المقعد ...

يا إلهي أين اختفى !؟

" عمّ تبحثين ؟ "

رفعت نظري إلى الجبل الطويل الواقف خلف، فرأيت ميلا بسيطا لإحدى زاويتي فمه للأعلى، يعني ، شبه ابتسامة ماكرة !

قلت و أنا لا أزال في وضعي أنظر إليه كمن ينظر للسقف !

" هل رأيته ؟ "

" ما هو ؟؟ "

" محبسي ! "

" أي محبس ؟؟ "

" خاتم خطوبتي يا وليد ، تركته على الكتاب البارحة ! "
تغيّرت تعبيرات وليد و قال :

" هل يعني لك فقده شيئا مهما ؟؟ "

قلت مستغربة :

" طبعا ! إنه ليس مجرّد خاتم ! "

وليد عبس بعض الشيء، ثم مد يده في أحد جيوبه، و أخرج الخاتم... و وضعه على المنضدة ...

نهضت أنا و نظرت إلى الخاتم، ثم إلى وليد... و حرت في أمره...

ولى وليد مدبرا خارجا من المنزل ألا أنه حين بلغ الباب استدار و قال :

" لن تضعي شيئا كهذا في يدك اليسرى قبل مضي سنين ! مهما كان الطرف الآخر ! لن أسمح بذلك ..."


و انصرف !





~ ~ ~ ~ ~ ~





أخيرا حلّ الليل! كم أنا مسرورة و في قمة السعادة.. فالليلة سنرتدي أنا و وليد خاتمي الخطوبة أخيرا !

قضيت فترة طويلة على غير العادة أمام المرآة أتزيّن !
أعددت لسهرة جميلة و رومانسية مع خطيبي، في الغرفة الخارجية...
و الإعداد يشمل العشاء، و طبق التحية، و الشموع الحمراء، و فستاني الأزرق الداكن، و تسريحتي الجميلة، و خاتمي الخطوبة، و طقم الشبكة، و أيضا الكلام اللطيف الذي حضّرته لأقوله لوليد!

و هو أهم ما في السهرة، فإن في قلبي مشاعر أود التعبير عنها...
بصراحة حتى الآن لا أشعر بأنني كبقية الفتيات المخطوبات، لأن ظروف وليد لم تسمح لنا بالاستمتاع بأيام خطوبتنا كما ينبغي... كيف نهنأ و والداه توفيا قبل فترة تعتبر وجيزة...؟؟
و الآن بعدما استرد كيانه، و اجتاز الصدمة، حلّت رغد.. كعائق دون انفرادي بخطيبي!

و اليوم هي مستاءة منّي لأنني نسيت باب غرفتي مغلقا، بعد استبدال ملابسي، و أويت للنوم !

على كل ٍ استياؤها هذا جاء بفائدة ألا وهي بقاؤها بعيدة بعض الشيء !

فتح الباب أخيرا و دخل وليد.. خطيبي العزيز..

و انبهر بكل ما حوله، فقد صنعت جوا رومانسيا رائعا !

" جميل ! ذوقك جميل ! "

" شكرا وليد! تفضّل بالجلوس ! "

اتخذنا مجلسينا متقابلين تفصلنا مائدة العشاء المميز... و إلى جانبنا منضدة صغيرة وضعت عليها علبة الخاتمين و العقد...

تبادلنا أطراف الحديث، الهادىء اللطيف، و الابتسامات الناعمة ! و بمجرّد أن نلبس الخاتمين، سأقول له : ( أحبك يا وليد ! )

كم تتخيلون كان مقدار سعادتي؟؟

و ماذا تتصوّرون لون وجهي ؟؟

و هل لديكم فكرة عن سرعة دقّات قلبي ؟؟

ليتكم كنتم معنا...

تناول وليد علبة الخاتمين، و أمسك بخاتمي الذهبي، و هم ّ بإلباسي إياه...

إنها اللحظة الحاسمة التي كنت انتظرها ...

حينها، سمعنا طرقا سريعا على الباب جعلنا نفزع و ننهض واقفين بسرعة...

" وليد.. "

و انفتح الباب ، فإذا بها أمي تقبل مسرعة ...

" أمي .. ماذا حدث ؟؟ "

أمي كانت تنظر إلى وليد و هي مقبلة نحوه و مخاطبة له بقول :

" وليد.. أسرع .. رغد متعبة جدا ! "

وليد ، لم ينتظر حتى إلى أن تنهي أمي جملتها، رمى بالخاتم بسرعة فوقع في كأس العصير... و قفز خارجا من الغرفة يركض بقوة... كمتسابق في الماراثون...

لم تكن غير ثانية ، أو ربما عشر الثانية أو حتى جزء من مئة جزء منها ، إلا و اختفى وليد.. و تلاشى كل شيء...!

و خيّم سكون على الغرفة.. لا يعكّره إلا رنين الخاتم المصطدم بالكأس..
و ظلام لا يوتّره إلا لهيب الشمع المنصهر أمام عيني ...
و بقايا أمسية..انتهت قبل أن تبدأ..
و سعادة اختفت قبل أن تظهر..
و لسان خرس قبل أن ينطق...
( أحبك يا وليد ) ..
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
اللؤلؤة السوداء
القائد "V"
القائد
اللؤلؤة السوداء


عدد المساهمات : 186
النقاط : 10340
التقييم : 5
تاريخ التسجيل : 21/07/2011
العمر : 38

رواية انت لي - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: رواية انت لي   رواية انت لي - صفحة 2 Emptyالجمعة يوليو 29, 2011 6:22 am


الحلقةالثالثةوالثلاثون
**********


بعد الانتصار الذي حقّقته، ليلة أن أفسدت ُ على أروى سعادتها، شعرت بنشوة كبيرة!

كيف لا، و ليلتها.. بقى وليد قلبي معي في المستشفى ، يحيطني بالرعاية و العطف !

لقد زالت جميع الآلام المفتعلة التي أرغمت معدتي على التظاهر و الإحساس بها ، بمجرد أن رأيت وليد مقبلا نحوي بقلق !

و تحوّلت إلى رقص عندما رأيه أصابع يده خالية من أي محابس !

سألته بعد ذلك، و نحن في المستشفى، و أنا أنظر إلى يده اليمنى :

" أين خاتمك ؟ "

وليد فكّر قليلا ثم قال :

" في علبته ! "

شعرت بسعادة كدت معها أضحك بقوة ! لكنني منعت نفسي بصعوبة لئلا يكتشف وليد بأنني لا أشكو من أي شيء !
إلا من غيرتي من الدخيلة، و رغبتي في إبعادها عني نهائيا

أخفضت نظري لئلا يقرأ وليد ما بعيني من فرح و مكر .. و بقيت كذلك بضع ثوان، ، إلى أن سمعته يقول :

" و أنت ؟؟ "

رفعت نظري إليه ، في بلاهة ! ماذا يعني ؟؟

قال :

" أين خاتمك ؟ "

و من عينيه إلى يدي اليمنى مباشرة ! لم أرتده مذ خلعته تلك الليلة !

قال :

" لا تقولي أنك أضعته مجددا ! "

قلت مداعبة :

" هل وجدته ؟؟ "

وليد اندهش و قال مستغربا :

" أحقا أضعته ثانية ؟؟ أي فتاة أنت ِ ! "

قلت مباشرة :

" أنا رغد ! "

ابتسم و قال :

" حقا !؟ كدت ُ أنسى ! كنت ِ تضعين ألعابك و تأتين إلي طالبة مني البحث عنها ! "

ابتسمت ُ بخجل...

قال :

" لكنها كانت ألعاب .. أما هذا .. "

و بتر جملته...

و ظل ينظر إلي بصمت برهة.. ثم وجه عينيه نحو الجدار...

قلت :

" وليد .. "

بصوت خافت هامس، التفت إلي و أجاب :

" نعم ؟ "

" هل.. ستظل تعتني بي .. فيما لو بقيت ُ دون زواج عشر سنين أخرى ؟ "

استغرب وليد من سؤالي، ثم قال :

" و عشرين، و خمسين ، و مئة ! "

قلت بخجل :

" حقا وليد ؟ "

" طبعا صغيرتي ! إنك جزء مني ! "

كدت ُ أقول بسرعة :

" و أنت كلّي ! "

و لكنني خدّرت الجملة في لساني لئلا تصحو !

قلت و أنا أعبث بأصابعي :

" وليد ... "

و أتممت :

" تخلّصت ُ من الخاتم "

و نظرت إليه لأرى تعبيرات وجهه

بدا مستغربا حائرا

قلت موضّحة أكثر :

" سامر حل ّ رباطنا و لذلك .. خلعته "

هي تعبيرات غاية في الغموض ، تلك التي ارتسمت على وجه وليد لحظتها... ذهول مفاجأة ، صدمة، استياء... عدم تصديق، أو .. لا أدري.. لا أدري ما كان معناها...

بعد صمت الاستيعاب و التفكير ، قال :

" إذن .. إذن ... أنت و سامر ... "

أتممت ُ جملته :

" لم نعد مرتبطين ! "

وليد وقف فجأة ، و أخذ يحوم...في الغرفة ، يفكّر .. ثم استدار إلى فجأة و سألني :

" لماذا يا رغد ؟ "

تبادلنا نظرة عميقة، ثم أحنيت رأسي و أخفضت عيني نحو الأسفل.. خشية أن تصرخ الجملة من عيني : ( لأني أحبك أنت ! )

التزمت الصمت، و لم أرفع بصري إليه مجددا... فما كان منه إلا أن أقبل نحو الستارة ليغلقها

بعدما أغلقها حول سريري، قال جملة أخيرة :

" مهما كان السبب، و لأنك ِ تحت رعايتي الآن، فاحذفي فكرة الزواج من رأسك ِ نهائيا.. طوال السنين المقبلة "






~ ~ ~ ~ ~ ~




الآن، و أخيرا..أصبحت رغد حرّة !

اتصلت بسامر و علمت منه بالتفاصيل، و الجملتان اللتان ظلتا معلقتين في رأسي كانت أولاهما :

" لا داعي لأن تأتيا لزيارتي ، لا أريد أن أراها "

أما الثانية، فهي :

" تستطيع أن تتزوّج الآن ممن أرادت "

" من تعني ؟ "

" اسألها ! "


كل هذا أكد لي ، أن رغد بالفعل انفصلت عن سامر من أجل رجل آخر... و هذا الآخر لن يكون غير حسام، و أنا لن أكون وليد إن سمحت لها بالزواج من أي مخلوق على وجه الأرض.. فرغد من هذه اللحظة أصبحت لي ! نعم لي !
و مهما كانت العقبات، و مهما عاندت الظروف، فسوف لن أسمح لأي رجل بدخول حياتها و سرقتها مني مجددا.. و لن تكون في النهاية إلا لي أنا..

توالت الأيام، و رفع الحظر أخيرا عن المدينة الصناعية و صار بإمكان الناس التحرك منها و إليها دون خطورة .. و ما أن حدث ذلك ، حتى طالبتي رغد بأخذها إلى بيت خالتها و ألحّت علي بالطلب ، الأمر الذي جعل الشكوك في رأسي تكبر و تتفاقم و أصبحت مهووسا باسم حسام حتى صرت أراه في الكوابيس...
و بعد إلحاح شديد منها وافقت على اصطحابها لزيارة عائلة خالتها بمجرد انتهاء موسم الحصاد .






~ ~ ~ ~ ~




بعد أيام، سيأخذني وليد أخيرا لرؤية خالتي و نهلة و الجميع ... كم اشتقت إليهم ! كم من الشهور مضت مذ افترقنا في تلك الليلة الحمراء ...

كنت رغم ذلك على اتصال شبه يومي بنهلة أخبرها عن كل شيء يدور من حولي و داخلي ...

في أحد الأيام، كان وليد يعمل في المزرعة كالعادة، و كنت أراقبه و أرسم منظرا جميلا على مقربة منه، الشقراء كانت داخل المنزل مشغولة ببعض الأمور مع والدتها

فجأة ، إذا بي أرى أناس غرباء يدخلون المزرعة، و يعبرون الممر و يقتربون منّي !

كانوا أربعة رجال... تقدّم أحدهم نحوي أكثر و سأل :

" أأنت الآنسة أروى نديم ؟؟ "

قال آخر مقاطعا :

" أرأيت ؟ كما توقّعت ! إنها فتاة قاصر ! "

قال الرجل الأول و هو يقترب أكثر :

" أنت هي ؟ "

تراجعت أنا للوراء، و ألقيت بالفرشاة و علبة الألوان جانبا و هتفت :

" وليـــــد "

وليد كان يعمل بالجوار.. ، و حين سمع ندائي أقبل مسرعا .. فلما ظهر أمام عيني ركضت إليه في ذعر ...

" رغد .. ماذا هناك ؟ "

و نظر إلى الرجال الغرباء ...

ثم سألهم :

" من أنتم ؟؟ "

قال الرجل الذي تحدّث إلي :

" أنا المحامي يونس المنذر، و هؤلاء رجال قانون أتباعي ، أتينا بحثا عن الآنسة أروى نديم "

و نظر باتجاهي أنا

اختبأت أنا خلف وليد، و أطللت برأسي لأراهم !

قال المتحدّث :

" أهي هذه ؟ "

قال وليد :

" لا ، لكن هل لي أن أعرف ماذا تريدون منها ؟ "

قال المتحدّث :

" أهي هنا ؟ أ هذه مزرعة المرحوم نديم وجيه ؟ "

" نعم . فماذا تريدون منها ؟ "

" عفوا من تكون يا سيد ؟ "

" وليد شاكر، زوج أروى نديم "

تبادل الرجال جميعهم النظرات ، ثم قال المتحدّث :

" هل يمكننا التحدث إلى السيدة أروى ؟ فالأمر مهم "

قال وليد :

" هل لي أن أعرف .. الموضوع ؟؟ "

قال الرجل :

" الموضوع يتعلق بإرثها، و لكن لا أريد مناقشته دون حضورها شخصيا و مع البطاقة المدنية ، بعد إذنك "

وليد استدار ليتحدّث معي ...

" رغد، من فضلك، استدعي أروى، و اطلبي منها إحضار بطاقتها ، و احضري بطاقتي من محفظتي ، تجدينها في أول أدراج الخزانة في غرفتي "

أذعنت للأمر و ذهبت مسرعة نحو أروى ، و أخبرتها بالأمر، ثم أسرعت إلى غرفة وليد أفتّش عن محفظته

استخرجت المحفظة من أحد أدراج الخزانة، و أخرجت البطاقة منها و أثناء ذلك ، لمحت شيئا داخل المحفظة أثار فضولي !

مجموعة من قصاصات الورق مرصوصة خلف بعضها البعض و مدسوسة خلف البطاقة !

بفضول سحبت واحدة منها فاكتشفت أنها جزء ممزق من صورة فوتوغرافية ما !

استخرجت القصاصة الثانية ، و الثالثة ، و الجميع، حتى وجدت قطعة حاوية على وجه شخص !

رتبت القصاصات .. حتى اكتملت الصورة ، و صارت جليّة أمامي ...

صورة لفتاة صغيرة، تجلس على الأرض، و أمامها علبة ألوان و دفتر تلوين تلّون رسومه ... صورة لا يقل عمرها عن 13 عاما كما لا يزيد عمر الطفلة الظاهرة فيها عن 5 سنين !
إنها صورتي أنا !!


" رغد "

سمعت صوت أروى مقبل نحوي فأعدت القصاصات بسرعة كيفما اتفق، و أخذت البطاقة و خرجت مسرعة من الغرفة ...

" ها أنا "

خرجنا سوية من المنزل إلى المزرعة، فوجدنا وليد و الرجال الأربعة و قد جلسوا على المقاعد الموجودة حول طاولة موضوعة على مقربة من المنزل ...

حينما أقبلنا.. وقف الجميع .. و قال وليد مشيرا إلى أروى :

" هذه هي أروى نديم وجيه "

و بعد أن استوثق الرجال من البطاقة ، قال ذلك الرجل نفسه :

" إذن فأنت لست فتاة قاصر كما اعتقدنا "

قالت أروى :

" أنا في الرابعة و العشرين من العمر ! "

قال الرجل :

" هذا سيسهّل مهمّة استلامك للإرث "

أورى و وليد تبادلا نظرة التعجب ، ثم قالت :

" الإرث ؟ أي إرث ؟ والدي رحمه الله لم يترك لنا غير هذه المزرعة ! "

و أشارت بيدها إلى ما حولها ...

الرجل تحدّث قائلا :

" لا أتحدّث عن إرث والدك رحمه الله "

تعجبت أروى ، و سألت :

" من إذن ؟؟ "

قال الرجل :

" عمّك المرحوم عاطف وجيه "

حملقنا نحن الثلاثة في وجوه بعضنا البعض، في منتهى الدهشة و الاستغراب ، و إن كنت أنا أقلهم استغرابا !

قال وليد :

" عاطف وجيه ؟؟ أبو عمّار ! "

أجاب الرجل :

" نعم أبو عمّار ، رحمهما الله "

وليد و أروى نظرا إلى بعضهما .. ثم إلى الرجل الغريب ...

سألت أروى :

" عمّي عاطف ! عجبا ! لقد مات قبل عام ! هل ذكرني في وصيته !؟ "

الرجل قال :

" لم يترك المرحوم وصية، كما لم يترك وريثا ، لكنه ترك ثروة ! "

ازداد تحديق وليد و أروى في بعضهما البعض ، ثم سألت أروى :

" ثروة ؟ "

قال الرجل :

" نعم ، و لك منها نصيب كبير "

حلّ الصمت برهة ، ثم قالت أروى :

" ما يصل إلى كم تقريبا ؟ "

قال الرجل بصوت تعمّد أن يكون واضحا رنانا :

" ما يصل إلى الملايين يا سيدتي ! "

فغرت أروى ، و كذلك وليد و أنا.. كلنا فغرنا أفواهنا من الذهول ... و قالت أروى غير مصدّقة :

" ملا...يين ؟؟ تركها لي ..!! "

قال الرجل :

" نعم ملايين ! "

هزّت أروى رأسها غير مصدّقة... و هي تضع يدها على صدرها من الذهول ...

قال الرجل :

" يبدو أنك لم تكوني على علم ٍ يا سيّدتي.. بأن عمّك المرحوم عاطف وجيه كان مليونيرا فاحش الثراء ! "





~ ~ ~ ~ ~








لقد كانت مفاجأة هزّت كياننا جميعا ...

عاطف وجيه، هو والد عمّار القذر، الذي قتلته بيدي قبل تسع سنين ..

و عاطف هذا ، كان رجلا شديد الثراء و يملك العديد من الأملاك ... و من بينها مصنع كبير كان يضاهي معظم مصانع المدينة الساحلية، و هو مصنع لم تلمسه يد الحرب، كما فعلت بمصانع أخرى ، منها مصنع والدي السابق ...

حقيقة، كان حدثا مزلزلا شل ّ حركتنا و أفكارنا طوال عدّة أيام...

و الفتاة الفقيرة التي ارتبطت بها ، و التي قبلت بي على حالي و عللي ، و فتحت قلبها و بيتها و كل ما لديها من أجلي، و التي كنت أفكر بالانسحاب من حياتها من أجل رغد... أصبحت الآن..مالكة لثروة كبيرة !

يا للأيام ...

يا للزمن .. الذي يؤرجحنا و مصائرنا إيابا و ذهابا... علوا و هبوطا... مستقبلا و ماض ٍ !

كان يفترض عليها السفر إلى المدينة الساحلية من أجل إتمام الإجراءات اللازمة شخصيا.. و استلام نصيبها العظيم من تلك الثروة...

و كان علي أنا ترتيب الأمور من أجل هذه الرحلة، إلى المدينة الساحلية، مدينتي الأصلية، و التي لم أزرها منذ زمن..

" هل تصدّق يا وليد ؟؟ إنني لا أكاد أصدّق ! كأنه حلم ! آخر شيء كنت أتوقعه في الوجود على الإطلاق..هو أن أرث شيئا و من ثروة عمّي الذي لم أره في حياتي غير بضع مرّات عابرة ! "

قالت ذلك ، و هي بين التصديق و التكذيب.. تشع عيناها فرحا و ابتهاجا..

قلت :

" سبحان الله ! "

أروى، مدت يديها و أمسكت بيدي و قالت :

" شدّ على يدي ّ بقوّة يا وليد ! دعني أحس بالألم لأتأكّد من أنها حقيقة "

ابتسمت لها و قلت :

" إنها حقيقة مذهلة ! صدّقي يا أروى ! أصبحت ِ ثرية ! "

أروى نظرت إلي بسعادة، و اغرورقت عيناها بالدمع، ثم ارتمت في حضني ...

" ضمّني بقوّة يا وليد.. فأنا أريد أن أشعر بأنها الحقيقة..بأنني لا أحلم..بأنني في الواقع..وبأنك معي ! "

أحطتها بذراعي مشجعا ..و مؤكدا لها ما أعجز أنا نفسي عن تصديقه... و مكررا :

" سبحان الله...سبحان الله "

أغمضت عيني، و نحن متعانقان، و سبحت في بحر الذكرى البعيدة... استعرض شريط حياتي و المفاجآت التي اختزنها القدر لي ، و صدمني بها مرة تلو أخرى ...

قالت أروى :

" ماذا سنفعل الآن؟؟ "

" لا أعرف ! لازلنا في أول الطريق ! "

ابتعدت أروى عن صدري قليلا، و نظرت إلي مطولا، و ابتسمت و قالت :

" لا حاجة للقلق..ما دمت معي "

ابتسمت لها، فعادت و غمرت رأسها في صدري بارتياح...

أما أنا فأغمضت عيني في ألم...و مرارة ..في حيرة و ضياع.. ماذا سأفعل الآن؟؟ ماذا ينتظرني بعد ؟؟ ماذا تخبئين لي أيتها الأقدار ؟؟

و عندما فتحتهما..لمحت عينين حمراوين..ملأتهما الدموع..تنظران إلي بألم، مطلتين من فتحة الباب.. و ما أن رأيتهما ..حتى انسحبت صاحبتهما مبتعدة .. تاركة إياي في بحر من الضياع..

لم استطع البقاء مكاني لحظة بعد.. أبعدت أروى عني قليلا و قلت :

" دعيني أذهب لترتيب بعض الأمور.. من أجل السفر "

أروى ابتسمت و قالت :

" و أنا أيضا سأرتب بعض أموري... لا أدري كم سنغيب هناك ! "


و تركتها و تسللت نحو غرفة رغد..

طرقت الباب مرارا لكنها لم تجبني، و حين هممت بالانصراف رأيت مقبض الباب يتحرك أخيرا...

في الداخل، وجدت رغد غارقة في الدموع المريرة..فتصدّع فؤادي و طار عقلي خوفا عليها...

" ما بك صغيرتي؟؟ ماذا حصل ؟"

رمتني رغد بنظرة ثاقبة .. لم يكفها تمزيق أحشائي بل و صهرت الجدار الذي خلفي من حدّتها...

" رغد !؟ "

قالت :

" متى ستسافران ؟ "

قلت :

" خلال أيام معدودة "

قالت :

" هل يجب أن تذهب أنت ؟ "

استغربت سؤالها و أجبت :

" طبعا ! فأروى ستكون بحاجة إلي بالتأكيد ! "

قالت بنبرة حزينة :

" و أنا ؟ "

نظرت إليها بتعجّب ، و قلت :

" بالطبع ستكونين معنا ! "

رغد لم تعقّب، بل أحنت رأسها للأسفل بحزن...

اقتربت منها أكثر ، ثم قلت :

" رغد ! و هل تظنين أنني سأترك هنا و أذهب ؟؟ "

رغد رفعت رأسها و نظرت إلي نظرة جعلت قواي تخور فجأة ...

قلت بصوت ضعيف واهن :

" أرجوك يا رغد.. ماذا تقصدين ؟ أخبريني بلسانك فلغة العيون هذه ..ترسلني إلى الجنون "

قالت رغد :

" ستصبحان ثريين ! "

ثم أضافت :

" هنيئا لكما ! "

و غطت وجهها بيديها كلتيهما و بكت بكاء ً مؤلما...

" أرجوك يا رغد، لم كل هذا ؟؟ ماذا يجول برأسك الآن ؟؟ "

رغد قالت و هي على وضعها هذا :

" دعني وحدي "

لم أقبل، قلت مصرا :

" ما بك الآن ؟ أخبريني أرجوك ؟؟ "

أزاحت رغد يديها و رمقتني بنفس الناظرة ، و قالت :

" أريد الذهاب إلى خالتي ! هلا ّ أخذتني إلى هناك ؟ "



رتبنا الأمور للسفر برا ، أنا و رغد و أروى و الخالة ليندا ، فيما ظل العم إلياس في المزرعة، يهتم بأمورها بمساعدة الأشخاص الذين عيّنتهم أنا للعمل عندنا قبل مدّة.

خطة سفرنا كانت تقتضي منا التعريج على المدينة الصناعية أولا ، من أجل زيارة عائلة أم حسام، كما ترغب رغد و تلح، و من ثم الذهاب إلى المدينة الساحلية.

في السيارة، كانت أروى تجلس على المقعد المجاور لي، و كنا نتبادل الأحاديث معظم الوقت، بينما يخيم صمت غريب على المقعدين الخلفيين، رغد و الخالة !

الخالة سرعان ما غلبها النعاس فنامت، أما الصغيرة الحبيبة، فكلما ألقيت نظرة عبر المرآة إليها وجدتها تحدّق بي بحدّة ! و كلما حاولت إشراكها في الحديث معنا ردت ردا مقتضبا سريعا ، باترا !

المشوار إلى المدينة الصناعية المنكوبة لم يكن طويلا، لكن الشارع كان خاليا من أية سيارات، الأمر الذي يثير الوجل في قلوب عابريه !

عبرنا على نفس محطة الوقود التي بتنا عندها تلك الليلة.. و نحن مشردون في العراء !

المحطة كانت مهجورة، و البقالة مقفلة... المكان ساكن و هادىء ، لا يحركه شيء غير الريح الخفيفة تعبث بأشياء مرمية على الأرض ...

كم كان يومنا مأساويا...

خففت السرعة، و جعلت أراقب ما حولي و أستعرض شريط الذكريات... لقد نجونا بأعجوبة ! سبحان الله ...

" وليد .. "

كان هذا صوت رغد، تناديني بوجل.. و كأن الذكرى أثارت في قلبها الفزع... التفت إليها فوجدتها تكاد تلتصق بمقعدي ! و علامات التوتر و الخوف مستعمرة تقاسيم وجهها الدائري...

قلت مشجعا :

" نجونا.. بفضل الله .."

و سبحنا في بحر عميق من الهدوء الموحش ...

تابعنا طريقنا ، و الذكرى تجول في رأسينا... هنا مشينا حفاة.. هنا ركضنا... هنا وقفنا... هنا حملت رغد... هنا وقعت رغد ... هنا أصيبت رغد ! آه ..ما كان أفظع ذلك الجرح ! ...
و هنا ...
هنا ...
ماذا تتوقعون هنا ؟؟
إنها سيارتي !

" وليد ! "

نادتني رغد و هي ترى سيارتي القديمة واقفة إلى جانب الطريق ، مع سيارات أخرى في نفس المكان !

أوقفت السيارة ، و أخذت أتفرج على سيارتي القديمة هناك !

التفت إلى رغد فوجدتها تنظر إلي ...

يا للأيام ! بل يا للشهور ! أما زالت سيارتي القديمة واقفة في انتظار عودتي في مكانها !

فتحت الباب و هممت بالنزول ، ناو الذهاب و تفحصها عن كثب !

" إلى أين وليد ؟؟ "

سألني رغد ، قلت :

" سألقي نظرة ! "

و قبل أن أخرج كانت رغد قد فتحت بابها و سبقتني !

وقفت إلى جانبها ، و قلت :

" سأتفحصها عن قرب ! "

" سآتي معك "

و طبعا لا داعي لأن اعترض !

ذهبنا إلى السيارة و فتحت الأبواب الغير موصدة، و تفحصت ما بالداخل ...و رغد إلى جانبي..

" كما هي ! لم يتغير شيء ! أ رأيت يا رغد ؟؟ "

لم تعقّب ، بل ظلت تتفحصها بعينيها ، و ربما تستعيد الذكرى المرعبة ..

ركبت مقعدي الأمامي ، فأسرعت هي لركوب المقعد المجاور...و أغلقت الباب.



" كما هي ! رغد .. أتصدّقين ذلك ! سبحان الله ! "

رغد قالت :

" هيا بنا..ننطلق للخلف، و نعود من حيث أتينا تلك الليلة، و نعود بالزمان للوراء، و ننسى ما حصل انطلاقا من هذه النقطة ! "

ابتسمت و قلت :

" يا ليت ... "

و تنهّدت و أضفت :

" يا ليتنا بعدما وصلنا إلى هذه النقطة، رجعنا للوراء ، و رجع كل شيء كما كان... "

و أسندت رأسي إلى مسند المقعد.. و أغمضت عيني ...

لست أريد العودة للوراء بضعة أشهر، بل تسع سنين ، بل عشر... بل 15 ...
إلى ذلك اليوم الذي اقتحمت فيه مخلوقة صغيرة حياتي فجأة ! و ملأتها صراخا ، و بكاء ، و دموعا.. و ألما...

فتحت عيني و التفت إلى رغد، فوجدتها تنظر إلي بقلق..

إنها هي ذاتها... المخلوقة التي غزت عالمي منذ سنين .. ذاتها التي تجلس قربي الآن ، لا يفصلني عنها سوى بضع بوصات...

تنظر إلي نظرتها للعالم بأسره، و أمثّل بالنسبة لها كل الناس...

" رغد .. "

" نعم ؟ "

" كيف تشعرين الآن ؟؟ "

قالت :

" الآن الآن ؟"

" نعم الآن ! ؟ "

ابتسمت و قالت :

" بالسرور ! "

عجبا ! أمر هذه الصغيرة كله محيّر !


بعد ذلك، أغلقت أبواب السيارة، و ودعناها على أمل العودة لها ذات يوم، و تابعنا مشوارنا نحو المدينة...

ما إن أطللنا على مشارفها، حتى رأينا الدمار و الخراب يعشش على شوارعها و أجوائها...

اضطررت لسلك طرق ملتوية و معقّدة لأصل إلى قلبها...

المباني المتهدّمة ، الأشجار المحترقة، الشوارع المدمّرة، و الأشياء المبعثرة هنا و هناك ...

كلها ، مناظر تثير الرعب في قلب الصخر...

عبرنا أخيرا على الشارع المؤدي إلى منزلنا... و آه من ألم المنظر .. آه بعد ألف آه و آه...

بيتنا.. كتلة من الفحم الأسود... محاطة بطبقة من الرماد و الغبار...

تحوّل ذلك المنزل الصغير الهادئ، الحبيب .. إلى شبح ميت.. لا أثر فيه و لا معلم من معالم الحياة و الروح...

" يا إلهي ! "

قالت رغد ذلك ، و وضعت يدها على وجهها لتحاشي رؤية المنظر المؤلم...
و تخفي الدموع التي ساحت على الجانبين.. رثاء و عزاء ...

لم أستطع أن أمر من هنا مرور الكرام ، أوقفت سيارتي عند الباب ، المكان الذي اعتدت أن أوقف سيارتي فيه.. و نظرت من حولي ...

شعرت باختناق شديد في صدري، و كأن الغبار و الرماد قد سدّت حويصلاته ، و منعت جزيئات الهواء من الدخول...

مع ذلك، لم أتمالك منع نفسي من المضي قدما...

فتحت الباب، وقلت :

" سألقي نظرة"

و التفت إلى رغد.. كانت لا تزال تخفي وجهها خلف يديها...

قلت :

" رغد.. أتأتين ؟؟ "

أردتها أن تأتي معي.. شيء حي يتحرك معي في سكون ذلك الشبح الميت، أردت أن أشعر ببعض الحياة.. ببعض الأمان..بأن هناك من لا زال حيا معي .. رغم موت من مات.. و فناء من فني...

أروى قالت :

" سآتي معك ! "

رغد بسرعة أبعدت يديها عن وجهها و فتحت الباب !

خالتي الأخرى أيضا تبعتنا... و سرنا نحن الأربعة نحو الداخل...

الأبواب كانت مفتوحة، كما تركناها أنا و دانة ليلة هروبنا ...

سرنا ندوس على الرماد، و نتنفس الغبار.. و رائحة الخراب و الوحشة... تقرصنا الذكريات و تصفعنا المناظر المؤسفة، و تحني ظهورنا الحسرة على ما كان و ما لم يعد...

رغد أمسكت بيدي، و كلما سرنا خطوة شدت ضغطها علي.. و كلما رأت شيئا أغمضت عينيها بقوّة و عصرت الدموع المتجمعة في محجريها...

حتى إذا ما بلغنا الردهة المؤدية إلى غرفة والدي ّ ، حررت يدي من بين أصابعها، و هرولت نحو الباب و فتحته باندفاع...

" أمي... أبي ... "

حينها فقط، أدركت كم كنت مجنونا حين سمحت للفضول بالتغلب علي ... و وقفت عند المنزل...

اقتحمت رغد الغرفة و هي تهتف

" أمي .. أبي .. "

و انهارت على السرير ، تحضن الوسائد و تبكي بحرارة و مرارة .. بكاء عاليا صدّع الحجر ... و أدمع الجدران.. و زلزل الأرض...

" أنا أنتظركما ! لماذا لا تعودان ؟ أي حج هذا الذي لا يعود الحجيج فيه من بيت الله ! .. الله ! يا الله .. أنت ترى بيتي الآن ! أنت رب البيت و أنا لا بيت لي... و أنت رب الناس و أنا لا ناس لي ! أتاك جميع الآباء و الأمهات.. و أنا لا أب لي و لا أم ! يا رب.. لا أب لي و لا أم ! يتّمتني مرتين يا رب .. مرتين يا رب .. مرتين أفقد فيهما أعظم ما أعطيتني إياه .. بل أربع مرّات ! أمان و أبان ! أربع أيتام في بيت خرب محروق ! "

كيف احتمل أنا ..وليد .. كلاما كهذا من رغد ؟؟

انهرت باكيا معها بلا شعور... و أي شعور يبقى للمرء و هو يرى ما نراه...؟
حسبنا الله و نعم الوكيل ...

من وسادة إلى وسادة، و من زاوية إلى زاوية، و من شيء إلى شيء، أخذت صغيرتي تتنقل و هي تهتف

" أمي .. أبي "

تفتش حطام الخزائن، و تستخرج الخرق المحروقة المتبقية من ملابسهما و تحضنها و تقبّلها و تصرخ .. و قلبي يصرخ معها .. و تتمزق، و قلبي يتمزّق معها .. و تنهار و قلبي ينهار معها أيما انهيار...

" يكفي رغد.. بالله عليك، دعينا نرحل "

أبت رغد الحراك، بل زاد تشبثها حتى ببقايا الستائر.. و شباك النوافذ..

أروى و الخالة بكتا لبكاء رغد، و وقفتا في الخارج في حزن و أسف على ما حلّ ببيتنا.. و بوالدينا..

رغد ، أقبلت فجأة نحو الأدراج الموجودة أسفل المرآة.. و أخذت تفتح الواحدا تلو الآخر... و تستخرج أشياء أمي ، ما تبقى منها و تضم ما تضم، و تقبّل ما تقبّل ، و تضع في حقيبتها ما تضع..

" هنا كانت أمي تجلس كل يوم تسرّح شعرها ! "
" وليد انظر ! هذا سوار أمي المفضل ! "
" وليد هل تعتقد أنها قد تغضب إن احتفظت به !؟"
" أريد أن آخذ هذا معي !، و هذا .. و هذا و هذا و هذا ! "
" وليد ..لا أريد أن أخرج من هنا ! ليتني كنت هنا و احترقت قبل رحيلهما "

و مرة أخرى أسمعها تدعو على نفسها بالموت.. هتفت متوسلا :

" يكفي يا رغد ، هيا نغادر المكان أرجوك فلم أعد أحتمل المزيد "

اقتربت منها و أمسكت بذراعها و أرغمتها على الخروج من الغرفة، رغم مقاومتها..

كانت رغد تبكي بكاءا شديدا ، و استمرّت في نوبتها هذه و نحن واقفان عند الباب، لا توافق على التزحزح عنه خطوة بعد...

" رغد .. صغيرتي ... "

ناديتها بأتعس صوت صدر من حنجرتي الكئيبة...على الإطلاق..

نظرت إلي و قالت بأسى :

" من بقي لي بعدهما؟ من بقي لي ؟ "

قلت :

" أنا يا رغد .. لك و معك دائما..أنا يا رغد.. أنا ... "

رغد نظرت إلي نظرة حزينة قاتلة، و فكها الأسفل يرتجف من البكاء.. و الدموع تقطر منه ...

" رغد ... "

" وليد ... ضمّني "

وقفت كالأبله ، لا أفهم و لا أفكر و لا أتصرف !

قالت و فكها لا يزال ترتجف :

" ضمّني .. ألست أبي و أمي الآن ؟ ألست من بقي لي ؟ "



لحظتها.. تمنيت لو أتحوّل إلى جدار ، يكون أكثر نفعا مني .. كأي جدار عانقته و تشبثت به.. كأي جدار ربما، و مع كونه جمادا لا روح فيه و لا حياة، أشعرها بالدفء و العطف و الأمان... أما أنا.. و أنا واقف أمامها كالشبح الميت، الغير مجدي .. فلم يكن مني إلا أن أحنيت رأسي للأمام في عجز عن فعل شيء أكثر أهمية و حرارة و نفعا من الجدران ...

لن أسامح نفسي ما حييت، على خذلاني لصغيرتي في لحظة كهذه...

بعد ذلك ، و رغم أنني كنت مصرا على المغادرة فورا، إلا أن رغد كانت مصرّة على دخول غرفتها و تفقّد أشيائها...

السرير كان محروقا، و لا زلت أشكر الله ألف مرة لأن رغد ليلتها كانت نائمة في بيت خالتها..
ألف حمد لك يا رب..

الأثاث، في موضعه السابق، لكنه مكتس باللون الأسود المتفحم.. و مغطى بذرات الرماد و فتات المحروقات...

لم أشأ دخول الغرفة، وقفت عن الباب أراقب رغد و هي تتحسس أشياءها المحروقة... حتى إذا ما انتهت إلى مجموعة لوحاتها الكبيرة ، جعلت تتفقدها بسرعة و وله ، و تهتف بألم :

" لا ، لا .. لا ... "

ثم نظرت إلي و قالت بين دموعها :

" وليد .. لقد احترقت َ ! "

و أخذت تحضن الرماد... و البقايا... أخيرا قررت الدخول، و حين صرت قربها مباشرة قالت و هي تنثر الرماد من حولها :

" أنظر.. لقد احترقت حتى الصورة ! لماذا ؟ يا إلهي ماذا تبقى لي ؟ ماذا تبقى لي ؟؟ "


" دعونا نغادر المكان و نختصر الألم أرجوكما "

كان ذلك صوت أروى التي كانت واقفة عند الباب.. قالت رغد

" ارحلوا و اتركوني.. أريد الموت هنا.. آه يا رب.. لماذا عشت أنا و ماتا هما ؟ حتى الصورة احترقت ! ماذا تبقى لي ؟؟ "

أروى تقدمت نحونا و أمسكت بيد رغد محاولة مواساتها و تشجيعها، إلا أن رغد نهرتها بقوة، و رمتها ببعض الكلمات الجارحة، ربما من شدة حزنها ...

و لم تسمح لنا رغد بمغادرة المنزل حتى تفقدته غرفة غرفة و ممرا ممرا و زاوية زاوية...
حتى المطبخ جلست فيه فترة طويلة تستعيد الذكرى و تقلّب المواجع ، و تكرر

" هنا كانت أمي تطهو الطعام ، و هنا كان أبي يدوّن ملاحظاته في المفكرة ! ، و هناك كانت دانة تزين كعكاتها بالشيكولا ! ... و سامر يقف هناك، يتحدّث عبر الهاتف، و عند هذه الطاولة كنت أنا أجلس لأقشر البطاطا !
ليت ذلك يعود...
و لو يوما واحدا فقط..
أعيش فيه وسط عائلتي .. بين أمي و أبي، و أختي و أخي.. يوما واحدا فقط.. عسى أن يكون آخر أيام حياتي... "

بل إن هذا سيكون آخر أيام حياتي أنا، ما لم تتوقفي عن ذلك يا رغد ... ارحميني...

حملت رغد معها تذكارا من كل مكان و عن كل شخص.. حتى سامر...كما أخذت حليها و حلي دانة، بل و ما بقي من فستان زفافها المحروق أيضا !

" سأعطيه لأختي حين تعود ! كانت مهووسة به .. و تعتبره كنزها الثمين ! مسكينة يا دانة ! "


خرجنا من ذلك الحطام الكئيب بعدما أغرقناه بالدموع و ملأناه بالألم... إن كنت، الشخص الذي لم يعش في هذا المنزل فترة طويلة، و لم يحمل معه سوى القليل من الذكريات، و أنا أكاد أنصهر من حرارة ما بداخلي، فكيف برغد ...؟؟

ابتعدنا عنه و قلوبنا معلقة عنده، و أنظارنا متشبثة به حتى اللحظة الأخيرة...و أخذنا معنا ما غلا مما نجا، و ما نجا مما غلا

لم تتوقف سيل الدموع حتى بعدما وصلنا إلى منزل أبي حسام، و كان الآخر محترقا ، إلا انه أحسن حالا من بيتنا المدمّر...

حين قرعنا الباب، فُتح و ظهر من خلفه أفراد العائلة أجمعون، و الذين كانوا في انتظارنا منذ ساعات...

ما إن رأت رغد خالتها حتى صرخت.. و انهارت في حضنها بحرارة ...

اللقاء كان من أقسى اللقاءات التي مررت بها في حياتي.. لا يضاهيه أي لقاء، عدا لقائي بأهلي بعد خروجي من السجن، مع فارق ضخم، هو أنه لا أهل أمامي لأعود إليهم و أعانقهم و أبكي فوق صدورهم...

استهلكنا كمية كبيرة من الدموع حتى أوشكنا على الجفاف، صعدت رغد بعد ذلك مع ابنة خالتها إلى الطابق العلوي، و ذهبت النساء إلى غرفة أخرى، و بقينا نحن الرجال في غرفة المعيشة نقلّب الأحزان و نتجرّع الآهات و نتبادل التعازي...

حينما حل الظلام، أردت أخذ عائلتي إلى فندق لقضاء الليلة قبل متابعة السير غدا، مع أنني لست واثقا من العثور على مكان مناسب، و طلبت من حسام استدعاء الثلاث...

ذهب حسام و عاد بعد قليل مع أمه و أروى و أمها ، فسألت عن رغد ، فأخبرتني أم حسام أنها أرسلت ابنتها الصغرى لاستدعائها...

لحظات و إذا بالفتاة الصغيرة ( سارة ) تأتي نحونا و تقول :

" تقول رغد إنها ستبقى معنا و لن ترحل مع وليد و خطيبته الشقراء الدخيلة و أمها ! "

تبادلنا جميعا النظرات المتعجبة، و حملقنا في الفتاة الصغيرة ... ثم سألتها أمها :

" سارة ! هل هذا ما قالته ؟؟ و هل طلبت منك نقل هذا إلينا ؟؟ "

و هنا أقبلت الآنسة نهلة، و نظرت إلى أختها بغضب، ثم إلينا أنا و أروى و قالت :

" رغد ستبات معي الليلة "

شعرت بالضيق الشديد من ذلك، فقلت :

" أين هي ؟ أود ا لتحدّث معها فهلا ّ استدعيتها ؟ "

قالت :

" إنها لا تريد الخروج الآن... "

ضقت أكثر و قلت :

" أرجوك آنستي، هلا استدعيتها "

و ما كدت أنهي الجملة حتى طارت الصغيرة سارة لاستدعائها !

ثوان و إذا بها تعود قائلة :

" لن تذهب معك ! ارحل و اتركها و شأنها "

هتفت الآنسة نهلة :

" سارة ! تبا لك ! لا تتدخلي أنت و ابقي في مكانك "

قلت :

" هل أخبرتها بأنني أريد التحدّث معها ؟؟ "

موجها الخطاب إلى الفتاة الصغيرة، فابتسمت الأخيرة و قالت :

" نعم ! و قالت إنها لا تريد التحدث معك، و إن علي إخبارك بأنها لن تذهب معكم فارحلوا ! "

أم حسام ذهبت الآن إلى غرفة ابنتها و عادت بعد قليل قائلة :

" دعها تنام هنا الليلة ، إنها في حالة سيئة "

و عبارة ( حالة سيئة ) أزعجتني و أقلقتني أكثر...

" أرجوك يا سيدتي ، استدعيها لأتحدّث معها الآن "


و ما إن أنهيت جملتي هذه حتى رأيت رغد تظهر أمامي، ثم تقول :

" سأبقى هنا في بيت خالتي ! لن أرحل معكم "

اجتاحني الهلع، فقلت :

" تعنين الليلة ؟ "

قالت :

" بل كل ليلة ، سوف أعيش هنا بقية عمري "

نظرت إليها، و إلى جميع من حولي في عدم تصديق .. ثم سألتها :

" ماذا تعنين يا رغد ؟ لا يمكنك ذلك ! "

قالت بصوت متحد ٍ :

" بلى ، يمكنني "

" رغد ! مستحيل ! "

قالت بتحد أكبر :

" بلى يا وليد، سأبقى أنا مع عائلتي الحقيقية، و ارحل أنت مع عائلتك الجديدة.. و في أمان الله "

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
اللؤلؤة السوداء
القائد "V"
القائد
اللؤلؤة السوداء


عدد المساهمات : 186
النقاط : 10340
التقييم : 5
تاريخ التسجيل : 21/07/2011
العمر : 38

رواية انت لي - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: رواية انت لي   رواية انت لي - صفحة 2 Emptyالجمعة يوليو 29, 2011 6:26 am


الحلقةالرابعةوالثلاثون
*********






لأنني كنت أريد أن أبتعد عنه، و عن أروى التي تقترب منه أكثر يوما بعد يوم، و لأنني أصبحت بإحباط شديد بعد نزول الثروة المفاجئة على أروى، و تعلّقها أكثر و أكثر بوليد، رفضت متابعة سفري معه...

لم أعد أحتمل المزيد، إن الذي ينبض بداخلي هو قلب و ليس محرك سيارات! لا أحتمل رؤية أروى معه، أختنق كلما أبصرتها عيني، أريدها أن تتحول إلى خربشة مرسومة بقلم الرصاص، حتى أمحوها من الوجود تماما بممحاة فتّاكة!

وليد ، و أروى و أمها، و أفراد عائلة خالتي ، كانوا جميعا يقفون ناظرين إلي، و أنا أكرر :

" سأبقى هنا بقية عمري "

وليد وقف أولا صامتا، ذلك الصمت الذي يستلزمه استيعاب الأمور، ثم قال :

" مستحيل ! "

نشبت مشادة فيما بيننا، وتدخلت خالتي، و حسام و نهلة، واقفين إلى صفي، يطلبون من وليد تركي معهم..إلا أن وليد قال بغضب :

" هيا يا رغد فأنا متعب ما يكفي و أريد أن أرتاح "

بدأت العبرات تتناثر من مقلتي على مرأى من الجميع، و رقت قلوب أقاربي لي، و ساورتهم الشكوك بأنني غير مرتاحة مع ، أو لا ألقى معاملة حسنة من قبل وليد !

قالت خالتي :

" دعها تبات عندنا الليلة على الأقل، و غدا نناقش الأمر "

قال وليد :

" رجاء ً يا خالتي أم حسام، إنه أمر مفروغ منه "

قالت خالتي :

" و لكنها تريد البقاء هنا ! هل ستأخذها قهرا ؟ "

قال وليد :

" نعم إذا لزم الأمر "

و هي جملة رنت في الأجواء و أخرست الجميع، و أقلقتهم !

حتى أنا، ( ابتلعت ) دموعي و حملقت فيه بدهشة منها !

يأخذني معه رغما عني ؟ يمسك بي قهرا و يشدني بالقوة، أو يحملني على ذراعيه عنوة، و يحبسني في السيارة !

تبدو فكرة مضحكة ! و مثيرة أيضا !
و لكن يا لسخافتي ! كيف تتسلل فكرة غبية كهذه إلى رأسي في لحظة كهذه !

حسام قال منفعلا :

" ماذا تعني ؟؟كيف تجرؤ !؟ "

رمقه وليد بنظرة غاضبة و قال بحدة :

" لا تتدخّل أنت "

قال حسام مستاء :

" كيف لا ؟ أ نسيت أنها ابنة خالتي ؟ نحن أولى برعايتها منك فأمي لا تزال حية أطال الله في عمرها "

تدخّل أبو حسام قائلا :

" ليس هذا وقت التحدّث بهذا الشأن "

التفت إليه حسام و قال :

" بلى يا والدي، كان يجب أن تحضر إلى هنا منذ شهور ، لولا الحظر الذي أعاق تحركنا "

وليد تحدّث بنفاذ صبر قائلا :

" هل تعتقد أنني سأقبل بهذا ؟ "

حسام قال حانقا :

" ليست مسألة تقبل أم لا تقبل ! هذا ما يجب أن يحدث شئت أم أبيت، كما و أنها رغبة رغد "

و التفت إلي، طالبا التأييد، كما التفت إلي وليد و الجميع !
قلت بتحد:

" نعم، أريد العيش هنا مع خالتي "

وجه وليد تحوّل إلى كتلة من النار... الأوداج التي تجانب عنقه و جبينه انتفخت لحد يخيل للمرء إنها على وشك الانفجار !
عيناه تقذفان حمما بركانية حامية !
رباه !
كم هو مرعب ! يكاد شعر رأسي يخترق حجابي و يشع من رأسي كالشمس السوداء !

قال :

" و أنا، لن أبتعد عن هذا المكان خطوة واحدة إلا و أنت معي "

في لحظة حاسمة مرعبة هذه، يتسلل تعليق غبي من ابنة خالتي الصغرى، حين تقول :

" إذن .. نم معنا ! "

جميعنا نظرنا إلى سارة نظرة مستهجنة، تلتها نظرة تفكير، تلتها نظرة استحسان !
قال خالتي :

" تبدو فكرة جيّدة ! لم لا تقضون هذه الليلة معنا ؟ "

وليد اعترض مباشرة، و كذلك أروى ... و بعد نقاش قصير، نظر إلي وليد و قال :

" لهذه الليلة فقط "

معلنا بذلك موافقته على المبيت في بيت خالتي، و إصراره على عدم الخروج من الباب إلا و أنا معه !

يا لهذا الوليد ! من يظن نفسه ؟؟ أبي ؟ أمي ؟ خطيبي ؟؟
لو كان كذلك، ما تركني تائهة وسط دموعي في بيتنا المحروق، بحاجة لحضن يضمني و يد تربّت على كتفي، و وقف كالجبل الجليدي، يتفرّج علي ...

أخرجت لنهلة كل ما كبته في صدري طوال تلك الشهور...حتى أثقلت صدرها و رأسها، و نامت و تركتني أخاطب نفسي!

كذلك نام الجميع، و مضى الوقت... و أنا في عجز كلي عن النوم، و وليد يلعب فوق جفني ّ ، لذا نهضت عن السرير، و ذهبت إلى الطابق السفلي، بحثا عن وليد !
كنت أدرك أنني لن أتمكن من النوم و لن يهدأ لي بال حتى أراه...

لمحته جالسا في نفس المكان الذي كان يجلس فيه أثناء ( شجارنا ) و كان يبدو غارقا في التفكير العميق...

انسحبت بحذر، إذ إنني لم أكن أريد الظهور أمامه.. فظهوري سيفتح باب للمشادة !
لكني، بعدما رأيته، أستطيع أن أنام قريرة العين !
( نوما هنيئا..يا وليد قلبي ! )
جملة أكررها كل ليلة قبيل نومي , مخاطبة بها صورة وليد المحفورة في جفنيّ...
و التي أعجز عن محوها و لو اقتلعت جفني من جذورهما...





~ ~ ~ ~





وافقت كارها على قضاء الليلة في بيت أبي حسام، و لم أنم غير ساعتين، لأن أفكاري كانت تعبث بدماغي طوال الوقت.

ماذا إن قررت صغيرتي البقاء هنا ؟
أتعتقد هي أنني سأسمح بهذا ؟؟
مطلقا يا رغد مطلقا .. و إن كان آخر عمل في حياتي، فأنا لن أدعك تبتعدين عني...
ما كدت أصدّق، أنك ِ تحررت ِ من أخي... الطيور.. يجب أن تعود إلى أعشاشها...
مهما ابتعدت، و مهما حلّقت...
مهما حدث و مهما يحدث يا رغد.. أنت ِ فتاتي أنا...

تناولنا فطورنا في وقت متأخر، الرجال في مكان و النساء في مكان آخر... و حين فرغنا منه، طلبت أم حسام أن تتحدّث معي حديثا مطوّلا، فجلسنا أنا و هي، و ابنتها الصغيرة في غرفة المجلس... و كنت أعلم مسبقا عن أي شيء سيدور الحديث !

" وليد يا بني.. إن ما مرّت به رغد لهي تجربة عنيفة، احترق بيتها، و تشردت ، ثم مات والداها، ثم انفصلت عن خطيبها، و عاشت في مكان غريب مع أناس غرباء ! هذا كثير على فتاة صغيرة يا بني ! "

التزمت الصمت في انتظار التتمة

" إنه لمن الخطأ جعلها تستمر في العيش هناك، إنها بحاجة إلى رعاية (أمومية و أبوية).. لذلك يجب أن تبقى معنا "

هزت رأسي اعتراضا مباشرة... فقالت أم حسام :

" لم لا ؟ "

" لا يمكنني تركها هنا "

" و لكن لماذا ؟ إنه المكان الطبيعي الذي يجب أن تكون فيه بعدما فقدت والديك، مع خالتها و عائلة خالتها، التي تربت بينهم منذ طفولتها"

قلت مستنكرا :

" لا يمكن ذلك يا أم حسام، الموضوع منته "

استاءت أم حسام و قالت :

" لماذا ؟ أترى تصرّفك حكيما ؟؟ تعيش معك أنت، ابن عمّها الغريب، و زوجته و أمها الأجنبيتين، و تترك خالتها و ابنتي خالتها !؟ "

وقفت من شدة الانزعاج من كلامها ... كيف تصفني بالغريب ؟؟

" أنا ابن عمّها و لست بالرجل الغريب "

" و ابن عمّها ماذا يعني ؟ لو كان سامر لكان الأمر مختلفا .. بل إنه حتى مع سامر لا يمكنها العيش بعدما انفصلا . أنت لست محرما لها يا وليد "

استفزّتني الجملة، فقلت بغضب:

" و لا حسام و لا أباه ! "

أم حسام ابتسمت ابتسامة خفيفة و هي تقول :

" لكنني هنا ! "

" و إن ْ ؟ ... أروى و أمها أيضا هناك "

" لا مجال للمقارنة ! إنهما شخصان غريبان ، و أنا خالة رغد ، يعني أمها "

قلت بنفاذ صبر :

" لكنك لست ( المحرم ) هنا ! لن يغيّر وجودك و ابنتيك شيئا ! "

أم حسا صمتت برهة ثم قالت :

" إن كانت المشكلة في ذلك، فحلّها موجود، و إن كان سابقا لأوانه "

الجملة دقّت نواقيس الخطر في رأسي، فقلت بحذر و بطء :

" ماذا ... تقصدين ؟ "

أم حسام قالت :

" كان يحلم بالزواج منها منذ سنين، فإن هي وافقت على ذلك، أصبح حسام و رغد زوجين يعيشان معا في بيت واحد ! "

كنت أتوقع أن تقول ذلك ، و أخشاه.. اضطربت و تبدّلت تعبيرات وجهي ، و استدرت فورا مغادرا الغرفة

حين بلغت الباب سمعتها تناديني :

" وليد ! إلى أين ! ؟ "

استدرت إليها و النار مشتعلة من عيني و صدري، لم أكن أريد أن أفقد أعصابي لحظتها و أمام أم حسام.. لكنني صرخت :

" سآخذها و نغادر فورا "

و تابعت طريقي دون الاستجابة إلى نداءاتها من خلفي

و من أمامي، رأيت حسام، واقفا على مقربة، ينتظر نتاج اللقاء الودي بيني و بين أمه

لما رآني في حال يوحي للناظر بشدة انفعالي، و رأى أمه مقبلة من بعدي تناديني ، سأل بقلق :

" ماذا حصل ؟ "

لم يجب أينا، الجواب الذي كان بحوزتي لحظتها هي لكمة عنيفة توشك على الانطلاق من يدي رغما عني، كبتها عنوة حتى لا أزيد الموقف سوء ً

التفت ّ الآن إلى الصغيرة سارة و طلبت منها استدعاء رغد و أروى و الخالة ليندا

" اخبريهن بأننا سنغادر الآن "

و ركضت الفتاة إلى حيث كن ّ يجلسن .. في إحدى الغرف .

أم حسام قالت :

" وليد ! يهديك الله يا بني ، ما أنت فاعل ؟ "

أجبت بحنق :

" راحل مع عائلتي ، و شكرا لكم على استضافتنا و جزيتم خيرا "

حسام خاطب أمّه :

" هل أخبرتِه ؟ "

أجابت :

" نعم ، و لكن ... "

و نظرت إلي، فحذا هو حذوها ، و قال :

" هل أخبرتك أمي عني و عن رغد ؟ "

اكتفيت هذه المرّة بنظرة حادة فقأت بها عينيه...

بدا مترددا، لكنه قال :

" منذ زمن كنت أفكّر في ... "

و هذه المرّة صرخت في وجهه بشدّة :

" لا تفكّر في شيء و ابق حيث أنت "

الاثنان تبادلا النظرات المتعجّبة ... و المستنكرة

ثم نطق حسام :

" و لتبق رغد معي أيضا، فأنا أرغب في الزواج منها بأسرع ما يمكن، و بما أنك هنا.. يمكننا أن ... "

و في هذه المرة، و بأسرع ما يمكن ، و بعد انفلات أعصابي تماما، تفجرت اللكمة الدفينة في يدي، نحو وجه حسام ، بعنف و قسوة...

ربما الصدمة مما فعلتـُه فاجأت حسام أكثر من الضربة نفسها، فوقف متسمرا محملقا في ّ في دهشة و ذهول !

كنت لا أزال أشعر بشحنة في يدي بحاجة إلى التفريغ ! و ليتني أفرغتها فورا في أي شي.. حسام، الجدار، الأرض ، الشجر، الحجر ، الحديد ... أي شيء.. و لا أن أكبتها لذلك الوقت... ...

عادت سارة، و معها أروى و أمها
نقلت نظري بين الثلاث و لم أكد أسأل ، إذ أن الصغيرة قالت :

" رغد تقول : ارحلوا ، فهي لن تأتي معكم أبدا ! "

تحدّثت أروى الآن قائلة :

" إنها مصرّة على البقاء هنا و اعتقد، أنها تشعر بالراحة و السعادة مع خالتها و ابنتيها ! "

و استدارت إلى أمها متممة :

" أليس كذلك أمي ؟ "

قالت خالتي ليندا :

" بلى، مسكينة ، لقد مرّت بظروف صعبة جدا، لم لا تتركها هنا لبعض الوقت يا وليد ؟ "

عند هذا الحد، و ثار البركان...
الجميع من حولي يقفون إلى صفها ضدّي، الكل يطلب مني ترك رغد هنا.. و يرى أنه التصرف السليم، و قد يكون كذلك، و قد يصدر من إنسان عاقل ، أما أنا..في هذه اللحظة فمجنون، و حين يتعلّق الأمر برغد فأنا أجن المجانين...

سألت الصغيرة سارة :

" أين هي ؟ "

أشارت إلى الغرفة التي كانت النساء يجلسن فيها

قلت :

" أ أستطيع الدخول ؟ "

فنظرت إلي الصغيرة سارة ببلاهة ، أشحت بأنظاري عنها و نظرت إلى أروى محوّلا السؤال إليها ، و كررت :

" أ أستطيع الدخول ؟ "

قالت أروى :

" أجل ... "

و سرت ُ نحو الغرفة ، و أنا أنادى بصوت عال مسموع :

" رغد ... رغد "

حتى أنبهها و ابنة خالتها إلى قدومي..
طرقت الباب، ثم فتحته بنفسي، و أنا مستمر في النداء...
الجميع تبعني، و رموني بنظرات مختلفة المعاني، لا تهمني، كما لا يهمكم سردها هنا
وجدت صغيرتي واقفة و إلى جانبها ابنة خالتها، و على وجهيهما بدا التوتر و القلق...

قلت :

" رغد، هيا بنا ... "

هزّت رأسها اعتراضا و ممانعة ، فقلت بصوت جعلته أكثر حدّة و خشونة :

" رغد ، هيا بنا، سنرحل فورا "

رغد تكلّمت قائلة :

" لن أرحل معكم ، اذهبوا و اتركوني و شأني "

رفعت صوتي أكثر و قلت بلهجة الإنذار الأخير :

" رغد، أقول هيا بنا ، لأنه حان وقت الرحيل، و أنا لن أخرج من هنا إلا و أنت معي "

قالت رغد بتحد ٍ :

" لن أذهب ! "

في هذه اللحظة، استخدمت بقايا الشحنة المكبوتة في يدي ..التي حدّثتكم عنها.. على حبيبة قلبي ، رغد
أسرعت نحوها، و أمسكت بذراعها بعنف، و شددتها رغما عنها و أجبرتها على السير معي نحو الباب ...
من حولي كان الجميع يهتف و يستنكر و يعترض ، و لكنني أبعدت ُ كل من حاول اعتراض طريقي بعنف، و دفعت حسام دفعة قوية صفعته بالجدار
أم حسام حاولت استيقافي و صرخت في وجهي ، و مدّت رغد ذراعها الأخرى و تشبثت بخالتها، و بابنة خالتها ، و بكل شيء...إلا أنني سحبتها من بين أيديهم بقسوة
أروى و أمها حاولتا ثنيي عما أقدمت عليه فكان نصيبها زجرة قوية مرعبة فجّرتها في وجهيهما كالقنبلة...
نحو المخرج سرت و لحق بي حسام و البقية من بعده فأنذرته :

" عن طريقي ابتعد لأنني لا أريد أن تصيبك كسور أنت في غنى عنها "

" من تظن نفسك !؟ اترك ابنة خالتي و إلا .. "

استخرجت المفتاح من جيبي و فتحت باب السيارة المجاور لمقعد السائق، و دفعت رغد عنوة إلى الداخل ، و أقفلته من بعدها .

و الآن.. علي ّ أن ألقّن حسام درسا ، ليعرف جزاء من يتجرّأ على خطبة حبيبتي منّي ...

كنت أنوي إيساعه ضربا، إلا أن تدخّل من حولي جعلني أكتفي ببعض اللكمات التي لا تسمن و لا تغني من جوع، و لا تخمد بركانا جنونيا ثار في داخلي بلا هوادة .
وسط المعمة و البلبلة و الصراخ و الهتاف، و استغاثة رغد و ضرباتها المتتالية لنافذة السيارة ، و الفوضى التي عمّت الأجواء، التفت أنا إلى أروى و الخالة ليندا و هتفت بقوة :

" ماذا تنتظران ؟ هيا إلى السيارة "

و توجّهت إليها باندفاع، فركبتها و فتحت الأقفال لتركب الاثنتان، و أوصدها مجددا، و أنطلقت بسرعة ...

قطعنا مسافة طويلة، و نحن في صمت يشوبه صوت محرّك السيارة، و صوت الهواء المتدفق من فتحة نافذتي الضيقة، و صوت بكاء رغد المتواصل...

لم يتجرّأ أحد على النطق بكلمة واحدة... فقد كنا جميعا في ذهول مما حصل..

لم أتخيّل نفسي... أقسو على صغيرتي بهذا الشكل..ولكن .. جن جنوني لفكرة أنها باقية مع حسام، أو صائرة إليه...

و إن كان آخر عمل في حياتي، فأنا لن أسمح لأحد بأخذ رغد منّي مهما كان..و مهما كانت الظروف.. و مصيرك يا رغد لي أنا...


" أما اكتفيت ِ بكاء ً ؟ هيا توقّفي فلا جدوى من هذر الدموع ... "

قلت ذلك بأسلوب جاف ، جعل أروى تمد يدها من خلفي، و تلامس كتفي قاصدة أن أصمت و أدع رغد و شأنها...
صمت ّ فترة لا بأس بها، بعدها فقدت أي قدرة لي على التركيز في القيادة، و أنا أرى رغد مستمرة في البكاء إلى جانبي...
أوقفت السيارة على جانب الطريق، و التفت إليها ...
كانت تسند رأسها إلى النافذة، في وضع تخشع له قلوب الجبابرة..فكيف بقلب وليد ؟؟

" صغيرتي ... "

ألقت علي نظرة إحباط و خيبة أمل أوشكت معها أن أستدير و أعود أدراجي و أوصلها إلى بيت خالتها ... إلا أنني تمالكت نفسي ...

" رغد ... أنا آسف ... "

لم تعر جملتي أية أهمية، و ظلت على ما كانت عليه...

" أرجوك يا رغد.. قدّري موقفي، لا أستطيع تركك في مدينة و أسافر أنا إلى أخرى ! إنك تحت مسؤوليتي و لا يمكنني الابتعاد عنك ليلة واحدة "

لم أر منها أي تجاوب، مددت يدي بعد تردد و أمسكت ُ بيدها ، فسحبت يدها بقوة و غضب :

" اتركني ... "

قلت :

" لا أستطيع أن أتركك في أي مكان ... "

رغد أجابت بانفعال :

" و أنا لا أريد الذهاب معك ! أهو جبر ؟ أهو تسلّط ؟ لا أريد السفر معك ... أعدني إلى خالتي .. أعدني إلى خالتي .. "

و أجهشت بكاء قويا ...

قلت أنا :

" سنعود لزيارتها حين ننهي مهمتنا ، و سنبقى هناك القدر الذي تريدين "

صرخت رغد :

" أريد العيش معهم مدى الحياة ! ألا تفهم ذلك ؟ "

اشتط غضبي من هذه الجملة، فأمسكت بيدها مجددا و شددت قبضتي عليها و قلت بحدة و أنا أضغط على أسناني كأني أمزّق حقيقة أكرهها بين نابي ّ :

" لن أدع لك الفرصة لتحقيق ما يدور برأسك.. و أقسم يا رغد.. أقسم بأنه ستمضي سنون خمس على الأقل، قبل أن أسمح لأي رجل بالزواج منك .. و إن كان ابن خالتك يطمع بك، فلينتظر هو بالذات عشر سنوات حتى أسمح له بطرح الفكرة ، و إن تجرأ على إعادة عرضه ثانية قبل ذلك .. فوالذي لم يخلق في داخلي قلبين اثنين، لأقننه درسا يُنسيه حروف اسمه ... و دون ذلك، لن يبعدك شيء عني ّ غير الموت.. الموت و الموت فقط "

لم أدرك تماما خطورة ما تفوّهت به ، إلا بعد أن رأيت رغد تحملق بي بذهول شديد، و قد تبخّرت الدموع التي كانت تجري على وجنتيها.. و ألجم حديثي لسانها و منعها حتى عن التأوّه من شدة قبضي على يدها...
ربما أكون قد كسرت أحد عظامها أو حرّكت أحد مفاصلها .. لقد كنت أضغط بقوة شديدة... أصابت عضلات يدي أنا بالإعياء...
سكون تام خيّم علينا، ما عاد هناك صوت للمحرك، و لا للهواء ، و لا لرغد، و لا لأي شيء آخر..
حررت يد رغد من قبضتي، فرأيتها محمرّة.. و بالتأكيد مؤلمة...
إلا أن رغد لم يظهر عليها الألم، و لم تسحب يدها بعيدا عني ، كما لم ترفع عينيها المذهولتين عن عيني ...






~~~~~~~~






طوال الأشهر الماضية، كنت أنظر إلى خطيبي وليد نظرة إعجاب شديد، أكاد معها أجزم بأنه أفضل رجل على وجه الأرض، و لا أرى منه أو فيه أي عيب أو نقص...
و كانت جميع خصاله و طباعه تعجبني، و سلوكه و تصرفاته كلها مثار إنبهاري ..
و في هذا اليوم، رأيت شيئا أذهلني و فاجأني...
لم أتصوّر أن يكون وليد بهذا التسلّط أو هذه القسوة ! لم أتوقع أن يصدر منه أي تصرّف وحشي.. كنت أراه إنسانا هادئ الطباع و مسالما... و عظيم الخلق...

الطريقة التي سحب بها رغد رغما عنها، و الطريقة التي زجرنا بها حين حاولنا ثنيه عما كان مقبلا عليه، و الطريقة التي لكم بها حسام بوحشية، و الطريقة التي خاطب بها رغد و نحن في طريقنا الطويل إلى المدينة الساحلية، كلها أثارت في قلبي الخوف و الحذر...
و ذكّرتني، بأن خطيبي هذا قد قتل شخصا ما ذات يوم ... !

كان الطريق إلى المدينة الساحلية طويلا جدا، و مملا جدا ... و قد سيطر الصمت الموحش علينا نحن الأربعة ...
والدتي سرعان ما نامت، و بقيت أنا أراقب الطريق، و أحاول النظر إلى وليد ، إلا أنه كان مركزا على الطريق تركيزا تاما، و كان يسير بسرعة مخيفة !

" هللا خففت السرعة يا وليد ! "

طلبت منه ذلك، فقد شعرت بالخوف من انفعاله ... لكنه لم يخففها بل قال :

" طريقنا طويل جدا ... أجدر بي زيادتها "

ثم التفت إلى رغد، و التي كانت مشيحة بوجهها نحو النافذة و مسندة رأسها إليها ، و خاطبها قائلا :

" اربطي حزام الأمان "

لم أر من رغد أي حركة ، أهي نائمة ؟ أم لم تسمع ؟ أم ماذا ؟؟

عاد وليد يقول :

" رغد .. اربطي حزام الأمان "

رأيتها تتحرك، ثم سمعتها تقول :

" لماذا ؟ هل تنوي أن تصدمنا بشاحنة أو جبل ؟ "

بدا على وليد ، من نبرة صوته ، نفاذ الصبر و الاستياء، إذ قال :

" لا قدّر الله ، فقط اربطيه للسلامة "

قالت رغد :

" لا تخش على سلامتي ! مرحبا بالموت في أي وقت .. أنا انتظره بشوق "

الجملة هذه أربكت وليد فانحرف في مسيره قليلا و أفزعنا ! ثم خفف السرعة تدريجيا، حتى أوقف السيارة... و التفت إلى رغد قائلا :

" توقّفي عن ذكر الموت يا رغد.. تجرّعت منه ما يكفي.. إياك و تكرار ذلك ثانية "

لم تعقّب رغد، بل أسندت رأسها إلى النافذة من جديد...

قال وليد :

" اربطي الحزام "

قالت :

" لن أفعل ! "

" رغد ! هيا ! "

" لن أربطه ! "

" إذن، أنا سأربطه ! "

و رأيت وليد يمد يده باتجاه الحزام، ثم رأيتها ترتد بسرعة إليه! أظن أن رغد دفعتها بعيدا ، ثم سمعت صوت اصطكاك لسان الحزام بفكّه !
لقد ربطته بنفسها !
ثم سمعت وليد يقول :

" فتاة مطيعة "

و يعاود الانطلاق بالسيارة بأقصى سرعة !

بعد فترة، توقّف وليد عند إحدى محطّات الوقود، من أجل الوقود، و الطعام، و الصلاة...

خاطبنا مشيرا إلى مبنى على جانبنا :

" يوجد هنا مصلى للسيدات، حينما تفرغن عدن إلى السيارة ، ثم نذهب إلى المطعم "

أنا و والدتي فتحنا البابين الخلفيين، و نزلنا...
وليد فتح بابه.. ثم التفت إلى رغد... و التي كانت لا تزال جالسة مكانها لا تصدر منها أي حركة تشير إلى عزمها على النهوض ! ..

" ألن تنزلي ؟ "

سألها ، فسمعتها ترد بسؤال :

" إلى أين ستذهب أنت ؟ "

قال وليد :

" إلى المسجد "

و أشار بيده إلى نفس البناية، و التي تحوي مصلى صغيرا خاصا بالرجال، و آخر بالنساء ، يفصلهما جدار، و يقع باباهما في الطرفين المتضادين ..
يظهر أن الفكرة لم ترق لرغد ( هذه المدللة المدلّعة ) و أبت إلا أن يقف وليد عند مدخل المصلى النسائي، حارسا على الباب !

بعد ذلك، اقترح وليد أن ندخل إلى المطعم المجاور لتناول الطعام، فلم يعجبها الاقتراح، فاقترح أن يذهب هو لإحضاره و نبقى نحن في السيارة، و أيضا لم يعجبها الاقتراح ! يا لهذه الفتاة ... لقد بدأت أشعر بالضيق من تصرفاتها ! إنها بالفعل مجرد طفلة كبيرة !

أتدرون ما فعلت في النهاية ؟
أصرّت على الذهاب معه، و تركتنا أنا و أمي نعود للسيارة !
ركبت أنا المقعد الأمامي، و أمي خلفي مباشرة، و قلت مستاءة :

" إنه يدللها بشكل يثير سخطي يا أمي .. أستغرب.. لم َ لم ْ يتركها في بيت خالتها كما أرادت و أصرّت ! إنه ينفذ جميع رغباتها بلا استثناء! فلم عارض هذه الرغبة ؟؟ "

قالت والدتي :

" هذا لأنه يشعر بالمسؤولية الكاملة تجاهها، لا تنسي يا ابنتي أنها يتيمة و وحيدة "

قلت :

" هل سمعت ِ ما قاله ؟ يبدو أن ابن خالتها يخطط للزواج منها، بعدما انفصلت عن خطيبها السابق ! أظنه حلا ممتازا لمثل وضعها ! لم يعارضه وليد ؟ "

قالت :

" هو الأدرى بالمصلحة يا أروى، لا تتدخلي في الموضوع بنيّتي "

و في الواقع، الموضوع كان يشغل تفكيري طوال الساعات الماضية...

لقد قال وليد و هو في قمّة الثورة و العصبية ، مخاطبا رغد أنه لن يسمح لها بالزواج من أي رجل قبل مرور سنين ! ... هذه الجملة تثير في داخلي شكوكا و أفكارا خطيرة ...

بعد قليل، أقبل وليد يحمل كيسا حاويا للطعام، و إلى جانبه تسير مدللته الصغيرة ..
من خلال النافذة، ألقت رغد علي نظرة غيظ حادة لم أفهم لها سببا، ثم ركبت السيارة إلى جوار والدتي...
وليد بعدما جلس، أخذ يوزّع علينا حصصنا من الطعام، و الذي كان عبارة عن ( هامبرجر ) و بعض العصير...

و حين جاء دور (المدللة) ، التفت إليها مادا يده، مقدّما علبة البطاطا المقلية ...

" تفضلي رغد.. طبقك "

الفتاة التي تجلس خلف وليد مباشرة قالت ببساطة :

" لا أريد ! كله أنت ! "

وليد بدا مستغربا ! و قال :

" ألم تطلبي بطاطا مقلية !؟ "

قالت :

" بلى، غيّرت رأيي، احتفظ به "

وليد مدّ إليها بعلبة ( الهامبرجر ) الخاصة به...

" خذي هذه إذن "

قالت :

" لا أريد ! شكرا "

" و لكن هل ستبقين دون طعام ؟ ماذا تريدين أن أحضر لك ؟؟ "

" لا شيء ! لا أشتهي شيئا و لا أريد شيئا ! "

" و هذه البطاطا ؟؟ "

" كلها ! أو ... أطعمها مخطوبتك ! "

و أسندت رأسها إلى النافذة، معلنة نهاية الحوار !

وليد أعاد علبتي البطاطا و الهامبرجر إلى داخل الكيس، و انطلق بالسيارة ...
باختصار، أنا و أمي كنا الشخصين اللذين تناولا وجبتيهما !

عدّة مواقف حصلت أثناء الرحلة الطويلة الشاقة، و رغد إذا خاطبتني ، تخاطبني بطريقة جافة و خشنة، كأنها تصب جم غضبها علي أنا !
بعد مرور ساعات أخرى، و وسط الظلام، استسلمت أنا للنوم..
حينما أفقت بعد مدة لم أحسبها، وجدت السيارة موقفة، و وجدت وليد و رغد يجلسان في الخارج، على الرمال، و أمي نائمة خلفي، و يتحدّثان فيما لا يعلم به إلا الله ...






~ ~ ~ ~ ~ ~





لأن النعاس غلبني، كما غلب جميع من معي، أوقفت السيارة و في نيتي الخروج و الاسترخاء قليلا ، و تجديد نشاطي...

استدرت للخلف، فرأيت رغد تنظر إلي مباشرة !

" لماذا توقّفت ! ؟ "

" ألم تنامي ؟ أشعر بالتعب، سأمشي قليلا ... "

و ما إن سرت بضع خطوات، حتى تبعتني صغيرتي ...
لم نتحدّث، و أخذت أسير ببطء... على الرمال مبتعدا عن السيارة عدّة أمتار... و أشعر بها تسير خلفي، دون أن ألتفت إليها...
بعد مسافة قصيرة، استدرت قاصدا العودة، فوقعت عيناي على عينيها مباشرة...

أعتقد أن الزمن توقّف عن السير تلك اللحظة... لو تعرفون ما الذي تفعله، نظرة واحدة إلى عيني رغد بي ... لربما بررتم التصرفات الغريبة التي تصدر مني !
إنها ترسلني إلى الجنون... فهل يلام مجنون على ما يفعل ؟؟

بعد أن تابع الزمن سيره، تقدّمت نحوها... عائدا إلى حيث السيارة... رغد بقيت واقفة مكانها، إلى أن تجاوزتها ببضع خطوات، ثم أحسست بها تسير خلفي...

مشاعر كثيرة شعرت بها و أنا أغرس حذائي في الرمال..خطوة بعد خطوة...
الشعور بالقلق..لما يخبئه القدر لي، الشعور بالغيظ من رغبة رغد في البقاء مع خالتها.. و ابن خالتها، و بالندم من قسوتي معها.. بالرغبة في الاعتذار.. و بالشوق لأن أواسيها و أعيد إلى نفسها الطمأنينة و الأمان و الثقة بي.. و بالحزن مما قد يكون الآن دائرا في رأسها حولي.. و برغبة جنونية ، في أن أستدير إليها الآن و أهتف في وجهها :
( أنا أحبك ! ) ...
ماذا سيحدث حينها ؟؟
و أخيرا.. بشعور ٍ مسيطر...إن تمكّنت من السيطرة على جميع مشاعري و كبتها ، لا يمكنني الصمود في وجه هذا الشعور بالذات !
إنه قارس و قارص !
أنا جائع !

صدر نداء استغاثة من معدتي، سألت الله عشر مرات ألا يكون قد وصل إلى مسامع رغد !

حينما وصلت إلى السيارة، أسرعت الخطى إلى ( نافذتي ) المفتوحة فمددت يدي و استخرجت كيس الطعام، قبل أن تصل رغد ...

عدت ُ إلى الرمال، و جلست عليها.. و فتحت الكيس و استخرجت العلب الثلاث المتبقية فيه، علبة البطاطا المقلية، و الهامبرجر، و العصير !
رغد وقفت على مقربة تنظر إلي ! لابد أنها متعجبة مني ! رفعت رأسي إليها و قلت :

" تعالي و شاركيني ! "

و قمت بتقسيم الشطيرة ( الهامبرجر) إلى نصفين... و مددت ُ يدي بأحدهما إليها..

كانت لا تزال تنظر إلي باستغراب... قلت :

" صحيح باردة ، و لكنها تبقى طيبة المذاق "

ترددت رغد، ثم جاءت، و جلست إلى جانبي... و تناولت ( نصف الشطيرة ) من يدي...
قرّبت منها علبة البطاطا، و كذلك العصير، فرفضتهما...
بدأت أقضم حصتي من الشطيرة، و أبتلع أصابع البطاطا الباردة، و أشرب العصير، و أتلذذ بوجبتي هذه !
إنه الجوع ، يصيّر الرديء لذيذا !

قلت و أنا أمضغ إصبع بطاطا :

" لذيذ ! جرّبيه ! "

و أمسكت أحدها و قرّبته منها... كنت أنتظر أن تمد يدها لتمسكه بأصابعها، إلا أنها مدّت رأسها و أمسكته بأسنانها ! و بدأت تمضغه، و يبدو أنه أعجبها لذلك ابتسمت !
أن أراها تبتسم، و إن كانت ابتسامة خفيفة باهتة سطحية، بعد كل الذي حصل، لهو أمر يكفي لأن يجعلني أنسى عمري الماضي...
الماضي... آه ... الماضي...
في الماضي، كنت أطعمها أصابع البطاطا بهذه اليد... نفس اليد كانت تمد إليها بإصبع البطاطا قبل ثوان...
نفس اليد، التي تتوق لأن تمسح على رأسها و تطبطب على كتفيها و تضمها إلى صدري...
نفس اليد، التي شدّتها بعنف وقسوة، و أجبرتها على ركوب السيارة رغم مقاومتها...
إنها نفس اليد التي قتلت بها عمّار... و ضربت بها سامر ... و لكمت بها حسام... و سأذبح بها أي رجل يحاول الاقتراب منك يا رغد...
و بهذه اليد ذاتها، سأبقى ممسكا و متمسكا بك لآخر نسمة هواء تدخل إلى صدري، أو تخرج منه...
يا رغد... ليتك تعلمين...

" رغد ... "

نظرت إلي، فبقيت صامتا برهة، بينما عيناي تتحدثان بإسهاب... ألا ليتك تفهمين...

" نعم ؟؟! "

" سامحيني..."

جاء دورها الآن لتنظر إلي نظرة مليئة بالكلام... إلا أنني عجزت ُ عن ترجمته...

قلت :

" سامحيني.. أرجوك "

لم ترد إيجابا و لا سلبا، لكنها مدّت يدها إلى علبة البطاطا، و تابعت أكلها... على الأقل، هي إشارة حسنة و مطمئنة...

انهينا وجبتنا الباردة ، و في داخلي شعور غريب بالسعادة و الرضا، و الاسترخاء ، و الشبع أيضا !

و عوضا عن تجديد نشاطي، تملّكتني رغبة عارمة في النوم !

( فرشت ) الكيس على الرمال، و تمددت واضعا رأسي فوقه.. و أغمضت عيني..

أنا متأكد من أنني لو بقيت على هذا الوضع دقيقتين اثنتين، لدخلت في سبات عميق و فوري...

الذي حصل هو أن صغيرتي و بمجرد أن أغمضت عيني نادتني بقلق :

" هل ستنام وليد ؟؟ "

قلت و أنا أتثاءب :

" أنا نعسان بالفعل ! سوف أسترخي لدقائق "

" وليـــد ! اجلس ! "

صدر هذا الأمر من صاحبة الدلال و السيادة ، جعلني انهض فورا ، و أصحو تماما !
التفت إليها فوجدتها تنظر إلي بقلق...

" دعنا نعود إلى السيارة و نم هناك "

" حسنا... إذن هيا بنا "

و نهضنا و عدنا إلى مقعدينا...

" هل يضايقك أن أزيح مسند مقعدي للوراء يا رغد ؟ "

" كلا .. خذ راحتك "

" شكرا "

صمت برهة ثم عدت أقول :

" أنا متعب بالفعل، قد أنام طويلا ! إذا نهضت ِ و وجدت ِ الشمس توشك على الشروق، فلتوقظيني "

" حسنا "

" نوما هنيئا، صغيرتي "

" لك أيضا "





~ ~ ~ ~ ~





لم ينته الأمر هنا...

صحيح أن وليد قد نام بسرعة، إلا أن رغد ظلت تتحرك، و أشعر بحركتها لفترة...

كنت أتظاهر بالنوم.. و من حين لآخر أفتح عيني ّ قليلا ، خصوصا إذا أحسست بحركة ما...
هذه المرّة فتحتها فتحة صغيرة، فرأيت يد رغد تمتد إلى مقعد وليد، و رأسها يستند عليه...
هذا لا شيء...!
فالشيء.. الذي أيقظ كل الخلايا الحسية و العصبية و الوجدانية في جسدي، في ساعة كنت فيها في غاية التعب و النعاس، و أرسل أفكاري إلى الجحيم ...هو جملتها الهامسة التالية :

" ( نوما هنيئا... يا وليد قلبي ...) "





نشر -
اضف هذا الموضوع بملفك في الفيسبوك

وماتوفيقي الإ بالله - لا تجعل المنتدى يلهيكـ عن الصلاة - إعمل لاخرتكـ قبل دنياكـ 48
29-06-2008, 06:52 AM
مصيره لاذكر يشتاق
©؛°¨غرامي فعال ¨°؛©


رد : رواية انت لي كامله من البدايه إلى النهايه - اضغط على الزر اذا ناسبكـ الموضوع وتريد انتشاره

الحلقةالخامسةوالثلاثون




لم أكن أريد أن يدركنا الظلام ، سرت بأقصى سرعة ممكنة ، لكن الشمس سبقتني بالغياب ...

حين وصلت إلى المدينة الساحلية ، مسقط رأسي ، كان الظلام قد غطى الأجواء ...

تسارعت نبضات قلبي و أنا أسير في الطريق المؤدي إلى بيتنا... كلما وقفت عند إشارة مرور ، توقفت الذكريات عند حدث معيّن ...
شوارع المدينة لم تتغير... الكثير من الحفريات و الإصلاحات مبعثرة على الشوارع... لا تزال بعض المباني منهارة كما خلّفتها يد الحرب... و لا تزال المناظر تثير الرهبة في قلوب الناظرين...

" هنا مدينتنا "

قلت ذلك ، مخاطبا أروى التي كانت تشاهد المناظر من حولها... و كأنه واقع مخيف مرير أخشى تلقيه بمفردي...

" إنها آثار الحرب ! "

عقّبت أروى ، فقلت :

" و أي آثار ... ! تحمل هذه المدينة من ألم الذكرى و بصمات الماضي ما يجعل قلبي يتصدّع من مجرد ذكر اسمها ... "

و أي ذكرى أقسى من ... ذلك اليوم المشؤوم... الذي غيّر مجرى حياتي نهائيا ...
كأني به يعود للوراء...
كأني بعمار اللعين ... ينبعث من قبره...
كأني أراه يبتسم ابتسامته الشرسة القذرة... و يرمي بالحزام في الهواء...
كأني ... برغد تصرخ... تركض إلي... تتشبث بي... تخترق صدري ، و خلايا جسدي ... تمزّق قلبي ... تحرق أعصابي عصبا عصبا ... و تفجّر في داخلي رغبة عارمة مزلزلة ... منطلقة بعنف و سرعة ... ككتلة نارية قذفها بركان ثائر هائج... آبية إلا أن تنتهي بضربة بشعة فتاكة على رأس عمّار... خاتمة بها آخر أعماله القذرة ...

لم أتمالك نفسي ، دست بقدمي بقوة ... انطلقت السيارة بشكل جنوني... كنت ُ أراه أمامي... و كنت أريد أن أدوسه و أسحقه تحت العجلات ... مرة بعد مرة ... بعد مرة ...

" وليد ! خفف رجاء ً ! "

هذه المرة كانت أم أروى هي المتحدثة ، أعادتني إلى الواقع ، فوجدت نفسي أقود سيارة في شارع داخلي لا يخلو من النتوءات و الحفر ...

خففت السرعة ، و ألقيت نظرة على رغد من خلال المرآة ... كانت هي الأخرى مشغولة بمراقبة الطريق ...

أتراها تذكر ؟؟

الآن انتقل بصرها إلي ... أشارت إلى الخارج عبر النافذة و قالت :

" إنها مدرستي ! "

نعم إنها هي !

نعم إنها تذكر ... حاولت أن استشف من عينيها مدى تأثرها... و إلى أين وصلت بها الذكرى...
حدّقت في مبنى المدرسة... ثم حدّقت بي...

كيف تشعرين يا رغد ؟؟

هل يؤلمك شيء كما يؤلمني ؟؟

هل تطوف في مخيلتك ذكريات ذلك اليوم النحس، كما هي مسيطرة علي الآن ...؟؟

لو أملك يا رغد ... لمحوت ذلك الماضي من ذاكرتك نهائيا ...

لو أملك يا رغد ... لاستئصلت ذلك اليوم من عمرك ... و اقتلعته من أصل جذوره ...

لو أملك يا رغد ... لقتلت عمّار قبل أن تلده أمه ... و ما تركت له الفرصة ليؤذي أغلى مخلوقة لدي ... بأبشع طريقة ....


المسافة تقصر... النهاية تقترب ... المباني تمر بنا و تنصرف ... واحدا تلو الآخر... إلى أن ظهر أخيرا ... مبنى كبير قديم ... مهجور و غارق في الظلام ... موصد الأبواب و النوافذ ... كئيب ميت و مرعب... تحف به أشجار جافة بلا أوراق و لا ثمر ... أشجار ماتت واقفة... و بعثرت الريح أوراقها على المجرّة منذ سنين ... و ظلّت واقفة ... و قامت الحرب... و قعدت الحرب ... و ظلت هي واقفة ... في انتظار عودة سيدي المنزل ... لتنحني أمامهما ... محيية مرحبة ...
يا أشجار بيتي العزيز ...
ستظلين واقفة ما امتد بك الدهر ...
لأن السيدين ... اللذين تنتظرين عودتهما... لن يعودا أبدا ...

عند الباب مباشرة ، أوقفت سيارتي أخيرا...
بقيت قابعا في مكاني لا أجرؤ على الحراك ... مركزا بصري على البوابة... كأنني أستأذنها بالدخول ... كأنها تستغرب عودتي ... كأنها نسيتني !

مرت لحظات ليست كاللحظات، و أنا في سكون شارد ...

تحدّثت أروى قائلة بعد أن طال بنا البقاء :

" أليس هذا هو المنزل ؟ ألن ننزل ؟؟ "

التفت إليها و منها إلى الوراء ، حيث تجلس صغيرتي بتعبيرات وجهها المضطربة و نظراتها المتوجسة ...

قلت بصوت يكاد يختنق في حنجرتي :

" منزلنا يا رغد ! "

رأيت يدها تمتد من موضعها على صدرها إلى عنقها ... كأنها تمنع صرخة من الانبثاق قهرا من أعماق حنجرتها الصغيرة ...


تحدّثت خالتي أم أروى الآن قائلة :

" هل سننزل هنا ؟ هل تملك مفاتيح للمنزل ؟؟ "

أجبتها بتحريك المفاتيح المتدلية من مقود السيارة ، و التي تضم مفاتيح المنزل المهجور ...

عدت بنظراتي إلى رغد ... فهي أهم ما يعنيني في الأمر ... لطالما كانت هي الأهم ... قلت :

" هيا بنا ... توكّلنا على الله "

بدا على صغيرتي المزيد من التوتر و القلق ، كانا جليين لي ...

أخيرا فتحنا الأبواب و هبطنا أرضا ...
صغيرتي وقفت و سارت شبه ملتصقة بي ، و كأنها تخشى شيئا ...
فتحت البوابة الرئيسية أخيرا ... و سمحت لطوفان الذكريات باجتياحنا ....

الحديقة الخارجية ... التي لطالما كانت غناء خضراء زاهية ... هي الآن مجرد صحراء موحشة تعذّر حتى على الأشواك البرية العيش في رحابها ...

لم أكن أشعر بقدمي و هي تسير خطوة بعد خطوة نحو الداخل ... اقتربنا من الساحة المرصوفة بقطع الرخام ......

في هذه الساحة ... كانت فيها رغد تقود دراجة سامر فيما مضى ...

تجاوزنا الباب الخارجي للمنزل ، و سرنا متابعين طريقنا ... حتى بلغنا الساحة الخلفية للمنزل ... و من خلال بصيص خفيف للضوء ، وقعت أنظارنا على أدوات الشواء المركونة هناك في زاوية الساحة منذ سنين ...

ما أن رأتها رغد ، حتى رفعت يدها اليمنى و أمسكت بذراعها الأيسر...كأنها شعرت بلسعة الجمر تحرق ذراعها ... مكان الندبة القديمة ...

قلت بعطف :

" رغد ! أأنت على ما يرام ؟؟ "

و بالرغم من الظلام ، استطعت أن ألمح القلق المرسوم على وجهها الصغير ...

قلت أخيرا :

" دعونا ندخل إلى الداخل "

و رأيت يد رغد اليمنى و هي تترك ذراعها الأيسر... و تقترب شيئا فشيئا من يدي ، و تلتحم بها !

أظنها كانت للشعور ببعض الأمان ، فقد كان المكان موحشا ، عدا عن الذكريات الأليمة التي يثيرها ...

تركت يدي أسيرة يديها حتى بلغنا الباب الداخلي ، و أردت استخدام يدي في فتح الباب ، إلا أنها لم تطلق سراحها ...

بيدي الأخرى فتحت القفل و الباب ، و خطوت الخطوة الأولى نحو الداخل ... وظلت يدي اليسرى مسحوبة إلى الوراء ، مربوطة بيد رغد ...

كان المنزل غارقا في الظلام ... مددت يدي نحو الجدار متحسسا المكابس ، حتى أضأت المصباح ... و لحسن الحظ ، بل للعجب ، كان يعمل ... !

الإنارة سمحت لنا برؤية ذرات الغبار التي تغطي الأرضية الرخامية عند المدخل...

شددت ُ يدي اليسرى و معها شددت ُ صغيرتي نحو الداخل و أنا أقول :

" ادخلن ... "

رغد خطت خطوة نحو الداخل و أخذت تدور برأسها في المكان ... و تشد ضغطها على يدي ، و على صدرها من فرط التأثر...

إن قضيت الوقت في وصف المنزل فإنني لن أنتهي ...

لكن ... و إن تجاهلت وصفي للمنزل و ذكرياته ، فهل أجسر على تجاهل وصف تعبيرات رغد ؟؟

إنها وقفت على مقربة من الدرج ... و هي لا تزال ممسكة بيدي ، و قالت :


" يا إلهي ... إنه بيتنا ! لم يتغيّر يا وليد ! أنا أذكره ! "

ثم قفزت الدموع من عينيها فجأة ...

أتذكرين يا رغد ؟؟

أتذكرين هذا المنزل ، الذي تربينا فيه سوية ؟؟

أتذكرين حين كنت أحملك على كتفي و أجول بك أرجاء المنزل ، و أنت تضحكين بفرح ؟؟

كم و كم و كم من الذكريات أحمل في صدري ... ذكريات طفلتي الحبيبة المدللة التي تركتها نائمة على سريرها ذات يوم ، و عدت ُ بعد 8 سنين ، و لم أجدها ...

ثمان سنين يا رغد ... كان يمكن أن أعيشها معك لحظة بلحظة يوما بيوم و سنة بسنة ... قضيتها هناك في السجن ... برفقة المجرمين المذنبين ، أُضرب و أهان و يُكسر أنفي ، و آكل الطعام الرديء الممزوج بالحشرات ، و أنام على سرير خشبي قاس و وسادة أشبه بالحجر ، بينما أنت في حضن شقيقي ... تنعمين بالحب و الرفاهية !


آه يا رغد ...
آه ثم آه ثم آه ...

قطع سيل الذكريات صوت أروى قائلة :

" أين غرف النوم ؟ أود أن أستلقي فأنا مرهقة جدا "

طبعا ، جميعنا مصابون بالإرهاق بعد سفر طويل و شاق ...

قلت "

" في الأعلى "

وهممت بالصعود ...

كلما صعدت ٌ خطوة تصاعدت الدماء إلى وجهي ، و تزايدت نبضات قلبي ، و كلما أنرت مصباحا تفجرت ذكريات أخرى في رأسي ... حتى إذا ما بلغت الردهة الرئيسية ... شعرت ُ بمفاصلي تتساقط أرضا من هول ما أنا فيه ...

وجها لوجه ، أمام البابين المتجاورين ... لغرفتي أنا و غرفة رغد ...

وجها لوجه ، و على بعد خطوات معدودة من بؤرة الذكريات ...

لهذا الحد و توقفت كل شيء عن الحركة من حولي ... و تجمّد الكون ... و تصلّبت الأشياء ...

وخز قوي شعرت به أخيرا في راحة يدي ، سببه ضغط أظافر رغد الشديد على يدي ...

هنا ...التفت إليها ... رأيت نهرا من الدموع ينساب من بين رموشها ... و على شفتيها كلمة لا تكاد تنطلق ...

" غرفتي ! غرفتي يا وليد ! "

حاولت تحريك يدي ، و تقريب ميدالية المفاتيح من عيني لاختيار المفتاح المناسب ، ألا أن رعشة قوية سرت ببدني .. جعلت الميدالية تنزلق من بين أصابعي و تسقط أرضا ، محدثة رنينا تخلخل عظامي و زلزلها ....

وقفت متسمرا في مكاني عاجزا عن الانثناء و التقاط المفاتيح



رغد تحرّكت و التقطت المفاتيح بنفسها و مدّت يدها إلي ...

تحشرج صوتي عن كلمة :

" افتحيه "

لا أعرف كيف ظهرت حروفها !

نظرت رغد إلي بتردد ، ثم التفتت نحو باب غرفتها ، و تقدّمت خطوة ... و بدأت تجرّب المفاتيح ...

و أخيرا انفتح القفل ... و حركت رغد الباب للأمام قليلا ، بتردد

كانت الغرفة غاطة في السبات العميق المظلم ، منذ تسع سنين !

لم تتحرك رغد ، بل توقفت في مكانها لا تملك من الشجاعة ما يكفي لأن تدخل

أما أنا ، فقد أصاب ركبتي تصلب حاد عجزت معه تحريك أي منهما

" أنا خائفة ! "

قالت ذلك رغد و هي تلتفت نحوي ...

" لا تقلقي ! لا يوجد أشباح ! "

قلت ذلك ، و أنا أرتجف خوفا من أشباح الماضي ...

و لما رأيت في عينيها التردد ... أجبرت قدمي على السير للأمام ... و وقفت إلى جانبها مباشرة ... أمام الباب

دفعت ُ به بهدوء حتى فتحته ... و أنا مغمض العينين !

من سأرى في الداخل ؟؟ لابد أنها طفلتي الصغيرة الحبيبة ، نائمة على سريرها ... كالملاك !

فتحت عيني ... كانت الغرفة تسبح في الظلام ... مددت يدي و أضأت المصباح ... و أخيرا ... رأيت كل شيء ...

و آه مما رأيت ...

هناك ... إلى اليمين ، ترقد سرير رغد القديم ، تماما كما تركته منذ سنين ...

لقد كنت أنا من وضع السرير في مكانه ، كما رتّبت أثاث الغرفة بنفسي ...

شمعت شهقة ضعيفة انطلقت من صدر رغد ... الواقفة إلى جواري

لكنني لم التفت إليها ... لقد كنت مأخوذا بسحر الذكرى الماضية ...

تقدّمت نحو سرير رغد ... أجر قدمي ّ جرا ... حتى إذا ما بلغته انثنيت عليه و أخذت أتحسسه ...

طافت بي الذكرى ... و تخيلت رؤية رغد نائمة هناك ... و هيء لي أنني لمست شعرها الناعم ... و أحسست بأنفاسها القصيرة ... شعرت بجسمها الضئيل يتحرك !

" رغد صغيرتي ! "

انطلق الاسم من لساني عفويا ... كما انطلقت عبرة حارقة من مقلتي ...

يا للأيام !

بعد كل هذه السنين ... أعود إليك !

داهمتني رغبة جنونية في أن أحتضن السرير برمته ... في أن أطوّقه بذراعي ... في أن أقبّل دعائمه ...

" هل كانت هذه غرفتك يا رغد ؟ "

كان هذا صوت أروى ، أيقظني من سبات الذكريات ، فهو صوت لم أعتد على سماعه في هذا البيت !

" نعم "

أجابت رغد و هي تتقدم نحوي ...

التفت إليها فإذا بي أراها تحدّق في شيء ما و هي تقول :

" وليد ! "

التفت إلى ذلك الشيء ، فإذا به ورقة صغيرة ... ملصقة بالجدار بشريط لاصق ، مرسوم عليها صورة لشخص ما ، و قد امتد خط طويل تحت أنفه !

إنها الصورة التي رسمتها لي رغد عندما كنا هنا ، قبل زمن !

و هذا الخط الطويل ... هو ( الشارب ) الذي تخيلته ينبت لي ، عندما أكبر !


مددت ُ يدي و انتزعت الورقة و نظرت إليها مليا ...

رباه ! ألا تزال هذه الصورة حيّة حتى الآن !

نظرت إلى رغد ... أعساها تذكرها ؟؟

سمعتها تقول :

" تشبهك ! أليس كذلك ؟ "

و تبتسم !

رفعت يدي إلى شاربي أتحسسه ، ثم قلت :

" إلى حد ما ! "

ثم نظرت إليها ...

و تعرفون ما حصل ؟؟

انفجرنا ضاحكين ...

ذلك الضحك الذي أعاد الحياة فجأة إلى بيت ميّت منذ سنين ....

بدت الأجواء الآن أكثر حيوية ، و جالت رغد في غرفتها بمرح تتحسس الأشياء من حولها و تنفض يديها من الغبار !

" لا شيء تغيّر وليد ! "

" لا شيء ! "

سوى أن تسع سنوات قد أضيفت إلى عمرك ِ و منعتني من أن أحملك ِ على ذراعي و أدور بك في الغرفة كما كنت أفعل سابقا !


" دعنا نرى غرفتك ! "

قالت ذلك رغد فالتفت ّ إلى الباب ، و حينها فقط تذكرت أن أروى و أمها كانتا موجودتين معنا !

بعد ذلك ، فتحت ُ باب غرفتي الملاصقة لغرفة رغد و ما إن أضأت المصباح حتى وقعت عيني مباشرة على ذلك الشيء المجعّد الملقى هناك عند تلك الزاوية !

التفت إلى رغد ... أتراها رأته ؟ أتراها تذكّرته ؟؟ أتراها تذكر الأمنيات التي ... حبستها فيه قبل 11 عام أو يزيد ؟؟

لكن رغد لم يبد ُ عليها أنها انتبهت لوجوده ، و هو محشور عند تلك الزاوية ...


تسللت رغد إلى الداخل و جالت ببصرها في أنحاء الغرفة جولة سريعة ثم وضعت يديها على وجهها و تنهّدت ...

" يا إلهي !! "

و عندما رفعت يديها ، كانت الدموع قد بللتهما

مسحت دموعها و أعادت تأمل الغرفة ، ثم قالت :

" لقد منعتني أمي من دخولها بعد رحيلك ! لا أصدق أنني دخلتها مجددا ! "

ثم التفتت فجأة ناحية الباب و قالت :

" لقد تركت ُ رسالة هاهنا ! "

قلت :

" نعم . لقد رأيتها ! لم أكن لأصل إليكم لولاها يا رغد ! شكرا لك ! "

و كانت رغد قد كتبت رسالة وضعتها أسفل الباب ، تذكر فيها انتقالهم إلى المدينة الصناعية ، و اكتشفت أنا وجودها ليلة عودتي إلى المنزل ، بعد خروجي من السجن ، العام الماضي !


رغد عادت تتأمل الغرفة إلا أنها لم تلمح ذلك الصندوق ...

و يبدو أنه لم يكن ليخطر لها على بال ...

بل و ربما لم تعد تذكره ...

و هذا ، جعلني أتألم كثيرا ... و كنت سأنبهها إليه لولا أن الخالة ليندا قالت لحظتها :

" أضنانا التعب يا بني ، أرنا أين يمكننا المبيت ؟ "

قالت رغد مباشرة :

" أنا سأنام في غرفتي ! "

و رُتّب الأمر بحيث أنام أنا في غرفتي ، و ورغد في غرفتها ، و أروى و الخالة في الصالة ...

كان التعب قد نال منا ما نال ، للدرجة التي ، و رغم كل ما أثارته الذكريات من الآلام ، نمت ُ فيها بسرعة ...

أظن أنني كنت أحلم بشيء ما ... و أظنه كان شيئا جميلا ... و أظن أن رغد كانت هي مضمون حلمي ...

فجأة سمعت نقرا على الباب ... استويت جالسا و أخذت أحدق في الظلام من حولي ... تذكّرت أنني أنام على سريري في منزلي القديم ... لم أصّدق أنها الحقيقة ... النقر كان يصل أذني ... أستطيع أن أسمعه جيدا ... إنه ليس بالحلم ... و حين أنهض ... و أفتح الباب ... سوف لن أجد خيال رغد الطفلة الصغيرة ... و أسمعها تقول ...

" وليد أنا خائفة ! دعني أنام معك ! "

تقدّمت نحو الباب و دقات قلبي تتسارع ...

أحقا ستظهر رغد ؟

أ أنت ِ خلف الباب يا رغد ؟

أعدت ِ للظهور كما في السابق ؟

هل رجع الزمن للوراء ... فقط تسع سنين ؟ ...

أمسكت بمقبض الباب ... و أدرتها ...

و أنا أنظر إلى الأسفل ... إلى حيث أتوقع أن أجد عيني صغيرتي الخائفة ...

يا رب ... حقق حلمي و لو لحظة واحدة ...

و لو لمرة أخيرة ... أرى فيها صغيرتي الحبيبة و آخذها إلي ...


فتحت الباب ... فوقعت عيناي على اليد التي كانت تطرق الباب ...

رفعتها للأعلى قليلا ... فإذا بي أرى وجها كالذي تمنيت رؤيته ...

أغمضت عيني برهة و عدت أحدق بعينيها

أأنا أحلم ؟ أم هذه حقيقة ؟؟

" رغد !!! "

همست بصوت لم أكد أن أسمعه ...

ارتفعت يد رغد قرب عنقها ، و تنهّد صدرها ثم سمعتها تقول :

" وليد ... أنا خائفة ... ابقني قربك ! "
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
اللؤلؤة السوداء
القائد "V"
القائد
اللؤلؤة السوداء


عدد المساهمات : 186
النقاط : 10340
التقييم : 5
تاريخ التسجيل : 21/07/2011
العمر : 38

رواية انت لي - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: رواية انت لي   رواية انت لي - صفحة 2 Emptyالجمعة يوليو 29, 2011 7:02 am


الحلقةالسادسةوالثلاثون

وقفت غير مصدّق لما أرى... متوهما أنه الحلم الذي لطالما راودني منذ سنين...

لكن... بالتأكيد فإن الشيء الذي يقف أمامي هذه اللحظة ... يضم ذراعيه إلى بعضهما البعض ... و يقشعر بدنه إن خوفا و بردا ... هذا الشيء
الملفوف في السواد ... هو بالتأكيد كائن بشري ...
و ليس أي كائن ...
تحديدا هي رغد !


" وليد ... أنا خائفة ! أبقني معك "


لا أعرف من الذي حرّك يدي ، نحو مكبس المصباح ، و أناره ...
هل يمكن أن أكون قد فعلت ذلك بلا وعي ؟؟

الإنارة القوية المفاجئة أزعجت بؤبؤي عيني ، فأغمضت جفوني بسرعة

و من ثم فتحتها ببطء...

رأيت وجه رغد بعينيها المتورمتين الحمراوين ، و اللتين تدلان على طول البكاء و مرارته ...



" رغد ... أأنت على ما يرام صغيرتي ؟؟ "

" أنا أشعر بالخوف ... وليد ... المكان موحش و ... ويثير الذكريات ... المؤلمة ! "

و سرعان ما انخرطت رغد في بكاء أجش بصوت مبحوح ...

" حسنا... عزيزتي يكفي ... لا تبكي صغيرتي ... تعالي اجلسي هنا "


و أشرت إلى مقعد بالجوار ، فجلست رغد عليه ... و بقيت واقفا برهة ... ثم جلست على طرف سريري ...

كنت في منتهى التعب و الإرهاق و أشعر برغبة ملحة جدا في النوم... لابد أن رأسي سيهوي على السرير فجأة و أغط في النوم دون شعور !


نظرت إلى الفتاة الجالسة على مقربة جاهلا ما يتوجب علي فعله !

سألتها :

" صغيرتي ... ألا تشعرين بالنعاس ؟ ألست ِ متعبة ؟ "

" بلى ... لكن ... لا أشعر بالطمأنينة ! لا أستطيع النوم ... أنا خائفة ! "

و رفعت يدها إلى صدرها كمن يريد تهدئة أنفاسه المرعوبة

قلت :

" لا تخشي شيئا صغيرتي ... ما دمت ُ معك "

و لا أدري من أين و لا كيف خرجت هذه الجملة في مثل هذا الوقت و الحال !
و هل كنت أعنيها أم لا ... و هل كنت جديرا بها أم لا !

لكن فتاتي ابتسمت !

ثم تنهدت تنهيدة عميقة جدا

ثم أسندت رأسها إلى المقعد و أرخت ذراعيها إلى جانبيها ...ا و أغمضت عينيها !


و أظن ... و الله الأعلم ... أنها نامت !


" رغد ! ... رغد ؟ "


فتحت رغد عينيها ببطء و نظرت إلي ...


" إنك بحاجة للنوم ! "


ردت ، بشيء لا يتوافق و سؤالي البسيط :


" غرفتك لم تتغير أبدا وليد ! كم أنا سعيدة بالعودة إليها ! "

و أخذت تدور بعينيها في الغرفة ...

كان الهدوء الشديد يسيطر على الأجواء ... فالوقت متأخر ... و العالم يغط في الظلام و السبات ...

قالت و هي تشير إلى موضع في الغرفة :


" كان سريري هنا سابقا ! هل تذكر يا وليد ؟ "


ثم وقفت و سارت نحو الموضع الذي كان سرير رغد الصغير يستلقي فيه لسنين ... قبل زمن ...

قالت :

" و أنت كنت تقرأ القصص الجميلة لي ! كم كنت أحب قصصك كثيرا جدا يا وليد ! ليت الزمن يعود للوراء ... و لو لحظة ! "


عندها وقفت أنا ... و قد استفقت فجأة من نعاسي الثقيل ... و قفزت إلى قمة اليقظة و الصحوة ... و كأن نهرا من الماء البارد قد صب فوق رأسي ...


التفتت إلي ّ صغيرتي و قالت :


" كنت ... كنت أحتفظ بالقصص التي اشتريتها لي في بيتنا الثاني ... لكن ... أحرقتها النيران ! "

و آلمتني ... جملتها كثيرا ...

رجعت بي الذكرى إلى البيت المحترق ... فإذا بالنار تشتعل في معدتي ...

أضافت رغد بصوت أخف و أشجى :

" تماما كما احترقت الصورة ... "

" رغد ... "



إنه ليس بالوقت المناسب لاسترجاع ذكريات كهذه ... أرجوك ... كفى !

نظرت من حولها ثم قالت :

" لا تزال كتبك منثورة ! أتذكر ... ؟ كنت تستعد للذهاب إلى الجامعة لإجراء امتحان ما ! أليس كذلك ؟؟ أليس هذا ما أخبرتني به ؟؟ أتذكر ؟؟ "


لا أريد أن أتذكّر !

أرجوك أيتها الذكرى .. توقفي عند هذا الحد ..

أرجوك ...

لا تعودي إلى ذلك اليوم المشؤوم ...

لو كان باستطاعتي حذفه نهائيا ... لو كنت ُ ... ؟؟؟


كنت ُ أريد الهروب السريع من تلك الذكرى اللعينة ... لكنها كانت تقترب ... و تقترب أكثر فأكثر ... حتى صارت أمامي مباشرة ...

عينان تحدّقان بعيني بقوة ... تقيّدان أنظاري رغم عني ...

عينان أستطيع اختراقهما إلى ما بعدهما ...

خلف تينك العينين ، تختبئ أمر الذكريات و أبشعها ...

أرجوك يا رغد ...

لا تنظري إلي هكذا ...

لا ترمني بهذه السهام الموجعة ...

لم لا تعودين للنوم ؟؟


" وليد ... "

" إه ... نعم ... صـ ... غيرتي ؟؟ "

" لماذا ... لم تخبرني بالحقيقة ؟ "

قلت بصوت متهدرج :

" أي ... أي حقيقة ؟ "

" إنك ... قتلته ! "




آه ...

آه ...

إنه فأس يقع على هامتي ...

لقد فلقتها يا رغد ...

ما عدت قادرا على الوقوف ...

نصفاي سينهاران ...

أرجوك كفى ...



" وليد ... لماذا لم تخبرني ؟؟ أنا يا وليد ... أنا... لم أدرك شيئا ... كنت ُ صغيرة ... و خائفة حد الموت ... لا أذكر ما فعلتَ به ... و لا ...
و لا أذكر ... ما فعله بي ! "


عند هذه اللحظة ... و فجأة ... و دون شعور مني و لا إدراك ... مددت يدي بعنف نحو رغد و انقضضت على ذراعيها بقوّة ... بكل قوّة ...


انتفضت فتاتي بين يدي هلعا ... و حملقت بي بفزع ...

لابد أن قبضتي كانتا مؤلمتين جدا آنذاك ، و لابد أنها كانت خائفة ...

خرجت هذه الجملة من لساني كالصاروخ في قوّة اندفاعها ... مخلفة خلفها سحابة غبار هائلة تسد الأنوف و تكتم الأنفاس ... و تخنق الأفئدة ...


كررت ُ بجنون :

" ماذا فعل بك يا رغد ؟؟ ...
حتى... حتى لو كان قد ... لامس طرف حزامك فقط ... بأطراف أظافره القذرة ... كنت سأقتله بكل تأكيد ... بكل تأكيد ..."


فجأة رفعت رغد يديها و غطّت وجهها ... و هي تطلق صيحة قصيرة ...

كانت قبضتا يدي ّ لا تزالان تطبقان على ذراعيها بعنف ... و بنفس العنف انقضتا فجأة على يديها ... و أبعدتهما بسرعة عن وجهها ، فيما عيناي تحملقان بعينيها بقوة ....



صرخت ُ :

" ماذا فعل بك ؟؟ "



كانت رغد تنظر إلي ّ بذعر ...

نعم إنه الذعر ...

أشبه بالذعر الذي قرأته في عينيها ذلك اليوم ...


تملّصت رغد من بين يدي و ابتعدت بسرعة ، و اتجهت نحو المقعد الذي كانت تجلس عليه قبل قليل ... و ارتمت عليه ... و هتفت :

" لا أريد أن أذكر ذلك ... لا أريد ... لا أريد "

و عادت لإخفاء وجهها خلف كفيّها .

دارت بي الدنيا آنذاك و شعرت برغبة شديدة في تمزيق أي شيء ... أي أي شيء !

التفت يمنة و يسرة في اضطراب باحثا عن ضحية تمزيقي ... و بعض زخات العرق تنحدر من جبيني بينما أشعر باختناق ... و كأن تجويف حنجرتي لم يعد يكفي لتلقي كمية الهواء المهولة و الممزوجة بذلك الغبار و التي يرغمها صدري الشاهق على الاندفاع إليه ...


تحركت خطوة في كل اتجاه ... و بلا اتجاه ...

بعثرت نظراتي في كل صوب ... و بلا هدف ...

و أخيرا وقع بصري على شيء مختبئ عند إحدى زوايا الغرفة ...
يصلح للتمزيق !


توجهت إلى ذلك الشيء ، و التقطته عن الأرض ... تأمّلته برهة ... و استدرت نحو رغد ...


إنه صندوق الأماني القديم ... الذي جمع أمنيات صغرنا منذ 13 عاما !

ها قد آن أخيرا ... أوان استخراج الأماني ...

و لم علينا الاحتفاظ بها مخبأة أطول ما دامت الأقدار ... أبت تحقيقها ؟

على الأقل ... أمنياتي أنا ...

يجب أن يتمزّق أخيرا ....

و الآن يا رغد ... جاء دورك !


" رغد "

ناديتها فلم تستجب مباشرة . اقتربت منها أكثر فأكثر حتى صرت ُ أمامها مباشرة

هي جالسة على المقعد مطأطئة الرأس ... تداري الدموع

و أنا واقف كشجرة بلا جذور في انتظار اللحظة التي تهب فيها الرياح ، فتقلعها ...

" رغد ... أتذكرين هذا ؟ "

و ازدردت ريقي ...

إنها اللحظة التي لطالما انتظرتها ... سنين و سنين و سنين ، و أنا أتوق شوقا و أحترق لهفة لمعرفة أمنيتك يا رغد ...

رفعت رغد رأسها و أخذت تنظر إلى الشيء المحمول بين يدي ...

نظرت إليه نظرة مطوّلة ... ثم اتسعت حدقتا عينيها و انفغر فاها و شهقت شهقة مذهولة !

إذن ، فأنت تذكرينه ؟؟

إنه صندوق أمانيك يا رغد ... أيتها الطفلة العزيزة ... أنا صنعته لك منذ 13 عاما ... في ذلك اليوم الجميل ... حين قدمت ِ إلي ّ منفعلة و أنت ِ تحملين كتابك الصغير و تهتفين :

" وليد ... وليد اصنع لي صندوقا "

تحركت عينا رغد من على الصندوق إلى عيني ّ ...

كانت آخر دمعة لا تزال معلقة على رموشها ، في حيرة .... أ تنحدر أم تتراجع ؟؟

شفتاها الآن تحركتا و رسمتا ما يشبه الابتسامة المترددة ...

و أخيرا نطق لسانها :


" صندوقي !! "

ثم هتفت متفاجئة :

" صندوقي ! أوه ... إنه صندوقي ! "

و هبّت واقفة و التقطته من بين يدي !


" يا إلهي ! "

قلت :

" أتذكرينه ؟ "

رفعت عينيها عن الصندوق مجددا و قالت بانفعال :

" نعم ! أذكره ! إنه صندوق الأماني "

قالت ذلك و هي تؤشر بإصبعها على كلمة (( صندوق الأماني )) المكتوبة على الصندوق الورقي ...

ثم أخذت تقلّبه ، و من ثم عبس وجهها فجأة و نظرت إلي ّ بحدّة و وجس :


" هل ... فتحته ؟؟ "

" ماذا ؟ "

" فتحتَه ؟؟ "


إنه سؤال بسيط ! و عادي جدا ! أليس كذلك ؟؟

و لكن ... لم لم أستوعبه ؟؟ و لم تطلّب مني الأمر كل هذا التركيز و الجهد البليغين حتى أفهمه ؟؟

هل فتحته ؟؟

أوتسألين ؟؟

رغد !

ألم أقطع لك العهد بألا أفتحه دون علمك ؟؟

أتشكين في أنني ... قد أخون عهدي معك ذات يوم ؟

ألا تعرفين ما سببه لي و ما زال يسببه لي صندوق أمانيك هذا مذ صنعته و حتى اليوم ؟؟

هل تعتقدين إنه اختفى من حياتي بمجرّد أن علّقته هناك فوق رف المكتبة ؟؟

إنه لم يكن في الحياة ... صندوق أهم من صندوقك !


قلت :

" لا ... مستحيل ! "

أخذت تقلّبه في يدها ثم نظرت إلي بتساؤل :

" ماذا حدث له إذن ؟ "


إن كنتم قد نسيتم فأذكركم بأنني ذات مرّة و من فرط يأسي و حزني جعّدت الصندوق في قبضتي ...

قلت :

" إنه الزمن ! "

من الصندوق ، إلى عيني ّ إلى أنفي ، ثم إلى عيني ، انتقلت نظرات الصغيرة قبل أن تقول :

" إذن الزمن ... لا يحب أن تبقى الأشياء مستقيمة ! "

" عفوا ؟؟ "

ابتسمت رغد و قالت :

" أليس الزمن هو أيضا من عقف أنفك ؟ "

رفعتُ سبابتي اليمنى و لامست أنفي المعقوف ... و عندها تذكّرت ُ أنني عندما التقيت برغد أول مرّة بعد خروجي من السجن ، سألتني عما حدث لأنفي فأجبتها :

( إنه الزمن ! )

" نعم ! إنه الزمن ... "

و صمتّ قليلا ثم واصلت :

" ألن تفتحيه ؟ "

و كنت في قمة الشوق لأن أستخرج سر رغد الدفين و أعرف ... من هو ذلك ( الصبي ) الذي كانت تتمنى الزواج منه عندما تكبر ؟؟

نظرت إليها بنفاذ صبر ... هيا يا رغد ! افتحيه أرجوك ! أو اسمحي لي و أنا سأمزقه فورا ... و افضح مكنونه !

لكن رغد أومأت برأسها سلبا ...

كررت ُ السؤال :

" ألن تفتحيه ؟ "

" لا ! "

" لم ؟ ألا تتوقين لمعرفة ما بالداخل ؟ بعد كل هذه السنين ؟؟ "

" لا ! "

و طأطأت برأسها ... و قد علت خديها حمرة مفاجئة ... ما زادني فضولا فوق فضول لمعرفة ما تحويه !

قلت :

" هل ... تذكرين ... أمنيتك ؟ "

لم ترفع رأسها بل أجابت بإيماءة بسيطة موجبة .

" مادام الأمر كذلك ... فما الجدوى في إبقائها داخل الصندوق ؟ "

رفعت رغد أخيرا نظرها إلي و قالت :

" لأنها لم تتحقق بعد "

شعرت بنبضات قلبي تتوقف برهة ، ثم تندفع بسرعة جنونية ...و تخترق قدمي ّ و تصطدم بالأرض !

و استطردت ْ، و قد بدا الجد و الإصرار على ملامح وجهها فجأة :


" و سأعمل على تحقيقها من كل بد ... و بأي وسيلة ... و مهما كان الثمن "


و أضافت و هي تلوح بسبابتها نحوي و تحد من صوتها أكثر :


" ... و لن أسمح لأي شيء باعتراض طريقي "




الكلمات التي خرجت بحدّة من لسان رغد ، مقرونة بالنظرة القوية و اللهجة الجدية ، و المليئة بمعاني التحدّي ، جعلت تلك النبضات تقفز من باطن الأرض ، و تعود أدراجها متخللة قدمي ّ المرتجفتين ، و تضرب قلبي بعنف ... محدثة تصدّع خطير ...


اعتقد ... أنني أنا ( الشيء ) الذي لن تسمح له باعتراض طريقها ... و أعتقد أن اسم ( حسام ) مكتوب على قصاصة قديمة مختبئة داخل هذا الصندوق ... و اعتقد أنني أتلقى الآن تهديدا من حبيبة قلبي ... بألا أعترض طريق زواجها من الرجل الذي تمنت الارتباط به منذ الصغر ...

غضبي ثار ... نعم ثار ...

لازالت تنظر إلي ّ بتحد ...

حسنا يا رغد ...

قبلت ُ التحدي ...

قلت :

" و أنا أيضا لم أحقق أمنيتي بعد "

و بحدّة أضفت :

" و سأعمل على تحقيقها مهما كلّفني ذلك ... و أي شيء يعترض طريقي ... "

و صمت ّ برهة ، ثم أضفت :

" سأقتله ! "


و سحبت الصندوق من يدها بغتة ، و أكّدت :

" إنه حلمي ... و الموت وحده ما قد يحول دون نيله ... عدا عن هذا يا رغد ... عدا عن الموت ... فإنني لن أسمح لأي شيء بأن يبعده عنّي ... لن أتخلى عن حلمي أبدا ... إنه دائما أمامي ... و قريبا ... سيصبح بين يدي ... و لي وحدي ... "


لم أشعر بمدى قوة الضغط الذي كنت أمارسه على ذلك الصندوق الورقي المخنوق في قبضتي ، حتى أطلقت رغد صيحة اعتراض

كانت تنظر إلى الصندوق برثاء ... و مدّت يدها لتخلّصه منّي ... إلا أنني سحبت يدي بعيدا عنها ... ثم سرت ُ مبتعدا ... و اتجهت إلى مكتبتي و وضعت الصندوق المخنوق في نفس الموضع الذي كان يقف فيه قبل سنين ...


و حين استدرت ُ إلى رغد رأيتها تراقبني بنظرات اعتراض غاضبة .

قلت بتحدٍَ أكبر :


" سنرى من منّا سيحقق أمنيته ! "






..........................





لم أفهم معنى تلك النظرة القوية التي رمقني بها وليد !

كانت أشبه بنظرة تحد و إصرار ... و كانت مرعبة !

و ... في الحقيقة ... جذّابة !

أكاد أجن من هذا الـ وليد ! إن به مغناطيسا قويا جدا يجعل أي شيء يصدر منه ... نظرة ، إشارة ، إيماءة ، حركة ... ضحكة أو حتى صرخة ، أو ربما ركلة ، أي شيء يصدر منه يجذبني !

لا تسخروا منّي !

إنه وسط الليل و أنا شديدة التعب أكثر مما تعتقدون ، لكن الخوف جعلني أطرق باب وليد...



كان واقفا قرب المكتبة ، استدار إلي :

" بعد إذنك "

و ذهب إلى دورة المياه

جلست ُ أنا على المقعد الذي كنت أقف أمامه ، و أسندت رأسي إليه و شعرت بموجة قوية من النعاس تجتاحني ... انتظرت وليد ... لكن تأخر ...


في المرة التالية التي فتحت فيها عيني ّ ... كانت أشعة الشمس تتسلل عبر النافذة و الستار و جفوني !

شعرت بانزعاج شديد فأنا لازلت راغبة في النوم ... لكنني تذكرت فجأة أنني في غرفة وليد في بيتنا القديم ...

فتحت عيني ّ أوسعهما سامحة للضوء باختراق بؤبؤي و استثارة دماغي و إيقاظه بعنف !


مباشرة جلست و نظرت من حولي ...


وليد كان نائما في فراشه !


باب الغرفة كان مفتوحا كما تركته ليلة الأمس ...

نهضت عن مقعدي و شعرت بإعياء في مفاصلي ... ألقيت نظرة على وليد ، و كان يغلف جسده الضخم بالشرشف و بالكاد تظهر إحدى يديه !


عندما خرجت من الغرفة ، توجهت لإلقاء نظرة سريعة على الصالة ، حيث كانت الشقراء و أمها تنامان ...

ما إن ظهرت ُ في الصورة حتى رأين أعين أربع تحدّق بي !

لقد كانتا هناك تجلسان قرب بعضهما البعض ... و تنظران إلي !


" ص... صباح الخير ! "

قلت ذلك ثم ألقيت نظرة على ساعة يدي ، و عدّلت الجملة :

" أو ... مساء الخير "



لم تجب أي منهما مباشرة ... لكن الخالة قالت بعدها :

" مساء الخير . نوم الهناء "


لم أرتح للطريقة التي ردّت بها علي ، و شعرت أن في الأمر شيء ...

قالت أروى :

" مساء الخير. هل نهض ابن عمّك ؟؟ "


تعجّبت من الطريقة التي كلّمتني بها ، و من كلمة ( ابن عمّك ) هذه !

و لم تبد لي نظرتها طبيعية ...

قلت :

" لا ! إنه ... لا يزال نائما ! "



تبادلت الاثنتان النظرات ... وعادتا للصمت...


ذهبت بعدها إلى غرفتي الملاصقة لغرفة وليد ... و عندما خرجت للصالة بعد قرابة النصف ساعة أو يزيد ، رأيت الثلاثة ، وليد و الشقراء و أمها يجلسون سوية في الصالة ...


لا أعرف في أي شيء كانوا يتحدثون ... و بمجرّد أن لمحوني لاذوا بالصمت !

ألا يشعركم ذلك بأنني أنا موضوع حديثهم ؟؟؟

إلى وليد وجهت نظراتي و كلماتي ، بل و حتى خطواتي :

" مساء الخير "

" مساء النور ... "

و جلست ُ على مقربة .

نظرت ُ إلى الأشياء من حولي ، فأنا لم أتأملها البارحة ... الصالة كما تركناها قبل 9 سنين ... حسبما أذكر ، و الغبار يغطي أجزاءها !
قلت :

" سنحتاج وقتا طويلا و جهدا مكثفا لتنظيف كل هذا ! "

أروى قالت معترضة :

" و هل سيكون علينا تنظيف هذا ؟ إننا لن نسكن هنا على أية حال "

استغربت ، و نظرت إلى وليد متسائلة ... و هذا الأخير لم يعقّب !

قلت :

" وليد ... ألن نسكن هنا ؟ "

أجاب :

" سنبقى هنا في الوقت الراهن . لا نعرف كم من الوقت ستستغرق مسألة استلام الإرث . سأستعين بوالد صديقي سيف . آمل أن تسير الأمور بسرعة"

قلت :

" أتعني ... أننا بعد إتمام هذه المهمّة سنعود إلى المزرعة ؟؟ "

تولت الشقراء الرد بسرعة :

" بالطبع ! ماذا تعتقدين إذن ؟؟ سنعود للمزرعة و نجري بعض التعديلات في المنزل ... ثم ... "

و نظرت إلى وليد و قالت مبتسمة :

" نتزوّج ! "

تخيلوا كيف يكون شعور فتاة تسمع أي امرأة أخرى تقول لها :

( سأتزوج حبيبك ) ؟؟

رميت سهام نظراتي الحارقة نحو الشقراء البغيضة ، ثم نحو وليد ... و اجتاحتني رغبة عارمة في تمزيقهما سوية !

أهذا ما يخططان له ؟؟

يستلمان الإرث الضخم ، و يذهبان للمزرعة ليعدا عشهما و يتزوجان !

ماذا عنّي أنا ؟؟

مجرّد هامش زائد لا أهمية له و لا معنى لوجوده ؟

كنت أريد أن أسمع من وليد أي تعليق ، لكنه ظل صامتا شاردا ... ما أثار جنوني ...

مازالت الابتسامة معلقة على شفتي الحسناء الدخيلة ، و هاهي تحرّكهما من جديد و تقول بصوت شديد النعومة :

" فيم شردت ... عزيزي ؟ "

مخاطبة بذلك الرجل الوحيد معنا في الصالة ، و الذي يجلس على مقربة منّي ، و الذي يجري حبّه في عروقي تماما كما تجري دماء قرابتنا ...

وليد قال :

" كنت أفكّر في أن ذهب إلى أحد المطاعم ! لابد أننا جائعون الآن ! "



....................


في الحقيقة كان الطعام هو آخر ما أفكر به ، و لكنه أول ما قفز إلى ذهني عندما تلقيت سؤال أروى و أنا شارد ذلك الوقت ...

و ما حدث هو أننا ذهبنا إلى المطعم ثم إلى السوق و اشترينا بعض الحاجيات و من ثم عدنا إلى المنزل ...

كما و اتصلنا بالعم إلياس و كذلك بأم حسام – تحت إصرار من رغد – و طمأنا الجميع على وصولنا سالمين .

بعدها اتصلت بصديقي القديم و رفيق دراستي و محنتي ... سيف و اتفقت معه على أن يحضر إلى منزلي ليلا .

تعاونا نحن الأربعة في تنظيف غرفة الضيوف قدر الإمكان من أجل استقبال سيف .

حاولت جاهدا أن أتجاهل أي ذكرى تحاول التسلل إلى مخيلتي من جراء رؤيتي لأجزاء المنزل من حولي ... إلا إن هذه الذكرى الأليمة اخترقتني بكل إصرار !

كان ذلك عندما قمنا بنقل بعض قطع السجاد إلى الخارج ... إلى مؤخرة المنزل ، حيث تقع الحديقة الميتة و التي أصبحت مقبرة للحشائش الجافة و مأوى للرمال الصفراء ...

عند إحدى الزوايا ... كانت عدّة الشواء القديمة تجلس بكل صمود ... متحدية الزمن !

لا أعرف لماذا يقشعر بدني كلما رأيت هذه بالذات !
و لم أكن أعرف أن لها نفس التأثير على أي مخلوق إلى أن رأيت رغد ... و التي كانت تحمل السجادة معي تقف فجأة ، و تسند طرف السجادة إلى الأرض ... و تمد يدها اليمنى لتلامس ذراعها الأيسر !


صحيح أنها كانت صغيرة آنذاك ، و لكن حادثة السقوط على الجمر المتقد هي حادثة أقسى على قلب الطفل من أن ينسى آثارها ...

إن أثر الحرق ظل محفورا في ذراعها الأيسر ... و كنت أراه كل يوم فيما مضى !

ترى ...

ألا يزال كما هو ؟؟

وضعنا السجادة الملفوفة قرب أدوات الشواء تلك ، ثم جلسنا فوقها نلتقط أنفاسنا !


" ثقيلة جدا ! أراهن أنهما لن تتمكنا من حمل الأخرى ! "

قالت رغد ذلك ... و كانت أروى الخالة تحملان سجادة ملفوفة أصغر حجما و في طريقهما إلينا

قلت :

" بل ستفعلان ! لا تعرفين كم هما قويتان ! "

و أنا أعرف كيف كانتا تعملان الأعمال الشاقة في المزرعة !

قالت :

" إنهما متشابهتان جدا "

" نعم ... صحيح "

" و جميلتان جدا ! "

استغربت ... لكنني قلت :

" نعم ! صحيح ! "

واصلت رغد :

" و أنت محظوظ جدا ! "

صمت ، و علتني الريبة ! ما الذي تعنيه صغيرتي ؟؟

رمقتها بنظرة استفسار فتطوّعت هي بالإيضاح مباشرة :

" لديك خطيبة جميلة جدا ... و ثرية جدا ! ... سوف تعيشان سعيدين جدا "

و صمتت ثوان ثم استطردت :

" أما أنا ... "

ظهرت أروى و الخالة في مرآنا فالتفتنا إليهما ...

كانتا تجران السجادة بتثاقل ... و سرعان ما هببت ُ أنا لمساعدتهما .

و في الليل حضر صديقي العزيز سيف و كان لقاؤنا حميما جدا ...

تبادلنا الأخبار ... فعلمت منه أنه رزق طفلا صغيرا !

" دورك يا رجل ! و بما أن أمورك قد استقرت ... فهيا عجّل بالزواج ! "

ابتسمت ُ لدى تعليقه المتفائل ... إن أموري لم تستقر و لم تحل ... بل هي آخذة في التعقد مرة لعد أخرى ... و الآن أنا في حيرة شديدة ... ماذا علي َ أن أفعل ؟؟

شرحت له تفاصيل إرث أبي عمّار ... عم أروى التي هي خطيبتي ، و ابنة صاحبي الذي تعرفت علي في السجن ، بعد قتلي لعمّار ... فبدا الأمر أشبه بخرافة من خرافات الجدات العجائز !

" سبحان الله ! أي قدرة إلهية عجيبة أودت بك إلى هذا الوادي يا وليد ! "

" إنها الأقدار يا صديقي ! "

" إذن ... ستصبح زوج سيدة من أثرى سيدات المنطقة ! سبحان الله ! ها قد ابتسمت ، بل ضحكت لك الدنيا أخيرا يا وليد ! "

و لأن أي من علامات السرور لم تظهر علي ، فإن سيف لاذ بالصمت المفاجئ المتعجّب ...

كانت في صدري عشرات الهموم إلا أنني لم أشأ أن أنفثها في وجه صديقي مذ أول لقاء يجمعنا بعد طول فراق ...

بعد ذلك ، اتفقت مع سيف على ترتيب زيارة رسمية لمكتب المحاماة الذي يملكه والده غدا باكرا ، و اتخاذه محاميا قانونيا لتولي الإجراءات اللازمة بشأن الإرث.

بعد انصرافه ، ذهبت إلى الصالة العلوية حيث يفترض أن يكون الجميع ، فوجدت أروى تتصفح مجلة كانت قد اشترتها عصر اليوم أثناء تسوقنا ، و قد نفشت شعرها الذهبي الطويل على كتفيها بحرية ... بينما الخالة ليندا نائمة على المقعد ، و رغد غير موجودة ...


بادرتني أروى بالسؤال :

" كيف كان اللقاء ؟ "

" حميما و مثمرا ! سأذهب غدا مع سيف إلى مكتب أبيه و هو محام معروف و ماهر ، و سننطلق من هناك ! "

" آمل ألا يطول الأمر ... "

" إنها أمور تطول في العادة يا أروى ! علينا بالصبر "

قالت و هي تضع يدها على صدرها :

" أشعر بالحنين إلى المزرعة ... و إلى خالي ! الجو هنا مغبر و كاتم ... و كئيب جدا يا وليد "

تحركت الخالة ليندا قليلا ... فالتفتنا إليها ثم قالت أروى :

" دعنا نذهب إلى غرفتك كي لا نزعجها "

و هناك ، في غرفتي واصلنا الحديث ... أخبرتها بتفاصيل لقائي بسيف و ما خططنا له . و تشعبت أحاديثنا إلى أمور كثيرة و مر الوقت سريعا دون أن نشعر به !

فجأة ، سمعت طرقا على الباب ...

استنتاجكم صحيح !

العينان الواسعتان ذاتا النظرات الشجية ، حلقتا بعيدا عن عيني ّ و حطّتا على الفتاة الجالسة على السرير داخل الغرفة تعبث بخصلات شعرها الذهبية ...
ابتسمت ُ لصغيرتي ... و قلت :

" مرحبا رغد ! "

رغد لم تنظر إلي ّ، كما لم ترد علي ّ... و رأيت ُ وجهها يحمر !

قلت :

" تفضَلي "

رفعت بصرها إلي و رمتني بسهم ثاقب !

قلت :

" أهناك شيء ؟؟ "

ردّت رغد بجملة مضطربة :

" كنت ... أريد ...
أريد الهاتف ! "

و كررت بنبرة أكثر ثقة :

" أريد هاتفك لبعض الوقت ! هل تعيرني إياه ؟ "

كنت متشككا ، لكنني قلت :

" بكل تأكيد ! "

و أحضرت لها هاتفي المحمول ... و هو وسيلتنا الوحيدة للاتصال ...

تناولته رغد و شكرتني و انصرفت بسرعة ...

عندما استدرت ُ للخلف ، و جدت ُ أروى و قد مدّت رجليها على السرير و استندت على إحدى ذراعيها بينما استخدمت الأخرى في العبث بخصلات شعرها الطويل الأملس !


" حان وقت النوم ! سأنهض غدا باكرا و أريد أن آخذ قسطا كافيا من الراحة "

قلت ذلك معلنا نهاية الجلسة ... فاسحا المجال لأروى للذهاب من حيث أتت.


ساعتان و نصف من التقلب على السرير ... دون أن يجد النوم طريقه إلى إي من جفوني الأربعة ...

ليس ما يقلقني هو إجراءات الإرث تلك ... و لا خططي المستقبلية ... و لا المفاجآت التي يمكن أن تخبئها القدر لي ...

بل هو مخلوق بشري عزيز على نفسي ... يحتل حجرات قلبي الأربعة ... و يتدفق منها مع تدفق الدم ... و يسري في عروقي مع سريانها و ينتشر في خلايا جسدي أجمع ... ثم يعود ليقطن الحجرات الأربع من جديد ...

كائن صغير جدا ... و ضعيف جدا ... و خواف جدا !

و هو لا يشعر بالطمأنينة إذا ما ابتعد عني ... و جاء طلبا لبعض الأمان بقربي ...

لكنه اكتفى بأخذ هاتفي المحمول ... و اختفى خلف هذا الجدار المشترك بين غرفتي و غرفته ...

إنني لو اخترقت الجدار ... سأجده نائما على السرير ... بأمان

أو ربما باكيا خلف الجدار ... في خوف ...

أو جاثيا على الأرض ... في حزن ...

أو ربما ذارعا الغرفة جيئة و ذهابا ... في ألم ...



إنني لا أستطيع أن أنام دون أن أطمئن عليها ! و ستبوء كل محاولاتي بالفشل حتما !

استسلم !

لا تكابر يا وليد !




تسللت من غرفتي بهدوء و أنا أتلفت ذات اليمين و ذات الشمال ... مخافة أن يشعر بي أحد ... و وقفت عند باب غرفة صغيرتي و أمسكت بالمقبض !


كنت على وشك أن أفتحه لو أن عقلي لم يستيقظ و يزجرني بعنف ! أي جنون هذا ؟؟ من تظن نفسك يا وليد ؟؟ كيف تجرؤ ؟؟


عدت مسرعا ...أجر أذيال الخيبة ... و رميت بجسدي المثقل على مرارة الواقع ... و استسلمت لحدود الله....




لم يكن الأمر بالصعوبة التي توقعتها لكنه لم يكن سهلا ! الكثير من الأوراق و الوثائق و التواقيع استغرقت منا ساعات طويلة . و كان يتوجب علي أخذ أروى إلى المحكمة ...


منتصف الظهيرة ، هو الوقت الذي عدت ُ فيه إلى المنزل بعد جهودي السابقة و أنا أحمل وثائق في غاية الأهمية في يد ، و طعام الغذاء في اليد الأخرى !


كيف وجدت أروى و الخالة ؟

وجدتهما منهمكتين في تنظيف المطبخ !


" أوه ! لم تتعبان نفسيكما ! إنه مليء بالغبار ! "

ردّت الخالة :

" و نحن لا نحتمل الغبار و لا نحبه يا ولدي . اعتدنا الجو النقي في المزرعة . على الأقل هكذا سيغدو أفضل "

وضعت كيس الطعام على المائدة المحتلة قلب المطبخ . و نظرت من حولي
كل شيء نظيف و مرتب ! كما كانت والدتي رحمها الله تفعل . شعرت بامتنان شديد لأروى و الخالة و قلت :

" جزاكما الله خيرا . أحسنتما . أنتما بارعيتن ! "

أقبلت أروى نحوي و هي تبتسم و تقول :

" هذا لتعرف أي نوع من النساء قد تزوّجت ! "

فضحكت الخالة و ضحكنا معها ...

في هذه اللحظة دخلت رغد إلى المطبخ .

كان وجهها مكفهرا حزينا ... و بعض الشرر يتطاير من بؤبؤيها !

وجهت حديثها إلي ، و كان صوتها حانقا حادا :

" هل عدت أخيرا ؟ تفضّل . نسيت أن تأخذ هذا "

و دفعت إلي بهاتفي المحمول و الذي كنت قد أعطيتها إياه ليلة الأمس ... و تركته معها فيما رافقت سيف إلى حيث ذهبنا صباحا .


و من ثم غادرت مسرعة و غاضبة ...

أنا و السيدتان الأخريان تبادلنا النظرات ... ثم سألت :

" ما بها ؟ "

فردت أروى بلا مبالاة :

" كالعادة ! غضبت حين علمت أنك خرجت و لم تخبرها ! كانت تنتظر أن توقظها من النوم لتستأذنها قبل الخروج ! "

و لم تعجبني لا الطريقة التي تحدّثت أروى بها ، و لا الحديث الذي قالته .

استدرت قاصدا الخروج و اللحاق برغد ... فنادتني أروى :

" إلى أين ؟ "

التفت إليها مجيبا :

" سأتحدث معها "

بدا استياء غريب و غير معهود على ملامح أروى ... ثم قالت :

" حسنا ... أسرع إلى مدللتك ! لابد أنها واقفة في انتظارك الآن "





...................







عندما أتى إلي ... كنت أشتعل غضبا ...

كنت واقفة في الصالة العلوية أضرب أخماسا بأسداس ...

وليد بدأ الحديث بـ :

" كيف أنت ِ ؟ "

رددت بعنف :

" كيف تراني ؟ "

صمت وليد قليلا ثم قال :

" أراك ... بخير ! "

قلت بعصبية :

" و هل يهمّك ذلك ؟ "

" بالطبع رغد ! أي سؤال هذا ؟؟ "

لم أتمالك نفسي و هتفت بقوّة :

" كذّاب "

تفاجأ وليد من كلمتي القاسية ... و امتقع وجهه ... ثم إنه قال :

" رغد ! ... هل لا أخبرتني ... ما بك ؟؟ "

اندفعت قائلة :

" لو كان يهمك أمري ... ما خرجت و تركتني وحيدة في مكان موحش ! "

" وحيدة ؟ بالله عليك ! لقد كانت أروى و الخالة معك ! "

" لا شأن لي بأي منهما . كيف تجرؤ على الخروج دون إعلامي ! كيف تتركني وحيدة هنا ؟ "

" و أين يمكنني تركك يا رغد إذن ؟؟ "

اشتططت غضبا و قلت :

" إن كان عليك تركي في مكان ما ، فكان أجدر بك تركي في بيت خالتي . مع من أحبهم و يحبونني و يهتمون لأمري ... لماذا أحضرتني معك إلى هنا ؟؟ ما دمت غير قادر على رعايتي كما يجب ؟؟ "



تنهّد وليد بنفاذ صبر ...

ثم قال :

" حسنا.. أنا آسف... لم أشأ أن أوقظك لأخبرك بأني سأخرج . لكن يا رغد ... هذا سيتكرر كثيرا ... ففي كل يوم سأذهب لمتابعة إجراءات استلام إرث أروى ... "


أروى ... أروى ... أروى ...

إنني بت أكره حتى حروف اسمها ...

حينما رأيتها البارحة في غرفة وليد ... و جالسة بذلك الوضع الحر ... على سريره ... و نافشة شعرها بكل أحقية ... و ربما كان وليد يجلس قربها مباشرة قبل أن أفسد عليهما خلوتهما ... حينما أتذكر ذلك ... أتعرفون كيف أشعر ؟؟؟


نفس شعور الليمونة الصغيرة حينما تعصر قهرا بين الأصابع !


أشحت بوجهي عن وليد ... و أوليته ظهري ... أردته أن ينصرف ... فأنا حانقة عليه جدا و سأنفجر فيما لو بقي معي دقيقة أخرى بعد ...

وليد للأسف لم ينصرف ... بل اقترب أكثر و قال مغيرا الحديث :

" لقد أحضرت طعام الغداء من أحد المطاعم . هلمّي بنا لنتناوله "

قلت بعصبية :

" لا أريد ! اذهب و استمتع بوجبتك مع خطيبتك الغالية و أمها "

" رغد ! "

التفت ّ إلى وليد الآن و صرخت :

" حل عنّي يا وليد الآن ... أرجوك "

و هنا شاهدت أروى مقبلة نحونا... عندما لمح وليد نظراتي تبتعد إلى ما ورائه ، استدار فشاهد أروى مقبلة ....

و أروى ، طبعا بكل بساطة تتجول في المنزل بحرية و بلا قيود ... أو حجاب مثلي !

قالت :

" رتبنا المائدة ! هيا للغداء "

التفت إلي وليد و قال :

" هيا صغيرتي ... أعدك بألا يتكرر ذلك ثانية "

صرخت بغضب :

" كذّاب "

حقيقة ... كنت منزعجة حد الجنون ... !

على غير توقّع ، فوجئنا بأروى تقول :

" كيف تجرؤين ! ألا تحترمين ولي أمرك ؟ كيف تصرخين بوجهه و تشتمينه هكذا ؟ أنت ِ فتاة سيئة الأخلاق "

صعقت للجملة التي تفوهت بها أروى ، بل إن وليد نفسه كان مصعوقا ...

قال بدهشة :

" أروى !! ما الذي تقولينه ؟؟ "

أروى نظرت إلى وليد بانزعاج و ضيق صدر و قالت :

" نعم يا وليد ألا ترى كيف تخاطبك ؟ إنها لا تحترمك رغم كل ما تفعل لأجلها ! و لا تحترم أحدا ... و لا أنا لا أسمح لأحد بأن يهين خطيبي العزيز مهما كان "

قالت هذا ... ثم التفتت إلي ّ أنا و تابعت :

" يجب أن تقفي عند حدّك يا رغد ... و تتخلي عن أفعالك المراهقة السخيفة هذه ... و تعرفي كيف تعاملين رجلا مسؤولا يكرّس جهوده ليكون أبا حنونا لفتاة متدللة لا تقدّر جهود الآخرين ! "

" أروى ! "

هتف وليد بانفعال ... و هو يحدّق بها ... فرّدت :

" الحقيقة يا عزيزي ... كما ندركها جميعا ... "

التفت وليد نحوي ... ربما ليقرأ ملامح وجهي بعد هذه الصدمة ... أو ربّما ... ليظهر أمام عيني هاتفه المحمول في يده ... و أنقض عليه بدون شعور ... و أرفعه في يدي لأقصى حد ... و أرميه بكل قوّتي و عنفي ... نحو ذلك الوجه الجميل الأشقر .... !


عدل سابقا من قبل Black Pearl في السبت يوليو 30, 2011 2:05 am عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
اللؤلؤة السوداء
القائد "V"
القائد
اللؤلؤة السوداء


عدد المساهمات : 186
النقاط : 10340
التقييم : 5
تاريخ التسجيل : 21/07/2011
العمر : 38

رواية انت لي - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: رواية انت لي   رواية انت لي - صفحة 2 Emptyالسبت يوليو 30, 2011 2:01 am


الحلقة السابعة و الثلاثون


لم يكن للضربة التي تلقيتها بيدي في آخر لحظة أي أثر على وجهي أو يدي... لكن أثرها كان غزيرا غائرا في قلبي و مشاعري...
ليس فقط لأنني اكتشفت مدى الكره الذي تكنّه رغد لي، بل و لأنني اكتشفت أن وليد متساهل معها لأقصى حد ... بل و بلا حدود ...
و فوق كونها فتاة مراهقة شديدة التدلل و الغنج، و قليلة التفكير في مشاعر الآخرين و ظروفهم، و فوق فرضها لوجودها و احتلالها مساحة كبيرة جدا من اهتمام وليد و مسؤوليته، و فوق كرهها لي و غيرتها الواضحة مني، فوق كل هذا و هذا، رغد تحب خطيبي !

إنني و مذ سمعتها تلك الليلة... تهمس له – و هو نائم في السيارة –

( وليد قلبي )

و أنا في حالة عصيبة و رغما عني بدأت أراقب كل تصرفاتها و أترجم كل أفعالها على أنها ولع بوليد !

فكيف أصحو ذات صباح، و أذهب إلى غرفة خطيبي فأراها نائمة على المقعد في غرفته ؟؟

يومها أخبرت أمي بكل ما جد... و أطلعتها على اكتشافي... و بكيت بمرارة

إنها و منذ أن ظهرت في حياتي ... قبل عدّة أشهر... منذ تلك الليلة التي حضرت مع وليد و دانة هاربين من القصف ... و هي تشغل اهتمام وليد و تفكيره !

و بالرغم من أنني تعاطفت معها كثيرا ... للظروف المفجعة التي مرّت بها خلال أشهر ... و بالرغم من أنني أحسنت معاملتها و آويتها و أسرتي إلى منزلنا ... و أسكنتها غرفتي كذلك ... و عاملتها و أهلي كفرد منا و حاولنا توفير كل ما احتاجت إليه ... بالرغم من كل ذلك، ها أنا أشعر الآن برغبة قوية في إخراجها من حياتي أنا و وليد ...

وليد خذلني في الموقف الأخير ...

فعوضا عن زجرها أو تأنيبها و ردعها... ما إن هربت إلى غرفتها بعد رميي بهاتفه المحمول حتى حثّ الخطى سيرا خلفها هي !

هتف :

" رغد "

و لم تكترث له فتوقف في منتصف الطرق و ضرب راحته اليسرى بقبضته اليمنى غضبا ...

التفت إلى ّ أخيرا و قال :

" لماذا فعلت ِ ذلك ؟؟ أروى ! ماذا أصابك ؟؟ "

تفاجأت من سؤاله، فعوضا عن أن يقف إلى جانبي و يواسيني أراه غاضبا منّي أنا ! إنني أنا من تلقيت تلك الضربة من رغد ... ألم تر َ ذلك جليا يا وليد ؟؟

قلت :

" ماذا فعلت ُ أنا ؟؟ وليد هل رأيت كيف ضربتني ابنة عمّك ؟؟ أليس لديك شيء تقوله من أجلي ؟؟ "

بدا على وليد العصبية أكثر من ذهول المفاجأة... و ظهر كالمستاء من كلامي أكثر من استيائه من فعلة رغد ...

قلت :

" وليد ... تحدّث ! "

التقط وليد نفسا أو اثنين عميقين ، ثم قال و هو يعود أدراجه نحو قلب الصالة :

" كلماتك كانت قاسية و جارحة "

و أذهلني موقفه أكثر و أكثر . ..

قلت بانزعاج :

" أليست هذه هي الحقيقة يا وليد؟؟ ألست تبالغ جدا في تدليل ابنة عمّك و كأنها اليتيمة الوحيدة على وجه الأرض ؟؟ أنا أيضا يتيمة يا وليد ... ولو كان ابن عمّي عمّار حيا و يرعاني كما ترعى أنت ابنة عمّك، لألصقت جبيني في الأرض سجودا و شكرا لله مدى الحياة ! "

و لا أدري لم استفزّت هذه الجملة وليد بشكل مبالغ به فصرخ بوجهي :

" اسكتي "

اعترتني رغبة مباغتة في البكاء لحظتها فآثرت ُ الانسحاب و هرعت إلى المطبخ ، حيث كانت أمي ترتب الملاعق على مائدة الغذاء

خاصمت ُ وليد للساعات التالية و رفضت الذهاب معه إلى المحكمة كما كان يخطط.. يحق لي أن أغضب حين أرى الموقف البارد من خطيبي ...
و يحق لي أن أطالب رغد باعتذار علني أمام وليد... و سوف لن أتخلى عن هذين الحقين هذه المرّة... و سأجعل رغد تفهم أنني المرأة الأولى في حياة وليد... رغما عن قرابتهما و ذكرياتهما السابقة... و رغما عن أي شعور تحمله هي تجاه خطيبي ... و أيا كان !





........................



لم أكن أدرك أن الشحنات المتضادة بين رغد و أروى قد كبرت و وصلت إلى هذا الحد ...
أروى كانت قد أخبرتني سابقا بأن رغد لا تبدي أي مودة تجاهها و أنها تغار منها !

أتذكرون العدستين الزرقاوين اللتين وضعتهما رغد على عينيها ذلك اليوم؟؟
هل تغار جميع النساء من بعضهن البعض؟ هذه الحقيقة على ما يبدو !

ألا ّ تحب رغد أروى هو أمر متحمل لا استبعده، فهي حسبما اكتشفتُ لا تتأقلم مع الآخرين بسهولة ...
أما أن تظهر من أروى إشارات تدل على عدم حبّها لرغد أو استيائها منها، فهو أمر جديد لم ألحظ أهميته قبل الآن ....

و بسبب الخلاف، اضطررت لتأجيل زيارتنا للمحكمة حتى اليوم التالي

الصغيرة الغاضبة ظلت حبيسة غرفتها طوال الساعات التالية ... و رفضت الاستجابة لنا حين حاولنا التحدث معها...
أما أروى فقضيت فترة لا بأس بها معها أحاول استرضاءها حتى رضت عني !

حتى و إن بذلتُ الجهود القصوى لإخفائه فإن قلقي بشأن رغد كان مصرا على الظهور !

كان ذلك صباح اليوم التالي حين كنا أنا و أروى هامين بالخروج قاصدين المحكمة لإتمام بعض الإجراءات اللازمة. كنت مشغول البال على الصغيرة التي لم أرها منذ الأمس و لا أعرف كيف قضت ليلتها ... لم أكن لأستطيع المغادرة قبل الاطمئنان عليها أو إبلاغها بأنني سأخرج ...
وقفت عند أعلى درجات السلم بينما أروى هبطت درجات ثلاث قبل أن تستدير إلي مستغربة ...

" لم وقفتَ ؟ "

كان القلق مرسوما على وجهي بشكل لا أظن أروى قد أخطأته !
أعتقد إن أحدا لا يحتاج كمية كبيرة من الذكاء ليعرف السبب !

ضيّقت أروى حدقتيها و قالت :

" رغد مجددا ؟؟ "

و بدا الضيق عليها ... فقلت مسرعا :

" لا أريد أن أخرج دون إعلامها و أسبب لها الإزعاج كالأمس ... "

قاطعتني أروى :

" بربّك وليد ! أوه كم تبالغ ! ألا تدرك أنها تفعل ذلك لمجرّد الدلال لا أكثر؟؟ ألا تعرف هي سبب مجيئنا إلى هنا؟ هيا يا وليد دعنا نمضي و ننجز المهمة في أقصر مدة ممكنة و نعود للمزرعة "

علّقت قدمي بين أعلى درجة و الدرجة التي تليها من السلم ... و بقيت برهة مترددا ...

" وليد ! هيا ! "

و عوضا عن الهبوط بقدمي للأسفل رفعتها للأعلى و أنا أتراجع و أهز رأسي استسلاما و أقول :

" يجب أن أطمئن على الصغيرة أولا "

سرتُ نحو غرفة رغد ... و وقفت عند الباب ... تبعتني أروى في صبر نافذ و أخذت تراقبني و قد كتّفت ذراعيها و رمت برأسها نحو اليمين !

قلت :

" أدخلي و اطمئني عليها "

فتحت أروى ذراعيها و رفعت رأسها مندهشة :

" أنا ؟؟ "

" طبعا ! أم يعقل أن أدخل أنا ؟؟ "

و كانت جملة اعتراض تكاد تنطلق من لسان أروى استنكارا و رفضا و لكن نظرة رجاء من عيني جعلتها تتراجع !

أروى تقدّمت نحو الباب و طرقته طرقا خفيفا ثم فتحته و ولجت الغرفة ... و بقيت أنا في الخارج موليا ظهري لفتحة الباب ...

إنه الصباح الجميل !

يكون المرء في قمة النشاط و الحيوية و الإقبال على الحياة ... بأعصاب مسترخية و نفسية مترابطة و مزاج عال !

آخر شيء يتمنى المرء سماعه من مطلع الصباح هو الصراخ !

" أخرجي من غرفتي فورا "


كانت هذه الصيحة التي خلخلت صفو الصباح منطلقة من حنجرة رغد !

أجبرني صوت رغد على الالتفات للوراء ... و أبصرت ُ أروى و هي تتقدم مسرعة خارجة من الغرفة في ثوان ...

كان وجه أروى الأبيض الناصع شديد الاحمرار كحبة طماطم شديدة النضج...

أما التعبيرات المرسومة عليه فكانت مزيجا من الغضب و الحرج و الندم و اللوم !

حين التقت نظراتنا اندفعت قائلة :

" أ يعجبك هذا ؟؟ لم يهنّي أحد بهذا الشكل ! "

تملّكني الغضب آنذاك ... الغضب من رغد ... فتصرفها كان مشينا ... و كنت على وشك أن أدخل الغرفة لكنني انتبهت لنفسي فتوقّفت ... و قلت بحدّة :

" أنت ِ لا تطاقين يا رغد ! "

و التفت إلى أروى و قلت :

" هيا بنا "


الساعات التالية قضيتها و أروى بين المحكمة و مكتب المحاماة و مكاتب أخرى ... نوقع الوثائق الرسمية و نسجّل العقود و خلافها ...
و بفضل من الله تذللت المصاعب لنا كثيرا ... و أنهينا المهمة...

و بالرغم من ذلك قضينا ساعات النهار حتى زالت الشمس خارج المنزل

بعد ذلك عدنا للمنزل و تناولنا وجبة غذائنا، أنا و أروى و الخالة ليندا.

لا !

لا تعتقدوا أنني نسيت رغد !

إنني غاضب من تصرّفها لكنني قلق بشأنها ... و انتهزتُ أول فرصة سانحة حين غابت أروى بضع دقائق و سألت ُ الخالة ليندا :

" ماذا عن رغد ؟ هل رأيتها ؟ "

" لا أظنها غادرت غرفتها يا بني "

توتّرت ... قلت :

" هل مررت ِ بها ؟ "

" فعلت ُ ذلك و لكن ... لم تتجاوب معي فتراجعت "

غيّرت ُ نبرة صوتي حتّى صارت أقرب إلى الرجاء و قلت :

" هل لا فعلت ِ ذلك الآن يا خالتي ؟ لا بد أنها جائعة ... خذي لها بعض الطعام "

و ابتسمت الخالة و شرعت في تنفيذ الأمر و عادت بعد قليل تحمل الطعام و تقول :

" تقول أنها ستأكل حينما ترغب بذلك "


هممت ُ أنا بالنهوض للذهاب إليها إلا أن الخالة أومأت إلي بألا أفعل ... ثم قالت :

" ليس الآن ... "

و ركزت نظراتها علي و أضافت :

" بني يا وليد... الفتاة بحاجة إلى خالتها... أعدها إليها يرحمك الله"

تعجبتُ ... و قلتُ مسائلا :

" لم تقولين ذلك يا خالتي ؟ "

أجابت :

" أرحها يا بني ... إنها صغيرة و قد عانت الكثير... افهمْ يا وليد أنها بحاجة إلى أم... و هو شيء... لا يمكنك َ أنت مهما فعلت... تقديمه"

و هزت رأسها تأكيدا ... ثم انصرفت ...

أما أنا فبقيت أفكّر في كلماتها لوقت طويل ...

ألم أعد أصلح ... أما لك ِ يا رغد ؟؟



الساعة الحادية عشر مساء ...
كنا أنا و أروى ساهرين نخطط لمستقبلنا و نناقش مستجدات حياتنا و نرسم خطوط الغد ...

" ستتولى أنتَ كل شيء يا وليد ! كل ما هو لي سيكون بين يديك و تحت إشرافك ! "

" لا أعرف يا أروى ما أقول ... الثروة كبيرة جدا ... و علينا أن نكون حذرين ! أمامنا الكثير لنفعله "

كنت أشعر بالقلق ... فثروة أروى ضخمة جدا ... و ليس من السهل أن ينتقل أحدهم من حياة الفلاحة البسيطة فجأة إلى حياة الثراء الفاحش !
لا أعرف ما الذي يتوجب علينا فعله بكل تلك المبالغ المهولة التي تركها أبو عمّار ...

لدى ذكر اسم عمّار ... قفز إلى بالي شيء كنت متقاض ٍ عنه حتى الآن ...

أروى ... لا تعرف حتى الآن أن خطيبها هو الشخص الذي قتل ابن عمّها الذي ستتمتع بثروته ... !

لا أعلم لم َ لم ْ يأت ِ ذكر ٌ لهذه الحقيقة حتى الآن ... لم أتخيّل نفسي أخبرها بأن الـ ( حيوان ) الذي قتله ذات مرّة، و بسببه قضيت الـ (ثمان) سنوات من عمري في السجن و أضعت مستقبلي ... هو عمّار !

عمار ... ابن عمها الوحيد ...

شردت في هذه الفكرة الطارئة ... فلحظت أروى شرودي المفاجئ ...
رفعت يدها إلى رأسي و أخذت تطرق بسبابتها على صدغي بخفة و تبتسم و هي تقول :

" ما الذي يدور في رأس حبيبي الآن ؟؟ "

أدركت أنها لم تكن باللحظة المناسبة لأفجّر مفاجأة من هذا النوع، في وجه أروى الباسمة ...

كانت ... فرحة جدا و تحلم بالمستقبل المشرق و تفكر بما سنفعله في المزرعة ...

و كم هي طيبة و عفوية ...
إنها وضعت ثروتها كلها بين يدي ّ !

ابتسمت ُ و قلت :

" علينا أن نتوقّف عن التفكير و نأوي للنوم ! لقد أرهقنا دماغينا بما يكفي لهذا اليوم "

ابتسمت و هي تحرّك يدها هبوطا من رأسي إلى كتفي إلى يدي فتشد عليها و تقول :

" لم أكن لأعرف كيف أتصرف لو لم تكن معي يا وليد ... الله بعثك لي حتّى تقود أموري إلى الطريق الصحيح ... حمدا لك يا رب "

و زادت ضغطها على يدي و خففت صوتها و أضافت :

" و شكرا لك ... يا حبيبي "


كانت تسير بدلال و هي تبتعد عني مقتربة من الباب ... فتحته و استدارت تلقي علي نظرة أخيرة باسمة ، فلوّحت ُ لها بيدي و البسمة لا تفارق شفتي ّ ...

و استدارت لتخرج ... وقفت برهة ... ثم عادت و استدارت نحوي !
لكن ... هذه النظرة لم تكن باسمة ! بل كانت متفاجئة !

بعثرتُ الابتسامة التي كانت معلّقة على شفتي و علتني الحيرة !
كنت سأسألها ( ماذا هناك ) إلا أنها عادت و استدارت نحو الخارج ...

حثثت ُ الخطى نحوها و من خلال فتحة الباب أمكنني رؤية ما أجفل أروى

كتاب الله المقدّس ... مصحف شريف ... مضموم ٌ بقوة إلى صدر شاهق لفتاة ملفوفة بالسواد ... تقف على مقربة من الباب ... في حال يخبر الناظر إلى عينيها بمدى الرعب الذي يكتسحها ...

ما إن ظهرت ُ أنا في الصورة حتى استقبلتني عينا رغد استقبالا حارقا ...

شعرت بقلبي يهوي تحت قدمي ّ ... هتفتُ بصوت مخنوق :

" رغد ... !! "

تبادلنا أنا و أروى النظرات المستغربة ...

تخطيت أروى مقتربا من رغد و أنا شديد القلق ... قلت :

" ما بك ؟؟ "

و لو تعلمون ... كم عضضت على أسناني ندما و غضبا من نفسي آنذاك...
لو تعلمون ... كم كرهت نفسي ... و تمنيت لو أن زلزالا قد شق الأرض و ابتلعني فورا ...

صغيرتي ... قالت ... بصوت متهدرج و بكلمات متقطعة مبعثرة ... و بنبرة يأس و قنوط شديدين ... كالنبرة التي يطلقها الجاني و هو يستشعر حبل المشنقة يلف حول عنقه ... قبل الموت... :

" ألم ... تخبرك ... أمي ... أمك ... بأن لدي ... خوف ... رهبة مرضية ... من الغربة و الغرباء ...؟ يمكنك أن تغضب منّي ... تتشاجر معي ... تخاصمني... لكن... لا تدعني وحدي... المكان موحش... أنا لا أحتمل ... لا تفعل هذا بي يا وليد ... "

إنه حبل الوريد ...

ذاك الذي شعرت به يتقطّع فجأة بخنجر حاد مسنن ...
تألّمت ألما كدت ُ معه أن ألطم خدّيّ و أجدع أنفي ... و أقتلع عينَيّ ... لولا أن شللا ما قد ألم ّ بعضلاتي و أعاق حركاتي ...

متسمّرا في مكاني ... كالباب الذي أقف جواره ... طويلا عريضا جامدا أتأرجح في الهواء لو أن دفعة بسيطة من طرف إصبع ما قد سُدّدت إلي ّ

لمّا لاحظت أروى صمتي و سكوني الغير متناسبين و الحال، نظرت إلي ّ باستغراب ...

أحسست بيدي تمتد باتجاه رغد ... و بأصابعي تنثني ... و بشبه كلمة يائسة واهنة تتدحرج من لساني ...

" تعالي ... "

رغد نظرت إلى يدي المشيرة إليها... ثم إلى أروى الواقفة جواري ... ثم إلي ّ ... و ترددت ...

هززت رأسي مشجعا إياها ... و أخيرا تقدّمت نحوي ...

تنحّت أروى جانبا فاسحة المجال للصغيرة لدخول الغرفة... كانت رغد تسير ببطء و تردد وهي محتضنة المصحف الشريف إلى صدرها المرعوب ... و رأسها مطأطئ إلى الأرض ...

عندما دخلت الغرفة، أشرت ُ إلها أن تجلس على المقعد المجاور للباب، ذاك الذي نامت فوقه أول ليلة ...

كعصفور جريح ضعيف و مرعوب ... جلست صغيرتي على المقعد تجاهد الدموع لئلا تنحدر على خديها الكئيبين ...

" هل أنتِ على ما يرام ؟ "

سألتها و أنا شديد القلق عليها و الغضب من نفسي ... لم َ كنت ُ قاسيا على صغيرتي لهذا الحد ؟؟ كيف تركتها دون رعاية ... و دون حتى طمأنة وحيدة منذ الأمس ؟؟ كيف استطاع قلبي تحمّل ذلك ؟؟

" رغد صغيرتي أأنت ِ بخير ؟؟ "

عندما رفعت رغد بصرها و نظرت إلي ّ ... قتلتني !

" لا تفعل هذا بي يا وليد ! إن لم تكن تطقني ... فأعدني إلى خالتي... و لا تدعني أموت ذعرا وحيدة... أنا لم أجبرك على إحضاري إلى هنا... أنت من أرغمني ..."

صحت ُ بسرعة :

" كلا يا رغد ! ليس الأمر هكذا... أنا... أنا آسف عزيزتي لم أقصد شيئا "

استرسلت رغد :

" أعرف أنني لا أطاق ... لكن أمي كانت تعتني بي جيدا... و تحبّني كثيرا... و تتحمّلني بصدر رحب... لم أشعر بالذعر و أنا قريبة منها ... لم تكن لتسمح للذعر بمداهمتي ...كم كنت آمنة و مرتاحة في حضنها ! "

و غطّت وجهها بالمصحف و جعلت تبكي ...
جثوت ُ بدوري قربها و كدت ُ أبكي لبكائها ...

" يكفي يا رغد ... أرجوك ... سامحيني ... لم أقصد تركك وحيدة ... أنا آسف ... "

أزاحت الصغيرة المصحف عن وجهها و نظرت إلي نظرة ملؤها الذعر ... ملؤها العتاب ... ملؤها الضعف ... ملؤها الحاجة للأمان ... ملؤها سهام ثقبت بؤبؤي عيني ّ و أعمتني عن الرؤية ...

" أريد أمّي ! "

نطقت رغد بهذه الجملة التي جعلت ذراعيّ تخرّان أرضا...

" أريد أمّي ... لا أحد ... سيهتم بي مثلها ! ... الله يعلم ذلك ... اسأله أن يعيدها إلي ّ ... أو يأخذني إليها ... "

صحت :

" كفى يا رغد أرجوك "

صاحت :

" أريد أمّي ... ألا تفهم ؟؟ أريد أمّي ... أريد أمّي ... أريد أمّي ... "

لا إراديا مددت يدي ّ فأمسكت بيديها بقوّة و أنا أقول :

" كفى يا رغد ... كفى ! كفى "

انفجرت رغد قائلة بانفعال شديد :

" كأنّك لا تعرف ما حدث لي؟ أنت السبب ! بقيتُ أكتم السر في صدري كل هذه السنين ... و يعصف الذعر بقلبي الصغير ... و لا أجرؤ على البوح بما حصل أو حتّى تذكّره ... و أنتَ بعيد لا تعرف ماذا أصابني و ما حلّ بي! ألا تعرف أنني مريضة يا وليد؟ ألا تعرف ذلك؟ ألا تعرف ذلك ؟ "

اعتصرني الألم و قلت متوسلا:

" يكفي يا رغد ... أرجوك توقفي ... لا تزيدي من عذابي كفى ... كفى ... كفى ... "

كنت أستطيع الإحساس بالرجفة تسري بيدي رغد ...

التفت صوب أورى التي كانت قابعة مكانها عند الباب و قلت :

" هل لا أحضرت ِ بعض الماء ؟ "

تأملتنا أروى لبرهة في عجب، ثم امتثلت للطلب ...

كنت لا أزال ممسكا بيدي رغد حينما عادت أروى بقارورة الماء الصغيرة... تناولتها منها ... و أخذت المصحف و قرأت ُ بضع آيات ... ثم دفعت بالقارورة نحو رغد :

" اشربي صغيرتي "

بنفس الرجفة تناولت رغد القارورة الصغيرة من يدي و قرّبت عنقها إلى شفتيها ... و عدت ُ بأنظاري نحو كتاب الله و واصلت ُ تلاوة الآيات و أنا لا أزال جاثيا على الأرض أمام رغد مباشرة ...

كنت أستمع إلى أنفاسها القوية... و التي بدأت تهدأ شيئا فشيئا ... حتى إذا ما اختفت عن مسمعي رفعت بصري نحو الصغيرة فرأيتها تنظر إلي ّ

" هل أنت ِ أفضل الآن ؟ "

هزّت رأسها إيجابا ... فتنهّدت ُ بارتياح ... و قبّلت كتاب الله و وضعته جانبا ...

" الحمد لله "

قلتها مبتسما في وجه الصغيرة المذعورة ... فتنهّدت هي بدورها ...

" رغد ... أنا آسف يا صغيرتي ... أرجوك ِ اغفري لي هذه المرّة ... و أعدك ... بل أقسم لك برب هذا الكتاب المقدّس ... بألا أكررها ثانية ما امتدت بي الحياة ... "

رغد رفعت يدها اعتراضا و قالت :

" لا ... لا داع لأن تقسم على شيء ليس من واجبك القيام به ... يجب أن ... تعيش حياتك الطبيعية ... "

و التفتت نحو أروى ثم إلي و أضافت :

" بعيدا عمّن لا يطاقون ... "

قلت مستغربا :

" رغد ؟؟ "

قالت :

" فقط ... أعدني إلى خالتي ... و سوف لن ... أزعجك بعد ذلك مطلقا ! "

استثارتني جملتها هذه و كدت ُ أثور ... إلا أنني تمالكت نفسي ... فهي ليست باللحظة المناسبة على الإطلاق ...

قلت :

" اهدئي أنت الآن فقط ... و لا تفكّري في أي شيء ... "

نظرت إلي الآن برجاء و قالت :

" لا تتركني وحيدة يا وليد ... أرجوك "

قلت بسرعة :

" ثقي بأنني لن أكررها ... أنا معك صغيرتي فاطمئني "


ربّما الموقف كان غريبا ... ربما يحق لأروى نظرات الاستنكار التي رمقتني بها في صمت ... لكن ... كيف كنتم تنتظرون منّي أن أتصرّف و أنا أرى صغيرتي تصاب بنوبة ذعر ... بهذا الشكل ؟

إنني لا أعرف كم من الوقت ظلّت واقفة خلف الباب ... ترتجف في خوف ... إلى أن فتحته أروى و اكتشفت وجودها ...

إن لم أكن لأقدّم مجرّد الشعور بالأمان لهذه اليتيمة المذعورة ... في هذا البيت الموحش المليء بالذكريات المؤلمة ... إن لم أستطع تقديم الأمان على الأقل ... فما الجدوى من وجودي حيا على وجه الأرض ؟؟

و كطفلة صغيرة ... أعدت ُ صغيرتي إلى سريرها و بقيت جالسا بالقرب منها أتلو المزيد من كلام الله ... حتى نامت...

تركت ُ باب غرفتها نصف مغلق و عدت ُ إلى غرفتي و تهالكت ُ على السرير ... كانت أروى آنذاك جالسة على ذات المقعد المجاور للباب ... و حينما رأتني أمدد أطرافي الأربعة نحو زوايا السرير بتأوّه أقبلت نحوي ...

" وليد "

كنت التفت إليها فرأت التعب ينبع من مقلتي ...

" إذن ... فهي مريضة بالفعل ... كما توقّعت ! "

أغمضت ُ عيني متألما لهذه الحقيقة ...

قالت أروى :

" لقد ... لاحظت ُ عليها بعض التصرفات الغريبة في المزرعة ! سبق و أن أخبرتك بذلك يا وليد ! لكنك لم تعلمني بأنها مريضة بالفعل "

قلت :

" لديها نوع من الرهبة... تنتابها حالات من الذعر إذا شعرت بالوحدة و الغربة ... إنه مرض أصابها منذ الطفولة... لكني لم أعلم به إلا العام الماضي"

" يؤسفني ذلك يا وليد "

نظرت إلى عيني أروى فوجدت ُ فيهما الكثير من العطف و التعاطف ... فبادلتها بنظرة ملؤها الرجاء و الأمل :

" أروى ... أرجوك ِ ... أوقفي دائرة الخلاف بينكما عن الاتساع "

لم تجب أروى مباشرة ... ثم قالت :

" أنا لا أتعمّد فعل شيء لكنها ... إنها ... "

قاطعتها قائلا :

" إنها وحيدة بيننا يا أروى ... أرجوك اكسبي صداقتها "

و أيضا صمتت برهة و كأنها تفكّر في أمر عالق بذهنها ثم قالت :

" ألا ترى ... أن عودتها إلى خالتها ستريحها يا وليد ؟ "

قلت بسرعة حدّة :

" كلا "

" لكن "

قاطعتها قائلا :

" لأريحها سأفعل أي شيء آخر ... عدا عن إبعادها عن رعايتي "

" وليد ! "

تنهّدت و قلت :

" تصبحين على خير يا أروى ... أريد أن أنام "



انسحبت أروى من الغرفة و عند الباب وقفت لإطفاء المصباح و لما همّت بإغلاق الباب من بعدها قلت :

" اتركيه مفتوحا ... "

فلا أريد لصغيرتي أن تأتيني أي ساعة محتاجة للأمان ... ثم تجد بابي مغلقا دونها ....


في صباح اليوم التالي وجدت صغيرتي مستيقظة و بادية على وجهها الصغير أمارات التعب ...

" هل نمت جيدا ؟ "

سألتها فهزت رأسها سلبا ...

أخبرتها بعد ذلك بأنني ذاهب إلى مكتب المحامي و للعجب ... قالت :

" خذني معك "


~~~~~~~


و من أجل عيني رغد كان علي أنا و أمي كذلك الذهاب مع وليد حيثما ذهب !
شعرت بالحماقة ... و لكنني لم استطع إلا مجاراة هذه الصغيرة المدللة ...

في البداية ذهبنا إلى مكتب المحامي أبي سيف الذي سار بسيارته إلى جوارنا ... ثم إلى مكتبين آخرين ... كان وليد يبقينا في السيارة و يرافق المحامي ، ثم يعود إلينا و يذكر المكان التالي و ينطلق نحوه !

في وقت انتظارنا كنا أنا و أمي نتبادل الأحاديث، بينما رغد لائذة بالصمت المغدق ! لم أتعمّد مخاطبتها فأنا لم أنس بعد كيف رمت بالهاتف صوب وجهي و لا كيف طردتني من غرفتها ذاك الصباح ... إلا إنني أشعر الآن بشفقة عليها لا أدرك ما مصدرها !

عاد و ليد و قال :

" سنذهب إلى مكتب إدارة المصنع الآن ! قد يطول مكوثنا هناك ... أأعيدكن إلى البيت ؟ "

و استدار إلى الوراء موجها نظراته و كذا سؤاله إلى رغد !

رغد قالت :

" سنبقى معك "

لا أدري أي متعة تجدها هذه الفتاة في البقاء حبيسة السيارة في انتظار عودة وليد ! وددت أن أعترض إلا أن مبادرة وليد بتشغيل السيارة و من ثم اللحاق بسيارة المحامي جعلتني ألتزم الصمت ...

حين وصلنا إلى المكان المنشود أصابتني الدهشة !

كان مبنى كبيرا مؤلف من عدّة طوابق ... حديث الطراز و يبدو فاخرا !
قال وليد و هو يركن السيارة في أحد المواقف و يبتسم :

" هنا إدارة مصنعك ِ يا أروى ! هذا المبنى كلّه ملكك ! "

دهشت، و ابتسمت في آن واحد ... و راودتني رغبة في إلقاء نظرة شاملة
قلت – و أنا أمد يدي إلى مقبض باب السيارة و افتحه - :

" سألقي نظرة "

و خارج السيارة وقفت أنا و تبعني وليد و جعلت أتأمل المبنى الضخم الذي يفترض أن يكون ملكي !

قلت :

" كل هذا ... لي !؟ "

ابتسم وليد و قال :

" هذا لا شيء ! حين ترين المصنع ستفاجئين ! ... هنيئا لك ! "

شعرت ببهجة كبيرة اجتاحت قلبي ... قلت :

" أتمنى أن أراه من الداخل ! "

فكر وليد قليلا و تردد فقلت :

" ألستُ أنا المالكة ؟ ألا يمكنني إلقاء نظرة سريعة على ممتلكاتي ؟ أرجوك وليد ! "

ابتسم وليد و قال :

" لا أعرف إن كان هناك سيدات في الداخل... ! لم يسبق لي الدخول و لكن ... لا بأس إن كانت هذه رغبتك ! "

فرحت كثيرا و أمسكت بيد خطيبي في امتنان ...

ما الذي سيجعلني أشعر بسعادة أكثر من هذه ؟؟ لدي خطيب رائع يقف إلى جواري ... و أمامي مبنى ضخم هو ملكي و جزء من ثروتي ... لا شك أنني هذه اللحظة أسعد الناس

الحمد لله

وليد أشار على أمي و رغد أن تنزلا ... ثم لحقنا نحن الأربعة بالمحامي و وجدنا في استقبالنا أناس آخرون، رافقونا داخل المبنى إلى المكان المنشود !

و المكان المنشود كان المكتب الرئيسي للمبنى ... مكتب المدير !

ما إن دخلنا حتى وجدنا أناس آخرون في استقبالنا ... أظنهم دهشوا لدى رؤيتنا نحن الثلاث – أنا و أمي و رغد – نسير خلف الموكب ! لكن ذلك لم يمنعهم من الترحيب بنا عامة ...

دُعينا للجلوس في مكان جانبي ... بعيدا عن الآخرين ...

فيما كنّا نعبر الغرفة شاقات طريقنا نحو المقاعد، كانت عيناي لا تتوقفان عن التجول و النظر إلى كل ما حولي ... في دهشة و إعجاب !

كم كان مكتبا فخما و راقيا ! كل أثاثه يشير إلى مدى البذخ الذي كان عمّي رحمه الله يعيش فيه !

استقرّت عيناي أخيرا على الحائط خلف المكتب مباشرة ...

هناك عُلقت صورتان كبيرتان جدا لرجل كهل و شاب صغير... في إطارين أسودين !
إنهما عمّي و ابنه الراحلان، رحمهما الله !

توقّفت برهة أتأمّل الصورتين ... لهذين الشخصين اللذين ما عرفتهما يوما في حياتي ... و ها هي ثروتهما الضخمة تصبح فجأة بين يدي !

" سبحان الله ... أتصدّق يا وليد ؟ "

قلت ذلك و التفت إلى وليد متوقعة منه أن يكرر التسبيح ... و يمنحني ابتسامة عذبة و مطمئنة من شفتيه ... لكن ... لم يبد على وليد أنه سمع شيئا مما قلت ...
وليد كان يحدّق تجاه الصورتين بحدّة و تعبيرات وجهه غاضبة و مكفهرّة

عجبا ! لماذا ينظر وليد إلى هاتين الصورتين بهذا الشكل ؟؟

" وليد ...؟؟ "

رمقني وليد بنظرة غريبة و مخيفة ... و عاد يدقق النظر تجاه الصورتين

أليس هذا غريبا ؟؟

انتظروا... هذا لا شيء أمام ما حصل بعد ذلك !


" عمّار !! "


تصوروا ممن خرجت هذه الكلمة أشبه بالصيحة المباغتة ؟؟

من رغد !

التفت إلى رغد لأتأكد من أن أذني لم تكن تتخيل ... فرأيت رغد تحدّق هي الأخرى تجاه الصورتين و قد علا وجهها الذعر !

و الآن ماذا ؟؟

رغد تلتفت إلى وليد بسرعة ... ثم إلى الصورة ... و تشير بإصبعها نحو صورة عمّار ابن عمّي ... و تعود للهتاف :

" عمّار !! "

ثم تلتفت إلى وليد و تقول بذعر :

" إنه هو ! أليس كذلك ؟ هو ... هو "

وليد يحدّق برغد الآن ... و مزيج من الغضب و التوتر و القلق و تعبيرات أخرى أجهل تفسيرها بادية على وجهه جاعلة منه جمرة ملتهبة !

رغد ألقت علي نظرة سريعة ، ثم على الصورتين ، ثم على وليد الذي كان لا يزال يحدّق بها ... و هتفت :

" وليد ! "

وليد اقترب من رغد و قال :

" أجل ... إنهما عم أروى و ابنه "

بدا الذهول الفظيع على وجه رغد ... و كأنها اكتشفت أمرا خطيرا لم تكن تعرفه ! أما الذهول الذي على وجهي أنا هو لأنني لم أكتشف بعد ماذا يدور من حولي ؟!

رغد أمسكت بذراع وليد و هتفت :

" أخرجني من هنا ! "

تحوّلت نظرات وليد إلى القلق و الخوف الفاضحين و فتح فمه و لكن ما خرج منه كان النفَس خال ٍ من أي كلام !

" أخرجني من هنا بسرعة ... أخرجني فورا "

قالت ذلك رغد و ضعت يدها الأخرى على صدغيها كمن يعاني من صداع شديد... !

" رغد "

ناداها وليد بصوت حنون قلق فلما رفعت بصرها إليه ... مالت بنظراتها نحو الحائط فأغمضت عينيها بسرعة و أخفتهما خلف يدها و صاحت :

" أرجوك.. "

من فوره وليد حثّها على السير متراجعين نحو الباب ... و كانت لا تزال متشبثة بذراعه ... و خاطبنا قائلا :

" هيا بنا "

أنا و أمي و لأننا لم نفهم أي شيء ... تبادلنا النظرات المستغربة المذهولة... و لحقنا بوليد و رغد على عجل ... وسط أنظار الاستغراب من الأشخاص الآخرين !

إن في الأمر سر ما !
ما عساه يكون ؟؟؟







~~~~~~~





رغد بين يدي منهارة و مرتبكة...
و أنا مذهول و مأخوذ بالدهشة ... إن من رؤية وجه عمار الخسيس يبتسم تلك الابتسامة الحقيرة ... و التي تستفز حتى أتفه ذرات النفور في جسدي ... أو من تأثّر رغد بالصورة ... و الذعر الذي علاها ... و الذي يؤكد أنها لا تزال تذكر وجه عمّار ... بعد كل تلك السنين
و كيف لوجه مجرم كهذا أن يُنسى ؟؟

طفلتي الصغيرة لا تزال تحتفظ في ذكرياتها بصورة للشاب الحقير الذي تجرأ على اختطافها ذات يوم ...

ذلك اليوم الذي غير مجرى حياتي ... و حياتها كذلك ...

فتحت باب السيارة الأمامي الأيمن و جعلتها تدخل و تجلس عليه ... و جلست من ثم إلى جوارها ... كانت لا تزال في نوبة المفاجأة و النفور ...

وصلني صوت أروى – و التي جلست خلفي – تقول :

" ماذا هناك ؟؟ "

لم أجب

" وليد ما الأمر ؟ "

قلت بغضب :

" الزمي الصمت يا أروى رجاء ً "

قالت ليندا :

" أخبرانا ما الخطب "

قلت:

" الصمت رجاء "

و أدرت مفتاح السيارة في ذات اللحظة التي ظهر فيها أبو سيف و هو يقول :

" ما المشكلة ؟ "

أخرجت رأسي عبر النافذة و أجبته :

" لنؤجل الأمر للغد "

و انطلقت بالسيارة عائدا إلى المنزل ...

كنت أرى رغد و هي تضع يدها على صدغيها و يعبّر وجهها عن الألم بين الفينة و الأخرى ... فأدرك أنها الذكريات تعود إلى رأسها و تعصرها ألما... فأدوس على مكابح السيارة غيظا ...

عندما وصلنا إلى المنزل أوت رغد إلى غرفتها مباشرة ... هممت باللحاق بها فاستوقفني سؤال أروى :

" ماذا هناك يا وليد ؟ هل لا شرحت لي ؟ "

قلت بسرعة :

" فيما بعد "

و تابعت طريقي إلى غرفة رغد ...

كان الباب مغلقا، طرقته و ناديت رغد فأجابت :

" نعم ؟ "

و كان صوتها متحشرجا مخنوقا ...

قلت :

" أيمكنني الدخول ؟ "

أجابت :

" ماذا تريد ؟ "

قلت :

" أن نتحدّث قليلا "

" دعني و شأني "

آلمني ردها هذا فعدت أقول :

" أريد أن أحدثك يا رغد ... أيكنني الدخول ؟ "

و لم تجب

عدت أسأل :

" أأستطيع أن أدخل يا رغد ؟ أرجوك ؟ "

و لكنها أيضا لم تجب ...

أرجوك يا رغد لا تزيدي عذابا فوق عذابي ...
أخذت أطرق الباب و أناديها حتى قالت أخيرا

" دعني بمفردي يا وليد "

استدرت ُ للخلف في يأس ... فوجدت أروى تراقبني عن بعد ... و لابد أن عشرات الأسئلة تدور في رأسها ... كما تدور عشرات بل مئات الذكريات المريرة في رأسي و تفقده أي قدرة على التفكير السليم ...

استدرت ُ نحو الباب مجددا و قلت مخاطبا رغد :

" لا لن أدعك بمفردك يا رغد ! سأدخل "

و حرّكت مقبض الباب ببطء ... و دفعت الباب قليلا للأمام ...

قلت :

" سأدخل رغد ! "

و لما لم تجب ... واصلت فتح الباب ببطء ... و سمحت لصريره أن يتذبذب في أذني ّ طويلا ...

على سريرها كانت صغيرتي تجلس و عيناها موجهتان نحوي ...

تقدمت خطى نحوها و أنا أقول :

" أيمكنني أن أدخل ؟ "

و أعرف أنني في الداخل و أنني سأدخل من كل بد !

قلت :

" أنا آسف ! "

طأطأت رغد رأسها هاربة من نظراتي...

اقتربت منها أكثر و أكثر و قلت :

" أأنت ِ بخير ؟ "

و استطعت أن أرى دمعة تهوي من عينها لتبلل يديها المضمومتين فوق ركبتيها ...

اقتربت أكثر و أكثر حتى صرب جوارها مباشرة ... و قلت بصوت حنون أجش :

" لم أجد داعيا يدفعني لأن ... أخبرك ... بأن أروى هي ابنة عم عمّار.... و أن الثروة التي حصلت عليها كانت ... لعمّار و أبيه "

رغد رفعت نظرها إلي و صرخت :

" لا تذكر اسمه أمامي "

جفلت ... أخذني الذهول ... و ابتلعت لساني ... رغد رمقتني بنظرة عميقة غصت في جوفها فغرقت ... و لاطمتني أمواج الأفكار و الهواجس ... و لم أدر ِ أين كنت و متى كنت ... و على أية حال قد كنت ...

تعود للإمساك برأسها كمن يحاول جاهدا منع الذكريات من الظهور فيه ...
تتلاعب بي الأفكار و التخيلات حتّى تثير جنوني...
ماذا حصل؟ ماذا لم يحصل؟
أجيبيني يا رغد ...؟؟
و لم تزد حيرتي إلا حيرة ...

بعد صمت قصير طويل في آن معا ...

قلت :

" حسنا يا رغد...
بعد دخولي إلى السجن، تعرّفت إلى نديم، والد أروى رحمه الله... و قد ساعدني كثيرا و أحببته محبة خالصة في الله.. و قبل موته أوصاني بعائلته خيرا... و لم يكن يعرف ... أنني ... "

و لم أكمل، استدرت للخلف لأتأكد من أن أروى على مبعدة و لا تسمعنا... ثم اقتربت من رغد أكثر و أضفت ُ هامسا :

" أنني أنا من قتل ... ذلك الوغد "

بدا التفهم على تعبيرات وجه رغد فقلت ُ مترددا و مخفضا صوتي حد الهمس بل حد السكون :

" وهذا... ما لا تعرفه أروى أيضا "

و تنهّدت بمرارة و حيرة و أضفت :

" و ما أخشى عواقبه ... "



شعرتُ بشيء يسيطر على فكري فجأة... تبدلت تعبيرات وجهي إلى الجدية و الحزم... و تطايرت سهام شريرة من عيني... و شعرت بشياطين رأسي تتعارك في داخله...
كانت رغد تراقبني بقلق و حيرة... و بالتأكيد سمعتني و أنا أعض على أسناني فيما أضيّق فتحتي عيني و أشد على قبضتي بإصرار و أقول :

" و الآن ... أصبحت ثروة ذلك الحقير ... بين يدي ... "


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
اللؤلؤة السوداء
القائد "V"
القائد
اللؤلؤة السوداء


عدد المساهمات : 186
النقاط : 10340
التقييم : 5
تاريخ التسجيل : 21/07/2011
العمر : 38

رواية انت لي - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: رواية انت لي   رواية انت لي - صفحة 2 Emptyالسبت يوليو 30, 2011 2:33 am


الحلقة الثامنة و الثلاثون
وجهت ْ إلي ّ سؤالا مباشرا و لكنني تهربت ُ منه ثم وعدت ُ أروى بأن أخبرها بالأمر فيما بعد...
و رغم الحيرة ِ و الشكِ اللذين طغيا عليها طيلة الفترة التالية، لم تصر على معرفة ما علاقة رغد بعمّار...

في صبيحة اليوم التالي عدت إلى مكتب إدارة المصنع الرئيسي... لإتمام المهام المتبقية دون مرافقة من أحد...
يومها وقفت أتأمل صورتـَي عاطف و عمّار قليلا ... و ابتسمتُ ابتسامة النصر...

ها هي يا عمار ثروتك الضخمة... تصبح بين يدي... و المصنع الذي كنت تتباهى به و تطلب منّي العمل فيه ساخرا... أصبحت ُ أنا سيّده...

يا للأقدار...

بعدها أمرت بنزع الصورتين و علّقت عوضا عنهما لوحات ٍ لمناظر طبيعية... و أخذت أتصرّف و كأنني سيّد المكان و مالكه..
و من الخزانة الرئيسية للأموال المتداولة، و ما أكثرها، أخذت ُ مبلغا كبيرا كنا أنا و أروى قد اتفقنا على سحبه لتغطية بعض المصاريف...
أما عن أوّل شيء خطر ببالي آنذاك، فهو إعادة المبلغ الذي استلفته من صديقي سيف قبل عام...
و انطلاقا من هذا اليوم بدأت أتصرف في النقود بتصريح من أروى و أدون و أراجع الحسابات و احتفظ بسجلات المصاريف و أطلعها عليها...

كان لا يزال أمامي وقت طويل حتى أتمكّن من وظيفتي الجديدة و رتّبت الأمور بحيث يظل المصنع تحت إدارة المشرف العام ذاته– السيد أسامة- إلى أن أستلم المنصب بعد بضعة أسابيع...
و السيد أسامة بشهادة من سيف و والده و المحامي يونس المنذر هو رجل أمين نزيه الذمّة... و كان هو الساعي وراء تسليم الثروة للوريثة الوحيدة...

كانت خطّتنا تقتضي العودة بأهلي إلى المزرعة أولا...
أما فكرة أروى فكانت الزواج ثانيا!
أما عن نفسي فأنا أريد تأجيل هذا الأمر... حتى إشعار آخر...

عندما عدت ُ إلى المنزل وقت الزوال... و دخلت من ثم إلى غرفة نومي، دهشت !
لقد كانت نظيفة و مرتبة و منظمة تماما كما كانت أيام الصبا... حين غادرتها ذاهبا إلى السجن...
نظرت من حولي مبتهجا... ثم سمعت صوت أروى مقبلا من ناحية الباب:

" هل أعجبتك ؟ "

التفت ُ إليها فإذا بي أراها مبتسمة مسرورة بما أنجزت...

قلت :

" عظيم ! لكن لابد أنّك أجهدت ِ نفسك كثيرا لإزالة أكوام الغبار ! "

" ساعدتني أمّي و لم تكن مهمّة صعبة ! "

أعدت النظر من حولي مسرورا... كل شيء يبدو نظيفا و منظما... بدأت أشم رائحة الماضي... و استعيد الذكريات...

هذا سريري الوثير... و هذا مكتبي القديم... و هذه مكتبتي الكبيرة... و هذه كتبي الدراسية و الثقافية ... مرصوصة إلى جانب بعضها البعض بكل شموخ... و كأن تسع سنين و أكثر لم تمض ِ على هجرها و إهمالها... ها هي تقف في أرففها معززة مكرمة من جديد !

فجأة... انتبهت ُ إلى شيء مهم...

اقتربت من المكتبة و وزعت نظراتي على جميع أجزائها ... ثم التفت إلى أروى و سألت بقلق :

" أين الصندوق ؟ "

نظرت إلى أروى بعدم فهم :

" أي صندوق ؟؟ "

قلت موضحا :

" صندوق الأماني ... اسطوانة ورقية مغطاة بالطوابع... كانت هنا "

و أشرت إلى الموضع الذي كنت قد تركته فيه ليلة أن أبت رغد فتحه...

بدا على أروى الفهم فقالت :

" تقصد ذاك الشيء المجعّد البالي ؟ "

" نعم . أين هو ؟؟ "

كانت أروى تنظر إلي باستغراب ثم قالت :

" رميتـُه ! "

دهشت... هتفت بانفعال :

" رميتـِه !! "

" نعم...ظننته قمامة و ... ... "


~~~~~~~


لم أتم جملتي ... إذ أن وليد هتف غاضبا :

" أي قمامة ؟ لم فعلت ِ ذلك ؟؟ "

ثم خرج من الغرفة باحثا عنه و استخرجه من سلة المهملات !

بدا الموقف سخيفا لكنه أثار فضولي و دهشتي... سألته مستغربة :

" لم تحتفظ بشيء كهذا ؟؟ "

أجاب بحنق :

" إياك و لمسه ثانية يا أروى... "

و لما رأى منّي نظرات الاستنكار عاد يقول بحدّة :

" إياك ... أتفهمين ؟ "


حقيقة أنا لم أفهم شيئا... لكن فضولي قد تفاقم خصوصا و أنا أراه ينفعل بهذا الشكل... ثم يعيد ذلك الشيء المجعد تماما إلى المكان الذي كان فيه !

استغرب ... ما أهمية علبة ورقية مجعدة مغطاة بطوابع طفولية قديمة ... لرجل في الثامنة و العشرين من عمره... على وشك إدارة أكبر مصنع في هذه المنطقة ؟؟

لابد أن أعرف...

في وقت لاحق، تسللت إلى غرفة وليد خلسة و تناولت تلك العلبة... و تأملتها...

اكتشفت وجود هذه الجملة مكتوبة عليها : ( صندوق الأماني ) ... و اكتشفت أنها تحوي فتحة صغيرة في أحد طرفيها و بأن في داخلها أوراق ما!

تملكني الفضول الشديد لفتح العلبة و معرفة محتواها... و ليتني فعلت!
تذكرت تحذير وليد و احتراما و طاعة لأوامره... تراجعت في آخر لحظة و أعدت العلبة إلى مكانها...
لكن... ألا يتملككم الفضول مثلي لمعرفة... قصّة هذه العلبة ؟؟

و لو علمت قصّتها الآن... لتغيرت أمور كثيرة لم أدركها... إلا بعد زمن طويل...


~~~~~~~~~~


" متى ستتزوج ؟ "

سألني صديقي سيف هذا السؤال بعد تناولنا العشاء في منزله... كان قد دعانا جميعا هو و زوجته للعشاء معهما تلك الليلة

كنت أداعب ابنه الصغير – فادي - بين يدي... و أشعر ببهجة لا توصف!
ما أجمل الأطفال و ما أمتع اللهو معهم ...!

أضاف معقبا :

" و نفرح بأطفالك يا وليد ؟؟ "

ابتسمت ابتسامة واهية... و أنا أرى الفكرة أشبه بالحلم البعيد...

قلت :

" لا يزال الوقت مبكرا ! "

استنكر سيف و قال :

" خير البر عاجله يا رجل... ها قد مضت فترة لا بأس بها على... "

و غض بصره و أضاف بصوت خافت :

" وفاة والديك... رحمهما الله "

انتفضت... و كأنني أسمع نبأ وفاة والدي ّ للمرة الأولى... و نظرت إلى سيف الذي عاد ببصره إلي... تكسوني علامات الحزن المرير...

تنهّدت تنهيدة عميقة... فالذكرى التي لا يمكن أن تمحى... لا تزال تثير في صدري آلاما قاتلة...

الصوت المبهم البريء الذي انطلق من حنجرة الطفل الصغير بين يدي، كان هو ما جعلني أبعثر الذكرى الماضية و أعود للحاضر

" لم يئن الأوان بعد يا سيف... يجب أن أرتب أوضاعي و أوضاع عملي الجديد و حياتي الجديدة... و أوضاع أروى... و رغد "

التزم سيف الصمت لكني كنت أرى التساؤل يكاد ينسكب من عينيه...

قلت :

" تعرف... أصبحت المسؤولية الملقاة على عاتقي... كبيرة ... "

قال :

" ماذا عن شقيقك ؟ "

أجبت ببعض الأسى:

" لا يزال يقيم في الشمال ... و بعد موت والدي ّ و انفصاله عن رغد... أصبحت هي ضمن مسؤولياتي... أما هو... فقد طلب منّي ألا آتي بها لزيارته ثانية..."

و استطرت ُ :

" و أنا... لا يمكن أن أتزوّج و رغد الصغيرة... تحت وصايتي "

ثم مسحت على رأس الصغير و ابتسمت بعذوبة و قلت و كأني أسر إليه:

" و حينما تكبر و تصبح امرأة... سوف أتزوّجها ! "

علت الدهشة وجه سيف و قال فاغرا فاه :

" ماذا ؟؟!! "

ضحكت ضحكة خفيفة و أنا أضم فادي إلى صدري و أقول بمرح :

" إنها قدري يا سيف ! و مهما ابتعدت ستعود إلي ! "

لم يعلّق سيف و لكنّه ظل في حيرة من أمري... و أنا واثق من أن عشرات الأسئلة المبهمة كانت تدور في رأسه آنذاك...
و ربما تدور في رؤوسكم أنتم أيضا !

أما أنا فسأستمر في مداعبة الطفل الرائع... و أتمنّى من الله أن يرزقني طفلا مثله ذات يوم !

سددت لصديقي الديون التي لحقت بي منذ خروجي من السجن... و شكرته كثيرا على الدعوة الممتعة و ودّعته على أمل اللقاء به بعد عودتي من المزرعة ذات يوم...

استعنا بالله و انطلقنا باسمه متوكلين عليه عائدين إلى المزرعة...
و كان مشوار العودة أكثر ابتهاجا و مرحا و راحة من مشوار الحضور... بالطبع... فقد أنجزنا بحمد الله كل شيء و حملنا معنا جزء ً قيما من النقود...

كان في رؤوسنا خطط كثيرة و أفكار عدّة و قطعنا الطريق و نحن نتداولها
أعني بالرؤوس رأسي و رأس أروى و الخالة
أما رأس الصغيرة الجالسة خلفي في صمت مغدق، فالله وحده الأعلم أي أفكار و خطط كانت تدور فيه !

دعوني أخبركم بأن رغد و أروى لا تزالان متخاصمتين منذ رمت الأولى الثانية بهاتفي المحمول ذلك اليوم... و لم تزد حقيقة ُ علاقة أروى بعمّار... رغد َ إلا نفورا منها...
و يبدو أن وضع الخصام ناسبهما جدا و أراحهما من التصادم، و أراح رأسي أنا بالتالي من الصداع !
لكن إلى متى ...؟؟
كما و إن رغد على ما بدا منها قد تنازلت عن جزء من دلالها و أحسنت التصرّف طوال رحلة العودة...
ألا يريبكم تصرفها هذا ؟؟
بقيت هادئة لأنها كانت مطمئنة إلى أنني سأعيدها إلى خالتها... كما وعدتها... و كما نصحتني خالتي ليندا... من أجلها هي...

كانت الأمور تسير بشكل هادئ جدا... و السعادة تغمر قلب أروى...
أما أنا فبالرغم من سعادتي شعرت بقلق قهري...
فالأقدار علّمتني ألا أفرط في الفرح بما بين يدي... خشية مصائب المستقبل...

" دعنا نقيم حفلة كبيرة فور وصولنا يا وليد... أريد أن يشاركني الجميع فرحتي هذه "

قالت أروى... فردّت أمها :

" زادك الله فرحا و نعيما بنيّتي "

ثم أضافت :

" و بلّغني رؤية أبنائك قريبا يا رب "

أروى طأطأت رأسها ببعض الخجل ثم قالت :

" قولي لوليد ! فهو من يؤجل الأمر ! "

كنت ُ أراقب الشارع... و لم أعلّق ... فقالت الخالة ليندا :

" خيرا تفعلان إن تتزوجا مباشرة يا عزيزي... خير البر عاجله يا وليد.. دعنا نتم الفرحة و نحتفل بالزواج ! "

تضايقت من حديثها.. فموعد زواجي مؤجل إلى أجل غير مسمى... كما و إن ذكرى وفاة والدي ّ لم تخمد نارها بعد...

قلت ُ مجاريا :

" سأفكر في الأمر لاحقا "

لماذا يلح علي الجميع بالزواج !؟؟
ألا يوجد رجل خاطب غيري في هذه البلاد ؟؟
و ظل الحديث عن زواجنا أنا و أروى المسيطر على الأجواء لفترة من الزمن... أما رغد الصامتة، فكلّما ألقيت عليها نظرة رأيتها تسبح في بحر من الشرود ...

لقينا بعض العقبات في طريقنا خصوصا مع الشرطة... و كان التفتيش مشددا جدا على بعض الطرق و المداخل... و الوضع الأمني في تدهور مضطرد.. و كثيرا ما تحظر الرحلات إلى و من بعض المدن، جوا أو برا...

و أخيرا... وصلنا إلى المدينة الصناعية المدمّرة...
و أخيرا بدأ وجه رغد يتهلل و الابتسامة ترتسم على شفتيها... وإن اقترنت بوجوم عام للمرأى المحزن...
تعمّدت أن أسلك طريقا بعيدا عن بيتنا المحروق، خشية أن تقفز الذكريات المؤلمة من جديد إلى قلبينا فتدميهما...

عندما وصلت إلى بيت أبي حسام، أوقفت السيارة و بقيت ساكنا لبعض الوقت...

استدرت إلى رغد فوجدتها تنظر إلي ربما بنفاذ صبر...
قالت:

" هل أنزل ؟ "

قلت :

" تفضلي... "

و سرعان ما خرجت من السيارة و اتجهت إلى بوابة المنزل تقرع الجرس...

" كم سنبقى ؟ "

التفت إلى أروى التي طرحت السؤال و قلت :

" بعض الوقت... نلقي التحية و نسأل عن الأخبار "

قالت :

" أرجوك وليد لا تطل المكوث... نحن متعبون و نريد الوصول إلى المزرعة و النوم... "

كان الوقت آنذاك أوّل الليل و لا يزال أمامنا مشوار طويل حتى نصل إلى المزرعة...

عندما خرجنا من السيارة كانت البوابة قد فتحت و ظهر منها أبو حسام و ابنه مرحبـَين...

و رغم ذلك لم تخل ُ نظراتهما إلي ّ من الريبة و الاتهام... و لابد أنكم تذكرون الطريقة التي غادرنا بها هذا المنزل قبل ذهابنا إلى لمدينة الساحلية...

اعتذرنا عن دعوة العشاء التي ألحت علينا عائلة أبي حسام لقبولها... متحججين بطول السفر...
رغد بدت مرتاحة و سعيدة بلقاء أهلها كثيرا... منذ الطفولة و هي تحب خالتها و عائلتها و كانت ستربى في حضنها لولا أن الظروف المادية و العائلية لم تكن تسمح آنذاك...

و أخيرا حانت لحظة الفراق...
كنت أدرك... أنني لم أكن لأتحمّل ذلك و لكنني أردت أن أحقق لرغد رغبتها و أنجز وعدي ... بتركها مع خالتها لبضعة أيام...

قبيل انصرافي طلبت منها مرافقتي لجلب أغراضها من السيارة و كان قصدي أن أتحدّث معها منفردين...

حملت ُ حقيبتـَي سفرها الصغيرتين إلى داخل السور الخارجي لحديقة المنزل و وضعتهما على مقربة و توقفت ... و التفت إلى رغد...

كانت تسير إلى جواري... تسبقني بخطوتين أو ثلاث... حاملة ً كيسا...

ناديتها :

" رغد "

التفتت نحوي و توقفت عن السير...

ترددت ُ قليلا ثم قلت:

" رغد.. تعلمين أنه... أنني ... ما كنت ُ لأتركك لولا إلحاحك الشديد بالبقاء هنا و لو تـُرك الأمر لي ... لأخذتك و عدنا جميعا إلى المزرعة... "

رغد نظرت إلى الأرض...

قلت متعلقا بأمل أخير :

" هل هذه رغبتك فعلا يا رغد ؟؟ "

و هزت رأسها إيجابا... لم يكن باستطاعتي إلا أن أنفّذ هذه الرغبة من أجلها هي...

قلت :

" حسنا... لكن... في أي لحظة تبدلين فيها رأيك و مهما كان أعلميني فورا..."

نظرت إلي نظرة شبه مشككة فقلت :

" و سآتي لأخذك في الحال... أتعدين بذلك ؟ "

كأنها ترددت لكنها أخيرا قالت :

" سأفعل "

قلت مؤكدا :

" اتصلي بي في أي وقت... و متى ما احتجت ِ لأي شيء... سأترك هاتفي المحمول مفتوحا على مدار الساعة... لا تترددي لحظة ... أتعدين بذلك يا رغد ؟؟ "

ارتسمت علامة غريبة المعنى على وجهها ... أهي ابتسامة ؟ أم هو حزن؟ ... أهو رضا ... أم غضب ؟؟ أهي راحة أم ندم ؟؟ لست أدري...

" عديني يا رغد ؟ "

" أعدك... "

شعرت بالطمأنينة لوعدها... ثم قلت :

" سأجلب شيئا... انتظري... "

و حثثت الخطى خارجا إلى السيارة، حيث استخرجت ظرفا يحوي أوراقا مالية كنت قد أعددته من أجل رغد...

عدت إليها فوجدتها لا تزال عند نفس الموضع و على نفس الوضع...
اقتربت ُ منها و مددت ُ إليها بالظرف قائلا:

" احتفظي بهذا لك "

سألتني :

" ما هذا ؟ "

" إنها بعض النقود... انفقي منها كيفما شئت ِ و إذا ما نفذت فابلغيني "

رغد طأطأت برأسها و نظراتها ربما حرجا ... فهي المرة الأولى التي أقدّم فيها إليها ظرفا ماليا...

" تفضلي يا رغد "

و لكنها لم تبادر بأخذه !

قلت مازحا :

" هيا صغيرتي ! لا يجب أن تشعر الفتاة بالخجل من أبيها ! "

هنا نظرت إلي رغد بسرعة و المزيج المرتسم على وجهها حاو ٍ على الدهشة و الضحك و الاستنكار معا !

تشجّعتْ و مدّتْ يدها أخيرا و أخذت الظرف !

ابتسمت ُ مشجعا و قلت :

" اتصلي بي إذا احتجت ِ المزيد ... و لا تنتظري شيئا من الآخرين أو تعتمدي عليهم ... أتعدين بذلك يا رغد ؟ "

هزّت رأسها إيجابا ...

و وضعت الظرف داخل الكيس... و استدارت متابعة طريقها نحو المنزل...

و هي تبتعد... و أنا أشعر بأشياء تتمزّق في داخلي... أشعر بأن حزمة كبيرة من الأعصاب الحسية كانت تربط فيما بيننا... و مع ابتعادها أخذت تتقطع عصبا عصبا ... و تحدث في قلبي ألما فظيعا مهلكا...

كيف أطاعني قلبي...
مددت يدي محاولا الإمساك بذرات الهواء التي تبعتها... و عادت إلي يدي خالية الوفاض...

هتفت :

" رغد ... "

توقفت ْ و استدارت ْ نحوي... فحال الظلام دون رؤية عينيها...
أو ربما حال دون ذلك... عبرة ولدت للتو... من أعماق عيني...

حملت ُ الحقيبتين و أقبلت ُ نحوها فلما صرت ُ قربها قلت :

" اعتني بنفسك جيدا ... يا صغيرتي... "

رغد... ربما تفهمت قلقي و رأت في وجهي ما لم نستطع لا أنا و لا الظلام إن نخفيه...
ابتسمت ْ و قالت مطمئنة:

" اطمئن يا وليد... سأكون بخير... وسط أهلي"

و هبطت ببصرها للأسفل و نظرت إلى الكيس الذي كانت تحمله مشيرة إلى ظرف النقود و أضافت بصوت خافت كالهمس:

" شكرا... بابا وليد !! "

ثم استدارت و أسرعت نحو الداخل !

آه يا رغد !

أتسخرين منّي ؟؟

ليتك تعلمين كيف أشعر تجاهك... !

آه لو تعلمين !

فيما بعد... و نحن نهم ّ بالمغادرة... وجهت كلامي لأم حسام موصيا:

" أرجو أن... تعتنوا برغد جيدا... و إن احتجتم لأي شيء فأبلغوني"

" لا داع لأن توصيني بابنتي يا وليد... سافر مطمئنا في أمان الله "

" شكرا يا خالتي... سأعود قريبا... أرجوك... ارعي الصغيرة جيدا باركك الله "

الجميع بدأ يتبادل النظرات إن سرا أو علنا... إن تضامنا أو استنكارا...
و لكنني واصلت سرد وصاياي حتى آخر لحظة

بعد ذلك... و أنا أغادر البوابة الخارجية ألقيت النظرة الأخيرة على رغد...
و قلت أخيرا :

" أستودعك من لا تضيع ودائعه... "



~~~~~~~~~



لم يظهر على وليد أنه عازم أصلا على الرحيل!
و ربما لو ترك الأمر له وحده لجعلنا نبات في ذلك المنزل أو نقضي بضعة أيام في المدينة قرب رغد!

اهتمامه الزائد بها يثير انزعاجي... وقد أصبحت أشعر بها و كأنها شريكة لي في وليد... و هو أمر لا احتمل التفكير به فضلا عن حدوثه...

أخبرني بعد ذلك بأنه قد دفع إليها بجزء من النقود التي أخذها من الخزانة، و بدا و أن رغد ستشاركني أيضا في ثروتي ...

بالنسبة لي فقد أعطيت وليد مطلق الحرية في التصرف بالنقود و الممتلكات...
وليد كان قد أخبرني مسبقا بأنه كان في الماضي يحلم بأن يصبح رجل أعمال مثل والده – رحمه الله - و أن دخوله السجن قد غير مجرى حياته... و الآن... و بقدرة قادر... تحقق الحلم !

لمست ُ تغيرا كبيرا و رائعا على وليد و نفسيته ... أصبح أكثر سعادة و إقبالا على الحياة بروح متفائلة مرحة... و رغم أن الساعات التي صار يقضيها في العمل و الدراسة قد تضاعفت، وجدنا الوقت الكافي و المناسب جدا لنعيش حياتنا و نستمتع بخطوبتنا التي ما كندنا نهنأ بها... في وجود ورغد !

و بالرغم من أنها ابتعدت أخيرا... ظل اسم رغد و ذكرها يتردد على لسان وليد يوميا في المزرعة... و كانت هي من يكدر صفو مزاجه... و يثير قلقه... و ما فتئ يهاتفها هي و أهلها من حين لآخر و يمطرهم بالوصايا حتى بدأت ُ أشعر أنا بالضيق !

لكني مع ذلك أحسست بالفخر... بأن يكون لي زوج يعرف معنى المسؤولية و يقدّرها جل تقدير...

بعد شقائي و عنائي الكبير و حرماني من أبي و قسوة الحياة علي ّ كل تلك السنين... وهبني الله نعمتين عظيمتين يستحيل أن أفرّط بأي ٍ مهما كان السبب...

وليد الحبيب... و الثروة الضخمة...

و لم يبق أمامنا إلا أن نتم زواجنا و نبهج قلوب أهلنا و نواصل معا مشوار الحياة الزوجية السعيدة... بإذن الله
~~~~~~~~~~
مرت أيام مذ وصلنا إلى المدينة الزراعية الشمالية... و بدأت بتنفيذ الخطط التي رسمتها خلال الأيام الماضية...

وظفت المزيد من العمّال من أجل العناية بالمزرعة و محصولها و نظّمت برنامجا خاصا للإشراف عليها

في كل صباح تقريبا كنت أتصل بمنزل أبي حسام و أتحدّث إلى رغد و أطمئن على أحوالها... و من خلال نبرة صوتها استنتج أنها مرتاحة و بخير...

و بالرغم من ذلك، كنتُ لا أتوقّف عن التفكير فيها ساعة واحدة...
أجرينا بعض الإصلاحات في المنزل الصغير و جددنا بعض الأثاث...
انشغلت كثيرا بأعمال متعددة، ما جعل الأيام تمضي... و الفراق يطول... و الشوق يزداد...

و بدأت أشعر بالحرج من اتصالي المتكرر لمنزل أبي حسام و طالبت رغد بأن تهاتفني كل يومين على الأقل، لكنها لم تكن تفعل إلا قليلا...

أما عن أروى فقد كانت مهووسة بفكرة الزواج التي ما فتئت هي و الخالة ليندا تلاحقاني بها حتى ضقت ذرعا...

و لمرة أخرى أصيبت الخالة بانتكاسة صحية و نقلناها للمستشفى... الأمر الذي أجل سفري لفترة أطول...

ذات يوم، اتصلت بمنزل أبي حسام بعد أن تملكتني الهواجس للحديث مع صغيرتي البعيدة...
إن شمسا تشرق و تغرب دون أن تريني إياها هي ليست شمسا... و إن قمرا يسهر في كبد السماء دون أن يعكس صورتها... هو ليس قمرا...
و إن يوما يمر ... دون أن اطمئن عليها... هو ليس محسوبا من أيام حياتي...


" مرحبا...أنا وليد"

" نعم عرفتك... مرحبا... لكن رغد ليست هنا الآن"

كان هذا حسام، و كان يتحدّث بضيق أشعرني بالخجل من نفسي...

" إلى أين ذهبت؟ "

" لزيارة بعض المعارف فهل تريد أن أبلغها شيئا ؟"

" أبلغها أنني انتظر اتصالها لو سمحت... و عذرا على الإزعاج"


و انتظرت طويلا حتى انتصف الليل، و لم تتصل... فبت ّ أبث ّ للقمر همّي... و أصبحت ّ أعرب للشمس عن نيّتي للذهاب إليها اليوم مهما كان...

نهضت عن فراشي باكرا و خرجت إلى المزرعة راغبا في استنشاق بعض الهواء المنعش... ذاك الذي يطرد من الصدر الهموم المكبوتة...

هناك... وجدت العم إلياس و أروى يحرثان الأرض... اقتربت منهما و هتفت محييا:

" صباح الخير"

التفتا إلي ّ باسمين و ردا التحية ... قلت مستغربا مستنكرا :

" ما الذي تفعلانه ! انتظرا حضور العمّال "

العم إلياس قال :

" في الحركة بركة يا بني "

" الوقت باكر... دعا مهمة حرث الأرض الشاقة عليهم "

و اقتربت من أروى أكثر...

ابتسمت لي و قالت :

" لا تظن يا وليد أنني سأتخلى عن هذه المزرعة يوما ! لقد ولدت مزارعة و سأعيش مزارعة و إن ملكت كنوز الأرض... "

و مدت ذراعيها إلى جانبيها مشيرة إلى ما حولها قائلة :

" هذه المزرعة هي... حياتي ! "

العم إلياس فرح بقولها و راح يدعو :

" بارك الله فيك يا بنيّتي ... و في ذريتك "

ثم وجه حديثه إلي قائلا :

" هذه الأرض عليها عشنا و من خيراتها كبرنا و لن نترك العمل فيها حتى يحول الموت دون ذلك "

لم أتعجّب كثيرا من كلام العم، فتعلّقه بالمزرعة أشبه بتعلّق السمكة بمياه البحر... أما أروى فعارض كلامها خططي المستقبلية...

قلت :

" أطال الله في عمرك يا عمّي "

قال متما :

" حتى أحمل أطفالكما فوق ذراعي ّ ... تزوجا و أفرحا قلوبنا عاجلا يا عزيزاي "

أروى ابتسمت بخجل، أما أنا فنظرت إلى السماء أراقب سرب عصافير يدور فوق رؤوسنا !

آه لو كنت أستطيع الطيران !

أروى كانت تريد العيش في المزرعة مع والدتها و خالها بقية العمر... أما أنا فقد كنت أخطط للعودة إلى المدينة الساحلية و تجديد منزلنا القديم و العيش فيه... قريبا من مصنع أروى و ممتلكاتها... حتى يتسنى لنا إدارة و مراقبة كل شيء...

و بدا أن الموضوع سيثير صداعا أنا في غنى تام عنه خصوصا و أنني لم أنم جيدا ليلة أمس لكثر ما فكرت في رغد...

قلت مخاطبا أروى و مغيرا منحى الحديث :

" سوف أذهب إلى المدينة الصناعية هذا اليوم... "

و لا أدري لم شعرت بأن جملتي أصابت أروى بخيبة الأمل !



~~~~~~~




نظل ساهرات حتى ساعة متأخرة من الليل، الأمر الذي يجعل نشاطنا و حيويتنا محدودين في النهار التالي...
أنا و ابنتا خالتي نهلة و سارة لا نجد ما نفعله إلا الحديث و مشاهدة التلفاز و قراءة المجلات!

" أوف ! أشعر بالضجر ! نهلة ما رأيك في الذهاب إلى السوق ؟ "

قلت و أنا أزيح المنشفة عن شعري بملل ...

تفكّر نهلة قليلا ثم تقول :

"في هذا الصباح؟؟...إمممم... حسنا... تبدو فكرة جميلة!! "

و تسارع سارة بالقول :

" سأذهب معكما "

و هذه الـ سارة تلازمنا ما لا يكاد يقل عن 24 ساعة في اليوم !

قالت نهلة:

" إذن تولي أنت ِ إخبار أمّي و إقناع حسام بمرافقتنا ! "

و لم تكد نهلة تنهي جملتها إلا و سارة قد ( طارت ) لتنفيذ الأوامر!

ضحكنا قليلا... ثم باشرت بتسريح شعري أمام المرآة... كنت قد أنهيت حمامي الصباحي قبل قليل و تركت قطرات الماء تنساب من شعري على ظهري بعفوية...

وقفت ابنة خالتي خلفي تراقبني...

" طال شعرك رغد... ألن تقصّيه ؟ "

و قد كنت معتادة على قص شعري كلما طال، فالشعر الطويل لا يروق لي و لا يناسب ملامح وجهي ! هكذا كانت دانة تقول دوما...

" لم يكن بإمكاني ذلك قبل الآن..."

و أضفت :

" آه ... لقد كنت حبيسة الحجاب طوال شهور "

و أنا أسترجع ذكريات عيشي في المزرعة تحت أنظار وليد و العجوز
لقد كان المنزل صغيرا و لم أكن استطيع التجوّل بأرجائه بحرية و لم أكن أغادر غرفة النوم إلا بحجابي و عباءتي ... و جواربي أيضا !

أما هنا... فأنا أتحرّك بحرية في الطابق العلوي بعيدا عن أعين حسام و أبيه...

أما عينا نهلة فلا تزالان تتفحصانني!

قالت :

" و يبدو أنك كذلك نحفت ِ بعض الشيء يا رغد ! أنظري... تظهر ندبتك و كأنها قد كبرت قليلا"

و هي تمسك بذراعي الأيسر مشيرة إلى الندبة القديمة التي تركها الجمر عليها عندما أحرقني قبل سنين...

" مع أنني كنت آكل جيدا في المزرعة ! "

" كيف كانت حياتك في المزرعة ؟ "

تنهّدت تنهيدة طويلة و رفعت رأسي إلى السقف... كم من الوقت مضى و أنا سجينة هناك !
و بالرغم من قربي من وليد، لم أكن أشعر إلا بالضيق من وجود الشقراء الدخيلة... و لم تكن الأيام تمر بسلام...

" آه يا نهلة... حياة بسيطة جدا... ليس فيها أي شيء... هم يعملون في المزرعة و أنا أرسمها!... كانت جميلة و لكن العيش فيها أشبه بالعيش في السجن "

و وصفت لها شيئا من أحوالي هناك و كيف أنني افتقدت الحرية حتى في أبسط الأشياء و عانيت من الغربة و بعض المشاكل مع أروى

و حالما جئت بذكر اسم هذه الأخيرة عبست ُ بوجهي !

لاحظت نهلة ذلك... ثم قالت :

"إنها جميلة جدا! كم هو محظوظ ابن عمّك ! "

و لا أدري إن قالت ذلك عفويا أو عمدا لإزعاجي ! رفعت فرشاة شعري أمام وجهها و هددتها بالضرب !

نهلة ضحكت و ابتعدت بمرح... أما أنا فتملكني الشرود و الحزن، و لما رأت ذلك نهلة أقبلت و أخذت تداعب خصلات شعري المبلل و تربت علي ّ و تقول :

" أنت ِ أيضا جميلة يا رغد... الأعمى من لا يلحظ ذلك !"

قلت :

" لكنها أجمل منّي بكثير... و عندما تتزين تصبح لوحة فنيّة مذهلة... لا يمكن المقارنة بيننا "

قالت:

" و لم أصلا المقارنة بينكما ؟ أنت رغد و هي أروى "

قلت بصوت منكسر :

" نعم... أنا رغد اليتيمة المعدومة... لا أم و لا أب و بيت و لا مال... و هي أروى الحسناء الثرية صاحبة أكبر ثروة في المدينة الساحلية و إحدى أجمل المزارع في المدينة الزراعية... من سيلتفت إلي إزاء ما لديها هي ؟؟ "

و رميت بالفرشاة جانبا في غضب...

نهلة نظرت إلى مطولا ثم قالت :

" و ماذا بعد ذلك؟ هل ستتوقفين عن حب ابن عمّك هذا ؟ "

أتوقف؟
و كأن الأمر بيدي... لا أستطيع ...
أغمضت عيني في إشارة منّي إلى العجز...

" إذن... ماذا ستفعلين؟ الأمر تعقد الآن و الرجل قد تزوج ! "

قلت بسرعة :

" لا لم يتزوج ... خطب فقط... و يمكن أن ينهي علاقته بالشقراء في أي وقت "

و لأن نظرات الاستنكار علت وجه نهلة أضفت :

" فأنا بعد أكثر من أربع سنوات من الخطوبة الحميمة انفصلت عن خطيبي "

نهلة هزت رأسها بأسى... ثم قالت :

" رغد... هل تعتقدين أن هذه الفكرة هي التي تدور برأس ابن عمّك؟ الرجل قد ارتبط بفتاة أخرى و ربما هو يحبها و يعد للزواج منها ! "

قلت بغضب:

" و ماذا عنّي أنا ؟؟ "

نظرت إلى بتمعن و قالت و هي تشير بسبابتها اليمنى :

" أنت أيضا... ستتزوجين رجلا يحبّك و يحترمك كثيرا... وينتظر منك الإشارة "

و هنا أقبلت سارة تقول :

" حسام موافق ! "


اصطحبنا حسام بسيارته الصغيرة الضيقة إلى السوق و ظل مرافقا لنا طوال الوقت...
قضينا فترة لا بأس بها هناك ومع ذلك لم يبدِ تذمرا! بل كان غاية في اللطف و التعاون، و السرور كذلك...!
اشتريت العديد من الأشياء...
تعرفون أنه لم يعد عندي ما يكفي من الملابس و الحاجيات ... و أن أشيائي قد احترقت في بيتنا الحزين... و أن القليل الذي اقتنيته لاحقا تركته في المزرعة
كنت أنفق بلا حساب! فالمبلغ الذي تركه وليد معي... كبير و مغر ٍ...
حقيقة شعرت بالخجل و أنا آخذ ظرف النقود منه، و لكنني بالفعل بحاجة إليها... و حتى النقود التي تركها لي أبي رحمه الله قبل سفره إلى الحج، و التي لم أنفق منها ما يذكر، احترقت في مكانها في البيت...
و حتى بقايا رماد البيت المحروق... لم يكن لي نصيب في ورثها...

بعد أن فرغنا من مهمة التسوق اللذيذة عدنا إلى المنزل و ارتديت بعضا من أشيائي الجديدة شاعرة بسعادة لا توصف

فيما بعد... قررنا أنا و خالتي و أبناؤها التنزه في حديقة المنزل...

أبو حسام كان يحب حديقة منزله و يعتني بها جيدا، و بعد أن احترقت شجيراتها في القصف الجوي آنفا، أعاد زراعة و تنظيم الأشجار و العشب... و دبّت الحياة في تلك الحديقة مجددا..

كنت قد اخترت من بين ملابسي الجديدة جلابية زرقاء فضفاضة طويلة الكمين، و وشاحا طويلا داكن اللون، و خاتما فيروزيا براقا لأقضي بهم نزهتي داخل حديقة المنزل...

الجو كان لطيفا و أنسام الهواء عليلة و نشطة... الشمس قد احمر ذيلها في الأفق... و تسابقت غيوم خفيفة على حجب حمرتها الأخاذة عن أعين الناظرين... بينما امتدت الظلال الطويلة على العشب... مضفية عليه خضرة نضرة...
المنظر من حولي خلاب و مبهج للغاية... إنها بدايات الشتاء...

فرشنا بساطا كبيرا على العشب الرطب، و جلسنا نحن الخمسة فوقه نتناول المكسرات و نتبادل الأحاديث... و نتسلى بلعبة الألغاز الورقية !
لقد كنت آنذاك مسرورة و مرتاحة... و غاية في الحيوية و المرح !



~~~~~~~~~~


عندما فـُتـِحت البوابة، وجدت ُ حسام في استقبالي...

تبادلنا التحية و لم يحاول إخفاء علامات التعجب و الاستنكار الجلية على وجهه و هو يستقبلني دون سابق إعلام...



دعاني للدخول، فسرت إلى جانبه و أنا أشعر ببعض الحرج من زيارتي المفاجئة هذه...



هنا وصلتني أصوات ضحكات جعلتني التفت تلقائيا نحو المصدر...



على بساط مفروش فوق العشب في قلب الحديقة كانت أربع نسوة يجلسن في شبه حلقه مستديرة...



جميعهن التفت إلي ّ لدى ظهوري في الصورة و جميعهن أخرسن ألسنتهن و بدين مندهشات !



غضضت بصري و تنحنحت ثم ألقيت التحية... و سمعت الرد من أم حسام مرحبة بي...



" تفضّل يا وليد... أهلا بك... "



قال حسام :



" تعال شاركنا "



و هو يحثّني على السير نحو البساط... و أضاف :



" كنا نتسلى بالألغاز ! الجو منعش جدا "



وقفت شقيقة حسام الكبرى ثم الصغرى هامتين بالانصراف فقلت :



" كلا... معذرة على إزعاجكم كنت فقط أود إلقاء التحية و الاطمئنان على ابنة عمّي"



أم حسام قالت مباشرة :



" أي إزعاج يا وليد؟ البيت بيتك و نحن أهلك... تفضّل بني "



" شكرا لك خالتي أم حسام... أدام الله عزك "



كل هذا و عيني تحدّق في العشب في خجل...



و تمكنت من رفعهما أخيرا بحثا عن رغد... و رأيتها جالسة بين ابنتي خالتها... و هي الأخرى تبعثر نظراتها على العشب !



يا إلهي كم اشتقت إليها !... لا أصدق أنها أمامي أخيرا...



" كيف حالك يا رغد ؟ "



التفتت رغد يمنة و يسرة كأنها تبحث عن مصدر الصوت!



هذا أنا يا رغد ! هل نسيت صوتي ؟؟

ثم رأيتها تبتسم و يتورد خداها و تجيب بصوت خافت :
" بخير "
لم يكن جوابا شافيا ! أنا أريد أن أعرف تفاصيل كل ما حصل مذ تركتك ِ هنا تلك الليلة و حتى هذه اللحظة ! ألا تعلمين كم كنت مشغول البال بك ؟؟
" كيف تسير أمورك صغيرتي ؟ "
و ابتسمت ابتسامة أكبر... و قالت :

" بخير ! "
بخير ... بخير !

كل هذا و هي لا ترفع نظرها عن العشب الرطب...
قلت :
" الحمد لله... "
قالت أم حسام :
" تفضّل بالجلوس "
قال حسام :
" سأصطحبه إلى المجلس ... "
و خاطبني :
" تفضّل وليد "
لم أجد بدا من مرافقته ... فذهبت تاركا عقلي مرميا و مبعثرا هو الآخر فوق ذات العشب !
في ذلك المجلس كان أبو حسام يشاهد الأخبار ... و بعد الترحيب بي فتحنا موضوع المظاهرات و العمليات الاستشهادية النشطة و عمليات الاعتقال و الاغتيالات العشوائية التي تعيشها البلدة بشكل مكثف في الآونة الأخيرة...
و كذلك المنظمات السرية المعادية التي يتم الإيقاع بعملائها و زجّهم إلى السجون أو قتلهم يوما بعد يوم...
الأنباء أثارت في نفسي كآبة شديدة و مخاوف متفاقمة خصوصا بعد أن علمت من أبي حسام عن تورط بعض معارفه في إحدى المنظمات المهددة بالخطر...
و حكيت له الصعوبات التي واجهناها مع السلطات أثناء رحلتـَي ذهابنا و عودتنا إلى و من المدينة الساحلية...
و تعرفون كم أكره الشرطة و أرعب منهم...
فيما بعد... خرجنا نحن الثلاثة من المنزل قاصدين الذهاب إلى المسجد...

و نحن نعبر الحديقة رأيت رغد مع ابنتي خالتها و هن لا يزلن يجلسن على ذلك البساط و يلهون بأوراق الألغاز...
حسام هتف سائلا :

" من فاقكن ذكاء ؟ "
أجابت شقيقته الصغرى :
" رغد ! إنها ذكية جدا "
ضحك حسام و قال :
" استعيري شيئا منها ! "
و انطلقت ضحكة عفوية من رغد...
حسام قال بمرح :
"... سأغلبك ِ في الجولة المقبلة يا رغد ! استعدّي "
قالت رغد و هي تنظر إله بتحد :
" قبلت التحدّي ! "
حسام ضحك و قال بإصرار :
" سترين أنا عبقريتي... انتظري فقط ! "
و ضحكت رغد بمرح...
كل هذا و أنا... واقف أسمع و أتفرج و أخرس لساني و أكتم في صدري غضبا شديدا...
~~~~~~~
" فيم تحدّقين ؟ "
سألتني نهلة و هي تراني أحملق في البوابة... التي أغلقها حسام بعد خروجه و أبيه و وليد قبل قليل..
قلت :
" هل رأيت ِ كيف يبدو حسام إلى جانبه ؟ كواحد من الأقزام السبعة ! "
تعجّبت نهلة و بدا أنها لم تفهم شيئا !
قلت:

" أراهن أنه سيلحق بهما بسيارته... يستحيل على هذا الشيء أن يدخل سيارة شقيقك تلك! إلا إذا أخرج رأسه من فتحة السقف ! "
و أخذت سارة تضحك بشدّة !
لا أدري إن لشيء فهمته أو لشيء لم تفهمه!
وقفت ُ بعد ذلك و أخذت ُ أمدد أطرافي و استنشق الهواء العليل... شاعرة بسعادة تغمر قلبي... و برغبة هوسية في معانقة الهواء!
أخذت ُ أدندن بمرح... و أمشي حافية على العشب بخفة... كعصفور على وشك الطيران...
نهلة أصدرت أصواتا خشنة من حنجرتها للفت انتباهي فاستدرت إليها و وجدتها تراقبني باهتمام...
إنني أشعر بالدماء تتحرك بغزارة في شعيرات وجهي... و متأكدة من أنني في هذه اللحظة حمراء اللون !

" رغد يا صغيرتي كيف تسير أمورك ؟ "
قالت ذلك نهلة و هي تهب واقفة على أطراف أصابعها و تنفخ صدرها و ترفع كتفيها و تضغط على حبالها الصوتية ليظهر صوتها خشنا، فيما تقطب حاجبيها لتقلّد وليد !
و مرة أخرى تنفجر سارة ضحكا... و تثير عجبي!

إنها غبية في أحيان كثيرة و لكن يبدو أن ذكاءها محتد هذا الساعة !
قلت موضحة :
" إنه يناديني بالصغيرة منذ طفولتي ما الجديد في ذلك ؟ "
و نهلة لا تزال قاطبة حاجبيها و تردد :
" رغد يا صغيرتي ! رغد يا صغيرتي ! رغد يا صغيرتي "
و سارة لا تزال تضحك !
قلت :
" و لأني يتيمة... فهو يعاملني كابنته! و طلب منّي اعتباره أبي ! "
و نظرت الفتاتان إلى بعضهما و ضحكتا بشدة !
قلت و أنا أولي هاربة :
" أوه... خير لي أن أذهب لتأدية الصلاة ! أنتما لا تطاقان ! "
لم يكن لحضور وليد قلبي أي هدف غير الاطمئنان علي، لذا فإنه هم بالمغادرة بعد ذلك مباشرة لولا أن العائلة ألحت عليه لتناول العشاء معنا...
أنا أيضا كنت أريد منه أن يبقى فمجرد وجوده على مقربة... يمنحني شعورا لا يمكن لأي إنسان منحي شعورا مماثلا له
آه لو تعلمون...

كم في البعد من شوق و كم في القرب من لهفة...

كيف سارت حياتي بدونك يا وليد؟؟

كيف استطعت العيش طوال هذه الأيام بعيدة عنك؟؟

و كيف سأتحمّل رحيلك... و كيف سأطيق الذهاب معك ؟؟

بعد العشاء، وليد و حسام و أبوه خرجوا و جلسوا في الحديقة على نفس البساط الذي كنا نجلس عليه...

كان الجو رائعا تلك الليلة، لا يقاوم...

و من داخل المنزل فتحت النافذة المطلة على الحديقة سامحة لنسمات الليل و ضوء القمر، و الأصوات كذلك، بالتسلل إلى الداخل... بينما أنا أراقب عن كثب... تحركات وليد !
كان وليد غاية في الأدب و اللباقة... كان قليل الحديث أو الضحك... مغايرا لحسام المزوح الانفعالي...

و بدا فارق السن بينهما جليا في طريقة حديثهما و تحركهما بل و حتى في الطريقة التي يشربان بها القهوة !
بإدراك أو بدونه... كنت أسترق السمع إلى أي كلمة تخرج من لسان وليد و أراقب حتى أتفه حركة تصدر منه... بل و حتى من خصلات شعره الكثيف و الهواء يعبث بها ...

" ما الذي تراقبه الصغيرة الجميلة ؟ "

قالت نهلة و هي تنظر إلي بمكر... فهي تعرف جيدا ما الذي يثير اهتمامي في قلب الحديقة !

قلت بتحد :
" بابا وليد ! "
كادت تطلق ضحكة كبيرة لولا أنني وضعت كفي فوق فمها و كتمت ضحكتها
" اخفضي صوتك ! سيسمعونك ! "
أزاحت نهلة يدي بعيدا و مثلت الضحك بصوت منخفض و من ثم قالت :
" مسكين وليد ! عليه أن يرعى طفله بهذا الحجم ! "
و فتحت ذراعيها أقصاهما... كنت ُ أعرف أنها لن تدعني و شأني ... هممت ُ بإغلاق النافذة فأصدرت صوتا... فرأيت حسام يلوّح بيده نحونا و يهتف :
" رغد... تعالي "
تبادلت و نهلة النظرات و بقيت مكاني...
قال حسام :
" وليد يرغب في الحديث معك "
عندها ابتعدت عن النافذة و وضعت يدي على صدري أتحسس ضربات قلبي التي تدفقت بسرعة فجأة...
نهلة نظرت إلي من طرف عينيها و قالت مازحة ساخرة :
" هيا يا صغيرتي المطيعة ... اذهبي لأبيك "
و لما لم تظهر على وجهي التعبيرات التي توقعتها بدا الجد في نظراتها و سألتني:
" ما الأمر ؟؟ "
قلت و أنا مكفهرة الوجه و يدي لا تزال على صدري :
" لا بد أنه سيغادر الآن... "
نظرت إلي نهلة باستغراب... بالطبع سيغادر... و جميعنا نعلم أنه سيغادر!... ما الجديد في الأمر...؟؟
قلت :
" لا أريده أن يبتعد عني يا نهلة... لا أحتمل فراقه... أريده أن يبقى معي... و لي وحدي... أتفهمين ؟؟ "
في وسط الحديقة... على العشب المبلل برذاذ الماء... و بين نسمات الهواء الرائعة المدغدغة لكل ما تلامسه... و تحت نور باهت منبعث من القمر المتربع بغرور على عرش السماء... وقفنا وجها لوجه أنا و وليد قلبي...
لأصف لكم مدى لهفتي إليه... سأحتاج وقتا طويلا... و لكن الفرصة ضئيلة أمامي... و العد التنازلي قد بدأ...
حسام و أبوه دخلا المنزل تاركـَين لنا حرية الحديث بمفردنا... و إن كنت لا أعرف أي حديث سيدور في لحظة كهذه ...؟
نسمات الهواء أخذت تشتد و تحوّلت دغدغاتها إلى لكمات خفيفة لكل ما تصادفه
وليد بدأ الحديث من هذه النقطة :
" يبدو أن الريح ستشتد... إنه إنذار باقتراب الشتاء ! "
" نعم... "
" المكان هنا رائع... "
و هو يشير إلى الحديقة من حوله...
" أجل... "
و نظر إلي و قال :
" و يبدو أنك تستمتعين بوقتك هنا... "
هززت رأسي إيجابا...
قال بصوت دافئ حنون :
" هل أنتِ ... مرتاحة ؟ "
قلت بسرعة :
" بالطبع... "
ابتسم برضا ... ثم قال :
" يسرني سماع ذلك... الحمد لله "
هربت من نظراته و سلطت بصري على العشب... ثم سمعته يقول :
" ألا... تريدين... العودة إلى المزرعة ؟ "
رفعت رأسي بسرعة و قد اضطربت ملامح وجهي...
وليد قال بصوت خافت :
" لا تقلقي... فأنا لن أجبرك على الذهاب معي... "
ثم أضاف :
" أريد راحتك و سعادتك يا رغد... و سأنفذ ما ترغبين به أنت ِ مهما كان... "
قلت موضحة :
" أنا مرتاحة هنا بين أهلي... "
و كأن الجملة جرحته ... فتكلّم بألم :
" أنا أيضا أهلك يا رغد... "
تداركت مصححة :
" نعم يا وليد و لكن ... و لكن ... "
و ظهرت صورة الشقراء مشوهة أي جمال لهذه اللحظة الرائعة ...
أتممت :
" ولكنني... سأظل أشعر بالغربة و التطفل هناك... لن يحبني أحد كما تحبني خالتي و عائلتها... و لن أحب أحدا لا تربطني به دماء واحدة ..."
نظر إلي ّ وليد بأسى ثم قال :
" تعنين أروى ...؟ "
فلم أجب، فقال :
" إنها تحبك و كذلك الخالة... و هما تبعثان إليك بالتحيات "
قلت :
" سلّمهما الله... أنا لا أنكر جميلهما و العجوز علي... و لو كان لدي ما أكافئهم به لفعلت... لكن كما تعلم أنا فتاة يتيمة و معدومة... و بعد رحيلهما لم يترك والداك لي شيئا بطبيعة الحال... "
و هنا توتر وليد و قال باستنكار :
" لم تقولين ذلك يا رغد ؟؟ "
قلت مصرة :
" هذه هي الحقيقة التي لا يجدي تحريفها شيئا... أنا في الحقيقة مجرّد فتاة يتيمة عالة على الآخرين... و لن أجد من يطيقني و بصدر رحب غير خالتي "
و ربما أثرت جملتي به كثيرا... فهو قد لاذ بالصمت لبعض الوقت... ثم نطق أخيرا:
" على كل... لا داعي لأن نفسد جمال هذه الليلة بأمور مزعجة... "
ثم ابتسم ابتسامة شقّت طريقها بين جبال الأسى و قال:
" المهم أن تكون صغيرتي مرتاحة و راضية... "
ابتسمت ممتنة...
قال :
" حسنا... يجب أن أذهب الآن قبل أن يتأخر الوقت أكثر... "
تسارعت ضربات قلبي أكثر... لم أكن أريده أن يرحل... ليته يبقى معنا ليلة واحدة...أرجوك لا تذهب يا وليد...
قال :
" أتأمرين بأي شيء ؟ "
ليتني أستطيع أمرك بألا ترحل يا وليد !
قلت :
" شكرا لك "
كرر سؤاله :
" ألا تحتاجين لأي شيء ؟ أخبريني صغيرتي أينقصك أي شيء؟؟ "
" كلا... "

" لا تترددي في طلب ما تحتاجينه منّي... أرجوك رغد... "
ابتسمت و قلت :
" شكرا لك... "
وليد أدخل يده في جيبه ! أوه كلا ! هل يظن أنني أنفقت تلك الكومة من النقود بهذه السرعة ؟ لست مبذرة لهذا الحد !
كدت ُ أقول ( كلا ! لا أحتاج نقودا ) لكنني حين رأيت هاتفه المحمول يخرج من جيبه حمدت الله أن ألجم لساني عن التهور !
و للعجب... وليد قدّم هاتفه إلي ّ !
" ابقي هذا معك... اتصلي بي في المزرعة متى احتجت لأي شيء..."
نظرت إليه باندهاش فقال :
" هكذا استطيع الاتصال بك و الاطمئنان على أوضاعك كلما لزم الأمر دون حرج"
بقيت أحدق في الهاتف و في وليد مندهشة ...
" و ... لكن ... !! "
صدر التلكين منّي فقال وليد :
" لا تقلقي، سأقتني آخر عاجلا... يمكنني الاستغناء عنه الآن ... خذيه "

و بتردد مددت يدي اليمنى و أخذت الهاتف فيما وليد يراقب حركة يدي بتمعن !
قال :
" لا تنسي... اتصلي بي في أي وقت... "
" حسنا... شكرا لك "
وليد ابتسم بارتياح... ثم بدا عليه بعض الانزعاج و قال :
" سأنصرف الآن و لكن... "
و لم يتم جملته، كان مترددا و كأنه يخشى قول ما ود قوله... تكلمت أنا مشجعة :
" لكن ماذا وليد ؟؟ "
أظن أن وجه وليد قد احمر ! أو هكذا تخيّلته تحت ضوء القمر و المصابيح الليلية الباهتة...

وليد أخيرا نظر إلى عيني ثم إلى يدي الممسكة بالهاتف ثم إلى العشب... و قال:
" ارتدي عباءتك حينما يكون حسام أو أبوه حاضرين "
ذهلت... و كاد قلبي يتوقف... و حملقت في وليد باندهاش ...
وليد تراجع ببصره من العشب، إلى يدي، إلى عيني ّ و واصل :
" و لا داعي لوضع الخواتم في حال وجودهما... "
الدماء تفجرت في وجهي ... طأطأت ُ برأسي نحو الأرض في حرج شديد... توقفت أنفاسي عن التحرك من و إلى صدري و إن ظلّت الريح تعبث بوجهي و وشاحي الطويل... في حين حاولت يدي اليسرى تغطية خاتمي الفيروزي الجديد في يدي اليمنى ...
وليد حاول تلطيف الموقف فقال مداعبا :
" و لكن افعلي ما يحلو لك ِ في غيابنا "
ثم قال مغيرا المسار و خاتما اللقاء :
" حسنا صغيرتي... أتركك في رعاية الله ...
~~~~~~~~

توالت الأيام، و الأسابيع ... و أنا منغمس في العمل ...
و اقتضى مني الأمر السفر إلى المدينة الساحلية من جديد... و لأن أروى لم تشأ مرافقتي، لم استطع أخذ رغد معي و السفر بمفردنا... و رغم أن الأمر كان غاية في الصعوبة إلا أنني دست على مشاعري و قلقي و تركت رغد دون رعايتي و سافرت بعيدا...
قبل سفري اتصلت بشقيقي سامر و طلبت منه أن يبقى على مقربة و اتصال دائمين من رغد و قد تعذّر بانشغاله في عمله و لكنه وعد بفعل ما يمكن...

أما أنا فقد اقتنيت هاتفا محمولا جديدا لرغد أعطيتها إياه حين مررت منها قبل سفري و استعدت هاتفي، و طلبت منها أن تبقى على اتصال بي شبه يومي...

و أنا أعيش في المنزل الكبير هناك في المدينة الساحلية، شعرت بوحدة قاتلة و تقلبت علي الكثير من المواجع... و صممت على أن أعيد لهذا البيت الحياة و النشاط عما قريب...

حصلت على إذن من شقيقي ّ للتصرف المطلق بالمنزل، و الذي أصبح ملكا مشتركا لنا نحن الثلاثة، بعد وفاة والدي رحمه الله...

وكلت عمّال شركة متخصصة لتنظيفه كليا، و من ثم أعدت صبغه و جددت أثاثه و أجريت الكثير من التعديلات فيه... غير أنني تركت غرف نوم والديّ – رحمهما الله - و سامر و دانة و كذلك الحديقة الخلفية كما هي... و ركنت ُ في الحديقة بعض الأشياء القديمة إلى جوار أدوات الشواء... التي تعرفون...

كنت معتزما على الانتقال للعيش الدائم في المنزل، و إليه سأضم رغد و سامر... و أروى مستقبلا...
و حين تعود دانة من الخارج، فلا أجمل من أن تنضم إلينا...

كنت أريد أن ألملم شمل العائلة المشتتة... و أن نعود للحياة معا كما كنا قبل أن تفرّقنا الحرب و ظروفها التعيسة...

و لأنني أصبحت أدير أحد أكبر و أهم مصانع المدينة، فإن نفوذي قد اتسع كثيرا و سلطتي قد ارتفعت لحد كبير...

و مع ذلك... لم تخل ُ المسألة من الهمز و اللمز... و النظرات الماكرة و الهمسات الغادرة ممن عرفوا بأنني قاتل عمّار... و استقال السيد أسامة من منصبة للأسف... إثر هذا الخبر... ولاء ً لصديقه الراحل عاطف... و انتشرت شائعات مختلفة حولي و حول زواجي من أروى... و وجدت نفسي أكثر وحدة و حاجة للدعم المعنوي و الفعلي ممن أثق بهم...

ألححت على سامر لترك عمله في تلك المدينة و عرضت عليه العمل معي في المصنع، و هيّأت ُ له منصبا مرموقا مغريا و لكن سامر كان مترددا جدا

أعربت له عن رغبتي في لم شمل العائلة من جديد... شرحت له بتفصيل دقيق ظروف عملي الحالي و كيف أن الحياة تبدلت معي كثيرا... و أنني الآن محتاج إليه أكثر... غير أن سامر على ما بدا منه كان لا يزال في حداد على والدي ّ لم يفق منه...

و بالنسبة لرغد فقد خططت لإلحاقها بإحدى الجامعات و خصصت ُ جزء ً من دخلي الخاص من إدارة المصنع لتغطية تكاليف الدراسة...

أما المنزل المحترق، فقد أبقيناه على حاله حتى إشعار آخر... و تنازلت عن نصيبي فيه وسجلته باسمها أيضا...
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
اللؤلؤة السوداء
القائد "V"
القائد
اللؤلؤة السوداء


عدد المساهمات : 186
النقاط : 10340
التقييم : 5
تاريخ التسجيل : 21/07/2011
العمر : 38

رواية انت لي - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: رواية انت لي   رواية انت لي - صفحة 2 Emptyالسبت يوليو 30, 2011 2:35 am


أما عن أوضاع البلاد... فلا تزال الفوضى تعم العديد من المدن و تقتحم المزيد... و السجون قد امتلأت و فاضت بالمعتقلين عدلا أو ظلما...

عندما عدت ُ إلى المدينة الصناعية في المرة التالية، كانت رغد خارج المنزل و استقبلتني أم حسام استقبالا كريما

رغد كانت قد أعلمتني عن رغبتها في قضاء بعض المشاوير الضرورية ذلك اليوم – وهي تعلمني عن تحركاتها دائما، و قد لاحظت ُ تكرر ذلك مؤخرا - و رغم انزعاجي من الأمر تركتها تخرج مع ابن خالتها مطمئنا إلى وجود ابنتي خالتها معها

و عندما علمت بعد ذلك أنهما لم ترافقاها أصبت بنوبة غضب ...

" و هل هي معتادة على أن يوصلها حسام إلى حيث تريد، بمفردهما ؟"

وجهت سؤالي المستنكر إلى أم حسام ففهمت استهجاني و أجابت:

" في مرات قليلة ... "

قلت حانقا :

" و لكن لماذا لم ترافقها إحدى ابنتيك يا خالتي ؟ "

قالت:

" نهلة منهمكة في تعليم سارة دروسها الصعبة... و لكن لم كل هذا الانزعاج يا بني؟ إنه ابن خالتها و أقرب الناس إليها "

و لم تعجبني هذه الكلمة... فالتزمت الصمت.

و يبدو أن أم حسام وجدتها فرصة ملائمة لطرح موضوع ما فتئ يشغل تفكيرها و ربما تفكيرنا جميعا ...

" وليد يا بني... ألا ترى أن الأوان قد حان... حتى نربط بينهما شرعيا ؟ "

كنت أخشى أن تفتح الموضوع خصوصا و أنا في وضعي الراهن...

قلت مباشرة :

" إنه ليس بالوقت المناسب "

قالت :

" لماذا ؟ يهديك الله ... أليس ذلك أفضل لنا جميعا؟ ها هما يعيشان في بيت واحد و تعرف كيف هي الأمور... "

قلت بغضب :

" كلا يا خالتي. يستحيل أن أزوّج رغد بالطريقة التي زوّجها والدي بها... لن أجعلها ضحية للأمر المفروض ثانية... "

أم حسام قالت معترضة :

" أي ضحية يا بني ؟ إنه زواج مقدّس... و حسام يلح عليّ لعرض الأمر لكنني رأيت تأجيله لحين عودتك... بصفتك الوصي الرسمي عليها "

نفذ صبري فقلت بفظاظة :

" أرجوك يا أم حسام... أجلي الموضوع لما بعد "

" لأي وقت ؟؟ "

قلت :

" على الأقل ... إلى أن تحصل على شهادة جامعية و تكبر بضع سنين... "

تعجبت أم حسام... لكنني تابعت :

" و يكبر حسام و يصبح رجلا راشدا مسؤولا "

" و هل تراه صبيا الآن !؟ "

لم أتردد في الإجابة ... قلت مباشرة :

" نعم ! "

و لأنها استاءت و هزت رأسها استنكارا أضفت :

" يا خالتي... أنا اعتبر الاثنين مجرد مراهقين... فالفرق بينهما لا يبلغ العامين... و إذا كان في وجودها هنا حرج على أحد فأنا سآخذها معي و أدبر أمورها بشكل أو بآخر... "

عند هذا الحد انتهى حوارنا إذ أن البوابة قد فتحت و أقبل الاثنان يسيران جنبا إلى جنب...

الناظر إليهما يفكر في أنهما خطيبان منسجمان متلائمان مع بعضهما البعض... و كان يبدو عليهما المرح و البسمة لم تفارق شفاههما منذ أطلا من البوابة...
هذا المنظر أوجعني كثيرا... لو تعلمون...

أقبل الاثنان يرحبان بي بمرح... و كان جليا عليهما السرور... و لا أظن أن السرور كان بسبب قدومي... بل بسبب آخر أجهله للأسف...

رغد كانت مبتهجة جدا... و كانت فترة طويلة قد مضت مذ قابلتها آخر مرة... و فيما أنا هناك أتحرق شوقا إليها و قلقا عليها، تقضي هي الوقت في المرح مع ابن خالتها هذا...
و شتان بين البهجة التي أراها منفتحة على وجهها الآن و بين الكآبة و الضيق اللذين لطالما رافقاها و هي تحت رعايتي... الشهور الماضية...

" تبدين في حالة ممتازة... واضح أن خالتك و عائلتها يعتنون بك جيدا "

قلت متظاهرا بالبرود و العدم الاكتراث

ابتسمت هي و قالت :

" بالطبع "

أما حسام فضحك و قال :

" و ندللها كثيرا و نضع رغباتها نصب أعيننا ! إنها سيدة هذا المنزل ! "

رغد نظرت إليه و قالت بمرح :

" لا تبالغ ! "

قال مؤكدا :

" بل أنت ِ كذلك و ستظلين دائما كذلك ! "



فيما بعد... تناولت القهوة مع حسام في المجلس... و رأيتها فرصة متاحة أمامي فسألته عن خططه المستقبلية و تطلعاته للغد... فوجدته للحق شابا طموحا متحمسا متفائلا بالرغم من طبعه المرح....
كنت حريصا على أن أعرف... إلى أي مدى كانت فكرة الزواج من رغد... لا تزال تسكن رأسه...
سألته :

" و ... ماذا بشأن الزواج ؟ "

حسام ابتسم و قال :

" إنه أول ما أطمح إليه... و آمل تحقيقه "

قلت :

" و ... هل أنت مستعد له ؟ "

تهللت أسارير حسام و كأنه فهم منّي إشارة إلى موضوعه القديم... فقال فرحا:

" للخطوبة على الأقل... لا شيء يمنع ذلك "

و انتظر منّي التأييد أو حتى الاعتراض، غير أنني بقيت صامتا دون أي تعليق... مما أثار فضول حسام الملح و دفعه للسؤال المباشر:

" ألديك مانع ؟ "

قلت متظاهرا بعدم الاكتراث :

" عن أي شيء؟ "

" عن... الخطوبة... في الوقت الراهن...؟ "
إذن... فأنت متلهّف للزواج من ابنة عمّي ؟؟

تجاهلت سؤاله وأنا أحترق في داخلي... و أفكر في الرسالة الهامة التي يجب أن تصل إلى هذا الشاب المندفع حتى يتوقف عن التفكير برغد...

حسام لما رأى صمتي قد طال عاد يسأل :

" هل توافق على خطوبتنا الآن ؟ "

نظرت إليه بحدقتين ضيقتين ضيق صدري المثقل بشتى الهموم... ثم هززت رأسي اعتراضا...
شيء من الحيرة و الضيق علا وجه حسام الذي قال:

" لماذا؟ "

الجد طغى على وجهي و أنا أقول أخيرا :

" اسمعني يا حسام... فكرة الزواج التي تدور في رأسك هذه استبعدها نهائيا خلال السنوات المقبلة... لأنني لن أوافق على تزويج ابنة عمي قبل أن ألحقها بإحدى الجامعات... و تحصل على شهادة جامعية... لا تطرح الموضوع ثانية... قبل ذلك... هل هذا واضح ؟؟ "
~~~~~~~

" ستذهب بهذه السرعة ؟ "

سألته و نحن نسير باتجاه البوابة و هو في طريقه للمغادرة بعد زيارته القصيرة لنا... بالرغم من طول الزمن الذي قضاه بعيدا عني...
وليد كان منزعجا جدا أو ربما متعبا من السفر... لم يكن على سجيته هذا اليوم...

" إنني مرهق جدا و بحاجة للراحة الآن... لكني سأعود قريبا يا رغد "

قلت بشيء من التردد :

" لم لا تقضي الليلة هنا ؟ سيرحب الجميع بذلك "

" لا شك عندي في كرم العائلة و لكني لا أريد أن أثقل عليهم ... ألا يكفي أنهم يعتنون بك منذ زمن ؟؟ "

" لا تظن أن العناية بي تضايقهم يا وليد... إنهم يحبونني كثيرا "

" أعر ف ذلك "

وليد ألقى علي نظرة مبهمة المعنى ثم أضاف :

" و أنت ِ مرتاحة لوجودك بينهم ... "

قلت متأكدة :

" لأقصى حد "

وليد تنهّد بضيق و قال :

" لكن الفترة طالت يا رغد... أما اكتفيت ِ ؟؟ "

نظرت إليه بتعجب ... جاهلة ما المقصود من كلامه... فأوضح :

" تعرفين أنني أبقيتك هنا بناء على رغبتك و إصرارك... من أجل راحتك أنتِ ... لكنني غير مرتاح لهذا يا رغد... "

و بدا عليه الأسى و قلة الحيلة...

" لماذا ؟ "

سألته فأجاب :

" أنا لا أشعر بالراحة عندما لا تكونين تحت رعايتي مباشرة... إنني المسؤول عنك و أريد أن أتحمّل مسؤوليتي كاملة... يجب أن تكوني معي أنا... ولي أمرك "

قلت مباشرة :

" لكنني لا أريد العودة إلى المزرعة... أرجوك يا وليد لا ترغمني على ذلك "

و يظهر أن جملتي هذه أزعجته بالقدر الذي جعله يتوقف بعصبية يزداد ضيقا و يقول :

" أنا أرغمك ؟ رغد ماذا تظنينني؟ عندما أخذتك للمزرعة لم يكن لدي المال لأوفر لك سكنا يناسبك... و عندما أخذتك للمدينة الساحلية لم أكن أعلم كم من الوقت سأمضي هناك و لم أشأ تركك بعيدة عني... و ها أنا قد تركتك بعيدة كل هذا الوقت تنفيذا لرغبتك أنت... و تقديرا لشعورك أنت ِ ... فهل لا قدرت شعوري أنا بالمسؤولية و لو لبعض الوقت ؟؟ "

الطريقة التي كان يخاطبني بها دقت في رأسي أجراس التنبيه... وليد لم يتحدّث معي كهذا مسبقا... بقيت كلماته ترن في رأسي لفترة

بعدها قلت برجاء :

" لا أريد العودة إلى المزرعة ... أرجوك... افهمني "

تنهد وليد تنهيدة تعب و قال :

" لن آخذك إليها ما لم ترغبي في ذلك... و لكن... عندما أعود إلى المدينة الساحلية... يجب أن تأتي معي "

نظرت إلى الأرض مذعنة ... دون أن أتحدّث...

" اتفقنا ؟ "

قلت باستسلام :

" نعم "

تنهّد وليد بارتياح هذه المرة... و قال :

" هذا جيّد "

ألقيت نظرة عليه فرأيت في عينيه بعض الامتنان... لكن التعب كان طاغ ٍ على قسمات وجهه... و مزيج من الضيق و القلق كان يتسلل من بؤبؤيه...
تنفس بعمق ثم قال :

" و مرة أخرى يا رغد... إذا احتجت ِ لأي شيء فأبلغيني أنا... و ... رجاء يا رغد... رجاء... لا تخرجي ثانية مع حسام بمفردكما "

أثارتني الجملة و تعلّقت عيناي بعينيه في استغراب... ما الذي يظنه وليد و ما الذي يفكر به ؟؟

قلت مبررة :

" لقد أوصلني إلى الصالون و... "

بترت جملتي ثم قلت :

" لماذا ؟ "

وليد قال بضيق شديد :

" أرجوك يا رغد... حتى و إن كان ابن خالتك المقرّب... يبقى رجلا غير محرم لك... لا أريدك أن تتحدثي أو تضحكي أو تخرجي معه بهذه الحرية... "

~~~~~~~~~


كنت متعبا لذا فإني فور وصولي إلى المزرعة أويت للفراش...
و حقيقة ً منعتني صورة رغد و حسام و هما يقفان جنبا إلى جنب مبتسمين... من النوم المريح
لم يعد باستطاعتي أن أتحمّل فكرة بقائها معه في بيت واحد... أكثر من هذا...

في الصباح التالي أخبرت أروى عن تفاصيل سفري و ما أنجزته في العمل و المنزل طرحت عليها فكرة الانتقال للعيش في منزلنا الكبير لنبقى على مقربة من أملاكها... خصوصا بعد استقالة السيد أسامة...

" لا أحبذ ذلك يا وليد... أحب هذه المزرعة و أريد العيش فيها للأبد "

" و لكن يا أروى... سيشق علي أمر رعاية و إدارة أملاكك هكذا... لا أجد من يمكنني الاعتماد عليه الآن "

أروى فكرت قليلا ثم قالت :

" نسافر أنا و أنت ؟ "

قلت :

" و رغد و الخالة أيضا "

ردت بسرعة :

" أمي لن تأتي معنا... لن توافق على ذلك... لا تريد ترك المزرعة أو خالي هكذا "

تنهّدت في حيرة من أمري... كيف لي أن ألملم شمل العائلة و أضم أهلي جميعا في منزل واحد ؟؟

قالت أروى بعد تفكير قصير :

" لكن إذا تزوجنا يا وليد... فسيسهل الأمر "

نظرت إليها فرأيت الفكرة تنبعث من عينيها بقوة... و قد كان الجميع من حولي يلح علي بالزواج و يراه الوقت المناسب... و ربما كان بالفعل الوقت الناسب عند كل شيء... إلا قلبي...

قلت :

" لا يمكننا أن نتزوج الآن يا أروى "

" لماذا يا وليد ؟ عـُد... كم من الشهور مضت... "

قلت بضيق :

" أعرف ... لكني سبق و أن أخبرتك بأنني لن أتزوج قبل أن أزوّج رغد "

قالت أروى :

" ماذا يمنعك من تزويجها الآن ؟ ألم يعد ابن خالتها يرغب بذلك ؟ "

و كأنها كانت الشرارة التي أشعلت البنزين ! لا أنقصك ِ أنت ِ أيضا يا أروى...

قلت بعصبية :

" أروى أرجوك... لا تناقشي هذا الأمر معي مجددا... فهو لا يعنيك "

و يبدو أنني كنت قاسيا إذ أن أروى أشاحت بوجهها في حزن... شعرت بالندم فقلت مسترضيا:

" دعيني أدبّر أمور الصغيرة بنفسي... إنها تحت وصايتي أنا و لا يمكنني أن أولي مسؤوليتها لأي كان قبل بضع سنين..."

أروى استدارت إلي و قالت :

" ألست تبالغ يا وليد؟ إنها امرأة بالغة كما ترى و ليست طفلة... فلماذا تصر على اعتبارها صغيرة لهذا الحد؟ "

نظرت إليها بعمق و لا أدري إن كنت أخاطبها أم أخاطب نفسي... أم أخاطب رغد... أم أخاطب حسام ...
أمام مرآي صورة رغد و هي تسير جوار ابن خالتها و كأنها أصبحت شيئا يخصّه...
هل أتنازل عنها بهذه السهولة ؟؟

قلت :

" أنت لا تعرفين شيئا يا أروى... حاولي أن تفهميني ... "

و أطلقت تنهيدة أسى و تابعت :

" رغد هذه... طفلتي منذ سنين... لقد ربيتها على ذراعي... "

رفعت ذراعي في الهواء قليلا...

" حملتها بيدي هاتين و هي طفلة صغيرة... "

و ضممت ذراعي إلى صدري ...

" و نوّمتها في حضني هاهنا... "

و أغمضت عيني ّ ...

" لسبع سنين متواصلة... هنا في حضني... أقرب إلي من أي شيء آخر... "

و أحسست بحرارة في جفوني... أظن أن دموعا حزينة مكبوتة كانت تنذر بالانهمار...
إنه ذلك المنظر... يصهر دموعي...
كيف تميلين يا رغد إلى رجل غيري؟ كيف تفسحين المجال لحسام لأن يفكر بالزواج منك؟ كيف تسمحين له بأن يقترب منك؟ و كيف تريدين منّي تركك ِ معه و أنا أراه يوشك على الاستحواذ عليك؟ كلا ... لن أسمح لك يا رغد ... بأن تكوني لغيري...

فتحت عيني و أنا أحدّق في اللاشيء... من ذكريات الماضي المدفونة في أعماق صدري ...

" وليد ! "

انتبهت لصوت أروى فنظرت إليها بألم ...

" ماذا دهاك ؟؟ "

فلا بد أنها لحظت شرودي و حزني... و لو أنها قلبت جفوني لرأت ذلك المنظر مطبوعا عليها...

قلت :

" لا يمكنني التخلي عن رغد بهذه السهولة يا أروى... و لتعلمي ... أنها ستظل أمانة مربوطة في عنقي... و صغيرة أظللها تحت جناحي ّ ... و تابعة مقترنة بوليد حتى الموت... "

~~~~~~~

" هذه أوامر بابا وليد ! "

قلت ذلك و أنا أعتذر عن الذهاب معها إلى الصالة و مشاركة بقية أفراد العائلة الجلسة و الحديث...

نهلة تأملتني باستنكار و قالت :

" و هل طلب منك ألا تخرجي من الغرفة ؟ "

قلت :

" لا . لكنه نهاني عن الحديث أو الضحك مع أو أمام والدك و شقيقك ! "

نهلة ضحكت بسخرية ثم قالت :

" و هل يخشى عليك من أبي ؟؟ بربّك إنه في عمر والدك ! أما حسام فهو حسام ! ما الذي جد في الأمر ؟؟ "

قلت بإصرار :

" لن آتي معك يعني لن آتي معك ! "

وضعت نهلة يديها على خصريها و تأففت !

" ممنوع لبس الحلي... ممنوع لبس الأوشحة الملونة... ممنوع خلع العباءة... ممنوع الخروج مع حسام ... ممنوع الضحك... ممنوع الكلام! ثم ماذا يا رغد؟ هل سيمنعك من التنفس أيضا ؟ "

نظرت إلى السقف متجاهلة تعليقها... فعادت تقول:

" لماذا يفعل ذلك ؟ "

لم تفارق عيناي السقف...

قالت بمكر :

" يغار عليك ِ ؟ "

نظرت إليها بسرعة ثم قلت :

" أي غيرة ؟ إنه مسألة آداب و حدود شرعية ! ابن عمّي ملتزم جدا "

ابتسمت هي بمكر و كأن كلامي يناقض بعضه البعض... و قالت :

" ألم يكن هو بنفسه يتحدث معك و يضحك و يصطحبك وحدكما إلى أي مكان؟ أنت من كان يخبرني بذلك ! "

علتني حمرة بسيطة فقالت نهلة :

" إنه يغار عليك ِ ! "

قلت معترضة – و إن تمنّيت لو كان كلامها صحيحا :

" أوه أنت ِ لا تفهمين شيئا ! إنه يعاملني كابنته ! لا يرى في ّ إلا طفلة صغيرة بحاجة للرعاية و النصح .. أما حسام ... فتعرفين ! "

رمتني نهلة بنظرة خبيثة ذات مغزى من طرف عينيها ثم غادرت الغرفة تاركة إياي في حمرتي و أمنيتي الوهمية...

حتى و لو شعر بالغيرة علي فهذا من ضمن شعوره بالمسؤولية نحوي، و ليس بالحب...

و راودتني آنذاك فكرة بأن أتصل به ! لم يكن لدي أي حاجة لذلك غير أنني رغبت في الحديث معه و الإحساس بقربه... و الاطمئنان عليه...

تناولت الهاتف المحمول الذي أهداني إياه قبل فترة و اتصلت بهاتفه...

" مرحبا "

أتعرفون صوت من كان؟؟ إنها أروى !

للوهلة الأولى كدت أنهي المكالمة غير أنني سيطرت على نفسي و تكلّمت :

" مرحبا أروى "

" كيف حالك يا رغد ؟ "

" أنا بخير "

" مضت فترة طويلة ... ! "

قلت في نفسي : ( لا أظنك اشتقت ِ إلي ! )

" نعم... كيف الخالة ؟ "

" بخير و الحمد لله "

" أيمكنني التحدث إلى وليد ؟ "

سألتها مباشرة دون المماطلة في الحديث معها... فأجابت :

" إنه نائم الآن... "

" نائم ؟ في هذا الوقت ؟ "

و قد كانت السادسة مساء

" نعم. شعر بالتعب ثم خلد للنوم... هل تريدينه في أمر ضروري الآن ؟ "

قلت :

" كلا كلا... لكن هل هو بخير ؟ "

فقد أقلقتني جملتها الأخيرة...

" نعم، كل ما هنالك أنه مجهد من العمل و السفر و كثرة المسؤوليات الملقاة على عاتقه...المزرعة...المعهد...المصنع...المنزل...و أنا و أنت ِ ! "

أنا و أنت ِ؟؟ ما الذي قصدته أروى ؟
هل تريد القول ... أنني أشكل عبئا إضافيا على وليد؟؟
إنني اخترت البقاء في بيت خالتي لأخلصه من مشاكلي و أتخلص من مشاحناتي مع أروى...

قلت بتردد :

" هل اشتكى من شيء ؟ "

قالت :

" وليد لا يشتكي... إنه يحمل الهم على صدره دون الشكوى... يريد أن نستقر في حياتنا لولا أن الظروف تحول دون ذلك "

قلت بتخوف :

" تستقران يعني... تتزوجان ؟ "

أجابت أروى :

" نعم... نخطط للزواج و من ثم السفر للاستقرار في المدينة الساحلية حيث أملاكي... لكن... سيشق على وليد رعايتك عن كل ذلك البعد "

و صمتت قليلا ثم تابعت :

" إنه لا يريد أن نتزوّج قبل أن تتزوجي أنت ِ يا رغد... حتى ينقل ولاية أمرك و مسؤوليتك لرجل آخر... "


ربما لم أدرك أن الرسالة التي كانت أروى تود إيصالها إلي هي : ( زولي عن عاتق وليد ) إلا بعد تفكير عميق أسود...
كنت أدرك أنني أشكل عبئا إضافيا على أكتاف الجميع... و أن رحيل والدي عني تركني عالة على الغير... لكني لم أدرك إلى أي حد قد أثقلت كاهل ابن عمّي حتى هذا اليوم... و لم أدرك أنني كنت العقبة في سبيل زواجه و استقراره مع الحسناء بهذا الشكل...

شعرت بالذل و الهوان بعد مكالمتي القصيرة مع أروى... و شعرت بألم شديد في صدري... و بالندم على كل ما سببته لوليد من تعاسة بسبب وجودي في حياته و تحت مسؤوليته

و تذكرت الضيق الذي كان يعيشه أيام سفر والدي إلى الحج... حينما اضطر لرعايتنا أنا و دانة... و نفاذ صبره في انتظار عودتهما... و هما للأسف لم يعودا
و لأشد الأسف... لن يعودا...
و تذكرت لقائي الأخير به و كيف بدا مرهقا ضجرا... و كأن جبلا حديديا يقف على كتفيه... و كيف أنه غادر عاجلا... ناشدا الراحة...

تريد أن تتزوج يا وليد؟
تريد أن تتخلص مني؟؟
حسنا
سأريحك من همّي
و ليفعل كل منا ما يريد !

بعد ذلك انضممت إلى أفراد عائلة خالتي و أخذت أشاركهم الأحاديث و الضحك ضاربة بعرض الحائط أي توصيات من وليد... !

مرت بضعة أيام قاطعت فيها وليد و أبقيت هاتفي المحمول مغلقا و تهربت من اتصالاته بهاتف المنزل... و لم ألتزم بلبس العباءة داخل المنزل كما طلب منّي ، بل اكتفيت بالأوشحة الطويلة الساترة كما و أوصلني حسام مرتين أو ثلاث بمفردنا إلى أماكن متفرقة...و عمدت مؤخرا إلى التلميح له عن قبولي فكرة الزواج منه... مبدئيا

حسام كان مسرورا جدا و يكاد يطير بي فرحا... و عاملني بلطف مضاعف و اهتمام مكثف بعد ذلك...

كنت أعرف أنه يحبني كثيرا... و مندفع بعواطفه تجاهي بكل صدق و إخلاص... و أنه ينتظر مني الإشارة حتى يتحول مشروع خطبتنا المستقبلي إلى حاضر و واقع...
و هو واقع... لا مفر لي منه... بطبيعة الحال...

علمت من حسام أنه فتح الموضوع مجددا أمام وليد في زيارته الأخيرة... و أن وليد أغلقه... و لكن تأييدي سيحدث و لا شك تغييرا...

لماذا يعارض وليد زواجي ؟ أليس في هذا حل لمشاكلنا جميعا؟؟

أصبح موضوع زواجنا أنا و حسام هو الحديث الشاغل لأفراد العائلة طوال الوقت و كان الجميع مسرورين به و بدؤوا يرسمون الخطط لتنفيذه...

ذات يوم، و كان يوما ماطرا من فصل الشتاء... و كنا نجلس جميعا حول مدفئة كهربائية نستمد منها الحرارة و الحيوية... و كنت ألبس ملابس شتوية ثقيلة و ألف شعري بلحاف صوفي ملون... أتانا زائر على غير موعد...

لم يكن ذلك الزائر غير وليد !

كان أسبوعان قد مضيا على زيارته الأخيرة لي... سمعنا أبو حسام يقول و هو يقف عند المدخل بصوت عال ٍ :

" هذا وليد ... "

فقامت خالتي و ابنتاها منصرفات، ثم عادت خالتي بالحجاب...

ثم فتح الباب سامحا لوليد بالدخول و مرحبا به...

رافقت وليد رياح قوية اندفعت داخلة إلى المنزل جعلت أطرافي ترتجف رغم أنني كنت أجلس قرب المدفئة...

" تفضل يا بني... أهلا بك "

قالت ذلك خالتي مرحبة به و قام حسام ليصافحه و هو يبتسم و يقول :

" كيف استطعت السير في هذا الجو ؟؟ "

" ببعض الصعوبات "

من خلال صوته المخشوشن أدركت أن وليد مصاب بالزكام !

كان وليد يلبس معطفا شتويا طويلا يظهر أنه تبلل بقطرات المطر...

" اقترب من المدفئة ! و أنت يا رغد حضّري بعض الشاي لابن عمّك "

قالت ذلك خالتي فأذعنت للأمر...

عندما عدت بقدح الشاي إلى وليد وجدته يجلس قرب المدفئة مادا يديه إليها... ناولته القدح فأخذه و لم يشكرني... بل إنه لم حتى ينظر إلي !

أما أنا فقد تأمّلت وجهه و رأيت أنفه المعقوف شديد الاحمرار و عينيه متورمتين بعض الشيء...

تحدث وليد و كان صوته مبحوحا جدا أثار شفقتي... مسكين وليد ! هل تتمكن الجراثيم منك أنت أيضا ؟؟

و الآن وجه خطابه إلي :

" لماذا لم تردي على اتصالاتي يا رغد؟ ماذا حدث للهاتف؟ "

لم يجد ِ التهرب من الإجابة، قلت :

" لا شيء ! "

صاد صمت قصير ... ثم قال وليد :

" كنت أود إبلاغك عن قدومي و عن أمر السفر إلى المدينة الساحلية كي تستعدي"

نظرت إليه ثم إلى خالتي و حسام، و عدت إليه قائلة :

" استعد ؟ "

قال :

" نعم، سترافقينني هذه المرة "

لم أتجاوب أول وهلة... ثم هززت رأسي و أنا أقول :

" لكنني ... لكنني ... لا أريد السفر "

و تدخلت خالتي قائلة :

" و لماذا ترافقك يا بني ؟؟ "

قال وليد :

" لأنني سأطيل البقاء بضعة أشهر... من أجل العمل "

قالت خالتي :

" و ماذا في ذلك؟؟ لماذا تريد أخذها معك ؟؟ "

التفت وليد نحو خالتي و قال :

" ليتسنى لي رعاية أمورها بنفسي كل هذه الشهور "

ساد الصمت القصير مرة أخرى ثم قالت خالتي :

" اطمئن من هذه الناحية "

و أضاف حسام :

" سافر مطمئنا فكل شيء يسير على ما يرام هنا "

وليد التفت إلى حسام و قد بدت عليه علامات الغضب ! ثم قال محاولا تقوية صوته المبحوح قدر الإمكان :

" سآخذها معي والأمر مفروغ منه "

و استدار إلي و تابع :

" استعدّي "

هذه المرّة يبدو وليد خشنا فظا... هل للزكام علاقة بذلك ؟؟

قلت :

" هل ستذهب الشقراء معك ؟ "

قال :

" نعم "

قلت مباشرة و بانفعال :

" لن أذهب "

و امتلأ الجو بالشحنات المتضادة ... و تولدت في الغرفة حرارة ليس مصدرها المدفئة فقط..

وليد قال بصبر نافذ :

" ستأتين يا رغد... كما اتفقنا سابقا... فأنا لن أتركك بعيدا كل تلك الشهور... قد يمتد الأمر إلى سبعة أو حتى عشرة أشهر... لن أتمكن من المجيء إلى هنا بين الفينة و الأخرى... الأمر شاق علي "

قلت :

" و لماذا تكلّف نفسك هذا العناء ؟ أنا بخير هنا فسافر مطمئنا جدا... "

و التفت مشيرة إلى خالتي و حسام و مضيفة :

" الجميع هنا يهتم بأموري فلا تشغل بالا "

لم يعجب وليد حديثي و ازداد احمرار أنفه و وجهه عامة ... ثم تحدّث إلى أبي حسام قائلا :

" هل لي بالحديث معها وحدها... إن سمحتم ؟ "

حسام و خالتي تبادلا النظرات المتشككة ثم انصرفا برفقة أبي حسام... و بقينا أنا و وليد و الحرارة المنبعثة من المدفئة و الشرر المتطاير من عينيه ... و الجو المشحون المضطرب ... سويا في غرفة واحدة !

كنت أجلس على طرف أحد المقاعد، بينما وليد على يجلس على مقعد بعيد بعض الشيء...

بمجرد أن خرج الثلاثة... وقف وليد منتفضا... و أقبل نحوي...
وجهه كان مخيفا... يتنفس من فمه ... ربما بسبب الزكام أو ربما بسبب الحالة المنفعلة التي كان عليها ...

نظرت إليه بتخوف و ازدردت ريقي !

قال فجأة :

" هل لي أن أعرف أولا... يا ابنة عمّي... لماذا لا ترتدين عباءتك ؟ "

فاجأني سؤاله الذي جاء في غير موقعه... و دون توقعه... تلعثمت و لم أعرف بم أجيب !

لقد كنت أرتدي ملابس شتوية ثقيلة و محتشمة و فضفاضة، و داكنة الألوان... و حتى وشاحي الصوفي الطويل كان معتما... اعتقد أن مظهري كان محتشما للغاية... فهل يجب أن أرتدي فوق كل هذه الأكوام عباءة سوداء ؟!

لما وجد وليد مني التردد و قلة الحيلة قال :

" ألم أطلب منك ... أن تضعي عباءتك كلما تواجد حسام أو أبوه معك ؟ "

قلت متحججة :

" لكنهما متواجدان معي دوما "

قال بغضب :

" إذن ارتدي العباءة دوما... "

لم أعلّق لأن طريقته كانت فظة جدا ... ألجمت لساني...

" و شيء آخر... إلى أين كنت ِ تذهبين؟ كلما اتصلت أخبروني بأنك غير موجودة... و هل كنت ِ تخرجين مع حسام وحدكما ؟ "

قلت مستغربة و منزعجة :

" وليد ... ؟ "

قال بحدة :

" أجيبيني يا رغد ؟؟ "

وقفت بعصبية و استياء و استدرت هامة بالمغادرة... كيف يجرؤ !؟
إلا أن وليد أمسك بذراعي و حال دون هروبي...

قلت:

" دعني و شأني "

قال و هو يعضّ على أسنانه :

" لن أدعك تفعلين ما يحلو لك... يجب أن تدركي أنك لست ِ طفلة بل امرأة و أن ابن خالتك الشاب المندفع هذا يطمح إليك "

جذبت ذراعي من قبضته و أنا في دهشة فائقة... وليد قال :

" أنا لا اسمح له بأن ينظر إليك و أنت هكذا ... "

ازددت دهشة ... ما الذي يجول بخاطر وليد ؟؟ و كيف يفكّر ؟؟

قلت :

" وليد !! ماذا أصابك ؟؟ ابن خالتي شاب مهذّب و هو يرغب في الزواج منّي .. و الجميع يعرف ذلك بما فيهم أنت "

و لم تزده جملتي إلا ثورة !

قال بغضب :

" و أنا قلت لك... و له... و للجميع... بأنني لن أوافق على مثل هذا الزواج و لن أسمح بأن يتم قبل سنين... أسمعتِ يا رغد ؟ "

صرخت :

" لماذا ؟ "

قال :

" لأنني لا أريد ذلك... أنا الوصي عليك و أنا من يقرر متى و ممن أزوّجك... و إن ألح أحد علي بهذه الفكرة مجددا فسأحذفها من رأسي نهائيا "

ذهلت لكلامه و لم أصدق أذني ّ... حملقت فيه و لم يقو َ لساني على النطق...

التفت َ وليد يمنة و يسرة في تشتت كأنه يبحث عن الكلمات الضائعة... و أخذ يضرب راحته اليسرى بقبضته اليمنى بغضب... ثم حدّق بي فرأيت عضلات فكه تنقبض و هو يضغط على أسنانه بانفعال كمن يمزّق لقمة صلبة بين فكيه...

وليد صرخ بصوته المبحوح و هو في قمة الغضب و التهيّج :

" و تريدين منّي أن أتركك هنا؟ كيف أكون مطمئنا إلى ما يدور بعيدا عن ناظري؟ لماذا لا تلتزمين بما طلبته منك؟ حتى و إن كان أقرب الناس إليك لا أسمح لك بالظهور أمامه بلا عباءة... إن حدث و تزوجته يوما فاعلي ما يحلو لك ِ و لكن و أنت ِ تحت وصايتي أنا فعليك التقيد بما أطلبه منك أنا يا رغد... أنا و أنا فقط ... و أنا أحذرك من تكرارها ثانية... هل هذا مفهوم ؟ "

يكاد قلبي يتوقف من الخوف... و وليد يتحرك شعرت و كأن قبضته اليمنى على وشك أن تضربني أنا الآن !... أحملق فيه بدهشة و ذعر فيرد علي بصرخة تصفع وجهي قبل أن تثقب طبلتي أذني :

" هل هذا مفهوم أم أعيد كلامي ؟ أجيبي ؟؟ "

ينتفض بدني و تصدر منه ارتجافة و أهز رأسي إيجابا...

وليد هدأ بعض الشيء و أخذ يمر بأصابعه على شعره الكثيف و يتنهد بضجر... و يبتعد عنّي...

شعرت بالغيظ... بالقهر... بالذل ...
كيف يجرؤ وليد على التحكم في حياتي بهذا الشكل؟؟
و كيف يصرخ بوجهي بهذه الطريقة الفظة ؟
بل كيف يخاطبني بهذا الأسلوب الخشن؟
إن أحدا لم يصرخ بوجهي هكذا من قبل...

تملكتني رغبة في الهجوم... في الدفاع... أو حتى في التوسل ! قلت و أنا متعلقة بأمل أن يكون ما سمعت وهما :

" وليد... هل ... تعني... "

و قبل أن أتم كلامي كان قد صرخ مجددا :

" أنا أعني ما أقول يا رغد... و ما دمت ِ تحت مسؤوليتي فنفّذي ما أقوله و لا تزيديني أكثر مما أنا فيه"

كالخنجر طعنتني كلماته الحادة القاسية فقلت و أنا على وشك الانهيار :

" لماذا تفعل هذا بي؟؟ إن كنت تراني هما على صدرك... لم لا تزوجني منه الآن و تتخلص منّي و ترتاح و تريحني منك ؟؟ لماذا يا وليد لماذا ؟؟ لماذا ؟؟ "

و انفجرت باكية...
جلست على المقعد و أسندت مرفقي إلى رجلي، و وجهي إلى راحتي يدي ّ و سكبت العبر...

حل الصمت المرعب على الأجواء...

فجأة... تخلخلت الرياح الباردة ملابسي و دقت عظامي... رفعت رأسي فإذا بها تصفعني و تطير بدموعي بعيدا... نظرت إلى الباب فرأيته مفتوحا و وليد يستقبل الأعاصير...

وقفت و ناديته بسرعة :

" وليد "

التفت إلي و خصلات شعره تتطاير في كل اتجاه من شدة الريح...

" إلى أين ستذهب ؟ "

قلت و أنا في خوف منه و عليه... فالجو كان مرعبا و لا يصلح للمشاوير الطويلة... خصوصا و هو مريض...

وليد قال :

" سأعود لاصطحابك غدا... اجمعي أشياءك "

و استدار منصرفا مغلقا الباب من بعده...

أسرعت إلى الباب و فتحته و تلقيت الريح بوجهي... هتفت :

" وليد ... وليد انتظر "

وقف موليا إلي ظهره و الهواء يعبث بشعره و معطفه ...

قلت :

" لا تذهب الآن... انتظر حتى تهدأ العاصفة قليلا "

لكنه تابع طريقه مبتعدا... متجاهلا نداءاتي...


عندما عدت... وجدت الجميع يقفون في الداخل ينظرون إلي ...
شعرت و كأن نظراتهم تخترقني... أملت رأسي إلى الأسفل و هممت ُ بالانصراف...

استوقفني صوت حسام و هو يقول :

" هل يخاطبك دائما بهذا الشكل ؟ "

رفعت بصري إليه فوجدته غاضبا مقطب الحاجبين... و أعين الجميع تنتظر جوابي...

هززت رأسي نفيا و أنا أقول :

" لا ... كلا ... "

و لم أكن أتوقع أن يكون صراخ وليد بصوته المبحوح قد أصاب آذانهم ...

خالتي قالت :

" سأتحدّث معه حينما يعود "

قال حسام منفعلا :

" و أنا سأوقفه عند حدّه "

أبو حسام قال :

" لا تتدخل أنت... سأحدّثه أنا بنفسي "

صاح حسام :

" يا له من متعجرف فظ ... من يظن نفسه؟؟ ليتك بقيت ِ تحت وصاية سامر... فعلى الأقل ذلك المشوّه ليّن و متفهّم و لا يستخدم يده في التعامل مع الآخرين "

قالت خالتي :

" لا أعرف من أين أتى بكل هذه الغلظة... إنه يختلف عن سامر و شاكر تماما "

قال أبو حسام :

" إنها الغربة يا أم حسام... "

قالت خالتي :

" لن أسكت على هذا... لسوف أطلب من سامر و دانة التدخل و إيجاد حل لنا مع هذا الوليد "




~~~~~~~~~~




أشعر بالدوار...
أتنفس بصعوبة بالغة... و رغم برودة الجو يتصبب مني العرق...
إنني مصاب بنزلة بردية شديدة أرهقت قواي منذ أيام...
و القرحة التي عالجتها منذ زمن، عادت آلامها تسيطر على معدتي من جديد...

بصعوبة بالغة نهضت عن السرير الدافئ في غرفتي التي استأجرتها للمبيت لليلة واحدة في هذا الفندق... و ما أسوأها من ليلة...
إنني لم أنم... و لم يهدأ دماغي عن التفكير ساعة واحدة...
لماذا يا رغد...؟ لماذا...؟
و لماذا أيها القدر القاسي...
أتركها أمانة بين أيديهم... فيخططون لسرقتها منـّي؟؟
أبدا... يستحيل أن أدعها معهم يوما واحدا بعد... هيا انهض... يا وليد...

كان لا يزال أمامي عدة مسافات علي قطعها... و أنا غاية في التعب... و المرض...
لملمت حاجياتي بعناء... و غادرت الفندق قاصدا بيت أبي حسام...

حتى و إن كانت رغد ترغبين في الزواج منه أو كانت هذه أمنيتك ِ الأولى... فأنا لن أنفذها لك... و يجب عليك خلال السنين المقبلة... أن تنسيه ...
أنا لن أتقبـّـل منك ِ الخيانة مرتين... لن أسمح لك !

عندما وصلت إلى بيت أبي حسام هو و زوجته و قاداني إلى المجلس...
هناك بدءا يحدثاني بهدوء عن وضع رغد ... و من ثم تطرقا إلى موضوع الزواج من جديد...
لا أدري إن كنت ُ أسمعهما أم لا... أو أعي ما يقولان... كنت مجهدا حد العمى و الصمم ... حد الخرس و الشلل...

اعتقد أنهما كانا يخاطباني بعقلانية و كلامهما كان سيبدو منطقيا جدا لأي مستمع... أما أنا فلم أركز في حديثهما الطويل... و ربما لم تظهر عليّ إلا أمارات البلادة و البرود... حتى أنني لو فكّرت في الغضب... لم أكن لأجد عصبا واحدا في ّ قادرا على الاشتعال...
أنا مرهق... أرجوكما اعتقاني الآن...

و رغم كل ما قالاه... عارضت فكرة الزواج تلك و رفضت ترك رغد معهم و ألححت عليهما لاستدعائها... و شرحت لهما خطّتي في إلحاقها بإحدى الجامعات...

بعد ذلك أتت رغد... و كنا أنا و هي نتحاشى النظر إلى بعضنا البعض... فلقاؤنا يوم أمس كان سيئا...
هدرت هي المزيد من الوقت و الجهد غير أنني لم أغيّر رأيي... و كلّما ألحّت ازددت إصرارا...
أم حسام قالت أخيرا :

" لن ينتهي الموضوع هنا يا وليد... سنعرف كيف ندبّر حلا "

و كان في كلامها شيء من التهديد... لم أجبها بل التفت نحو رغد و قلت معلنا نهاية الحوار :

" هيا بنا يا رغد "


لم تكن رغد قد حزمت حقائبها لكن الوقت كان يداهمنا و الصداع يتفاقم في رأسي ... أعطيتها فرصة قصيرة لجمع ما أمكن و من ثم لتودع أقاربها و أحسست بآلامها و هي تبكي في حضن خالتها...
بدوت فظا قاسيا في نظر الجميع... و لكنني لن أتراجع...

حملت رغد حقيبة يدها فيما حملت أنا حقيبة أغراضها و سرت و هي تسير خلفي مكرهة... مستسلمة...
و نحن نخرج من البوابة ألقت رغد النظرة الأخيرة على أفراد عائلة خالتها و قالت بأسى :

" مع السلامة "

تمزق قلبي معها... و عذبني ضميري أيما عذاب... سامحيني يا رغد... أعدك بأن أعوّضك عن كل هذا ... سامحيني...

أم حسام قالت و هي تغلق البوابة بعد خروجنا أنا و رغد ... و حسام و أبيه :

" الله الله... في اليتيمة يا وليد... أمامك حساب لا يخطئ... "

ما أشعرني بأنني... أرتكب كبيرة من كبائر الذنوب...
نظرت إلى رغد... ثم أغمضت عيني ّ و وضعت ُ يدي على جبيني و ضغطت بشدّة... عل ّ الألم يرحم رأسي قليلا...
ما الذي تظنونه عنّي؟؟ أي فكرة قد جعلتهم يتعقدون بها يا رغد ؟؟
هل أنا وحشي و مجرم لهذا الحد؟؟

حينما ركبنا السيارة وقف حسام بجوارنا و قال :

" إذا أساء أحد معاملتك فابلغيني يا رغد "

و وجه خطابه إلي مهددا :

" حذار أن تقسو على ابنة خالتي يا وليد... ستدفع الثمن غاليا... "

و ابتلعت جملته و لم أعقب... و سرنا تشيعنا أعين حسام و أبيه و تتبعنا أفئدة العائلة أجمع ...
و كلما ابتعدنا أحسست بالألم يزداد... بينما لا تزال كلماتهم الأخيرة ترن في رأسي بحدة...
و لما نظرت إلى رغد... رأيتها غارقة في حزن يتفطر منه قبل الحجر...
فكيف بقلبي ؟
هل كنت ُ قاسيا لهذا الحد؟؟
هل أنا مخطئ في تصرفي؟
هل كان علي ّ تركها بعيدة عن ناظري... قريبة من ناظر حسام ؟؟
ألا يحق لي أن أخاف عليها من كل عين و كل شر...؟
أليست هذه صغيرتي أغلى ما لدي في هذا الكون؟؟
ألست ُ أنا ولي أمرها و المسؤول عنها كليا... أمام الله ؟؟
اللهم و أنت الشاهد العالم بالنوايا... تعرف أنني ما أردت لها و مذ أدخلتـَها في حياتي قبل سنين طويلة... إلا خيرا...
اللهم و أنت المطّلع على الأفئدة و المقلب للقلوب... ارحم قلبي و اعف ُ عن خطاياه...
مر زمن طويل و نحن في صمت أصم ٍ أخرس ٍ ... وشرود كبير متشتت... و زادنا الطريق البري وحشة و غربة... و لم يكن يسلك دربنا إلا القليل من السيارات ... في مثل هذا الجو المضطرب...
الأفكار ظلت تعبث برأسي المتصدّع وضاعفت مرضي و حرارة جسدي...

الصداع و الدوار ... و الأفكار الحائرة المتناثرة... و كلمات حسام و أمّه الأخيرة ... و قطرات المطر الكثيفة الهاجمة على زجاج السيارة... و دموع رغد التي أراها من حين لآخر عبر المرآة... و آلام صدري و معـِدتي و أطرافي ... كلها اجتمعت سوية و أفقدتني القدرة على التركيز...

و فيما أنا منطلق بالسيارة فجأة انحرفت ُ عن مساري و اصطدمت بأحد أعمدة النور بقوّة...
واظلمت الدنيا في عيني...
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
اللؤلؤة السوداء
القائد "V"
القائد
اللؤلؤة السوداء


عدد المساهمات : 186
النقاط : 10340
التقييم : 5
تاريخ التسجيل : 21/07/2011
العمر : 38

رواية انت لي - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: رواية انت لي   رواية انت لي - صفحة 2 Emptyالسبت يوليو 30, 2011 2:38 am


الحلقة التاسعة و الثلاثون



صرخت فجأة و نحن ننحرف عن مسارنا و نصطدم بقوة بعمود إنارة ... ارتطم جسمي بمقعد وليد و لكني لم أصب بأذى...
توقفت السيارة عن الحركة و رفعت رأسي فرأيت رأس وليد على المقود...

شعرت بالفزع و صرخت :

" وليد... "

و لكنه لم يتحرّك ...

مددت يدي نحو كتفه و أخذت أضربه و أنا مستمرة في نداءاتي لكنه لم يستجب...
حركت يدي نحو رأسه و ضربت بقوة أكبر...

" وليد... أجبني أرجوك.... وليد أرجوك... "

صدرت أنة من حنجرته و تحرك قليلا...

" وليد أجبني... أتسمعني ؟؟ أرجوك رد علي "

أصابني الهلع الشديد... خرجت من السيارة مسرعة فتدفق الهواء بعنف إلى الداخل... كان الجو عاصفا باردا ماطرا... أقبلت إلى الباب الأمامي الأيمن و أردت فتحه فوجدته موصدا...

عدت إلى الداخل عبر الباب الذي خرجت منه و فتحت قفل الباب الأمامي، ثم خرجت و دخلت عبر الباب الأمامي... و جلست قرب وليد... مبللة... بردى... مرعوبة... مفزوعة... أرتجف...

مددت يدي و رفعت رأسه عن المقود فرأيت سيل من الدماء يتدفق من أنفه المعقوف فصعقت... و أطلقت صيحة شاهقة... أسندت رأسه إلى الوراء ثم رحت أضرب خديه في ذعر... و ما بي ذرة واحدة من القوة...
و بصوت أشك أنه خرج من حنجرتي أصلا هتفت :

" وليد... وليد أجبني... أرجوك وليد... أجبني "

وليد فتح عينيه أخيرا و تأوه... ثم رفع يده اليسرى و وضعها على جبينه و قطب حاجبيه بألم...

قلت بلهفة:

" وليد... هل أنت بخير ؟؟ "

و لا أعرف إن كان سمعني أم لا...

تلفت يمنة و يسرة ببطء و ناداني بصوت متحشرج :

" رغد... "

قلت بسرعة :

" وليد أنا هنا... "

و حركت يدي لأمسك بيده اليمنى... لأشعره بوجودي... فشد هو ضغطه على يدي و أغمض عينيه يعصرهما عصرا... و يئن...

هتفت فزعة:

" وليد... وليد ... كلّمني "

فتح عينيه و نظر إلي و أخذ يلتقط بعض الأنفاس المخنوقة ثم قال :

" أأنت بخير ؟ "

لم استطع الرد من شدة الفزع

وليد شد ّ الضغط على يدي و تأوه ثم قال :

" أنا مرهق جدا ... سأرتاح قليلا..."

و حرر يدي و حرك يده نحو المقود و أوقف محرك السيارة فيما رأسه لا يزال ملتصقا بمسند المقعد دون حراك... ثم أغمض عينيه و هوت يده مرتطمة بأي شيء... و استقرت قرب يدي... تحركت أصابعه و أمسكت بيدي مجددا ... ثم سكن عن الحركة و بدا لي و كأنه... فقد وعيه...

قلت بهلع:

" وليد... أأنت بخير ؟ "

لم يستجب... هززت يده و كررت :

" وليد... رد علي ! "

فأطلق أنّه خفيفة ضعيفة... أحسست بها تخرج من أعماق صدره...

" وليد... كلمني أرجوك... "

تكلم وليد من طرف لسانه دون حتى أن يحرك شفتيه :

" لا تخافي... رغد "

و شد على يدي... ثم سكن عن الكلام و الحركة...

راقبته فرأيت صدره يلهث بأنفاس قوية تتحرك عبر فمه... يكاد بخارها يغشي زجاج السيارة ... أما أنفه فقد كان لا يزال ينزف... و قطرات الدم تقطر من أسفل فكّه لتتلقاها ملابسه و تشربها بشراهة...

منظر أفزعني حد الموت...

هتفت بما كان قد تبقى لحبالي الصوتية من قدرة على النطق :

" وليد... أنفك... ينزف ... "

لم يجب...

" وليد... "

و لم يرد

" وليد... رد علي ... أرجوك "

و أحسست بيده تضغط علي قليلا... ثم تسترخي...
كانت دافئة جدا... و رطبة...

تناولت بعض المناديل و قرّبتها من وجهه... و توقفت برهة مترددة ... أنظر إلى مجرى الدماء ينسكب من أنفه... إلى شفتيه المفتوحتين... إلى ذقنه... تكاد قطرات منها تتسلل إلى فمه ممتزجة مع الأنفاس الساخنة... دون أن يشعر بها أو ينتبه إليها...

قربت المناديل من سيل الدم و مسحته بخفة... و وليد لم يشعر بشيء... و لم يفعل أي شيء...

لم أعد أسمع غير صوت الرياح الماطرة تصفع زجاج السيارة مثيرة في نفسي رعبا منقطع النظير...

الغيوم السوداء الكثيفة تلبدت في السماء و حجبت أشعة الشمس...
قطرات المطر تزاحمت على نوافذ السيارة... و أوهمتني بالشعور بالغرق حتى أصبحت التقط أنفاسي التقاطا... و أعصر يدي ببعضهما عصرا...

أخذت أراقب كل شيء من حولي... أنفاس وليد القوية... أرواق الأشجار المتراقصة في مهب الريح... سيول المطر المنزلقة على النوافذ... و عقارب ساعة يدي تدور ببطء و سكون... و السيارات المعدودة التي مرّت بطريقنا الموحش و ربّما لسوء الطقس تجاهلتنا...

شعرت برجفة تسري في جسدي... اقتربت أكثر نحو وليد و حركت يديّ و أمسكت بذراعه ناشدة الأمان... و جفلت لحرارتها...

لم يحس وليد بي... لقد كان غارقا في النوم ...

تأملت وجهه... كان شاحبا كالعشب الجاف... جليا عليه المرض... عيناه وارمتان و تحيط بهما هالتان من السواد... و بعض زخات العرق تبرق على جبينه العريض... و آثار الدم الممسوح تظهر على أنفه المعقوف و ذقنه الملتحي... و الهواء الساخن يتدفق من فمه مندفعا بقوة...

وليد قلبي... مريض...
نعم مريض !
و مريض جدا...

آنذاك... تمنيت... و ليت الأماني تتحقق فور تمنيها... تمنيت لو كان باستطاعتي... أن أمسح على رأسه أو أربت على كتفيه...
تمنيت... لو أستطيع أن أبلسم جرحه الدامي أو أنشف جبينه المتعرق ...
تمنّيت ... لو كنت هواء ً يمتزج بأنفاسه و يقتحم صدره... و يلامس دفأه ...
تمنيت لو أعود طفلة و أرتمي بحضه... و أبكي على صدره...

لطالما كان يعتني بي حين أمرض... لطالما عالج جروحي ... و سكّن آلامي... و هدّأ روعي... لطالما ربت على كتفي و مسح دموعي... و رسم الابتسامة بين خدي ّ...
لطالما حمل همومي الصغيرة... و حملني ضئيلة على ذراعيه...

تشبثت بذراعه بلا شعور مني.. و لا شعور منه...
إنْ حنينا ً إلى الماضي... أو خوفا ً من الحاضر... أو أملا ً في الغد...
تعلقت بتلك الذراع تعلق الغريق بطوق النجاة... و كأنها آخر ما تبقّى لي... من وليد قلبي...

بعد قليل... رأيت سيارة تتوقف أمامنا ... فزعت ... اشتد قبضي على ذراع وليد ... هززتها بقوة و هتفت بانفعال :

" وليد انهض "

لم يفق ... تسارعت ضربات قلبي و اصطدمت ببعضها البعض... غرست أظافري في ذراع وليد و أنا أرى باب تلك السيارة ينفتح و صرخت بقوّة :

" وليد ... انهض أرجوك... أرجوك "

أحس وليد بشيء يعصر ذراعه... و أصدر صوت أنين مخنوق ...

ثم بدأ يتحرك و أخيرا فتح عينيه...

التفت إلي ّ بجهد بالغ ... دون أن يبعد رأسه عن المسند ... و لما التقت نظراتنا رأيت المرض مستحوذا عليه... أيما استحواذ... رأيت القلق و الألم ينبعان من أعماق عينيه...

قلت و الفزع يصرخ في حنجرتي :

" وليد... أفق أرجوك... إنهم قادمون "

مشيرة نحو السيارة...

وليد نظر إلى السيارة و قطب جبينه ثم قال بصوت شديد البحة بالكاد يسمع و يفهم:

" اتصلي بسامر "

حملقت به غير مستوعبة للجملة... و كررت لأتأكد :

" سامر ؟؟ "

وليد أغمض عينيه في ألم و قال :

" سامر... هيا يا رغد ... "

هتفت :

" وليد.... "

في فزع و قلق شديدين...

لكنه لم يجب... لا بالكلام، و لا بالأنين، و لا حتى بطرفة عين...

هاتف وليد كان موضوعا في أحد الأرفف أمامي مباشرة، و بسرعة تناولته و اتصلت بسامر...




~~~~~~~~~





فور وصولي إليهما، تفاقم الذعر الذي كان قد أصابني مذ سمعت رغد تقول :

" الحق... يا سامر... وليد متعب جدا "

المشوار استغرق منّي حوالي العشرين دقيقة و أنا طائر بالسيارة على الطريق البري...
الطقس في ذاك اليوم كان سيئا للغاية و مررت بأكثر من حادث مروري أثناء سيري...

سيارة وليد كانت مصطدمة بأحد المصابيح الضوئية و من الضرر الظاهر عليها يتضح أن وليد لم يكن مسرعا جدا ...
أوقفت سيارتي على مقربة و خرجت مباشرة مهرولا ... الجو كان عاصفا، باردا و ممطرا... و الشارع خال ٍ من السيارات...

رأيت رأس وليد مسندا إلى المقعد... و عينيه مغمضتين ... و كان ساكنا عن الحراك...
أما رغد فقد كانت جالسة على المقعد المجاور له و متشبثة بذراعه... في وضع يوحي للناظر إليها أنها مفزوعة جدا

اقتربت من باب وليد و لما هممت بفتحه وجدته مغلقا... طرقت النافذة و أنا أقول :

" افتح الباب "

و شقيقي لم يحرّك ساكنا. هتفت مخاطبا رغد و التي كانت آنذاك تراقبني في وجل :

" افتحي الباب يا رغد "

و لم تفعل ذلك مباشرة... بل استغرقت بعض الوقت تحملق بي
ألم تستوعب بعد أنني سامر ؟؟

بمجرد أن فتحـَت هي القفل فتحتُ أنا الباب و أطللت برأسي إلى الداخل:

" وليد... أأنت بخير ؟"

و هالني أن أرى بعض الدماء تلوث أنفه و شفتيه و فكه السفلي... و حتى ملابسه...

وليد التفت نحوي ببطء و حذر و فتح عينيه ثم قال :

" أنا متعب... "

ثم رفع يده اليسرى و وضعها على رأسه إشارة منه إلى مصدر التعب... لابد أن رأسه أصيب في الحادث... لطفك يا رب...

قلت و أنا أمد يدي إليه لمساعدته على النهوض :

" أتستطيع النهوض ؟ قم معي... "

وليد أزاح يده عن رأسه و أشار إلى رغد و هو يخاطبها دون أن يلتفت إليها :

" تعالي رغد "

حينما نظرت إليها رأيت الذعر يملأ قسمات وجهها و الرجفة تسري في جسدها ربما من الخوف أو من برودة الهواء المندفع بقوة عبر الباب، حاملا معه قطرات المطر...
و كانت تمسك بذراع وليد تكاد تعانقها...

إن شهورا طويلة قد مضت على لقائنا الأخير... و هذه ليست باللحظة المناسبة لأسرد لكم كيف أشعر... و لا حتى لأسمح لنفسي بأن أشعر...

ساعدت شقيقي على النهوض، و بمجرد أن وقف استند إلي، ثم فجأة تركتي و جثا أرضا و جعل يتقيأ

و أيضا رأيت الدماء تنسكب من جوفه على الأرض... ما جعلني أزداد فزعا... و ما جعل رغد تقبل نحونا مسرعة و تشهق بقوّة...

شقيقي بدا مريضا جدا... و الواضح أنه مصاب بدوار شديد لا يستطيع معه تحريك رأسه ...
لا شك أن الإصابة قد شملت دماغه...
يا رب... خيب شكوكي...

بعد ذلك، أسندته إلي ّ مجددا و سرنا مترنحين نحو سيارتي... تلفحنا الرياح و يغسلنا المطر... و يقرصنا البرد... و كان وليد رغم حالته الفظيعة تلك و صوته المبحوح ذاك لا يفتأ ينادي :

" تعالي يا رغد "

أما هذه الأخيرة فقد كانت تسير إلى جانبنا ضامّة ذراعيها إلى صدرها يعلوها الذعر... و تنساب قطرات لامعة على وجهها لا أستطيع الجزم ما إذا كانت من ماء السماء أو ماء العين...

جعلت أخي يضطجع على طول المقاعد الخلفية مثنيا ركبتيه، وقلت مخاطبا رغد :

" اركبي "

و قد كانت لا تزال واقفة إلى جواري عند الباب الخلفي تنظر إلى وليد بهلع
و الأخير قال مؤكدا :

" اركبي يا رغد "

عدت إلى سيارة شقيقي لإغلاقها و جلب المفاتيح و أقبلت ُ مسرعا... و فور جلوسي على المقعد نزعت نظارتي المبللة و فركت يدي ّ الباردتين ببعضهما البعض ثم التفت نحو رغد الجالسة إلى جانبي و سألتها للمرة الأولى :

" هل أنت بخير ؟؟ "

و لكم أن تتصوروا مدى الدهشة التي تملكتها و هي تنظر إلي... !

سألتني مذهولة :

" ماذا فعلت بوجهك ؟؟ "

" لا يهم... ماذا حصل معكما ؟؟ "

أخبرتني رغد بأن وليد كان مريضا و لكنه قدم إلى المدينة الصناعية ليصطحبها إلى مزرعة أروى و من ثم ينطلقون إلى المدينة الساحلية من أجل العمل... و أنه كان يقود بسرعة معتدلة و بدا متعبا ثم انحرف في سيره و اصطدم بعمود المصباح... و فقد وعيه...

و أن إحدى السيارات قد توقفت للمساعدة لكن وليد صرف راكبيها و لم يسمح له بتقديم العون...

و هي تتحدث كانت تتوقف لالتقاط أنفاسها أو لإلقاء نظرة على وليد... و لم يخف َ علي مدى القلق و الهلع الذين كانت تعانيهما آنذاك...

ذهبنا مباشرة إلى إحدى المستشفيات و حضر فريق طبي و حمل وليد إلى غرفة الطوارئ و بدؤوا بفحصه و علاجه...

و الطبيب يفتح قميصه ليفحصه هالني منظر رهيب...
الكثير من الندب و آثار جروح قديمة مختلفة مبعثرة على جدعه... لم يسبق لي ملاحظتها قبل اليوم...
أما الطبيب فقد تبادل هو من معه النظرات الغريبة... و علامات التساؤل...

أمر الطبيب بعدها بإجراء فحوصات ضرورية ليتأكد من الحادث لم يؤثر على رأس وليد... و جعلتنا شكوكه ندور في دوامة الجحيم ... إلى أن ظهرت النتائج مطمئنة و الحمد لله...
ثم أمر بإبقائه في غرفة الملاحظة إلى أن يعيد تقييم حالته، و رجح أن يستلزم الأمر إدخاله للمستشفى...
غرفة الملاحظة تلك كانت تحوي مجموعة من الأسرة لا تفصل بينها أي ستائر... و هي خاصة بالرجال فقط...

" يمكنك ِ الانتظار هناك "

قال الممرض مخاطبا رغد و مشيرا إلى غرفة الانتظار الخاصة بالسيدات لكن رغد لم تتزحزح قيد أنملة و بقيت واقفة معي إلى جوار وليد

و لأن الغرفة كانت تخص الرجال و ممتلئة بهم فقد شعرت بحرج الموقف و قلت مخاطبا وليد الممدد على السرير بين اليقظة و النوم :

" سننتظر في الخارج... سآتي لتفقدك بعد قليل "

وليد فتح عينيه و خاطبني :

" انتبه لها "

ثم وجه نظره إلى رغد ... رغد سألته مباشرة و بلهفة :

" هل أنت بخير ؟ "

وليد قال و هو يغمض عينيه :

" سأنام قليلا... "

و يبدو أنه نام فورا ....

لم يكن بحاجة لتوصيتي على رغد... هل نسى أنها قبل شهور و إن طالت... كانت خطيبتي ؟
أم هل نسى أنها... و منذ ولدت كانت و لا تزال ابنة عمّي ؟ و أنها و منذ الطفولة... رفيقة عمري؟؟؟
خرجنا من غرفة الملاحظة تلك... و وقفنا في الممر لبعض الوقت...
رغد سألتني آنذاك:

" هل سيكون بخير ؟ "

كنت حينها أنظر إلى أرضية الممر الملساء... و أستمع إلى خطوات المارة حين تدوس عليها...
و أضرب أخماسا بأسداس ... في مخاوفي و توجساتي...
رفعت رأسي و نظرت إليها... لم يزل الهلع مرسوما لا بل محفورا على قسمات وجهها...
كانت تضم يديها إلى بعضهما البعض و تعبث بأصابعها بتوتر شديد... و الله الأعلم... من منّا أكثر قلقا و أحوج إلى المواساة...

قلت مجيبا عن سؤالها :

" نعم، إن شاء الله "

قالت بانفعال :

" و ماذا عن الدماء التي خرجت من جوفه ؟ "

قلت :

" تعرفين أنه مصاب بقرحة في معدته منذ العام الماضي... ربما عاودت النزيف "

امتقع وجه رغد و احتقنت الدماء فيه فغدا أشبه ببركان على وشك الانفجار... و قالت :

" و هل رأسه سليم حقا ؟؟ هل الطبيب واثق من ذلك؟؟ لماذا نزف أنفه إذن ؟؟ لماذا لا يسترد وعيه كاملا ؟؟ "

و هو السؤال الذي يدور في رأسي و يضاعف مخاوفي... و ما من جواب...

رغد لما رأت صمتي تفاقم هلعها و هتفت و هي بالكاد تزفر أنفاسها :

" إن أصابه شيء فأنا سأموت "

و جاءت كلماتها و كأنها تهديد أكثر من كونها قلقا... كأنها تهددني أنا بأن تموت هي لو أصاب وليد شيء لا قدّر الله... و كأنني المسؤول عمّا أصابه... و كأنني أملك تغيير القدر...
وكأنني جدار مصنوع من الفولاذ... يمكنه تلقي أقسى الطعنات من أعز الأحباب... دون حتى أن يخدش

رفعت رغد يدها إلى وجهها تداري ما لا تجدي مداراته أمام مرآي...

" يا رب... أرجوك... أبقه لي ... يكفي من أخذت... أرجوك... أرجوك ... أرجوك... "

تفطّر قلبي بسببها و لأجلها... و أوشكت على النحيب معها...
و تذكّرت الحالة التي اعترتها بعد وفاة والدي ّ ... و التي خشينا أن تلحق بهما بسببها لولا لطف الله و رحمته...

تركتها تبكي لبعض الوقت... فقد كانت بحاجة لذلك... ثم قلت مشجعا وأنا المنهار المكسور :

" اطمئني يا رغد... سيتعافى بإذن الله "

بعد هذا ذهبنا إلى السيارة و بقينا في داخلها نعد الثواني و الدقائق و الساعات... و قلبانا لهجان بالدعاء و التضرع إلى الله...
و كنت أمر لتفقّد شقيقي بين فترة و أخرى و أراه لا يزال نائما ... و أرى كيسا يحوي مجروش الثلج يوضع على رأسه من حين لآخر...

في آخر مرة... و أنا أتأمل شقيقي عن كثب، و هو بهذه الحال السيئة... و وجهه شديد الشحوب و شعره قد طال و تبعثر فوق جبينه و الجليد ينصهر في الكيس الموضوع عليه... و الدماء متخثرة في أنفه المعقوف... و بعض آثارها تختبئ بين شعيرات ذقنه النابتة عشوائيا...
و الأنفاس الشاهقة الساخنة تنطلق عبر فمه و الندب القديمة تغطي جسده فيما السائل الوريدي يتدفّق إلى عروقه بسرعة... و أنا أتأمل كل هذا و ذلك ... شعرتُ بأسى شديد عليه...
كم بدا لي... مريضا ضعيفا عاجزا... و هو ذلك الجبل القوي الذي لم يتزعزع لدخوله السجن أو لكارثة تدمير مدينتنا أو لوداع شقيقتنا... أو لفاجعة موت والدي ّ ...
حقيقة كان هو الأقوى و الأصلب من بيننا جميعا... و كان الجدار الذي استندنا عليه للنهوض من جديد ...

لم أكن قد قابلته منذ شهور... كان يحرص على الاتصال بي من حين لآخر... و يخبرني بتطورات ما حصل معه... و يلح علي للانتقال إلى المدينة الساحلية و العمل و العيش معه في رغبة كبيرة منه لم شمل العائلة المشتت...

و لكن... هل بإمكاني العيش في مكان تعيش فيه رغد... أو تحت ظل سقف ضم والدي ّ إليه ذات يوم ...؟
آه يا والداي... و آه لما حل بنا... بعد رحيلكما...
أمسكت بيد شقيقي و قد اعتصرني الألم... و كلما اعتصرني أكثر ضغطت عليها أكثر... حتى انتبه وليد و أفاق من النوم...

نظر وليد إلي و ربما لمح بقايا اعتصار قلبي بادية على وجهي... ثم نظر من حولي ثم قال :

" أين رغد ؟ "

و ليته سأل عن أي شي آخر سواها...
ليته سأل... عن جثتي والدي ّ و عن الجروح التي كانت تغطيهما كلية...
ليته سأل عن الهول الذي أصابني و أنا أدقق النظر في جثمانيهما و بملء إرادتي... لا أكاد أميّزهما...
ما حييت ... لن أنسى تلك الصورة البشعة... أبدا...
و ربما كانت رؤية الندب على جسد شقيقي و الدماء المتخثرة في أنفه هي ما أثار في نفسي هذه اللحظة تلك الذكرى الفظيعة المفجعة...

" أين رغد يا سامر ؟ "

عاد شقيقي يسأل و قد علاه القلق، أجبت مطمئنا :

" في السيارة "

قال معترضا :

" تركتها وحدها ؟ "

قلت :

" كنت معها، أتيت لأتفقدك دقيقة "

قال :

" أهي بخير ؟ "

أجبت :

" نعم، الحمد لله لم تصب بأي أذى... أنت فقط جرحت أنفك "

و تبادلنا النظرات الدافئة...

قلت :

" سلامتك يا وليد "

و أنا أشدد الضغط مجددا على يده، وليد تنهد و رد بصوته الخافت :

" سلمك الله "

قلت :

" كيف تشعر الآن ؟ "

" الحمد لله.. أظنني تحسنت "

نقل وليد نظره من عيني إلى الساعة المعلقة على الجدار و التي كانت تشير إلى الرابعة عصرا ثم قال :

" هل كنت نائما كل هذا الوقت ؟! "

" نعم... كنت متعبا جدا "

قال و هو يزيح كيس الثلج بعيدا :

" أنا أفضل الآن "

و حاول النهوض قائلا :

" دعنا نغادر "

اعترضت و طلبت منه أن يبقى حتى يأذن الطبيب بانصرافه لكن وليد أصر على مغادرة المستشفى تلك الساعة و لم أجد بدا من تنفيذ رغبته...

عندما لمحتنا رغد نقترب من السيارة خرجت منها مسرعة و على وجهها مزيج متناقض من الراحة و القلق... ثم سألت موجهة الخطاب نحو وليد :

" هل أنت بخير ؟ هل تعافيت ؟ "

وليد هز رأسه إيجابا ... و إن كان جليا عليه التعب و الإعياء
ركبنا أنا و هو في مقدمة السيارة و جلست رغد خلفنا...

لمح وليد مفاتيح سيارته موضوعة على رف أمامي فسأل :

" أين هاتفي ؟ "

أجابت رغد الجالسة خلفنا :

" تركتـُه في مكانه "

قال وليد :

" اتصلي بالمزرعة... لابد أنهم قلقون الآن ... أخبريهم بأننا بخير و سنقضي الليلة عند سامر"

و لما لم يصدر من رغد أي شيء يدل على أنها سمعت أو فهمت ما قال ، ناداها وليد

" رغد ؟؟ "

فقالت مباشرة :

" حاضر "

و بادرت بالاتصال عبر هاتف محمول تحمله في حقيبتها... ظننته هاتف وليد ثم اكتشفت لاحقا أنه يخص رغد...

قال وليد :

" لا تأتي بذكر الحادث "

قالت رغد :

" حاضر "

و بعد جمل قصيرة دفعت رغد بالهاتف إلى وليد الذي راح يكرر أنهما بخير و أنهما سيأتيان لاحقا و أنهما سيقضيان هذه الليلة ... في شقتي أنا !




~~~~~~~~~




الشقة التي أخذنا سامر إليها كانت جديدة... و يبدو أن سامر قد انتقل إليها قبل بضعة أشهر... و هي شقة صغيرة لا تحوي غير غرفة نوم واحدة و غرفة معيشة صغيرة و حمام واحد !

فور وصولنا قاد سامر وليد إلى السرير الوحيد في ذلك المكان فاضطجع وليد عليه و التقط بعض الأنفاس ثم قال :

" أنا آسف... لكنني متعب للغاية "

سامر قال مباشرة :

" لا عليك... عد للنوم يا عزيزي "

وليد نظر إلي و كأنه يطلب الإذن مني ! قلت :

" ارتح وليد ... خذ كفايتك "

وليد نظر إلى سامر ثم قال :

" اعتنيا بنفسيكما "

ثم أغمض عينيه و استسلم للنوم !

أجلس ُ أنا و سامر في غرفة المعيشة نشاهد التلفاز و لا يجرؤ أحدنا على النبس ببنت شفة !
لكم أن تتصوروا حرج الموقف... فالرجل الذي يجلس معي هنا كان قبل فترة خطيبي... خطيبي الذي عشت و ربيت معه... و وعيت لهذه الدنيا و أنا في صحبته...
و هو و منذ أن أبلغني بأنه أطلق سراحي... ذلك اليوم ... و نحن في المزرعة... لم يعد له وجود في حياتي...

الشهور توالت بسرعة و توقفنا عن تبادل الزيارات و حتى المكالمات...
لا أعرف تحديدا أي أفكار تدور برأس سامر هذه الساعة إلا إنني متأكدة من أنه أبعد ما يكون عن التركيز في البرنامج المعروض على الشاشة...

عندما حان موعد الصلاة أخيرا تكلّم...

" سوف أذهب لأداء الصلاة و من ثم سأمر بأحد المطاعم "

قال ذلك و هو ينظر إلى ساعة يده، ثم تابع :

" لن أتأخر... تصرفي في الشقة بحرية "

و نهض و سار نحو الباب...

لم أجرؤ على قول شيء... ماذا عساي أن أقول و أنا في موقف كهذا؟؟ و كيف يخرج و يتركنا وحدنا و وليد مريض جدا ؟؟

قبل أن يغلق الباب و هو في الخارج سمعته يقول :

" أتأمرين بأي شيء ؟ "

رفعت بصري إليه ... كنت أريده أن يستشف من نظراتي اعتراضي على ذهابه... لكنه غض بصره مباشرة و أشاح بوجهه جانبا...

شعرت بألم...

ليتكم تشعرون بما أشعر... بل لا أذاقكم الله شعورا مماثلا...

سامر... كان رفيق طفولتي و صباي و شبابي... كان أقرب الناس إلي... كان مسخرا وقته و كل ما باستطاعته من أجلي أنا... كان يحبني حبا جما... كثيرا جدا... و لم يكن أبدا... أبدا... يشيح بوجهه عنّي أو يتحاشى النظر إلي... لقد كنت خطيبته و لم يكن شيء أحب إليه من النظر إلي و الجلوس بقربي...

و الآن ... ؟؟

طأطأت رأسي في أسى و حسرة... و كيف لا أتحسّر و آسف على فقد إنسان عنى لي مثل ما عناه سامر طوال تلك السنين ...؟؟
إنه ... لم يفقد أحد ذويه مثلما فقدت ُ أنا... و مثل من فقدت أنا...

لما لم يجد سامر مني الجواب، انصرف مغلقا الباب بالمفتاح...

حينها لم أتمالك نفسي و جعلت أبكي...

بعد ما يقرب من النصف ساعة توهمت سماع صوت منبعث من غرفة النوم... و بدأ الوهم يتضح أكثر فأكثر... حتى تيقنت من أنه وليد...

ذهبت إلى الغرفة و أنا أسير بحذر... و ناديت بصوت خافت :

" أهذا أنت ... وليد ؟ "

كانت الغرفة مظلمة إذ أن سامر كان قد أطفأ المصابيح عندما غادرناها...

وليد قال بصوته الشبه معدوم :

" رغد ؟ ... "

" نعم... هل أنت بخير ؟ "

وليد بدأ يسعل بشدة سعالا استمر لفترة...
أفزعني سعاله... فتشت عن مكابس الإنارة و أضأت الغرفة...

كان لا يزال في نوبة سعال لم تنه...

" هل أنت بخير ؟؟ "

لم يكن يستطيع التوقف... تفاقم قلقي و نظرت من حولي ثم خرجت إلى غرفة المعيشة بحثا عن بعض الماء...

عدت إليه مسرعة و قدمته إليه... و بعدما شربه انتهت النوبة و ارتمى على السرير مجددا...
و أخذ يتنفس بعمق من فمه و يسعل أحيانا...

هدأ قليلا ثم سألني :

" أين سامر ؟ "

قلت :

" ذهب ليصلي... "

قال :

" اتصلي به "

وقفت مأخوذة بالهلع... و سألت :

" اتصل به ؟؟ "

قال :

" نعم... أنا متعب "

و شعرت بأعصابي تنهار... و ما عادت ساقاي بقادرتين على حملي... كنت أقف بجوار وليد و أرى بوضح علامات التعب و المرض ثائرة على وجهه

قلت بصوت متبعثر متفكك :

" ما بك يا وليد ؟ طمئني أرجوك ... "

و اجتاحتني رغبة عارمة في البكاء...
وليد نظر إلي و مد يده و أمسك بأصابعي ... و شعرت بحرارته الشديدة تنتقل إلي... ثم قال :

" لا تقلقي... أنا بخير "

قلت بانفعال :

" لا لست بخير ! أنت مريض جدا ... أرجوك أخبرني ... هل قال الطبيب شيئا ؟ "

وليد أطال النظر في عيني ... و كأنه يبحث عن شيء مختبئ خلف بؤبؤيهما... ثم قال بحنان :

" هل... تخافين علي ؟ "

أخاف عليك؟ بل أكاد أموت من الفزع عليك... ألا ترى أن ساقي ّ... ترتجفان ؟ ألا تشعر بأنني... سأهوي أرضا ؟ ألم تحس برعشة يدي و برودتها ؟ لقد جفّت دمائي فزعا عليك يا وليد... و القلب الذي ينبض بداخلي... يضخ فراغا...
وليد ... ألم تفهم ؟؟

قلت بصوت متقطّع واهن :

" وليد... أنا... إنني ... "

و هنا عادت نوبة السعال إليه مجددا... أقوى و أعنف...

لم أحتمل ذلك ... كادت روحي تخرج مع سعلاته ... أسرعت أجر ساقي ّ جرا ... إلى هاتفي و اتصلت بهاتف سامر...

" من معي ؟ "

" أنا رغد... "

" رغد ؟؟ "

" نعم... سامر عد بسرعة أرجوك "

" ماذا حدث ؟ "

" وليد مريض جدا ... أنا سأنتهي... "

و انهارت ساقاي أخيرا و هويت أرضا... و أخذت أبكي بل أصرخ ... لا أعرف ما قال سامر... لم أسمع أو لم أع ِ شيئا... و لم أقو َ بعدها على النهوض...

ربما كان سامر على بعد أمتار من الشقة لأنه حضر بسرعة و ما إن دخل الشقة حتى هتفت :

" أرجوك افعل شيئا ... لا تدعه يموت ... "

كنت جاثية على الأرض في عجز تام... سامر لم يطل النظر إلي ّ ... بل ألقى بالأكياس التي كان يحملها جانبا و أسرع نحو الغرفة...




~~~~~~~~







وليد كان يسعل بشدة و بالكاد يجذب أنفاسه... و كان العرق يتصبب من جبينه بينما يشتعل جسده حرارة... لدى رؤيته بهذا الشكل، أصبت بالروع ... و قررت إعادته إلى المستشفى فورا...
رغد الأخرى كانت بحالة سيئة و بصعوبة تمكنت من النهوض و مرافقتنا...

هناك شخـّص الطبيب حالته على أنها التهاب رئوي حاد... و أمر بإدخاله إلى المستشفى مباشرة... لكن وليد رفض ذلك تماما و اكتفى بقضاء بضع ساعات تحت العلاج...

أمر الطبيب بحقنه بعدة أدوية... و أبقى قناع الأوكسجين على أنفه طوال الوقت... و ظل يتلقى العلاج حتى انخفضت حرارته و تحسن وضعه العام قليلا...

أما رغد فقد كانت منهارة و مشتتة للغاية... و ما فتئت تطلب مني أن :

" لا تدعه يموت ... أرجوك "

و كـأن الموت بيدي أو أملك لمنعه سبيلا...

أظن أن وفاة والدي ّ اللذين كانت هي متعلقة بهما كثيرا... و بحاجة إلى رعايتهما... جعلها تتصور الموت يحيط بها و تخشى حدوثه...

و ربما أيضا كان للمأساة التي عاشتها ليلة القصف على المدينة... أثرها العظيم ...

و بالتأكيد... فإن حبّها لوليد جعلها في هوس على صحته... و حياته...

لا زلت أذكر كيف استقبلته في ليلة زواج دانة... و كيف تدهورت صحتها و نفسيتها بعدما علمت بأمر ارتباطه بأروى...
و كيف كانت تراقبهما بغيظ في المزرعة... فيما أنا أتفرج عليها... و أقف كالشجرة... بلا حول و لا قوّة...

و ها أنا الآن أقف كالشجرة... أمام شقيقي و خطيبتي السابقة... بلا حول... و لا قوّة...

تمر الساعات بطيئة ثقيلة داكنة... خرساء عن أن كلمة أو إشارة... و كلّما أن ّ وليد اخترق خنجر صدي... و كلّما تأوه مزقت سكين أحشائي... و كلّما أفاق استقبلته أنظارنا بلهفة... فيقول :

" أنا بخير "

و كلما أغمض عينيه رفعت عيني إلى السماء داعيا الله أن يجعله بخير...

كان وقتا عصيبا... اكتشفت فيه أنني أحب شقيقي هذا أكثر مما كنت أعتقد... و بالرغم من كل شيء أو أي شيء...

مع مرور الوقت تحسنت حالته و استرد بعضا من قوّته و طلب منّي إعادته إلى الشقة...

" و لكن يا عزيزي... الطبيب ينصح ببقائك "

فرد :

" أنا بخير الآن... لنعد يا سامر... لابد أنكما متعبين... و خصوصا رغد "

و فهمت ما يرمي إليه...

رغد قالت معترضة :

" أنا بخير "

فقال وليد :

" و أنا كذلك "

و نظر إلي ّ ... فقلت :

" حسنا... هيا بنا "

و في الواقع لم يكن هناك حل أفضل من العودة في تلك الساعة المتأخرة من الليل...

في الشقة بدا شقيقي أفضل حالا بعض الشيء و لكنه لم يستطع مشاركتنا الطعام لشعوره بألم في معدته. الطعام كان مجموعة من الشطائر و العصائر... كنت قد جلبتها من أحد المطاعم أول الليل.. تناولناها أنا و رغد و نحن نراقب وليد... في غرفة النوم...

السكون التي ساد وليد جعلنا نستنتج أنه نام مجددا...

خاطبتني رغد سائلة :

" إنه أفضل... سيتحسن... أليس كذلك ؟ "

قلت :

" إن شاء الله... "

رغد قالت برجاء شديد :

" أرجوك... اعتن ِ به جيدا... افعل أي شيء لعلاجه "

أجبرتني جملتها على النظر إليها ثوان ثم بعثرت نظراتي بعيدا...
و هل تظنين يا رغد... أنني سأقف متفرجا على شقيقي و هو مريض بهذا الشكل ؟؟
أم تظنين أنني سأقصّر في العناية به انتقاما لما فعله بي في السابق ؟؟
أم تعتقدين أن هروبك منّي إليه سينسيني دماء الأخوة التي تجري في عروقي و عروقه؟؟

قالت رغد :

" يوم الغد... سأطلب من خالتي الحضور لأخذي معها... و بالتالي يتسنى لك نقله للمستشفى و معالجته "

و كلنا يدرك أن وليد رفض دخول المستشفى بسبب وجود رغد... إذ لم يكن من اللائق إدخاله إلى المستشفى و عودتنا وحيدين إلى الشقة...

تابعت رغد:

" سأتصل بها باكرا لتأتي سريعا... لا يجب أن نتأخر أكثر من ذلك... "

و لم أعقّب على حديثها بل كنت ألهي نفسي بشرب بقايا عصير الفراولة من كأسي الورقي... علها تطفئ شيئا من لهيب صدري...

قالت رغد :

" أنا آسفة لأنني عطّلت الأمر ... "

جملتها هذه أثارت اهتمامي... لكني تظاهرت باللامبالاة...

استرسلت رغد :

" لطالما كنت... و سأظل عقبة في طريقكم جميعا... لطالما سبب و سيسبب وجودي لكم التعطيل و الضيق... أنا آسفة... لقد طلبت منه أن يتركني في بيت خالتي لكنه من أصر على أخذي معه... سأبقى عبئا و عالة عليكم رغما عني... لكن... ماذا أفعل ؟ فأنا لا والدين لي ... "

و كصفعة قوية تلقيت كلمات رغد... صفعة لم تدر وجهي نحوها فقط بل جعلتني أحملق فيها بذهول...

رغد من فورها خرجت مسرعة من الغرفة... لتخبئ دموعها خلف الجدران...

لم استطع أن أحرك ساكنا... أحسست بالمرارة في داخلي بل و في عصير الفراولة على لساني...
و تركتها تبكي و أنا في عجز تام عن تقديم شيء من المواساة... أو تلقي شيئا منها...



الساعة تشير إلى الواحدة و الربع بعد منتصف الليل...
أنا متعبة و في صدري ضيق شديد... على وليد و على حالي التعسة
و هل لمثل حالتي شبيه؟؟
في شقة صغيرة لساكن أعزب، أبقى على المقعد ساهرة حتى ينتصف الليل... و ابنا عمّي موجودان في داخل غرفة النوم... أحدهما على الأقل يغط في سبات عميق !
ألا ترون جميعا أنه لا مكان لي هنا و أن وجودي أصلا في هذه الشقة و مع ابني عمّي... هو أمر مستهجن ؟

ما كان ضر وليد لو تركني أقيم و أبات في بيت خالتي معززة مكرمة ... محبوبة مرغوب بها من جميع أفراد العائلة؟؟

رفعت يدي إلى السماء و شكوت إلى الله حالي و بثثته همّي... و تضرعت إليه... و رجوته مرارا و تكرارا... أن يشفي وليد... و أن يجد لي من هذه الكربة العظيمة مخرجا قريبا...

كنت لا أزال أرتدي عباءتي و حجابي منذ الصباح... و كنت و بالرغم من ملابسي الثقيلة أشعر بالبرد... إضافة إلى الشعور بالعتب الشديد و النعاس... و بحاجة للنوم و الراحة... و لكن أين أنام و كيف أنام ؟؟ و هل يجوز لي أن أنام؟؟
لماذا لم يظهر سامر حتى الآن ؟؟ هل نام و تركني هكذا ... أم هل نسي وجودي ؟؟

لم أعرف كيف أتصرّف و لم أكن لأجرؤ على العودة إلى غرفة النوم بطبيعة الحال...
ذهبت بعد ذلك إلى دورة المياه الوحيدة في تلك الشقة... و كم شعرت بالحرج من ذلك... خصوصا حينما نظرت إلى نفسي عبر المرآة و وقع بصري على أدوات الحلاقة مبعثرة على الرف !

يا إلهي !
ما الذي أفعله أنا هنا !!؟؟

عندما خرجت، وجدت وسادة و بطانية قد وضعا على المقعد...
إذن فسامر لا يزال مستيقظا... و لا بد أنه التقط موجات أفكاري أخيرا !

المقعد كان صغيرا و لا يكفي لمد رجليّ ، لكنني على الأقل استطيع أن أريح جسدي قليلا فوقه...
أنا متعبة و أريد أن أنام بأي شكل...
و ببساطة نزعت عباءتي و حجابي و استلقيت على المقعد والتحفت البطانية و سرعان ما نمت من شدة التعب... !

عندما نهضت كانت الساعة قد تجاوزت العاشرة بقليل... نهضت عن المقعد بسرعة شاعرة ببعض الألم في ظهري أثر الانكماش !

كنت أتوقع النهوض في وقت أبكر و كنت أنوي الاتصال بخالتي مباشرة...
تلفت يمنة و يسرة...و دققت السمع فوصلني صوت محادثة...

لابد أن ابنا عمّي قد نهضا...
ارتديت عباءتي و حجابي بسرعة و فركت عيني ّ لأزيل عنهما أثر النوم... ثم سرت نحو الغرفة المفتوحة الباب و أنا أقول :

" وليد... سامر... هل نهضتما ؟ "

وصلني صوت سامر :

" نعم تفضلي "

دخلت الغرفة و أنا ألقي التحية... و وجهت بصري مباشرة نحو وليد :

" وليد هل أنت بخير ؟ "

وليد كان جالسا على السرير و مسندا ظهره إليه ... و كان يبدو أفضل حالا من يوم أمس... و إن ظهر الشحوب جليا على وجهه ...

ابتسم وليد ابتسامة مطمئنة و قال بصوته المريض :

" نعم. الحمد لله "

قلت و أنا أتنهّد بارتياح :

" الحمد لله "

ثم أضفت :

" هل نمت جيدا ؟ هل تشعر بتحسن ؟ و هل زالت الحرارة ؟ "

قال :

" نعم. فهذه الأدوية سحرية ! "

قال ذلك و هو يشير إلى الأدوية المصفوفة إلى جوار السرير على المنضدة و التي كانت الطبيب قد وصفها له يوم أمس...

قلت :

" لكن يجب أن تستكمل علاجك في المستشفى كما أمر الطبيب... سأتصل بخالتي "

و استدرت و خرجت من الغرفة عائدة إلى حيث تركت حقيبتي و هاتفي...
و أنا أمسك بالهاتف لمحت سامر مقبلا...
قال :

" انتظري "

نظرت إليه باستفسار .. و دون أن ينظر إلي ّ قال :

" وليد يريد التحدث معك..."

حملت هاتفي معي و ذهبت إلى وليد... أما سامر فأظن أنه خرج...
وقفت قرب الباب... منتظرة ما يود وليد قوله... وليد لم يبدأ الحديث مباشرة... لا أعرف إن كان السبب بحة صوته أو تهيج حلقه، أو تردده في قول ما سيقول...

تناول وليد كأس الماء الموضوع مع الأدوية و شرب قليلا ثم قال :

" أنا آسف يا رغد... "

حقيقة أنني توقعت أن يقول أي شيء آخر... عدا الأسف !

" لم الأسف ؟؟ "

قال و هو يحاول جعل جمله قصير لئلا يتعب حباله الصوتية :

" كنت متعبا.. اعذريني.. هل نمت ِ جيدا ؟ "

ابتسمت وقلت بمرح:

" نعم... عدا عن وجع في الظهر و برودة في الأطراف ! "

وليد قال :

" لم يكن أمامي حل أفضل.. أنا آسف "

قلت مباشرة :

" لا تهتم.. الأمر ليس سيئا لهذا الحد "

أناقض بذلك الحقيقة التي عشتها ليلة أمس و أنا نائمة دون حجاب على مقعد صغير في شقة عزوبة صغيرة مع ابني عمّي الشابين.. لا يفصلني عنهما غير جدار واحد يتوسطه باب مفتوح على مصراعيه طوال الليل !

هل يبدو الأمر سيئا إلى ذلك الحد !؟

وليد قال :

" على كل.. كان ظرفا طارئا لن يتكرر بإذن الله "

خفضت ببصري خجلا... و لم أجد تعليقا مناسبا

وليد قال :

" سنغادر عصرا إن شاء الله "

قفزت ببصري إليه مجددا و كلي استنكار و اعتراض... قلت :

" اليوم ؟ عصرا ؟ "

" نعم "

" و ماذا عن ... المستشفى ؟ "

" لا ضرورة لها فأنا في تحسن "

لم يعجبني ذلك فقلت :

" لكن الطبيب ليلة أمس شدد على ضرورة تلقيك العلاج في المستشفى "

فرد وليد:

" سأتعافى مع هذا العلاج بإذن الله "

صمت ّ في حيرة من أمري... بعدها سألت :

" لكن.. ألا يجدر بك ملازمة الفراش؟ كيف ستقود السيارة ؟ "

قال :

" سامر سيصطحبنا إلى المزرعة... كما و أن سيارتي ... كما تعلمين ! "

و تذكرت أننا تركنا السيارة في الشارع في وجه الريح و المطر... و أن هاتف وليد في داخلها
ربما قرأ وليد التردد المكتوب على وجهي... لذا سألني :

" أهناك ما يقلقك ؟ "

نعم يا وليد ! هناك الكثير الكثير... لأقلق بشأنه ... و أوله أنت !

قلت :

" لم لا تنتظر إلى أن تسترد عافيتك يا وليد؟ إن كان الأمر بشأني أنا... فأنا سأطلب من خالتي الحضور الآن لأخذي معها... و... "

و أخذا وليد يهز رأسه اعتراضا...

قلت :

" هكذا ستتمكن من... "

لكن وليد قاطعني :

" كلا يا رغد... "

حاولت المجادلة لكنه قال بصرامة لا تتفق و حالته المريضة :

" كلا "

لذت بالصمت بضع ثوان... و أنا في حيرة من أمر هذا الـ وليد !

مادام يجدني عائقا في سبيل تحركاته، لم لا يتركني مع خالتي؟؟ لم يزيد عبء مسؤولياته بينما أنا على استعداد بل و راغبة بشدة في إعتاقه من مسؤوليته تجاهي؟؟

قلت بصوت ضعيف مغلوب على أمره :

" وليد... أنا لا أريد العودة إلى المزرعة... "

نظرت إليه بتوسل... و واثقة من أنه فهم نظراتي... قال :

" لن نطيل البقاء هناك... يومين أو ثلاثة... ريثما استرد عافيتي و سيارتي "

و سعل قليلا... ثم تابع :

" نسافر بعدها جوا إلى العاصمة، و منها إلى الساحلية "

قلت :

" و معنا أروى... و أمها ؟ "

أومأ برأسه إيجابا... فهززت رأسي رفضا...
أنا أرفض العودة لنفس الدوامة من جديد...
خاطبته بنبرة شديدة التوسل و الضعف...

" أرجوك... دعني أعود إلى خالتي ... "

وليد ركز النظر في عيني برهة...

" أرجوك ... وليد "

أغمض وليد عينيه و هز رأسه ببط ء

" لا يمكن يا رغد .. انتهينا من هذا الموضوع "

و حين فتح عينيه كان نظرات التوسل لا تزال تنبعث من عيني ّ ...

قال :

" أنا المسؤول عنك يا رغد... "

قلت بسرعة و تهوّر :

" أنا أعفيك من هذه المسؤولية "

و اكتشفت خطورة جملتي من خلال التعبيرات المخيفة التي انبثقت على وجه وليد فجأة...
حاولت أن أخفف تركيز الجملة فقلت :

" أعني... أنني لا أريدك أن ... تزيد عبئي فوق أعبائك ... و خالتي و عائلتها... مستعدون لأن..."

زمجر وليد :

" كفى يا رغد "

فابتلعت بقية الجملة بسرعة كدت أغص معها !

بدا وليد عصبيا الآن... و لكن عجز عن الصراخ لبحة صوته :

" لا أريد أن اسمع هذا ثانية يا رغد... أتفهمين ؟ "

لم أتجاوب معه فقال :

" أنا الوصي عليك و ستبقين تحت مسؤوليتي أنا إلى أن أقرر أنا غير ذلك... مفهوم ؟ "

فجاءني أسلوبه الجاف الفظ هذا... فيما كنت أنا أتحدث معه بكل لطف و توسل... حملقت فيه مصدومة به... حتى المرض لم يلين عناده ؟!

" مفهوم يا رغد ؟؟ "

قلت باستسلام و رضوخ :

" مفهوم "

و خرجت بعد ذلك بهدوء من الغرفة...

كم أشعر بالذل... كيف يعاملني وليد بهذا الشكل ؟ لماذا يقسو علي و أنا من كدت أموت خوفا عليه؟؟ لماذا يتسلط علي و يضرب بعرض الحائط رغبتي ؟
و هل علي أن أتحمّل رؤية الشقراء ترافقه و تتبادل معه الاهتمام و العواطف الحميمة.. بينما أكاد أعجز أنا عن مسح الدماء النازفة من أنفه و هو جريح مريض ؟؟

بعد فترة حضر سامر جالبا بعض الأطعمة... و وجدت نفسي منقادة لما تفرضه الظروف علي... و جلست مع ابني عمّي أشاركهما الطعام بكل بساطة !

إن لدي ابني عم اثنين... هما أهلي و أحبتي و كل من لي... و يساويان في حياتي الناس أجمعين... و إن احتل أحدهما الماضي من حياتي... فإن الآخر ... يحتل الحاضر و المستقبل...
ابنا عم... لا يوجد مثلهما ابنا عم على وجه الأرض !
و نحن نتناول الطعام كنت أراقبهما خلسة... و أصغي جيدا لكل كلامهما...
كم كانا لطيفين حنونين و هادئين جدا... بصراحة الله وحده الأعلم من منّا نحن الثلاثة كان الأكثر قلقا و الأشد اهتماما بشأن الآخرين !

فيما بعد تركت أكبرهما يقيل وقت الظهيرة... و جلست مع الأصغر في غرفة المعيشة نشاهد التلفاز...



~~~~~~~~~


لم أكن لأقدم على الحديث معها لو أن رغد لم تبادر هي بالكلام...
و بالرغم من أنني كنت أتحاشى النظر باتجاهها إلا أنه كان من غير الممكن تحاشي التعقيب على حديثها...
" ألا يجب ... أخذه للمستشفى كما أوصى الطبيب ؟ "
" لا أظنه سيرحب بالفكرة مطلقا "
" حاول أن تقنعه... ! "
نظرت إلى السقف و قلت :
" ما من جدوى ... على الأرجح ! "
رغد صمتت قليلا ثم قالت :
" لكن السفر قد يتعبه... و هو مصر على الذهاب للمدينة الساحلية ... "
و أتمّت بأسى :
" و على أخذي معه "
شعرت من نبرة صوتها بعدم ارتياحها فقلت :
" ألا تريدين الذهاب ؟ "
رغد قالت مباشرة :
" لا أريد... لكن... وليد مصر على اصطحابي معهم... لن يفيده ذهابي في شيء بل سيسبب له التعطيل و العقبات... "
سألت :
" لم تقولين ذلك ؟ "
رغد بدأت تتكلم... و كأنها تشكو إلي ّ ... كأنها ... كتمت في صدرها آهات عدّة و جمعتها سوية... لتطلقها أمامي... كأنها ما كادت تصدّق أنها وجدت من تبوح إليه بما يختلج بواطنها... و كأنها... نسيت ... أن الرجل الذي تتحدّث إليه و تبثه همومها هو خطيبها السابق الذي كان و لا يزال يعشقها بجنون...
و حين تتألم رغد... ينتشر صدى آلامها في صدري أنا...
" أعرف أنني مصدر إزعاج له... و هم ّ مرمي فوق صدره... و لكنه لا يريد إزاحتي بعيدا... بل ربما يستمتع بفرض وصايته و سطوته علي ! إنه لا يريد أن أعيش في بيت خالتي و لا يريد أن أتحدّث مع ابنها... و يفرض علي ما ألبس و متى أخرج و إلى أين أذهب... في المزرعة و حتى في بيت خالتي "
لم استطع التعقيب على حديثها هذه المرة... فماذا يمكنني القول؟؟
و لكن هل شقيقي... صارم لهذا الحد ؟ هل يقسو على رغد ؟؟ أليست مرتاحة للعيش معه ؟ ألم تكن هذه رغبتها هي ؟؟
تابعت :
" و أنا لا أحتمل العيش مع الشقراء... و هي أيضا لا تطيقني ... لماذا لا يريد وليد فهم ذلك ؟"
و أيضا لم أعلّق...
و ربما لما رأت رغد صمتي شعرت بخيبة الأمل... إذ لم تجد منّي أي مواساة أو تفاعل... لذا لاذت بالصمت هي الأخرى...
هناك سؤال ظل يكتم أنفاسي و يخنفني... لم استطع تحاشيه و لا أدري أي جنون جعلني أطلقه من لساني بعد كل هذا الصمت و الجمود ..؟؟
" رغد ... "
رغد نظرت إلي و هذه المرة لم أهرب بعيني بعيدا... بل غصت في أعماق عينيها باحثا عن الجواب... و ليتني لم أجده...
" ألا زلت ِ ... تحبينه ؟ "
بالتأكيد كان هذا آخر سؤال تتوقع منّي رغد طرحه... خصوصا بعد التزمت و الاختصار الشديد في الحديث معها و تحاشيها قدر الإمكان...
و لم يكن من الصعب علي ّ أو على أي كان أن يستنبط الجواب من هاتين العينين...
تصاعدت الدماء إلى وجنتيها بينما هبطت عيناها إلى الأرض...
هل كان علي أن أطرح بجنون سؤالا كهذا ؟؟
يا لي من أحمق و فاشل...

من حينها لم أتحدّث معها بأي كلمة... حتى وقفت مودعا إياهما في المزرعة...



~~~~~~~~~~


وصلنا إلى المزرعة قرب الغروب... و استقبلت أورى وليد استقبالا حميما لن يسرني وصفه لكم... فيما أنا أحترق من شدّة الغيظ...
و أحسنت هي و أمها و خالها الترحيب بي و بسامر...
و عندما خرج سامر مغادرا المنزل فيما بعد تذكّر وليد مفاتيح سيارته فقال :

" المفاتيح مع سامر "

قلت مباشرة :

" سأحضرها "

و انطلقت مسرعة نحو الخارج...

كان سامر على وشك صعود السيارة فهتفت:

" سامر انتظر "

و أقبلت مهرولة إليه ... التفت سامر نحوي مستغربا و رفع نظارته الشمسية و نظر إلى عيني ّ مباشرة

قلت :

" مفاتيح سيارة وليد "

" آه ... نعم "

و التقط المفاتيح من داخل السيارة – حيث كانت موضوعة على الرف - عبر الباب المفتوح و قدّمها إلي ...

المفاتيح كانت ضمن عدّة مفاتيح أخرى مضمومة إلى بعضها البعض بالميدالية التي كنت ُ قد أهديتها وليد في عيد الحج الماضي... إن كنتم تذكرون...

و أنا أمد يدي لأستلم المفاتيح منه... تبعثرت نظراتنا ثم التقت من جديد...

قلت :

" تبدو مختلفا... "

و أنا أدقق النظر في الجهة اليمنى من وجه سامر و تحديدا عينه و ما حولها... الموضع الذي كانت تغطيه ندبة قديمة قبيحة... شوهت وجهه مذ سقط على الجمر المتقد و نحن نركب دراجته الهوائية أيام الطفولة...

الندبة تقريبا اختفت... و بدا سامر مختلفا... و هذا أول ما أثار انتباهي حين خلع نظارته السوداء المبللة بالمطر و نحن نركب السيارة يوم أمس...

سامر أمال إحدى زاويتي فمه بابتسامة أقرب إلى السخرية و قال :

" هناك أشياء ... لا بد من التخلص منها و من آثارها... ذات يوم "

ثم استدار و ركب السيارة و ابتعد... تاركا الجملة ترن في أذني زمنا طويلا ...

عندما عدت إلى الداخل... وقع بصري على منظر أثار ثورتي و جعلني أرمي بالميدالية رميا على المنضدة تجاه وليد...

أروى ... كانت تجلس ملتصقة بوليد و تحيطه بذراعيها بينما تسند رأسها إلى كتفه بكل حنان !
لقد وجدتـْـها الشقراء فرصة ممتازة لكي تقترب من ابن عمّي ... بينما أنا لا أجرؤ على شيء ...

حسنا يا أروى

المعركة ابتدأت إذن ؟؟

استعنا بالله على الشقاء !



~~~~~~~~



مستلق ٍ على سريري و شاعر بإعياء شديد في جميع عضلاتي... أجاهد من أجل إرغام الهواء على المرور عبر أنفي شبه المسدود... تنتابني نوبات فظيعة من السعال إن تجرأت و فتحت فمي... أنا وليد... الصامد في وجه النواكب العظمى... مستسلم تماما أمام المرض!
أقبلت أروى تحمل طبق الحساء الدافئ و شرابا من خلاصة الأعشاب... و جلست قربي... استويت أنا جالسا و قرّبت ُ كأس الشراب من أنفي استنشق البخار المتصاعد منه... علّه يساعد على توسيع مجرى الهواء... و لم أكن أحس برائحته... و لم أحس بطعمه...

" الحمد لله "

قلت بعدما أنهيت وجبتي فعقّبت أروى :

" بالهناء و العافية... حبيبي "

نظرت إليها فابتسمت بحنان... ساهم في رفع معنوياتي المحبطة... من جراء المرض و من حالي مع رغد و أقاربها...

رددت إليها ابتسامة ممتنة... ثم عدت مضطجعا على الوسادة... شاعرا بالارتياح...
الساعة كانت العاشرة مساء ً و أنا ألازم فراشي منذ حضوري عصرا ... و منذ حضوري لم أر رغد...

سألت أروى :

" ماذا عن رغد ؟ "

هذه المرة لم تحاول أروى إخفاء انزعاجها من سؤالي... و ردّت :

" ربّما نامت في غرفتها... لا تفكّر في شيء الآن... ابق مرتاحا و مسترخيا أرجوك "

و كأنها تؤكد أن رغد هي أحد أسباب قلقي و تعبي... و هي حقيقة غنية عن التأكيد !

ابتسمت ُ لأروى و قلت خاتما الحديث :

" تصبحين على خير "


كانت حالتي أفضل بكثير حينما نهضت صباح اليوم التالي... و تمكنت من مغادرة الفراش...
أخذت حمّاما منعشا زاد من حيويتي... و فيما كنت أرتب فراشي بعد ذلك أقبل كل من أروى و الخالة و العم إلياس يطمئنون علي و يحمدون الله على تحسّن صحّتي...
جلسنا نتبادل بعض الأحاديث بشيء من المرح و السرور... و الضحك أيضا... إنني أنتمي إلى هذه الأسرة... و إن الله كان غاية في اللطف و الكرم سبحانه... و هو يضعها في طريقي... تعويضا عما فقدت.. و عمّن فقدت...

لكن... لم يكن حبهم لي و عطفهم علي... ليغن
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
اللؤلؤة السوداء
القائد "V"
القائد
اللؤلؤة السوداء


عدد المساهمات : 186
النقاط : 10340
التقييم : 5
تاريخ التسجيل : 21/07/2011
العمر : 38

رواية انت لي - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: رواية انت لي   رواية انت لي - صفحة 2 Emptyالسبت يوليو 30, 2011 2:39 am


أقبلت أروى إلى غرفتي و كنت أرتب كتبي و دفاتري على مكتبي الجديد و الذي اشتراه وليد لي مؤخرا...
وليد اشترى لي أشياء كثيرة...و غير طقم غرفة نومي كاملا... و كان يود نقل أشيائي إلى غرفة دانة سابقا... فهي أكبر حجما... و لكنني أصررت على البقاء في غرفتي الصغيرة الملاصقة لغرفته...
و منعت ُ أروى و أمها من استخدام أي ٍ من غرف النوم التي كنا نستخدمها سابقا... فأقامتا في غرفتين من الناحية الأخرى لمنزلنا الكبير...

و لأنني أعرف أنها ماهرة في أعمال المنزل و خصوصا الطبخ، و أنها تتباهى بذلك أمام وليد و أمامي... و أنها تريد أن تستعرض مهاراتها الليلة على العشاء ... فقد اخترت المطبخ بالذات كي أذاكر فيه محاضراتي هذا اليوم !

يجب أن تعرف هذه الدخيلة أن هذا بيتي أنا... و مطبخي أنا... و أنا حرّة في فعل ما أريد وقتما أريد !

" ماذا تعنين بهذا يا رغد ؟ "

كانت أروى تقول و هي ترمي بالورقة التي نزعتـُها من كراستي قبل قليل... و فيها صورة لأروى الحسناء تنظف الأرض بشعرها الطويل !

أوه ! كيف وصلت إليها..؟ مستحيل أن يكون وليد !

كنت ُ غاضبة من تباهيها بمهاراتها... و وعدها وليد بتقديم وجبة لذيذة تبهر ضيوفنا... و من شدة غيظي احتللت المطبخ و رسمتها بهذا الشكل!
لكني خجلة من وليد و الفكرة التي أخذها عنّي... و أريد أن أعتذر لها !

" أجيبي ؟؟ "

صرخت أروى و هي شديدة الغيظ... كنت بالفعل سأعتذر لولا أنها أضافت :

" أنا لست خادمة هذا المنزل بل سيّدته و إن كنت ستسخرين من شيء فالأفضل أن تسخري من نكرانك للجميل و عيشك مرفهة مدللة من نقود لم ترثيها و لم تتعبي لجنيها يا ابنة العز و الثراء "

شعرت بطعنة قوية في صدري أوشكت أن أرمي بالكتاب الذي بين يدي نحو وجهها لكنني لم أملك إلا الألم...

و هل أملك ردا غيره ؟؟

بم أرد و هي الحقيقة..؟؟ ألست ُ أنا العالة على الغير... أليست النقود التي يجلبها لي وليد... هي من ثروتها ؟

بعد أن انصرفت بفترة حضر وليد
و كعادته يأتي بعد انتهاء أي مشادة بيننا حتى لا يزيد تدخله الأمر سوء...
و لا بد أنه قضى الدقائق السابقة في استرضائها و جاء الآن ليواسني... أو ليوبخني!

" هل أدخل ؟ "

و هو يقف عند الباب... و ينظر إلى الورقة المرمية على الأرض... ثم يلتقطها و يتأملها برهة، و يمزقها و يرمي بأشلائها في سلة المهملات...

قال :

" انتهى الأمر "

مسكين وليد! أتظن بأنه بتمزيقك للورقة تحل المشكلة؟
لا أظنها تحل إلا إذا مزّقت الفتاة المرسومة عليها في الواقع !

قال :

" لا تكرري ذلك ثانية يا رغد ... أرجوك "

نظرت إليه بحنق... أهذا كل ما لديك ؟؟

قال :

" انظري أي مشاكل تقع بسبب تافه كهذا... نحن في غنى عن المزيد... دعينا نعيش في سلام "

و استفزتني جملته فقلت بغضب :

" و هل ترى أنني شارون أم بوش لتخاطبني عن السلام ؟ "

و ربما أثارت جملتي اندهاشه أو حتى لم يستوعبها إذ أنه حملق في ّ باستغراب

قلت بعصبية :

" هل أنا سبب المشاكل ؟ "

قال :

" لا ... لكن أروى لا تتعمّد مضايقتك يا رغد ... إنها طيبة و مسالمة جدا "

و ثار غضبي أكثر... رميت بالكتاب أرضا و صرخت :

" طبعا ستدافع عنها... أليست خطيبتك العزيزة الغالية ... الثرية الحسناء ... السيدة المدبّرة لشؤون هذا المنزل ؟؟ "

" ليس الأمر هكذا ... "

قلت بانفعال :

" بل هو كذلك... و أنت بالتأكيد ستقف في صفـّها و تنحاز إليها "

تنهّد وليد بانزعاج... و ضرب كفه الأيسر بقبضته اليمنى و قال بضيق :

" لقد حرت ما أفعل معكما؟ أنتما تثيران الصداع المستمر في رأسي... أنا لا أعرف لماذا لا تطيق أحداكما الأخرى بهذا الشكل !؟ "

صمت برهة ثم قال :

" على الأقل... أروى يا رغد... لا تتربص لإزعاجك ... لكنك يا رغد... "

و توقف لانتقاء كلماته ثم قال :

" أنت يا رغد تتصيدين الفرص لمضايقتها...لا أعرف لماذا ؟؟ لماذا أنت متحاملة عليها لهذا الحد يا رغد ؟؟ "

و أخذ يترقّب جوابي...

" لماذا يا رغد ؟؟ "

أما زلت تسأل ؟؟
ألا تعرف ؟
ألا يمكن لعقلك المحشور داخل جمجمتك الكبيرة هذه أن يستنتج السبب؟؟
لأنني أحبك يا وليد!
أحبك و أكره أي امرأة تقترب منك...
ألا تفهم ذلك؟؟
ألا تكفي كمية الذكاء المحشوة في دماغك لاستنباط هذا ؟؟

و لا يبدو أن هذه الفكرة كانت لتخطر على بال وليد... البتة !
و لأنه كان لا يزال ينظر إلي منتظرا جوابا قررت أن أجيب !

" أتريد أن تعرف لماذا ؟ "

قال بلهفة :

" يا ليت... فلربما استطعت تغيير شيء و حل المشكلة "

ابتسمت بسخرية من مناه... ثم ضيّقت فتحتي عيني ّ و ضغطت على أسناني و قلت:

" لأنها... أجمل منّي "

ذهل وليد... و بدوره اتسعت فتحتا عينيه و فمه أيضا...

قلت :

" هل عرفت الآن ؟ "

ارتبك وليد و قال :

" هل هذا هو السبب حقا ؟ "

قلت بمكر :

" نعم... فهل تستطيع تغيير شيء ؟ "

وقع وليد في الشرك... و حار ماذا يقول... ثم قال بتردد و ارتباك:

" و ... لكن ... يا رغد... أيعقل أن تجعلي من هذا سببا كي... أعني لأن تـُثار كل تلك المشاكل ؟ "

قلت :

" هذا أمر لن تفهمه أنت...! إنها أجمل منّي بكثير... أليست كذلك ؟ "

و ترقبت بلهفة ما سيقول وليد...!

إن قال ( بلى ) فسأمزقه بأظافري...

و إن قال ( كلا ) فسأفقع عينيه !

انتظرت و انتظرت... و لكن وليد لم يجب ! بل تنحنح قليلا ثم أراد الانصراف...
وليد ! أجبني فورا ... إياك أن تهرب...

" بعد إذنك "

و استدار منصرفا...

لن تهرب يا وليد !

قلت باندفاع و عصبية :

" أجبني "

وليد استدار إلي في ضيق... و كان وجهه شديد الاحمرار... و الحنق...

قلت :

" لماذا لا ترد ؟؟ قل أنها كذلك... فحتى الأعمى يستطيع أن يرى هذا "

" رغد بربّك... ما الذي تهذين به؟ أي جنون !؟ "

و أولاني ظهره و ولى منصرفا بسرعة... تبعه صوتي و أنا أقول بغضب :

" لا تحلم بأن أنسجم معها ذات يوم ... لا تحلم أبدا ! "




~~~~~~~~


و كالعادة كانت العشاء لذيذا جدا قد أرضى الضيوف و نال إعجابهم...
" سلمت يداها... أكلتُ كثيرا هذه الليلة "

قال سيف و هو يحتسي الشاي عقب انتهائنا من وجبة العشاء...

قلت بسرور :

" سلّمك الله... بالهناء و العافية يا عزيزي "

قال مازحا :

" و أنا من كان يتساءل ما سر هذه العضلات التي نبتت و تضخمت بشكل سريع و على ذراعيك ! تبدو أكثر ضخامة كلّما التقينا يا رجل ! "

ضحكت لتعليق سيف المرح... حقيقة هي أنني خلال العام المنصرم ربحت عدة كيلوجرامات !

قلت :

" لكني كنت أكثر قوة و أنا أعمل في المزرعة... و أبذل مجهودا عضليا كل يوم "

و لاحت في مخيلتي صورة المزرعة و أشجارها و ثمارها... و العم إلياس... و شعرت بالحنين إليهم...

قال سيف :

" ماذا بشأن المزرعة ؟ ماذا ستفعلون بها ؟ "

قلت :

" كما هي يا سيف... فالعائلة متعلقة بها جدا و لا يمكنهم التفريط فيها... و ها أنا أتنقل بينها و بين المصنع في عناء "

قال :

" و لكن... يجب أن تستقر يا وليد ! ماذا ستفعل بعد زواجك ؟ "

أخذت أحك شعري في حيرة...

" خطيبتي تريد العودة إلى المزرعة و الاستقرار فيها... و ابنة عمّي ترفض العيش فيها تماما... و أنا في حيرة من أمري... مشلول الفكر ! "

تابعت :

" و ليت الخلاف اقتصر على السكن فقط! بل في كل شيء يا سيف... كل شيء و أي شيء! إنني أعود من العمل مشحونا بالصداع فتستلماني و تشقان رأسي نصفين !"

و وضعت طرف يدي على هامتي كما السيف...

سيف ابتسم... و قال :

" إنهن النساء ! "

قلت :

" الجمع بينهما في بيت واحد هو ضرب من الجنون... و الصغيرة صعبة الإرضاء و متقلبة المزاج... و أخشى أن أتحدّث معها فتظن أنني ضقت ذرعا برعايتها... و يُجرح شعورها..."

لم يعلق سيف ... تابعت :

" أنا حائر يا سيف... لا أريد لأي شيء عظيما كان أم تافها أن يعكّر صفو حياتها.. و وجود أروى يثير توترها... و لا يمكنني إرسال أروى و أمها إلى المزرعة و العيش مع رغد هنا وحدنا ! "

قال سيف مباشرة :

" صعب ! "

" بل مستحيل ! "

قال مقترحا :

" و لماذا لا تدعها مع خالتها كما فعلت سابقا يا وليد ؟ "

قلت و أنا أهز رأسي :

" أبدا يا سيف... لا يمكنها الاستغناء عن وجودي و قربي ... "

سيف نظر متشككا ثم قال :

" أو... ربما العكس ! "

حملقنا في بعضنا البعض قليلا... و شعرت بابتسامة حمراء تشق طريقها بين شفتي !

سيف قال مازحا :

" وليد الضخم... بطوله و عرضه و عضلاته المفتولة...تشل تفكيره فتاة صغيرة ؟!"

ابتسمت و أنا أقول :

" و ليست أي فتاة ! "

و بدا الجد على وجه سيف و قال :

" فكّر في الأمر مليا يا وليد... الشرارة و البنزين لا يجتمعان في مكان واحد ! "

كان سيف محقا فيما يرمي إليه...

قلت مغيرا الموضوع مباشرة :

" هل قابلت السيد أسامة ؟ ماذا قرر ؟ "

ابتسم سيف و قال :

" هنيئا لك ! لقد كسبت حب و تقدير هذا الرجل و لذلك وافق على العمل معك ! "

أطلقت صيحة فرح و هتفت :

" آه ... وافق أخيرا ! الحمد لله ! شكرا لك يا سيف "

و كنت قد طلبت من سيف مساعدتي في محاولة إقناعه بالعودة للعمل معي... فقد كنت بحاجة ماسة للمعونة من رجل بمثل خبرته و أمانته... و هذا الخبر أبهجني كثيرا تلك الليلة...
و لم أدرك أنني سأدفع ثمن بهجتي هذه ... عاجلا جدا !



~~~~~~~



احتراما لضيفتنا، تظاهرت بالسرور و أخفيت كل الغضب في داخلي... و شاركت الجميع طعام العشاء الذي أعدته الشقراء و أمها... و كانتا المسؤولتين عن الطهي و شؤون المطبخ... تساعدهما خادمة وظفها وليد منذ فترة...
كانت الشقراء ترتدي بلوزة جميلة عارية الكمين و الكتفين ... و تتزين بعقد ثمين من اللؤلؤ اشترته مؤخرا... و تلون وجهها الأبيض ببعض المساحيق... و تبدو في غاية الجمال و الأناقة... و لا بد أنها أثارت إعجاب ضيفتنا و أبهرتها في كل شيء...

و بعد خروج الضيوف ذهبت هي و بكامل زينتها و مباشرة إلى حيث كان وليد...
أما أنا فصعدت إلى غرفتي لاستبدل ملابسي...

نظرت إلى نفسي عبر المرآة و تخيلت صورتها إلى جواري فشعرت بالحنق و الغيظ... و رغبت في تمزيقها...

لم استطع تجاهل صورتها و هي تعيّرني بأنني أعيش عالة على ثروتها... ولم أتحمّل تخيلها و هي تجلس هكذا قرب وليد...
تملّكتني رغبة ملحة في الذهاب إلى وليد و إخباره عما قالت في الحال... و وضع حد نهائي لحالتي البائسة معها...

فتحت خزانتي و استخرجت جميع المجوهرات التي أنقذتها من حطام بيتنا المحروق... مجوهراتنا أنا و دانة و أمي رحمها الله... و أخذت أتأملها و أشعر بالألم... فهي كل ما تبقى لي...و لم أتصور أنني سأفرط فيها ذات يوم...

جمعتها كلها في علبتين كبيرتين و وضعتهما في كيس بالإضافة إلى البطاقة المصرفية التي منحني إياها وليد و كذلك الهاتف المحمول...

حملت الكيس و خرجت من غرفتي سعيا إلى وليد فوصلني صوت ضحكاته هو و الشقراء... ترن في أنحاء المنزل !!

كدت أصفع الكيس بأحد الجدران و أحطم محتوياته غيظا...

ذهبت إلى غرفة الجلوس ... مصدر الضحكات... و كان الباب مفتوحا و من خلاله رأيت ما زلزني ...

كان وليد شبه مستلق ٍ على المقعد و أروى الحسناء تجلس ملتصقة به... تمد إحدى يديها فوق كتفه و تطعمه المكسرات بيدها الأخرى....
كانا يشاهدان التلفاز ويبدو على وليد المرح و البهجة الشديدين... و هو يمضغ المكسرات... حينما رأياني ابتسم وليد و جلس معتدلا بينما أشاحت هي بوجهها عنّي...

" تعالي رغد "

قال مرحبا ً ... و الدماء الحمراء تتدفق إلى وجهه...

" هذه المسرحية مضحكة جدا ! "

وقفت كالتمثال غير مستوعبة بعد للقطة الحميمة التي رأيتها تجمعهما سوية... أما النار فكانت تتأجج في صدري حتى أحرقته و فحّمته...
لم أتحرّك و لم أتكلّم... و ربما حتى لم أتنفس... فأنا لا أشعر بأي هواء يدخل صدري...
تبادل وليد و أروى النظرات و من ثم نظرا إلى الكيس...

قال وليد :

" أهناك شيء ؟ "

أردت أن أخنق صوته... أقتل ضحكاته... أكسر فكّه الذي يمضغ المكسرات... أن أصفعه... أن أضربه... أن أمزقه بأظافري...

تبا لك يا وليد !

قلت باقتضاب :

" أريد التحدث معك "

قال مباشرة و قد زال المرح و حلت أمارات الجد على وجهه العريض :

" خير؟ تفضلي ؟ "

و الدخيلة لم تتحرك! لا تزال جالسة ملتصقة بوليد تقضم المكسرات...
إنني أوشك على ركلها بقدمي غيظا...

قال وليد :

" ما الأمر ؟ "

تقدّمت نحوه... و الغضب يغلي في داخلي و رميت إليه بالكيس بعنف... و لو لم أتمالك نفسي لربما رميت به على أنفه و هشّمته من جديد...

الكيس استقر تحت قدميه... فنظر إليه بتعجب و سأل :

" ما هذا ؟ "

قلت بانفعال :

" مجوهراتي "

ازداد تعجّب وليد فقلت موضحة :

" أعرف أنها لن تغطّي كل ما أنفقتـَه علي ّ منذ رحيل والدينا... لكن... هذا كل ما أملك "

قبل ثوان كان وليد مسترخ على المقعد و الآن أصبح على أهبة النهوض!

" ماذا تعنين يا رغد ؟ "

قلت بعصبية :

" خذها... حتى لا يعيّرني الآخرون بأنني عالة على ثرواتهم "

و رميت أروى بقنبلة شرر من عيني...و وليت هاربة...

ربما ارتطمت بجدار... أو تعثرت بعتبة... أو انزلقت أرضا... لم أكن أرى الطريق أمامي... لم أكن أرى غير اللقطة الحميمة تجمع بين الحبيبين ...

وليد لحق بي و استوقفني و أنا عند أصعد عتبات الدرج و هو يقول بحدة :

" انتظري يا رغد... افهميني ما الذي تعنينه ؟ "

استدرت إليه فرأيت أروى مقبلة خلفه نظرت إليهما بحدة ثم حملقت في أروى و قلت بعصبية :

" اسألها "

وليد استدار إلى أروى ثم إلي ثم إليها و سأل بحيرة :

" ما الذي حدث؟ افهماني ؟ "

قلت :

" بقي فقط ثمن التذكرة... و سأطلب من خالتي دفعها إليك حالما توصلني إليها... و الآن هل لا أعدتني إلى خالتي ؟ "

زمجر وليد بانزعاج :

" ما الذي تقصدينه يا رغد ؟؟ أنا لم أفهم شيئا... هل لا شرح لي أحد ماذا يحدث ؟ "

و التفت نحو أروى...

أروى قالت :

" أنا لم أعن ِ شيئا مما فهمت ْ "

تقصدني بذلك، فأفلتت أعصابي و صرخت :

" بل تعنين يا أروى... إنك تعيريني لعيشي عالة متطفلة على ابن عمي... لكن اعلمي أنه من أجبرني على الحضور معه... و لو كان لدي أبوان أو أهل أو حتى بيت يؤويني ما اضطرني القدر للمكوث معك ِ أنت ِ تحت سقف واحد "

بدا الذهول طاغيا على الأعين الأربع التي كانت تحدّق بي... ذهول ألجم لسانيهما عن النطق مباشرة...

" لكنهما ماتا... وبيتي احترق... و لم يتبقّ َ لي شيء غير هذه الحلي... خذاها و دعاني أرحل بكرامتي... "

وليد قال منفعلا :

" ماذا أصابك يا رغد ؟ هل جننت ِ ؟ "

قلت بعصبية أكبر :

" أرجوك... أعدني إلى خالتي... إن كانت كرامتي تهمك في شيء "

" أي كرامة و أي جنون...؟؟ "

و التفت إلى أروى بغضب :

" ماذا قلت ِ لها ؟ "

أروى قالت مدافعة مهاجمة في آن معا :

" لاشيء... طلبت منها أن تحترمني... عوضا عن رسمي بتلك الصورة المهينة..."

وليد كرر بغضب و عصبية :

" ماذا قلت لها يا أروى ؟؟ تكلّمي ؟ "

قالت أروى :

" الحقيقة يا وليد... فهي تعيش على ثروتي و عنائك... و لا تقدر و لا تحترم أيا منا "

دار وليد دورة حول نفسه من شدة الغضب و لم يعرف ما يقول... رأيت وجهه يتقد احمرارا و أوداجه تنتفخ و صدره يزفر الهواء بعنف...

ضرب سياج الدرج بقبضته بقوة و صرخ بغضب :

" كيف تفعلين هذا يا أروى ؟ "

قالت أروى بانفلات أعصاب :

" إن كان يرضيك ذلك فأنا لا يرضيني... و إن كنت تتحمّلها لكونها ابنة عمّك فما ذنبي أنا لأتحمّل الإحسان إلى و الإهانة من فتاة ناكرة الجميل ؟ "

هيجتني جملتها أكثر و أكثر و أثارت جنون جنوني... و صرخت بتهوّر :

" أنا لا انتظر الإحسان من أحد... وليد ينفق علي لأنه الوصي علي ّ و المسؤول عن مصروفاتي... و هو من اختار كفالتي بعد عمّي... ألا ترين أنني يتيمة و بلا معيل؟ أنا أهلي لم يتركوا لي إرثا عندما ماتوا جميعا... مثل عمّك... و هذه الثروة التي تعيرينني بها... وليد هو الأحق بها منك ِ أنت ِ و من أي إنسان آخر في هذا الكون "

و توقفت لألتقط بعض أنفاسي ... ثم قلت موجهة خطابي لوليد :

" أخبرها بأنها من حقك أنت "

وليد هتف بانفعال :

" رغد ! "

قلت بإصرار :

" أخبرها "

صرخ وليد :

" يكفي يا رغد "

التفت أنا إلى أروى المذهولة بكلامي و أعلنت دون تردد :

" إنها لن تعوّض ثمن السنوات الثماني التي قضاها في السجن حبيسا مع الأوغاد... بسبب ابن عمّك الحقير الجبان "

" رغد "

انطلقت صرخة من وليد... ربما كان هي المعول الذي كسر السد...
انجرف كلامي كالسيل العارم يأبى الوقوف عند أي شيء...

" و بعد كل الذي سببه الحقير لي... و لابن عمّي... تأتين أنت ِ لتعكري صفو ما تبقى من حياتي... ألا يكفي ما ضاع منها حتى الآن ؟؟ ألا يكفي ما عنيته و أعانيه حتى اليوم؟؟ أنا أكرهك يا أروى ... أكرهك و أتمنى أن تختفي من حياتي... أكرهك ... أكرهك ... ألا تفهمين ؟؟ "

رميت الاثنين بنظرة أخيرة ملؤها الغضب... أروى مستندة إلى الحائط في ذهول رهيب... أشبه بلوحة مذعورة... و وليد عند أسفل عتبات الدرج تتملكه الدهشة و المفاجأة...

" لماذا تجبرني على العيش معها يا وليد ؟؟ لماذا ؟؟... إن كنت تحبّها فأنا أكرهها... و أكرهك أنت أيضا... و لا أريد العيش معكما... أنتما تتعسان حياتي... أكرهكما سوية... أعدني لخالتي... أعدني لخالتي... يا وليـــــــــــــــــد "

فجرت هذه الجملة و انطلقت مسرعة نحو غرفتي



عدل سابقا من قبل Black Pearl في الأحد يوليو 31, 2011 6:56 am عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
اللؤلؤة السوداء
القائد "V"
القائد
اللؤلؤة السوداء


عدد المساهمات : 186
النقاط : 10340
التقييم : 5
تاريخ التسجيل : 21/07/2011
العمر : 38

رواية انت لي - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: رواية انت لي   رواية انت لي - صفحة 2 Emptyالأحد يوليو 31, 2011 7:14 am


* * الحلقة الأربعون * *






~ مُفترق الطرق ~







وقفتُ عند أسفل عتبات السلّم... مأخوذا بهول ما سمعتُ... مشلول الإرادة...
اختفتْ رغد بعدما صرختْ في وجهي ( أكرهكَ يا بليد )
إن أذني ّ لم تسمعا... إنما هو قلبي الذي اهتز بعنف بعد الصدمة...

التفتُ إلى الوراء بجهد فرأيتُ أروى تقف ملتصقة بالجدار محملقة بي تكاد بنظراتها تثقبُ عيني ّ فيما تعبيرات الذهول طاغية على وجهها الملوّن...

كانتْ أمسية جميلة و قد استمتعتُ فيها مع سيف و طفله... ثم سهرتُ مع أروى نشاهد مسرحية فكاهية رائعة... كان كل شيء رائعا قبل قليل...
لماذا يا رغد ؟
لماذا ؟؟

" وليد "

الحروف خرجتْ متقطّعة من فم أروى المصعوقة بما سمعتْ... و بالتأكيد تريد الآن أن تسمع من جديد...

" وليد... وليد... ماذا قالتْ رغد ؟؟ "

ركّزتُ نظري في أروى ... و لم أرد...

أروى اقتربتْ منّي خطوة بعد خطوة ببطء ... كأن قدميها قد ثقلتا فجأة و ما عادتْ بقادرة على رفعهما
و لما صارتْ أمامي أبعدتُ نظري عن عينيها... فقد كانتْ نظراتها قوية جدا... و مركزة جدا إلا أنها سرعان ما مدّتْ يدها إلي و سألتْ :

" وليد ... أنت َ ... أنت َ ... من... قتل عمّار ؟؟ "

سماع اسمه أجبر عينيّ على العودة فورا إلى عينيها المذهولتين

" وليد ...؟؟ أنت ...!! "

أجبتُ أخيرا :

" نعم ... أنا من قتل عمار القذر... ابن عمّك "

أروى رفعتْ يدها بعيدا ثم وضعتْها على فمها و شهقتْ بقوة.. و تجمّدتْ اللحظة ساعة أو عاما أو حتى قرنا من الزمان...

لم أحس إلا بقطرات العرق تسيل على جسمي... و بالحرارة تنبعثُ منه...
و لم استطع تحرير بصري من قيد عينيها...
بدأتْ الآن تهزّ رأسها في عدم تصديق و دهشة ما مثلها دهشة...

" لا ... لا أصدّق ! وليد !"

و التقطتْ بعض أنفاسها و تابعتْ :

" كل... هذا الوقت... و أنتَ ... تخفي عنّي ؟؟ لا أصدّق ! "

و مرّة أخرى حرّكتْ يدها نحوي و أمسكتْ بكتفي

" غير صحيح ! وليد أنتَ ... تمزح "

قلتُ بحزم :

" قتلتُه و دخلتُ السجن... و لستُ نادما... هذه هي الحقيقة... هل عرفت ِ الآن ؟ "

ابتعدتْ أروى عنّي و هي تهتفُ :

" لا ... لا ... "

ثم توقفتْ فجأة و استدارتْ إليّ و قالتْ :

" لماذا ؟؟ لماذا قتلته ؟ "

قلتُ مباشرة :

" لأنه يستحق الموت... الحيوان... القذر... الحقير... "

عادتْ تسأل مندهشة مبحوحة الصوت :

" لماذا ؟ "

جوابي كان بضربة سددتُها إلى سياج السلم الخشبي كدتُ معها أن أحطّمُه...

أروى كررتْ :

" لماذا ؟ أخبرني "

و لما لم أجبها أقبلتْ نحوي مجددا و أمسكتْ بذراعي ّ الاثنتين و هتفتْ :

" أخبرني لماذا ؟؟ لماذا ؟؟؟ "

صرخت ُ بانفعال :

" لأنه حيوان... ألا تعرفين معنى حيوان ؟؟ "

أروى تهزُّ رأسها و تقول:

" ماذا تخفي عنّي يا وليد ؟؟ قلْ لي ؟؟ لماذا أخفيتَ هذا عنّي ؟؟ لماذا لم تخبرني لماذا ؟ "

و بدأتْ دموعها بالانهمار...
شعرتُ بأني أختنق... الهواء من حولي لم يكن كافيا لملء رئتيّ... أبعدتُ يديها عني و أوليتُها ظهري و سرتُ متجها نحو مدخل المنزل...

نادتني أروى:

" إلى أين تذهب ؟؟ لا تدعني هكذا يا وليد... قل لي ما الذي تخفيه عنّي ؟؟"

لم أجبها فقد كنتُ من الضيق و الغضب ما يكفي لأن أدمّر مدينة بكاملها...

" وليد إلى أين ؟ "

صرختُ :

" دعيني و شأني يا أروى "

و أسرعتُ نحو الباب و غادرتُ المنزل...

الساعة آنذاك كانتْ منتصف الليل... و لم أكن لأغادر المنزل في مثل هذا الوقت لو أن الضيق لم يصل بي إلى حد الاختناق...
كنتُ أريد أن أهدأ بعيدا...
أعيد عرض الشريط و أركز فيما حصل...
استوعب الحدث و أفكر فيه...

توجهتُ نحو البحر...أرفس رماله و أرجم أمواجه إلى أن أفرغتُ ما في صدري من ثورة في قلبه... و لو كان يتكلم لصرخ صرخة تصدعتْ لها كواكب المجرة من فرط الألم...

و كإنسانٍ مجردٍ من أي اعتبارات... على سجيته و فطرته... أطلقتُ العنان لدموعي... و بكيتُ بألم...
تفقدتُ ساعتي فلم أجدها و تحسستُ جيوبي بحثا عن هاتفي فلم أعثر سوى على سلسلة مفاتيحي... السلسلة التي أهدتني إياها رغد ليلة العيد...
لا أدري كم من الوقت مضى و لكني لمحتُ أول خيوط الفجر يتسلل عبر عباءة السماء...

عندما وصلتُ إلى المنزل... وجدتُه يغط في سكون مخيف...
أردتُ أن أتفقد الفتاتين... وجدتُ أروى نائمة في غرفتها و قد تركتْ الباب مفتوحا و المصابيح مضاءة فاستنتجتُ أنها نامتْ بينما كانت تنتظر عودتي...

توجهتُ نحو غرفتي و توقفتُ عند الجدار الفاصل بين بابها و باب غرفة رغد
و استعدتُ ذكرى الليلة الماضية و اشتعل الألم في معدتي...

أديت صلاتي ثم ارتميتُ على سريري و عبثا حاولتُ النوم... لم أنم و لا لحظة واحدة
و عاصرتُ بزوغ الشمس و مراحل سباحتها في كبد السماء ساعة ً ساعة و حمدتُ الله أنه كان يوم إجازة و إلا لتغيبتُ عن العمل من شدة التعب...
لم أفعلْ شيئا سوى التفكير و التفكير...
و عند نحو العاشرة و النصف سمعتُ طرقا على الباب...

" تفضّل "

لقد كانتْ أروى...
و على غير العادة لم نبدأ حديثنا بالتحية...

" هل استيقظتَ ؟ "

سألتني و وجهها يسبح في الحزن...

" بل قولي : هل نمتَ ؟ "

لم تعلق أروى، ثم قالتْ :

" أيمكننا التحدث الآن ؟ "

" تفضلي "

و بالطبع تعرفون عم سنتحدث...

" أريد أن أعرف... تفاصيل مقتل عمار... و لم أخفيتَ الحقيقة عني... و ما علاقة كل هذا برغد ؟ "

تنهدتُ ثم قلتُ :

" هل... سيغير ذلك شيئا ؟ "

أروى قالتْ بسرعة :

" بالطبع... سيغيّر الكثير... "

و لا أدري ما قصدتْ بذلك... و لم يعد يهمني ما قد يحدث.... في نظري الآن... لا شيء يستحق الاهتمام...

" حسنا يا أروى... لقد سبق و أن أخبرتُك بأنني انتظر الوقت المناسب لأطلعكِ على أمر مهم... و لم يعد هناك معنى للصمت بعد الآن "

" إذن ... اخبرني بكل شيء ... "

تنهّدتُ تنهيدة مريرة... خرجتْ من صدري عجوزا واهنة لم تجد ما تتكئ عليه... و سرعان ما هوتْ في أعماق الذكريات...

" قبل أكثر من تسع سنوات... قتلتُ عمار... و دخلتُ السجن... و هناك تعرّفتُ إلى والدك... بمحض الصدفة... و قبل وفاته أوصاني بكِ و بأمكِ خيرا... و ماتَ و هو لا يعرف أنني... من قتل ابن أخيه أو ربما لا يعرف حتّى... أن ابن أخيه قد قُتِل "

كانتْ أروى تصغي إلي باهتمام...

و عندما توقفتُ نظرتْ إلي بتعجب و قالتْ:

" هذا كل شيء ؟ "

قلتُ بضيق باد ٍ :

" نعم "

هزّتْ رأسها استنكارا و قالتْ:

" لا تخفي عنّي شيئا يا وليد... اخبرني بالحقيقة كاملة "

" ماذا تريدين أن تعرفي ؟ "

" لماذا قتلتَ عمّار "

التزمتُ الصمت

" لماذا يا وليد ؟ "

أجبتُ :

" فيم يهمّك ذلك ؟ "

" بالتأكيد يهمني أن أعرف "

قلتُ :

" لم يكن ذلك يهمّك ... سابقا "

صمِت ّ قليلا ثم قلتُ :

" أتذكرين ؟؟ ارتبطت ِ بي و لم تسأليني لِمَ دخلتُ السجن... و من قتلتُ... و لماذا .."

أروى قالتْ :

" لكن... ذلك كان قبل أن أكتشف أن الضحية كان ابن عمّي "

هيجتني الجملة فهتفتُ منفعلا :

" الضحية ؟؟ تقولين عن ذلك الحقير الضحية ؟؟ "

حملقتْ أروى بي ثم انطلق لسانها مندفعاً :

" هذا ما يثير جنوني... لماذا تنعته بالحقير و القذر؟ ماذا فعل؟ ماذا حصل؟ ما الذي كان بينكما؟ و لماذا قتلته؟ "

لم أجب...

" وليد أجبني ؟ "

أشحتُ بوجهي بعيدا... لكنها حاصرتني من كل الجوانب

" لماذا لا تريد أن تجيب يا وليد ؟؟ بدايةً... أنا لا أصدق أنك يمكن أن تقتل رجلاً مهما حصل... فلماذا قتلتَ ابن عمّي ؟ "

قلتُ منفعلا :

" لا تشيري إليه بـ ( ابن عمّي ) فهذا يثير التقزز يا أروى "

" وليد ! "

قلت ُ بصبر نافذ :

" اسمعي يا أروى... لا استطيع أن أفصح عن السبب... لقد قتلتُه و انتهى الأمر... و لستُ نادما... و لن أندم يوما على ذلك... "

ثم استطردت ُ :

" أرجوك ِ يا أروى... أنا متعب للغاية... هذا يكفي الآن "

الحيرة تملكتْ أروى ممزوجةً بالفضول الشديد... و أصرتْ على معرفة المزيد لكنني امتنعتُ عن البوح بالحقيقة...

فجأة سألتْ :

" هل... تعرف رغدُ ذلك ؟ "

و ربما للانفعال الذي ظهر على وجهي استنبطتْ هي الجواب دون أن أنطق...

ثم بدا عليها بعض التردد و قالتْ أخيرا :

" و ... هل ... لثروتي علاقة بذلك ؟ "

نظرتُ إليها مستغربا و سألتُ:

" ثروتك؟؟ ماذا تعنين؟ "

قالت :

" أعني... هل كنتَ تعرف... عن ثروة عمّي قبل زواجنا ؟ "

صُعقتُ من سؤالها... وقفتُ فجأة مذهولا كمن لدغته أفعى...
قلتُ :

" ما الذي تقولينه؟؟ "

أروى وقفتْ بدورها و أفلتتْ أعصابها منطلقة:

" أنا لا أعرف ما الذي أقوله... لا أعرف كيف أفكّر... قبل ساعات اكتشفتُ أن خطيبي هو قاتل ابن عمّي... و أنتَ تخفي عني الحقيقة... و ترفض البوح بشيء... كيف تريدني أن أفكّر يا وليد أنا أكاد أجن ... "

حقيقة لم أرَ أروى بهذه الحالة من قبل...

قلتُ بعصبية :

" لا علاقة لهذا بزواجنا يا أروى... لا تذهبي بأفكارك إلى الجحيم "

صرختْ :

" إذن قل لي الحقيقة "

" أي حقيقة يا أروى بعد ؟؟ "

" لماذا قتلتَ عمار و لماذا أخفيتَ الأمر عنّي ؟؟ و لماذا لا تريدني أن أعرف السبب ؟ "

وضعتُ يدي على جبيني و ضغطت على صدغي ّ حائلا دون انفجارهما...

" لماذا يا وليد ؟ "

صرختُ :

" أرجوك يا أروى... لا تضغطي علي... لا استطيع إخبارك عن الأسباب... "

احمرّ وجه أروى الأبيض غضبا و قالتْ و هي تهمّ بالمغادرة :

" سأعرفُ الأسباب... من رغد إذن "

و انطلقتْ نحو الباب

أبعدتُ يدي عن رأسي فجأة و تركتُه ينفجر صداعا قاتلا... و هتفتُ بسرعة :

" أروى انتظري "

لكن أروى كانت قد غادرتْ الغرفة و لالتصاق غرفتي بغرفة رغد سرعان ما مدّتْ ذراعها و طرقتْ باب رغد و نادتها

أسرعتُ خلفها محاولا منعها

" توقفي يا أروى إيّاكِ "

قلتُ ذلك و أنا أبعدُ يدها عن الباب...

" دعني يا وليد... أريد أن أعرف ما تخفيانه عني... "

جذبتُ أروى بقوة حتى آلمتُها و صرختُ بوجهها :

" قلتُ توقفي يا أروى ألا يكفي ما فعلتِه بالأمس ؟؟ يكفي "

" أنا ؟ ما الذي فعلتُه ؟ "

" ما قلتِه لرغد عن ثروتكِ و عما ننفقه من ثروتكِ... و أنتِ تعلمين يا أروى أنني احتفظ بسجل لكل المصروفات... و أنّ ما أعطيها إياه هو من راتبي أنا و مجهودي أنا... "

هنا فُتِح الباب و أطلتْ منه رغد...
أول ما اصطدمتْ نظراتنا تولّد شرر أعشى عينيّ...
هل رأيتموه ؟؟

حملقنا ببعضنا قليلا... و الطيور على رؤوسنا نحن الثلاثة...

أول ما تكلمتْ رغد قالت بحدة:

" نعم ؟ ماذا تريدان ؟ "

و نقلتْ بصرها بيننا... و لم ننطق لا أنا و لا أروى...

قالتْ رغد:

" من طرق بابي ؟ "

هنا أجابتْ أروى:

" أنا "

سألتْ رغد بغضب:

" ماذا تريدين ؟ "

أروى ترددتْ ثوانٍ لكنها قالت:

" سأسألك سؤالا واحدا "

هنا هتفتُ رادعا بغضب :

" أروى... قلتُ كلا "

التفتتْ إليّ أروى محتجةً :

" و لكن يا وليد "

فصرختُ مباشرة و بصرامة :

" قلتُ كلا ... ألا تسمعين ؟ "

ابتلعتْ أروى سؤالها و غيظها و أشاحتْ بوجهها و انصرفتْ من فورها...
لم يبقَ إلا أنا و رغد... و بضع بوصات تفصل فيما بيننا... و شريط البارحة يُعرض في مخيلتنا... عيوننا متعانقة و أنفاسنا مكتومة...
تراجعتْ رغد للخلف و همّتْ بإغلاق الباب ...

" انتظري "

استوقفتها... لم أكن أريدها أن تبتعد قبل أن أرتاح و لو قليلا...

" ماذا تريد ؟ "

سألتني فقلتُ بلطفٍ و رجاء :

" أن نتحدّث قليلا "

فردتْ بحدة و جفاء :

" لا أريد التحدث معك... دعني و شأني "

و دخلتْ الغرفة و أغلقتْ الباب بهدوء... لكنني شعرتُ به يصفع على وجهي و أكاد أجزم بأن الدماء تغرق أنفي...
جلستُ في الصالة مستسلما لتلاعب الأفكار برأسي تلاعب المضرب بكرة التنس... بعد ذلك رغبتُ في بعض الشاي علّه يخفف شيئا من صداع رأسي...
هبطتُ إلى الطابق السفلي و إلى المطبخ حيث وجدتُ أروى و خالتي تجلسان بوجوم حول المائدة...
حييتُ خالتي و شرعتُ بغلي بعض الماء...

" وليد "

التفتُ إلى أروى... التي نادتني و رأيتُ في وجهها تعبيرات الجد و الغضب...

" أريدُ العود إلى المزرعة "

حملقتُ في أروى غير مستوعبٍ لجملتها الأخيرة هذه... سألتُ :

" ماذا ؟ "

أجابتْ بحزم :

" أريد العودة إلى المزرعة... و فورا "

التفتُ إلى خالتي فهربتْ بعينيها إلى الأرض... عدتُ إلى أروى فوجدتُها تنتظر جوابي

قلتُ :

" ماذا تقولين ؟ "

" ما سمعتَ يا وليد... فهل لا دبّرت أمر عودتنا أنا و أمي الآن ؟؟ و إذا لم تستطع مرافقتنا فلا تقلق. نستطيع تدبير أمورنا في المطار و الطائرة "

عدتُ أنظر إلى خالتي فرأيتُها لا تزال محملقة في الأرض...

" خالتي ... "

التفتتْ إلي فسألتُ :

" هل تسمعين ما أسمع ؟ "

الخالة تنهدتْ قليلا ثم قالتْ :

" نعم يا بني. دعنا نعود لأرضنا فقد طال بعدنا و أضنانا الحنين "

أدركتُ أن الأمر قد تمتْ مناقشتُه و الاتفاق عليه من قِبلهما مسبقا... عدتُ أكلم أروى:

" ما هذا القرار المفاجئ يا أروى... غير ممكن ... تعلمين ذلك "

أروى قالت بحدة :

" أرجوك يا وليد... لستُ أناقش معك تأييدك من عدمه... أنا فقط أعلمك عن قراري و أريد منك شراء التذاكر... "

" أروى !! "

" و هذا قرار نهائي و لا تحاول ثنيي عنه...رجاء ً يا وليد احترم رغبتي ..."

و عبثا حاولتُ ... و باءتْ محاولاتي بالفشل... و أصرتْ أروى و أمها على العودة إلى المزرعة و بأسرع ما يمكن...
تركتُ الماء يغلي و يتبخر و ربما يحرق الإبريق... و خرجتُ من المنزل... لم يكن لدي هدف و لكنني أرت الابتعاد قبل إثارة شجار جديد...
حاولتُ إعادة تنظيم أفكاري و حلولي فأصابني الإعياء من كثرة التفكير...
عندما عدتُ وقت زوال الشمس... كانتْ أروى و خالتي قد حزمتا أغراضهما في الحقائب...

" بالله عليك يا أروى... تعلمين أنه لا يمكنكما السفر... "

قالت :

" لماذا ؟ "

قلتُ :

" تعرفين لماذا... لا يمكن أن... نبقى أنا و رغد بمفردنا "

و كأن كلامي هذا أشعل الجمر في وجهها... إني لم أرَ أروى غاضبة بهذا الشكل من ذي قبل...

" من أجل رغد ؟ لقد انتهينا يا وليد... أنا لم يعد يهمني ما تفعله و ما لا تفعله من أجل رغد... دبر أمورها بعيدا عني... لا علاقة لي بهذه الفتاة من الآن فصاعدا "

و تركتني و غادرتْ المكان...
وقفتُ حائرا غير قادر على التصرف... خاطبتني خالتي آنذاك :

" دعنا نذهب يا بني فهذا خيرٌ لنا "

قلتُ معترضا :

" كيف تقولين ذلك يا خالتي؟؟ تعرفين أن رغد تدرس في الكلية و لا يمكنني العودة بها إلى المزرعة و لا البقاء معها هنا وحيدين... أرجوكِ يا خالتي قدري موقفي... أرجوك ... اقنعي أروى بتغيير قرارها المفاجئ هذا "

لكن خالتي هزتْ رأسها سلبا... و قالتْ:

" ابنتي متعبة يا وليد... لقد لقيَتْ منك و من ابنة عمّك الكثير... رغم كل ما تفعله من أجلك... أنتَ صدمتها بقوة... و صدمتني كذلك... دعنا نعود إلى مزرعتنا نتنفس الصعداء... يرحمك الله "

لم أجرؤ على إطالة النظر في عينيها أكثر من ذلك... و لم أجسر على قول شيء... شعرتُ بالخجل من نفسي و أنا أقف حاملا ذنبي الكبير ...أمام كل ما فعلتْه عائلة نديم لي عبر كل تلك الشهور...
كم أشعر بأنني خذلتهم... و صدمتهم...
لكن...
ألم يكونوا يعرفون بأنني قاتل مجرم خريج سجون؟؟
هل يفرق الأمر فيما لو قتلتُ عمار عما لو قتلتُ غيره ؟؟
هل كان علي أن... أبوح بسري إلى أروى منذ البداية؟؟

كان يوما من أسوأ أيام حياتي... حاولتُ النوم من جديد بلا جدوى... و حاولتُ الذهاب إلى رغد و لم أجرؤ... و حاولتُ التحدث مع أروى فصدتني...

قبل غروب الشمس، ذهبتُ إلى أحد مكاتب شركة الطيران و حجزتُ أربعة تذاكر سفر إلى الشمال...

عدتُ بعد صلاة العشاء حاملا معي طعاما جلبتُه من أحد المطاعم...
كنتُ أشعر بالجوع و التعب و آخر ما أكلته كان بعض المكسرات ليلة أمس... كما و أن أروى لم تعد أي وجبة هذا اليوم...

" أحضرتُ أقراص البيتزا لنا جميعا... دعونا نتناولها فلابد أنكما جائعتان مثلي "

قلتُ ذلك و أنا أضع العلب الأربع على المنضدة في غرفة المعيشة، حيث كانت أروى و الخالة تجلسان و تشاهدان التلفاز...
الخالة ابتسمتْ ابتسامة سطحية أما أروى فلم تتحرك...
فتحتُ علبتِي و اقتطعتُ قطعة من البيتزا الساخنة و قضمتُها بشهية...

" لذيذة... تعالي يا أروى خذي حصّتك "

و مددتُ باتجاهها إحدى العلب... أروى لم تتحرك... فقلتُ مشجعا :

" إنها لذيذة بالفعل "

أتدرون بم ردّتْ ؟

" خذها لابنة عمك... لابد أنها الآن تتضور جوعا و هي حبيسة غرفتها منذ البارحة "

فوجئتُ و اغتظتُ من ردّها... و ما كان منّي إلا أن وضعتُ العلبة على المنضدة مجددا و أعدتُ قطعتي إلى علبتها كذلك...

الجو غدا مشحونا... و حاولتْ خالتي تلطيفه فأقبلتْ نحوي و أخذتْ إحدى العلب... و وضعتها بينها و بين أروى و بدأتْ بالأكل...

أما أروى فلم تلمسها...

حملتُ العلبة الثالثة و قلتُ و أنا أغادر الغرفة:

" نعم... سآخذها إليها "

و لا أدري بم تحدثتا بعد انصرافي...

حالما طرقتُ باب رغد و تحدثتُ إليها :

" أحضرتُ لك ِ قرص بيتزا... تفضلي "

ردتْ علي :

" لا أريد منك شيئا..."

امتصصتُ ردها المر رغما عني، و أجبرتُ لساني على الكلام :

" لماذا يا رغد؟ إلى متى ستصومين؟ هل تريدين الموت جوعا؟ "

و ردّتْ علي :

" أكرم لي من الأكل من ثروة الغرباء "

استفزني ردها فطرقتُ الباب بانفعال و أنا أقول :

" ما الذي تقولينه يا رغد؟ افتحي الباب و دعينا نتحدّث "

لكنها صاحتْ:

" دعني و شأني "

فما كان منّي إلا الانسحاب... مكسور الخاطر...
استلقيتُ على أريكة في الصالة العلوية... وسط الظلام... لا أرى إلا السواد يلون طريقي و عيني و أفكاري...

و مرتْ الساعة بعد الساعة... و الأرق يأكل رأسي... و الإجهاد يمزق بدني و الجوع يعصر معدتي... و يهيج قرحتي... و لم يغمضْ لي جفن أو يهدأ لي بال...

بعد سكون طويل سمعتُ صوت أحد الأبواب ينفتح...
لابد أنها رغد... إذ أن أروى و الخالة تنامان في غرفتين من الناحية الأخرى من المنزل، بعيدتين عن الصالة و عن غرفتينا أنا و رغد...
أصغيتُ السمع جيدا... شعرتُ بحركة ما... فقمتُ و حثثتُ الخطى نحو غرفة رغد...
رأيتُ الباب مفتوحا و يبدو أنها قد غادرتْ قبل ثوان...

وقفتُ عند الباب منتظرا عودتها... و أنا بالكاد أحملُ جسدي على رجلي... و استندُ إلى الجدار الفاصل فيما بين غرفتينا ليمنحني بعض الدعم...
كنتُ بحاجة لأن أراها و أكلمها و لو كلمة واحدة... عل ّ عيناي تأذنان بإسدال جفونهما...

بعد قليل أقبلتْ رغد...
و انتفضتْ حالما رأتني... و كذلك أنا... تشابكتْ نظراتنا بسرعة... و انفكّت بسرعة!

رغد كانتْ تحمل قارورة مياه معدنية... و كانت ترتدي ملابس النوم... و بدون حجاب...

أبعدتُ نظري عنها بتوتر و أنا أتنحنح و أستديرُ نحو باب غرفتي و افتحه و أخطو إلى الداخل... على عجل... و من ثم أغلق الباب... بل و أوصده بالمفتاح !

وقفتُ خلف الباب لبعض الوقت... أتصبّب عرقا و اضطرب نفسا و أتزايد نبضا... و أشدّ و أرخي عضلات فكي في توتر... حتى سمعتُ باب غرفة رغد ينغلق...
و نظرتُ إلى الجدار الفاصل بين غرفتينا... و اعتقد ... إن لم يكن السهر قد أودى بعقلي... أنني رأيتُ رغد من خلاله !

إنني أراها و أشعر بحركاتها... و أحس بالحرارة المنبعثة منها أيضا !

مرتْ دقائق أخرى و أنا لا أزال أشعر بها موجودة حولي... أكادُ أجن... من أجل التحدث معها و الاطمئنان عليها... و لو لدقيقة واحدة...

و لم أستطع تجاهل هذا الشعور...
فتحتُ بابي و خطوتُ نحو بابها و قبل أن يتغلب علي ترددي طرقته بخفة...

" رغد ... "

لم اسمع الجواب... لكني متأكد من أنها لم تنم...

عدتُ و طرقته من جديد :

" رغد... "

و سمعتُ صوتها يجيبني على مقربة... بل إنني كدت ألمسه ! أظنها كانت تهمسُ في الباب مباشرة !

" نعم ؟ "

ارتبكت ُ و تعثرتْ الكلمات على لساني...

" أأأ... إممم ... هل أنت ِ نائمة ؟ أعني مستيقظة ؟ "

" نعم "

" هل... استطيع التحدث معك ؟ "

لم تجب رغد...فحدقتُ النظر إلى الموضع الذي يصدر منه صوتها عبر الباب مفتشا عن كلامها!
أعرف... لن تصدقوني !
لكنني رأيتُه أيضا ...

" ماذا تريد ؟؟ "

أجبت ُ بصوت ٍ أجش :

" أن أتحدّث معكِ... قليلا فقط "

و لم ترد... قلتُ :

" أرجوكِ رغد... قليلا فقط "

و لم تجبْ... فكررتُ بنبرة شديدة الرجاء و اللطف :

" أرجوكِ... "

بعد ثوان انفتح الباب ببطء...
كانتْ صغيرتي تنظرُ إلى الأرض و تتحاشى عيني ّ... أما أنا فكنتُ أفتش عن أشياء كثيرة في عينيها... عن أجوبة لعشرات الأسئلة التي تنخُر دماغي منذ الأمس...
عن شيء ٍ يطمئنني و يسكّن التهيّج في صدري...
و يمحو كلماتها القاسية ( أكرهك يا بليد ) من أذني ّ ....

" أنا آسف صغيرتي و لكن... أود الاطمئنان عليكِ "

ألقتْ رغد عليّ نظرة خاطفة و عادتْ تخبـّئ بصرها تحت الأرض...

" هل أنت ِ بخير ؟ "

أومأت ْ إيجابا... فشعرت ُ ببعض ٍ من راحة ٍ ... ما كان أحوجني إليها...

" هل... يمكننا الجلوس و التحدث قليلا ؟ "

رفعت ْ نظرها إليّ مستغربة، فهو ليس بالوقت المناسب للحديث ... و كنت ُ أدرك ذلك، لكنني كنت ُ غاية في الأرق و انشغال البال و لن يجد النوم لعيني ّ سبيلا قبل أن أتحدث معها...

" أرجوك...فأنا متعب... و أريد أن أرتاح قليلا... أرجوكِ "

ربما خرج رجائي عميقا أقرب إلى التوسل... كما خرج صوتي ضعيفا أقرب إلى الهمس... و تفهّمتْ رغد ذلك و فسحتْ لي المجال للدخول...

توجهت ُ مباشرة إلى الكرسي عند المكتب و جلست ُ عليه... و أشرتُ إليها :

" اجلسي رغد "

فجلستْ هي على طرف السرير...
حاولتُ تنظيم أفكاري و انتقاء الكلمات و الجمل المناسبة و لكن حالتي تلك الساعة لم تكن كأي حالة...
لمحت ُ قارورة الماء نصف فارغة موضوعة على المكتب إلى جواري...

" رغد... ألا تشعرين بالجوع ؟ "

سرعان ما نظرتْ إلي تعلوها الدهشة !
فهو ليس بالموضوع الذي يتوقع المرء أن يدور نقاشٌ طارئ ٌ في منتصف الليل حوله!

قلت ُ بحنان :

" يجب أن تأكلي شيئا قبل أن تنامي... "

عقــّبتْ هي باندهاش :

" أهذا كل شيء ؟؟ "

تأوهت ُ و قلت ُ:

" لا و لكن... أنت ِ لم تأكلي شيئا منذ ليلتين و أخشى أن يصيبك الإعياء يا رغد "

لم تتجاوب معي... فأدرت ُ الحديث إلى جهة أخرى...

" رغد... مهما كان ما قالته أروى... أو مهما كان شعوركِ نحوها... أو حتى نحوي... لا تجعلي ذلك يزعزع من ثقتك... بأن ّ... بأن ّ... "

و تعلقت ْ الكلمات على طرف لساني برهة شعرتُ فيها بالشلل... ثم أتممت ُ جملتي بصوت أجش...

" بأنكِ... كما كنت ِ... و كما ستظلين دائما... صغيرتي التي... التي... "

و تنهدتُ بمرارة...

" التي ... أحبُ أن أرعاها و أهتم بجميع شؤونها مهما كانت... "

نظرت ْ إلي بتمعن و اهتمام... و لكنها لم تعلـّـق...

أضفتُ :

" و كل ما أملك يا رغد... قل ّ أم كثر... هو ملكك ِ أنت ِ أيضا و تحت تصرّفكِ... يا رغد... أنا لا آخذ شيئا من ثروة أروى... إنما استلم راتبا كأي موظف... إنني احتل منصب المدير كما تعلمين... و دخلي كبير... فلا تظني بأنني أحصل على المال دون عناء أو دون عمل... "

رغد قالت فجأة:

" بل أنا من ... يحصل عليه دون عناء و دون عمل... و دون حق و لا مقابل "

ازداد ضيق صدري و لم يعد قادرا حتى على التنهّد...

سألتها بمرارة و أنا أحس بعصارة معدتي تكاد تحرق حبالي الصوتية:

" لماذا يا رغد؟؟ لماذا دائما... تقولين مثل هذا الكلام؟؟ ألا تدركين أنك... تجرحين شعوري؟"

تعبيرات رغد نمّتْ عن الندم و الرغبة في الإيضاح... و لكن لا أعرف لم انعقد لسانها...

قلتُ :

" رغد... أنا ... لطالما اعتنيتُ بكِ... ليس لأن من واجبي ذلك... حتى في وجود والدي ّ رحمهما الله... و حتى و أنت ِ مرتبطة بسامر... و أنت ِ طفلة و أنتِ بالغة و أنت ِ في كل الأحوال و مهما كانت الأحوال... دائما يا رغد... أنتِ صغيرتي التي أريد و لا شيء يبهجني في حياتي أكثر من ... أن اعتني بها... كجزء ٍ لا يتجزأ منّي يا رغد... "

أجهل مصدر الجرأة التي ألهمتني البوح بهذه الكلمات الشجية وسط هذا الظلام الساكن...

تلعثمتْ التعبيرات على وجه رغد... أهي سعيدة أم حزينة؟ أهي مصدقة أم مكذبة؟ لا يمكنني الجزم...

سألتني و كأنها تريد أن تستوثق من حقيقة تدركها... ليطمئن قلبها :

" صحيح... وليد ؟ "

لم أشعر بأن إجابتي من كل هذا البعد ستكون قوية ما يكفي لطمأنتها... وقفتُ... سرتُ نحوها... أراها أيضا بعيدة... أجثو على ركبتيّ... تصبح عيناي أقرب إلى عينيها... تمتد يداي و تمسكان بيديها... ينطق لساني مؤكدا :

" صحيح يا رغد... و رب الكعبة... الذي سيحاسبني عن كل آهة تنفثينها من صدرك بألم... و عن كل لحظة تشعرين فيها باليتم أو الحاجة لشيء و أنا حي على وجه الأرض... لا تزيدي من عذابي يا رغد... أنا لا استطيع أن أنام و في صدرك ضيق و لا أن أهدأ و في بالك شاغل... و لا حتى أن آكل و أنت ِ جائعة يا رغد... أرجوك... أريحيني من هذا العذاب... "

لم أشعر إلا ويدا رغد تتحرران من بين يدي و تمسكان بكتفي ّ

" وليد..."

امتزجتْ نظراتنا ببعضها البعض... و لم يعد بالإمكان الفصل فيما بينها...
عينا رغد بدأتا تبرقان باللآلئ المائية...

قلتُ بسرعة :

" لا تبكي أرجوك "

رغد ربما ابتلعتْ عبراتها في عينيها و سحبتْ يديها و شبكتْ أصابعها ببعضها البعض... ثم طأطأتْ رأسها هاربة من نظراتي...

ناديتُها مرة و مرتين...لكنها لم ترفع عينيها إلي ّ... ولم تجبني...

" رغد... أرجوك... فقط ... قولي لي أنكِ بخير حتى أذهب مرتاحا... أنا بحاجة للنوم... كي أستطيع أن أفكر... لا استطيع التفكير بشيء آخر و أنا... قلق عليك ِ "

أخيرا رغد رفعتْ عينيها و نظرتْ إليّ...

" هل ... أنتِ بخير ؟؟ "

هزّتْ رأسها و أجابت :

" نعم ... بخير "

تنهدتُ ببعض الارتياح... ثم قلتُ :

" جيد... لكن... يجب أن تتناولي بعض الطعام قبل أن تنامي... هل أعيد تسخين البيتزا؟؟"

قالتْ مباشرة :

" لا... لا ..."

قلتُ :

" إذن... تناولي أي شيء آخر قبل أن تنامي... رجاء ً "

نظرتْ إلى الأرض و أومأتْ إيجابا...

تأملتُها برهة عن قرب... ثم وقفتُ و أعدت ُ تأمّلها من زاوية أبعد... و مهما تبعد المسافات... إنها إلى قلبي و كياني أقرب... و أقرب...
أقرب من أن أقوى على تجاهل وجودها و لو لبرهة واحدة...
أقرب من أن أستطيع أن أغفو دون أن أحس بحرارة قربها... في جفوني...
و أقرب من أن أسمح لصدى ( أكرهكَ يا بليد ) بأن... يبعدها عنّي...

قلتُ :

" حسنا صغيرتي... سأترككِ تأكلين و تنامين... "

و خطوتُ نحو الباب... ثم عدتُ مجددا أتأملها... راغبا في مزيد من الاطمئنان عليها... متمسكا بآخر طيف لها... يبرق في عيني ّ...

" أتأمرين بشيء ؟ "

رغد حركتْ عينيها إليّ... ثم قالتْ :

" كلا... شكرا "

فقلتُ :

" بل ... شكرا لك ِ أنتِ صغيرتي... و اعذريني... "

و ختمتُ أخيرا :

" تصبحين على خير "

و غادرتُ غرفتها عائدا إلى غرفتي...

رميتُ أطرافي الأربعة على سريري ناشدا الراحة... لكني لم أحصل حقيقة عليها ... لم تكن جرعة رغد كافية لتخدير وعيي... و لليلة الثانية على التوالي أعاصر بزوغ الفجر و أشهد مسيرة قرص الشمس اليومية تشق طريقها ساعة ً ساعة ... عبر ساحة السماء...





~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~






صحوت ُ من نومي القصير و أنا أشعر بدوار شديد و رجفة في أطرافي... و إجهاد و ضعف عام في عضلاتي... لم استطع التحرك عن موضعي في السرير... لابد أن السبب هو الجوع فأنا لم آكل شيئا منذ ليلة شجاري مع الشقراء... و بالرغم من أن وليد نصحني بالطعام البارحة إلا أنني لم أكن أشعر بأي شهية له

هذا إضافة إلى تأثير السهر و الأرق... اللذين لم يبرحاني مذ حينها...

كلّما حاولتُ الحركة ازداد الدوار... و تسارعتْ خفقات قلبي ... و صعُبَ تنفسي...إنه ذات الشعور الذي داهمني يوم فرارنا حفاة من المدينة الصناعية... و تشردنا جياعا عطشى في البر...
أمن أحد ليساعدني؟ أريد بعض الماء ... أريد قطعة خبز... أكاد أفقد وعيي...!
أغمضتُ عيني و تنفستُ بعمق و حبستُ الهواء بصدري كي أمنع عصارة معدتي من الخروج... و زفرتُ أنّة طويلة تمنيتُ أن تصل إلى مسامع وليد... لكن الجدار الفاصل بيننا بالتأكيد امتص أنيني...

بعد قليل سمعتُ طرقا على الباب... معقول أنه وليد قد سمعني؟ الحمد لله...!

استجمعتُ بقايا قوتي و قلتُ مباشرة:

" ادخل "

لم أكن ارتدي غير ملابس النوم و لكن أي قوة أملك حتى أنهض و أضع حجابي؟؟ لففتُ لحافي حولي عشوائيا و كررتُ:

" ادخل "

انفتح الباب ببطء و حذر...

قلتُ بسرعة مؤكدة :

" تفضل "

بسرعة... أنقذني...
و أنا انظر نحو الباب... بلهفة...
أتدرون من ظهر؟
إنها أروى...
فوجئتُ بها هي تدخل الغرفة...
قالتْ و هي تقفُ قرب الباب :

" أريد أن أتحدّث معك "

أغمضتُ عيني... إشارة إلى أنني لا أريدها... إلى أنني متعبة... إلى أنني لم أكن أنتظرها هي... و لم أكن لأطلب العون منها...

قالتْ :

" هو سؤال واحد أجيبيه و سأخرج من غرفتك "

قلتُ و أنا أزفر بتعب :

" أخرجي "

لكن أروى لم تخرج... فتحتُ عيني ّ فوجدتها تقتربُ منّي أكثر... أردتُ أن أنهض فغلبني الدوار... أشحتُ بوجهي بعيدا عنها... لا أريد أن أراها و لا أريد أن تراني بهذه الحالة...

أروى قالتْ :

" فقط أجيبيني عن هذا السؤال يا رغد... يجب أن تجيبيني عليه الآن... "

لم أتجاوب معها
حلّي عني يا أروى ! ألا يكفي ما أنا فيه الآن ؟؟ إنني إن استدرتُ إليك فسأتقيأ على وجهك الجميل هذا...

" رغد "

نادتني

فأجبتُ بحنق :

" ماذا تريدين منّي ؟ "

قالتْ :

" أخبريني... أتعرفين... لماذا ... قتل وليد عمّار ؟؟ "


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
اللؤلؤة السوداء
القائد "V"
القائد
اللؤلؤة السوداء


عدد المساهمات : 186
النقاط : 10340
التقييم : 5
تاريخ التسجيل : 21/07/2011
العمر : 38

رواية انت لي - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: رواية انت لي   رواية انت لي - صفحة 2 Emptyالأحد يوليو 31, 2011 7:15 am


انتفض جسمي كلّه فجأة... و الخفقات التي كانت تهرول في قلبي صارتْ تركض بسرعة... بأقصى سرعة...
التفت ُ إلى أروى... أو ربما الغرفة هي التي دارتْ و جعلتْ وجهها مقابل وجهي... لست ُ أكيدة...

حملقتْ أروى بي ثم قالتْ :

" تعرفين السبب... أليس كذلك ؟ أنا واثقة..."

هززتُ رأسي نفيا... أريد محو السؤال و محو صورتها و محو الذكريات التي كسرتْ الباب و اقتحمتْ مخيّلتي فجأة ... هذه اللحظة...

قالت أروى:

" بل تعرفين... تصرفاتك و انفعالك يؤكد ذلك يا رغد... أنا واثقة من هذا... لا أعرف لم أنتما مصران على إخفاء الأمر عنّي... لكن... "

هتفتُ :

" كفى..."

أروى قالتْ بإصرار :

" للأمر... علاقة بك ِ أنت ِ... أليس كذلك ؟؟ "

صرخت ُ و أنا أحاول صم أذني ّ عن سماع المزيد... و إعماء عيني عن رؤية شريط الماضي...

" يكفي "

لكن أروى تابعتْ :

" أخبريني يا رغد... يجب أن تخبريني... لماذا قتل وليد عمّار... و ما علاقتكِ أنتِ بهذا ... لماذا صرخت ِ حين رأيت ِ صورته معلقة على جدار المكتب؟؟ و لماذا تنعتانه أنتما الاثنان بالحقير؟؟ ماذا فعل؟؟ ما الذي ارتكبه و جعل وليد... يقتله انتقاما؟؟ أنت ِ تعرفين الحقيقة... أليس كذلك؟؟ من حقي أن أعرف... أخبريني ... "

" كفى... كفى ... كفى ... "

صرختُ و أنا أضغط بيدي كلتيهما بقوة على صدغي ّ محاولة منع الذكرى المريرة الملغومة من الانفجار في رأسي...

آنذاك... ظهر لي وجه عمار في الصورة... نعم... لقد رأيتُه يقترب منّي... رأيتُ يديه تمتدان نحوي... قفزت ُ عن سريري مفزوعة... صرختُ ... رأيت ُ الجدران تتصدع إثر صراخي... رأيتُ السقف ينهار... و الأرض تهتز ... أحسست ُ بعيني تدور ... و الغرفة تدور... و شعرت ُ بيد ٍ ما تمتد ُ نحوي... تحاول الإمساك بي...
إنها... يد عمّار !


" لا... لا... لاااااااااااااا "

على هذه الصرخات انتفضتُ و رميتُ بفرشاة أسناني جانبا و خرجتُ من الحمام مسرعا مبتلعا بقايا المعجون دفعة واحدة و مطلقا ساقي ّ للريح... نحو غرفة رغد...
كان الباب مفتوحا و الصراخ ينطلق عبره... مفزِعا...
اقتحمتُ الغرفة فورا و رأيتُ رغد واقفة عند سريرها ممسكة برأسها بكلتا يديها و تصرخ مذعورة ... فيما أروى واقفة مذهولة إلى جوارها معلقة يديها في الهواء...

" رغد ؟؟ "

هرولتُ باتجاهها مفزوعا طائر العقل ... و رأيتُ يديها تبتعدان فجأة عن رأسها و تمتدان نحوي... و في ثوانٍ... تخطو إلي ّ... و تهوي على صدري... و تطبق علي ّ...

تعثر قلبي الراكض و انزلق أرضا بعنف... جراء الموقف...
كنتُ مذهولا ... لا أعرف و لا أدرك ما يحصل من حولي...

" رغد ؟؟ "

صرخت ُ فزعا... و أنا ألتقطها بين ذراعي فجأة و أضمها إلي ّ و أشعر بصراخها يخترق أضلاع قفصي الصدري...

" بسم الله الرحمن الرحيم... ماذا حصل رغد ...؟ "

حاولت ُ إبعاد رأسها كي أنظر إلى عينيها لكنها غاصتْ بداخلي بعمق ... بقوة و هي تصرخ:

" أبعده عني... أبعده عنـّـي ... أبعده عنـّـي "

ألقيتُ نظرة خاطفة على أروى فرأيتها مجفلة فزعة محملقة بعينيها...

صرختُ :

" ماذا حصل ؟ "

لم تقو َ على الكلام...

صرختُ ثانية :

" ماذا حصل ؟؟ يا أروى؟؟ "

تأتأتْ أروى :

" لا... أدري... "

أبعدتُ رأس رغد عن صدري فلم تقاوم... نظرتُ إلى عينيها أريد أن أسألها عمّا حصل... فإذا بهما تحملقان في الفراغ... و إذا بذراعيها تهويان فجأة على جانبيها... و إذا بها تنزلق من بين يدي...

بسرعة أمسكتُ بها و أنا أصرخ:

" رغد... رغد "

رفعتُها إلى السرير و جعلتُ أخاطبها و أهزها ... لكن عينيها كانتا تبحلقان في اللاشيء... و فجأة دارتا للأعلى و انسدل جفناها من فوقهما...

" رغد... رغد... ما بك ... رغد أجيبيني "

لكنها لم تجب...

صرختُ بانفعال :

" أجيبيني يا رغد... رغد...أرجوكِ... "

و أنا أهزها بعنف محاولا إيقاظها... لكنها... بدت فجأة كالميتة....
تزلزل قلبي تحت قدمي مرتاعا و صرختُ مذهولا:

" يا إلهي... ماتت ْ صغيرتي ماتت ْ ..."

و أنا مستمر في هزّها بعنف دون جدوى...

التفتُ إلى أروى و صرختُ بقوة:

" طبيب... إسعاف... ماء ... افعلي شيئا... احضري شيئا ... تحركي بسرعة "

و أروى واقفة كالتمثال ... متجمدة في فزع ..

صرختُ :

" هيا بسرعة "

تحركتْ أروى باعتباط ... يمينا يسارا حتى إذا ما لمحتْ قارورة الماء تلك على المكتب... أسرعتْ إليها و جلبتها لي
رششتُ الماء على وجه رغد ... بل إنني أغرقتُه و أنا لا أزال أهزها و أضرب خديها بقوة... حتى ورّمتهما....
رغد فتحتْ عينيها فناديتها مرارا لكنها لم تكن تنظر إليّ أو حتى تسمعني... بدتْ و كأنها تسبح في عالم آخر...

" رغد... أتسمعينني؟؟ ردي عليّ... ردي عليّ يا رغد أرجوك... "

و لم تتجاوب معي...
بسرعة قربتُ من فمها قارورة الماء و طلبتُ منها أن تفتحه و تشرب...
رغد لم تحرك شفتيها... بل عادتْ و أغمضتْ عينيها... لكنها لا تزال تتنفس... و لا يزال الشريان ينبض في عنقها بعنف...
أبعدت ُ القارورة و رحت ُ أحرك رأسها يمينا و شمالا بقوة ... محاولا إيقاظها...
و التفتُ إلى أروى آمرا :

" أحضري بعض السكّر "

وقد تفجرتْ فكرة هبوط السكر في بالي فجأة...

أروى حدّقت بي ببلاهة... غير مستوعبة لشيء فهتفتُ:

" السكر يا أروى... بسرعة "

وانطلقتْ أخيرا خارج الغرفة و عادتْ بعد ثوان تحمل علبة السكّر...
كانتْ رغد لا تزال شبه غائبة عن الوعي على ذراعي...
تناولتُ علبة السكر بسرعة و سكبتُ كمية منه داخل القارورة و رججتها بعنف... ثم قرّبتها من رغد مجددا :

" رغد... أتسمعينني؟؟ افتحي فمك..."

لكنها فتحتْ عينيها و نظرتْ إليّ...
رأس رغد كان على ذراعي اليسرى و القارورة في يدي اليمنى... ألصقتُها بشفتيها و قلتُ:

" هيا يا رغد...افتحي فمك "

لم تع ِ رغد كلامي...
رفعت ُ رأسها و فتحت ُ فمها بنفسي... و دلقت ُ شيئا من الشراب فيه...

" اشربي...."

عينا رغد أوشكتا على الإغماض... فهززتها بقوة :

" أوه لا... لا تنامي الآن... أفيقي... اشربي هيا... "

و رفعت ُ رأسها للأعلى أكثر...
حينها وصل الشراب إلى بلعومها فسعلتْ... و ارتد الشراب إلى الخارج...
فتحتْ رغد عينيها و بدا و كأنها استردتْ شيئا من وعيها إثر ذلك...

قربت ُ القارورة من فمها مجددا و قلتُ:

" أتسمعينني يا رغد ؟؟ اشربي... أرجوك..."

سكبتُ كمية أخرى في فمها فابتلعتها رغد فجأة... ثم فجأة رأيتُ المزيج يخرج من فمها و أنفها... و ينسكب مبللا وجهها و ملابسها...

" أوه يا رغد.... كلا... كلا...."

ضممتُها إلى صدري بهلع ... بفزع... بعشوائية... و بانهيار...
كانت طرية كالورقة المبللة...

غمست ُ يدي في علبة السكّر و أخذتُ حفنة منه... و رفعتُها نحو فمها المفغور و نثرتُها فيه... مبعثرا الذرات على وجهها المبلل و على عنقها و ملابسها و في كل مكان من شدّة اضطرابي...

" ابلعيه... أرجوك... أرجوك يا رغد... "

عدتُ و أخذتُ كمية أخرى و حشوتُ فمها بها... و أغلقتُه بيدي... و هي مستسلمة لا تقاوم... و لا تظهر على قسمات وجهها أية تعبيرات...
كأنها تمثال من الورق الذابل...
كانت... كالميتة على ذراعي...
عدتُ أخاطبها فخرج صوتي مبحوحا ممزقا... و كأن حفنة السكر تلك قد انحشرتْ في حنجرتي أنا... و أعطبتْ حبالي الصوتية...

" ابلعيه يا رغد... أرجوك... يجب أن تبلعيه... يا إلهي ماذا جرى لصغيرتي ؟؟ "

أبعدتُ رأس رغد عنّي قليلا... فرأيتُ عينيها نصف مفتوحتين تحملقان في اللاشيء ... و فمها مفتوح تنساب من زاويتيه قطرات اللعاب ممزوجة بحبيبات السكر....
و شيئا فشيئا بدأتْ تحرّك عينيها و فمها و تستعيد وعيها...

" رغد ... "

صحت ُ بلهفة... و أنا أرى عينيها تدوران في الغرفة و من ثم تنظران إلي ّ

" رغد... رغد... هل تسمعينني ؟؟ "

رغد تنظر إلي... إذن فهي تراني... و تسمعني...
فمها أراه يتحرك و يبتلع السكر...

بسرعة تناولت ُ قارورة المزيج تلك و ألصقتُها بفمها مباشرة و قلتُ :

" اشربي ... أرجوك... أرجوك... "

شربتْ رغد جرعة ... و ابتلعتْها... تلتها جرعة أخرى...
أبعدت ُ القارورة و أعدتُ رجها بقوة... ثم قربتُها من شفتيها و طلبتُ منها أن تشرب المزيد...

" اشربي... قليلا بعد يا رغد... هيا ... "

حتى أرغمتُها على شرب المزيج كاملا... و قد تجاوبتْ منقادة و نصف واعية على ذراعي...
و هي على ذراعي... استردّتْ وعيها تدريجيا...
و هي على ذراعي... كانتْ تتنفس بقوة... و اضطراب... و ترتعش كعصفور يحتضر...
و هي على ذراعي... انحدرتْ من عيني دمعة كبيرة... بحجم السنين التي فرقتْ فيما بيننا...
و هي على ذراعي... و أنا ممسك بها بكل قوتي و كل ضعفي... مخافة أن تنزلق من بين يدي... مخافة من أن يبعدها القدر عني... مخافة من أن أفقدها هذه المرة... للأبد...

لقد كانت شبه ميتة بين يدي...
رغد الحبيبة... طفلتي الغالية... منبع عواطفي و مصبها... شبه ميتة... على ذراعي ؟؟

" هل تسمعينني يا رغد ؟ أتسمعينني ؟ "

سألتُها عندما رأيتُها تحدّق بي... بدتْ و كأنها مشوشة و غير قادرة على التركيز... أخذتْ تدور بعينيها على ما حولها... توقفتْ برهة تحملق في أروى... و أخيرا عادتْ إلي...

" أخبريني... هل أنتِ بخير؟؟ أتسمعينني؟؟ أتستطيعين التحدّث؟ ردي عليّ يا رغد أرجوك... "

" وليد... "

أخيرا نطقتْ...

قلتُ بلهفة :

" نعم رغد... أأنت ِ بخير؟؟ كيف تشعرين؟ "

رغد أغمضتْ عينيها بقوة... كأنها تعتصر ألما... ثم غمرتْ وجهها في صدري... و شعرتُ بأنفاسها الدافئة تتخلخل ملابسي... كما أحسستُ بالبلل يمتصه قميصي... من وجهها...

حركتُ يدي نحو كتفها و ربتُ بخفة:

" رغد...؟؟ "

تجاوبتْ رغد معي... أحسستُ بهمسها يصطدم بصدري... لم أميّز ما قالتْ أولا... لكنها حين كررتْ الجملة استطاعتْ أذناي التقاطها ...

" أبعده عنّي... "

توقفتُ برهةً أفتشُ عن تفسيرٍ لما سمعتُ... سألتُها بحيرة و عدم استيعاب :

" أُبعِدُهُ عنكِ ؟؟ "

كررتْ رغد... و هي تغمرُ وجهها أكثر في ثنايا قميصي :

" أَبعدهُ عنّي ... "

قلتُ مستغربا :

" من ؟؟ "

سرتْ رعشة في جسد رغد انتقلتْ إليّ ... نظرتُ إلى يدها الممدودة جانبا فرأيتُها ترتجفُ... و رأيتُها تتحرك نحوي و تتشبثْ بي... كانتْ باردة كالثلج... و أيضا أحسستُ برأسها ينغمسُ في داخلي أكثر فأكثر... ثم سمعتُها تقول بصوتٍ مرتجف واهن:

" عمّار "

آن ذاك... جفلتُ و تصلبتْ عضلاتي فجأة... و تفجرتْ الدهشة كقنبلة على وجهي...
حركتُ يدي إلى رأسها و أدرتُه إليّ... لأرى عينيها... فتحتْ هي عينيها و نظرتْ إليّ...

قلتُ :

" من ؟؟ "

فردّتْ :

" عمار... أبعده عنّي... أرجوك "

اختنق صوتي في حنجرتي بينما ارتجّتْ الأفكار في رأسي...

قلتُ :

" عمــ....مار ؟؟ لكن... "

و لم أقوَ على التتمة...
ماذا جرى لصغيرتي ؟ ما الذي تهذي به ؟؟

قالتْ :

" أبعده... أرجوك "

ازدردتُ ريقي بفزع و أنا أقول :

" أين... هو ؟ "

رغد حركتْ عينيها و نظرتْ نحو أروى... ثم هزتْ رأسها و أغمضتْ عينيها و عادتْ و غمرتْ وجهها في صدري و هي تصيح :

" أبعده عني... أبعده عنّي... وليد أرجوك..."

آنذاك... شعرتُ بأن خلايا جسمي كلها انفصمتْ عن بعضها البعض و تبعثرتْ على أقطار الأرض... و فشلتُ في جمعها...

البقايا المتبقية لي من قوة استخدمتُها في الطبطبة على رغد و أنا أردد :

" بسم الله عليكِ... اهدئي يا رغد... ماذا حل بكِ؟ ...هل رأيتِ كابوسا ؟؟ "

رغد كررتْ مجددا و هذه المرة و هي تبكي و تشدّ ُ الضغط عليّ متوسلة:

" أبعده يا وليد... أرجوك... لا تتركني وحدي... لا تذهب..."

" أنا هنا يا رغد... بسم الله عليكِ... يا إلهي ماذا حصل لكِ ؟ هل تعين ما تقولين؟ "

أبعدتْ رغد رأسها قليلا و وجهتْ نظرها إلى أروى و صاحتْ مجددا:

" أبعده أرجوك... أرجوك... أنا خائفة... "

جُن ّ جنوني و أنا أرى الصغيرة بهذه الحالة المهولة ترتجف ذعرا بين يدي ...
هتفتُ بوجه أروى :

" ماذا فعلت ِ بالصغيرة يا أروى ؟ "

أروى واقفة مدهَشة متجمدة في مكانها تنظر إلينا بارتباك و هلع...

صرخت ُ :

" ماذا فعلت ِ يا أروى تكلّمي ؟ "

ردتْ أروى باضطراب:

" أنا ؟؟ لا شيء... لم أفعل شيئا "

قلت ُ آمرا بصرامة :

" انصرفي الآن ... "

حملقتْ أروى بي مذهولة فكررت ُ بغضب :

" انصرفي هيا ... "

حينها خرجتْ أروى من الغرفة... و بقينا أنا و رغد منفردين... يمتص كل منا طاقته من الآخر...
كانت الصغيرة لا تزال تئن مراعة في حضني... حاولتُ أن أبعدها عنّي قليلا إلا أنها قاومتني و تشبثتْ بي أكثر...
لم استطع فعل شيء حيال ذلك... و تركتُها كما هي...
هدأتْ نوبة البكاء و الروع أخيرا... بعدها رفعتْ رغد رأسها إلي و تعانقتْ نظراتنا طويلا...

سألتُها :

" أأنت ِ بخير ؟ "

فأومأتْ إيجابا...

" كيف تشعرين ؟ "

" برد ... "

قالتْ ذلك و الرعشة تسري في جسمها النحيل...
جعلتُها تضطجع على الوسادة و غطيتها باللحاف و البطانية... و درتُ ببصري من حولي فوجدتُ أحد أوشحتها معلقا بالجوار فجلبتُه...
و أنا ألفّه حول وجهها انتبهتُ لحبيبات السكر المبعثرة على وجهها و شعرها... و ببساطة رحتُ أنفضها بأصابعي...
كان وجهها متورما محمرا من كثرة ما ضربته! أرى آثار أصابعي مطبوعة عليه !...
آه كم بدا ذلك مؤلما... لقد شقّ في قلبي أخدودا عميقا...
أنا آسف يا صغيرتي...سامحيني...

لففتُ الوشاح على رأسها بإحكام مانعا أي ٍ من خصلات شعرها القصير الحريري من التسلل عبر طرفه...

" ستشعرين بالدفء الآن... "

سحبت ُ الكرسي إلى جوار السرير و جلستُ قرب رغد أراقبها...
إنها بخير... أليس كذلك؟
هاهي تتنفس... و هاهما عيناها تجولان في الغرفة... و هاهو رأسها يتحرك و ينغمر أكثر و أكثر في الوسادة...
لابد أنه هبوط السكّر... فقد مرتْ رغد بحالة مشابهة من قبل... لكنها لم تكن تهذي آنذاك...
هل كان كابوسا أفزعها؟؟
هل قالتْ لها أروى شيئا أثار ذعرها؟؟
ماذا حصل؟؟
لابد أن أعرف...

انتظرتُ حتى استرددتُ أنفاسي المخطوفة... و استرجعتُ شيئا من قواي الخائرة... و ازدردت ُ ريقي الجاف إلا عن طعم المعجون الذي لا يزال عالقا به... و استوعبتُ الموقف، ثم خاطبتُ رغد :

" رغد "

التفتتْ رغد إلي ّ فسألتُها:

" ماذا... حصل ؟ "

كنتُ أريد الاطمئنان على وعيها و إدراكها... و معرفة تفسير ما حدث...
رغد نظرتْ إلي ّ نظرة بائسة... ثم قالتْ و صوتها هامس خفيف:

" شعرت ُ بالدوخة منذ استيقاظي... و عندما وقفت ُ أظلمتْ الصورة في عيني ّ و فقدت ُ توازني... "

ثم أضافتْ :

" لم آكل شيئا... أظن أنه السبب "

ثم تنهّدتْ باسترخاء...
قلتُ :

" أهذا كل شيء؟"

قالت :

" نعم "

" و أنتِ الآن... بخير ؟؟ "

أجابتْ :

" نعم... بخير "

تنهدتُ شبه مطمئنا و قلتُ :

" الحمد لله..."

و أضفتُ :

" لقد أفزعتني..."

نظرتْ هي إليّ ثم غضّت بصرها اعتذارا...

قلتُ :

" الحمد لله... المهم أنكِ بخير الآن "

عقبتْ :

" الحمد لله "

سكتُ قليلا و الطمأنينة تنمو في داخلي، ثم استرسلتُ :

" إذن... لم تأكلي شيئا البارحة.. أليس كذلك ؟ "

و لم أرَ على وجهها علامات الإنكار...

قلت ُ معاتبا و لكن بلطف:

" لماذا يا رغد؟ لم تسمعي كلامي... أتريدين إيذاء نفسك؟؟ انظري إلى النتيجة... لقد جعلت ِ الدماء تجف في عروقي هلعا..."

حملقتْ رغد بي لبرهة أو يزيد... ثم نقلتْ بصرها إلى اللحاف بعيدا عنّي... تأسفا و خجلا...
لم يكن الوقت المناسب للعتاب.. لكن خوفي عليها كاد يقتلني... و أريد أن أعرف ما حصل معها...

قلت ُ :

" أحقا هذا كل ما في الأمر ؟ "

عادتْ رغد تنظر إليّ مؤكدة :

" نعم... لا تقلق... أنا بخير الآن "

سألت ُ :

" و أروى... ماذا كانت تفعل هنا ؟ "

أجهل معنى النظرات التي وجهتها رغد نحوي... لكنني رجّحت ُ أنها لا تود الإجابة...
احترتُ في أمري... أردت ُ أن أسألها عما جعلها تشير إليها كـ عمار... و لم أجرؤ...

قلتُ أخيرا... و أنا أهب ُ واقفا :

" حسنا... دعيني أحضر لك ِ شيئا تأكلينه "

و هممتُ بالانصراف غير أن رغد نادتني:

" وليد... "

التفتُ إليها و رأيتُ الكلام مبعثرا في عينيها... لا أعرف ماذا كانت تود القول... غير أنها غيّرت حديثها و قالتْ:

" أنا آسفة "

ابتسمتُ ابتسامة سطحية و قلتُ مشجعا :

" لا عليك "

ابتسمتْ هي بامتنان و قالتْ :

" شكرا لكَ "

و غادرت ُ الغرفة... مطمئن البال نسبيا و اتجهتُ إلى المطبخ...

هناك حضرت ُ الشاي و فتشتُ عن بعض الطعام فوجدت ُ علب البيتزا التي كنتُ قد اشتريتها بالأمس و لم تُمس...
و عدا عن العلبة التي تناولتـْها خالتي ليندا، فإن البقية كما هي
قمت ُ بتسخين أحد الأقراص على عجل... و انطلقتُ حاملا الطعام إلى رغد...

كانتْ على نفس الوضع الذي تركتُها عليه...
جلست ُ على المقعد إلى جوارها و قدّمتُ لها الوجبة

" تفضلي... اشربي بعض الشاي لتدفئي "

جلستْ رغد و أخذتْ تحتسي الشاي جرعةً جرعة... وهي ممسكة بالكوب بكلتا يديها...

" هل تشعرين بتحسّن ؟ "

حركتْ رأسها إيجابا

قلتُ :

" جيّد... الحمد لله... تناولي بعضا من هذه ... لتمنحك بعض الطاقة "

و قربتُ إليها إحدى قطع البيتزا ... فأخذتْها و قضمتْ شيئا منها...

سألتُها :

" أهي جيّدة ؟ لا أعتقد أن طعمها قد تغيّر ؟ "

أتعرفون كيف ردّت رغد ؟؟
لا لن تحزروا... !

فوجئتُ برغد و قد قربتْ قطعة البيتزا ذاتها إلى فمي... تريدُ منّي أن أتذوقها!

اضطربتُ، و رفعتُ يدي لأمسك بالقطعة فأبعدتْ رغد القطعة عن يدي... و عادتْ و قرّبتْها إلى فمي مباشرة !

الصغيرة تريد أن تطعمني بيدها !

نظرتُ إليها و قد علا التوتر قسمات وجهي كما لوّنته حمرة الحرج... و رغد لا تزال معلّقة البيتزا أمام فمي...

أخيرا قلتُ :

" كـُـ... كليها أنت ِ رغد "

و لو ترون مدى الامتقاع و التعبيرات المتعسة التي ظهرت على وجهها !

و إذا بها تقول:

" لا تريد أن تأكل من يدي ؟ "

فاجأني سؤالها في وقت لم أصح ُ فيه بعد من مفاجأة تصرفها... و لا مفاجآت حالتها هذا الصباح...
إنّ شيئا ألمّ بالصغيرة... يا رب... لطفك ...

رفعتُ حاجباي دهشة... و تلعثمتْ الحروف على لساني...

" أأأ... رغد... إنه... أنا... "

رغد... ماذا جرى لك اليوم ؟؟ ماذا أصابك ...؟
أنت ِ تثيرين جنوني... تثيرين فزعي... تثيرين مخاوفي ... تثيرين شجوني و آلامي و ذكريات الماضي...
ماذا دهاك يا رغد ؟؟
بربّك... أخبريني ؟؟

كنتُ على وشك أن أنطق بأي جملة... تمتّ ُ أو لا تمتُ للموقف بصلة إلاّ أن رغد سبقتني و قالتْ منفعلة:

" لكنك تأكل من يدها... أليس كذلك ؟ "

ذهلتُ لجملتها هذه ... أيما ذهول...
رغد لم تبعد يدها بل قربتها مني أكثر .. لا بل ألصقتْ البيتزا بشفتي و نظراتها تهددني...
حملقتُ بها بدهشة و قلق... شيء ما قد حلّ بصغيرتي... ماذا جرى لها ؟ يا الهي...

" رغد... "

لما رأتْ رغد استنكاري... أبعدتْ البيتزا عني، و وجهها شديد الحزن تنذر عيناه بالمطر... و فمها قد تقوس للأسفل و أخذ يرتعش... و رأسها مال إلى الأسفل بأسى و خيبة ما سبق لي أن رأيتُ على وجه رغد شبيها لهما... و بصوت ٍ نافذ الطاقة هزيل متقطّع أقر ب إلى الأنين قالتْ:

" أنت ...لا تريد... أن... تأكل من يدي أنا... أليس... كذلك ؟ "

و هطلتْ القطرة الأولى... من سحابة الدموع التي سرعان ما تكثـّفتْ بين جفنيها...
إنها ليستْ باللحظة المناسبة لأي شرح أو تفسير... أو علة أو تبرير... أو رفض أو اعتراض !

قلتُ مستسلما مشتتا مأخوذا بأهوال ما يجري من حولي:

" لا... لا ليس كذلك ... "

شيئا فشيئا انعكس اتجاه قوس شفتيها... و ارتسمتْ بينهما ابتسامة مترددة واهية... و تسللتْ من بينهما الدمعة الوحيدة مسافرة عبر فيها إلى مثواها الأخير...

نحو فمي ساقتْ رغد قطعة البيتزا ثانيةً... و بين أسناني قطعتُ جزءا منها مضغتُه دون أن أحسّ له طعما و لا رائحة...

اتسعتْ الابتسامة على وجه الصغيرة و سألتني:

" لذيذة ؟ "

قلتُ بسرعة :

" نعم ... "

ابتسمتْ رغد برضا... و كأنها حققتْ إنجازا عظيما...
ثم واصلتْ التهام البيتزا و طلبتْ مني مشاركتها ففعلتُ مستسلما... و أنا في حيرة ما مثلها حيرة من أمر هذه الصغيرة...

كم بدا القرص كبيرا... لا ينتهي...
كنتُ أراقب كل حركة تصدر عن صغيرتي... متشككا في أنها قد استردتْ إدراكها كاملا... الرعشة في يديها اختفتْ... الارتخاء على وجهها بان... الاحمرار على وجنتيها تفاقم... و الأنفاس من أنفها انتظمتْ...
و أخيرا فرغتْ العلبة... لقد التهمنا البيتزا عن آخرها لكن... لم أشعر بأنني أكلتُ شيئا...

في هذه اللحظة أقبلتْ أروى و وقفت عند الباب مخاطبة إياي:

" إنه هاتف مكتبك يا وليد... رن مرارا..."

نقلت ُ بصري بين أروى و رغد... الفتاتان حدقتا ببعضهما البعض قليلا... ثم مدتْ رغد يديها و أمسكتْ بذراعي كأنها تطلب الأمان...
كان الخوف جليا على وجهها ما أثار فوق جنوني الحالي... ألف جنون و جنون...

" رغد !! "

رغد كانت تنظر إلى أروى مذعورة... لا أعرف ما حصل بينهما...

قلتُ مخاطبا أروى :

" انصرفي الآن يا أروى رجاء ً "

رمقتني أروى بنظرة استهجان قوية... ثم غادرتْ...

التفتُ إلى الصغيرة و سألتُها و القلق يكاد يقتلني :

" ماذا حل بكِ يا رغد ؟ أجيبيني ؟؟ هل فعلتْ بك ِ أروى شيئا ؟؟ "

رغد أطلقتْ كلماتها المبعثرة بانفعال ممزوج بالذعر:

" لا أريد أن أراها... أبعدها عني... أنا أكرهها... ألا تفهم ذلك؟؟... أبعدها عني...أرجوك "

لن يفلح أي وصف لإيصال شعوري آنذاك إليكم... مهما كان دقيقا
أخذتُ أطبطب عليها أحاول تهدئتها و أنا المحتاج لمن يهدّئني....

" حسنا رغد... يكفي...أرجوك اهدئي... لا تضطربي هكذا...بسم الله الرحمن الرحيم..."

بعد أن هدأتْ رغد و استقرتْ حالتها العجيبة تلك... لم أجرؤ على سؤالها عن أي شيء... عرضتُ عليها أن آخذها إلى الطبيب، لكنها رفضتْ تماما... فما كان منّي إلا أن طلبتُ منها أن تسترخي في فراشها لبعض الوقت و سرعان ما اضطجعتْ هي و غطّتْ وجهها بالبطانية... ليس لشيء إلا.. لأنها أرادتْ أن تبكي بعيدا عن مرآي...

كنتُ أسمع صوت البكاء المكتوم... و لو دفنته يا رغد تحت ألف طبقة من الجبال... كنتُ سأسمعه !
لكنني لم أشأ أن أحرجها... و أردتُ التسلل خارجا من الغرفة...
وقفت ُ و أنا أزيح المقعد بعيدا عنها بهدوء... و سرتُ بخفة نحو الباب...
فيما أنا على وشك الخروج إذا بي أسمعها تقول من تحت البطانية:

" وليد...أرجوك...لا تخبرها... عما حصل في الماضي... أرجوك "

تسمرتُ في موضعي فجأة إثر سماعي لها... استدرتُ نحوها فرأيتها لا تزال مختبئة تحت البطانية... هروبا من مرآي...

تابعتْ :

" لن احتمل نظرات السخرية... أو الشفقة من عينيها... أرجوك وليد.."

بقيتُ واقفا كشجرة قديمة فقدتْ كل أوراقها الصفراء الجافة في مهب رياح الخريف...
لكن المياه سرعان ما جرتْ في جذوري ... دماء ً حمراء مشتعلة تدفقتْ مسرعة نحو رأسي و تفجرتْ كبركان شيطاني... من عيني ّ...

تبا لك ِ يا أروى...!!

خرجتُ من غرفة رغد غاضبا متهيجا و بحثتُ عن أروى و وجدتُها في الردهة قرب السلّم... ما أن رأتني حتى وقفتْ و أمارات القلق على وجهها صارخة...

قالتْ مباشرة :

" كيف هي ؟ "

و قبل أن تسترد نفسها من الكلام انفجرتُ في وجهها كالقنبلة:

" ماذا فعلت ِ بها ؟ "

الوجوم و الدهشة عليا تعبيراتها و قالتْ مضطربة:

" أنا !! ؟؟ "

قلتُ بصوت ٍ قوي غليظ :

" نعم أنت ِ ... ما الذي فعلته بها ؟؟ أخبريني ؟ "

أروى لا تزال مأخوذة بالدهشة تنم تعبيرات وجهها عن السذاجة أو التظاهر بالسذاجة... و هو أمر أطلق المدافع في رأسي غضبا... فزمجرت ُ :

" تكلّمي يا أروى ما الذي كنت ِ تفعلينه في غرفتها؟؟ ماذا قلت ِ لها تكلّمي "

أروى توتّرتْ و قالتْ مستهجنةْ:

" و ما الذي سأفعله بها ؟؟ لم أفعل شيئا... ذهبت ُ لأسألها عن شيء... إنها هي من كان غير طبيعيا... بدتْ و كأنها ترى كابوسا أو فلما مرعبا... ثم صرختْ.. .لا علاقة لي بالأمر "

قلتُ بغضب :

" عن أي شيء سألتها ؟ "

بدا التردد على أروى فكررتُ بلكنة مهددة:

" عن أي شيء سألتها يا أروى تكلّمي؟؟ اخبرني بالتفصيل.. ماذا قلت ِ لها و جعلتها تضطرب بهذا الشكل؟؟ عم سألتها أخبريني؟ "

" وليد ! "

هتفتُ بعنف :

" تكلّمي ! "

شيء من الذعر ارتسم على وجه أروى... من جراء صراخي...

أجابتْ متلعثمة :

" فقط ...سـ... سألتها عن... سبب قتلك عمار... و إخفائك الحقيقة عنّي... و عن ... علاقتها هي بالأمر... "

انطلقتْ الشياطين من بركان رأسي ... كنت ُ في حالة غضب شديد... لم استطع كتمانه أو التغلب عليه...
صرخت ُ في وجه أروى بعنف:

" أهذا كل شيء ؟ "

أجابتْ أروى مذعورة:

" نعم... لا تصرخ بوجهي ... "

لكنني خطوتُ نحوها... و مددتُ يدي و أمسكتُ بذراعها بقوة و ضججتُ صوتي:

" و لماذا فعلتِ ذلك ؟ ألم أحذركِ من هذا ؟ ألم أطلب منكِ ألا تتحدثي معها ؟ لماذا فعلت ِ هذا يا أروى لماذا ؟ "

أطلقتْ أروى صيحة ألم... و حاولتْ تحرير ذراعها منّي... لكنني ضغطتُ بشدة أكبر و أكبر... و هتفتُ بوجهها منفعلا :

" كيف تجرأتِ على هذا يا أروى ؟؟ أنظري ماذا فعلت ِ بالصغيرة... إنها مريضة... ألا تفهمين ذلك ؟؟ إن أصابها شيء ... فستدفعين الثمن غاليا "

صاحتْ أروى:

" اتركني يا وليد ... أنت تؤلمني... "

قلتُ :

" لن أكتفي بالألم... إن حلّ بالصغيرة شيء بسببكِ يا أروى... أنا لا أسمح لأحد بإيذائها بأي شكل... كائنا من كان... و لا أسامح من يسبب لها الأذى أبدا يا أروى...أتفهمين ؟؟ إلا صغيرتي يا أروى... إلا رغد... لا أسامح فيها مس شعرة... أبدا يا أروى أبدا... أبدا... هل فهمت ِ ؟؟ "

و أفلتُّ ذراعها بقسوة مبعدا إياها عنّي بسرعة... لئلا تتغلب علي الشياطين و تدفعني لارتكاب ما لن ينفع الندم بعده على الإطلاق...

كان هذا.. مطلعا تعيسا أسود ليوم جديد أضيفه إلى رصيد أيام حياتي الحزينة المؤلمة... و هو مطلع لم يساوي الكثير أمام ما كان يخبئه القدر... في نهايته.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
اللؤلؤة السوداء
القائد "V"
القائد
اللؤلؤة السوداء


عدد المساهمات : 186
النقاط : 10340
التقييم : 5
تاريخ التسجيل : 21/07/2011
العمر : 38

رواية انت لي - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: رواية انت لي   رواية انت لي - صفحة 2 Emptyالأحد يوليو 31, 2011 7:17 am


* الحلقة الواحدة و الأربعون *



~ الحادث ~



لا يمكن أن يكون هذا هو الرجل الذي ارتبطتُ به ! مستحيل أنه هو وليد ذاته... الرجل الطيب الخلوق المهذب...اللطيف الهادئ... الصبور الحليم... ينقضُّ على ذراعيّ بهذه الوحشية و يصرخ في وجهي بهذه القسوة ؟؟

و لأجل ماذا ؟؟
لا أعرف! ما هو الذنب الخطير الذي ارتكبته و جعلته يثور لهذا الحد؟؟
فقط لأنني سألتُ مدللته الغالية عن سبب قتله لعمار؟؟
ألا يجعلني تصرفه أصرُ أكثر و أكثر على معرفة السبب؟ إذا كان خطيرا لهذا الحد... للحد الذي يوشك معه أن يقطع ذراعي و يحرق وجهي بنار صراخه... فهل أُلام إن ألححتُ على معرفة الحقيقة؟؟

مضتْ بضع ساعات و الهدوء يخيّم على المنزل رغم الشحنات المتضادّة التي تنبعث من رؤوسنا... كنتُ قد لمحتُ وليد يدخل غرفة مكتبه الخاص، و لم أره بعد ذلك... أما المدللة العزيزة فهي لم تغادر غرفة نومها على الأرجح... و لم نجرؤ لا أنا و لا والدتي على الاقتراب منها... و إن كانتْ والدتي تردد بين الفينة و الأخرى:

" ألا يجب أن نطمئن على الفتاة ؟؟ "

استدرتُ إلى أمي بحنق و قلتُ:

" لا تقلقي يا أمي... إنها بخير... لا شيء يصيب تلك المدللة... إنها فقط تمثـّل دور المتعبة حتى تسرق اهتمام وليد "

و عضضتُ على شفتي ّ غيظا...
والدتي لم تعجبها النبرة غير المعتادة في صوتي و كلامي فقالتْ:

" لا يا أروى هداك الله... لا يجب أن يصدر منك ِ أنت العاقلة الناضجة كلامٌ كهذا... كما أنكِ قلتِ بنفسك أنها أصيبتْ بالإغماء لبعض الوقت... "

رددتُ غاضبة :

" تمثيل ! "

والدتي هزّت رأسها استنكارا... فقلتُ منفعلة:

" نعم تمثيل يا أمي... ما عدتُ أصدّق شيئا مما حولي... إنها تؤدي دورها بشكل مذهل... ليستْ أوّل مرّة... تتظاهر بالانهيار و تستميتُ في البكاء حتى يسرع وليد إليها... تريد الاستحواذ على اهتمامه و السيطرة عليه... إنها تحبه يا أمي... ألا تفهمين معنى ذلك ؟؟ تحب خطيبي و تريد سرقته منّي ! "

و لحظتها لم أتمالك نفسي و أخذتُ أبكي... فأقبلتْ أمّي و ضمتني إلى صدرها الحنون و أخذتْ تربتُ عليّ و تواسيني...

و أنا في حضن أمّي لمحتُ كيس المجوهرات الذي جلبته رغد إليّ تلك الليلة تريد دفع ما فيه تعويضا عما صرفته من الأموال... و قد وضعناه كما هو على منضدة مجاورة لإعادته إليها لاحقا... و لا أدري لم تذكّرتُ حينها يوم مررنا من منزل عائلة وليد المحروق ... و أخذتْ رغد تجمع التذكارات منه، و من بينها هذه المجوهرات...و كيف كانت تضمها إلى صدرها بحرقة و تبكي بألم... أذكر أنها آنذاك كانت منهارة جدا... و وسط الدموع التفتتْ إلى وليد و طلبتْ منه أن يضمّها !

ضغطتُ ذراعي ّ حول أمي و أنا أتذكّر كيف ارتمتْ في حضنه هذا الصباح... و كأنّ صدر وليد شيء يخصها و يمكنها الاستلقاء عليه كلّما شاءتْ !
ألا تعرف هذه الفتاة حدودها ؟؟ إن وليد لم يشملني بين ذراعيه بالطريقة التي غلّفها بها صباح هذا اليوم.....

في وقت لاحق من ذلك اليوم المزعج كنتُ مع أمي نشاهد التلفاز علّ الوقت يمضي و الجو يلطُف قليلا...
و لأن وليد لم يظهرْ من الصباح فقد شعرتُ ببعض القلق... تركتُ والدتي في الغرفة و ذهبتُ أتفقده في غرفة مكتبه... أ معقول أنه لا يزال هناك ؟؟
توجهتُ إلى غرفة المكتب بحذر... طرقتُ الباب بهدوء و انتظرتُ قليلا ثم فتحتُه ببطء و أطللتُ برأسي على الداخل
وجدتُ وليد ينام على أحد المقاعد...

ناديتُ و لكن بهدوء :

" وليد ! "

و لم يسمعني، لذا غادرتُ الغرفة و سرتُ عائدة إلى أمي.
هناك في تلك الغرفة وجدت ُ رغد !
كانت واقفة قرب الباب و يبدو أنها كانت على وشك الانصراف
التقتْ نظراتنا فأشاحتْ هي بوجهها عنّي...
تذكرتُ صورتها و هي تشير بنظراتها إليّ و تقول لوليد : (أبعدها عنّي) بينما كانتْ متربعة في حضنه بكل جرأة...أحسستُ بالغيظ الشديد...
و لما أرادتْ الخروج استوقفتها :

" انتظري "

التفتتْ إلي ببرود و قالتْ :

" نعم ؟ "

قلتُ و أنا أشير إلى كيس المجوهرات الموضوع على المنضدة :

" إن كنت ِ تبحثين عن هذا فهو هنا "

رغد نظرتْ إلى الكيس ثم إليّ و ردّتْ:

" لا. لم آتِ من أجل هذا... يمكنك الاحتفاظ به "

قلتُ :

" لماذا أنت ِ هنا إذن ؟ "

أمي أومأتْ لي بأن أسحب سؤالي، لكنّي أكدتُ نظرات الاستجواب على عيني رغد منتظرة ردّها... إنني مملوءة حنقا عليها منذ فترة و اشتعل فتيلي هذا الصباح و لم ينطفىء.
رغد همّت بالانصراف لكنني قلتُ بغضب:

" لم تجيبي على سؤالي؟ "

و بدا أن الجملة قد استفزتها فقالتْ:

" و هل عليّ أن استأذنك ِ للتجوّل في منزلي ؟ "

أجبتُ منفعلة و مطلقة العنان لغيظي :

" لا ! إنّه منزل وليد... زوجي... على أيّة حال... و واقعا لا تملكين فيه غير هذا الكيس "

و أشرتُ إلى كيس المجوهرات ذاك...

أمي هتفتْ رادعة بغضب :

" أروى ! ما هذا الكلام ؟ "

قلتُ مباشرة :

" الحقيقة التي يجب أن تدركها هذه "

رغد كانت تنظر نحوي بذهول... فهي لم تكن للتوقع منّي كلاما كهذا... بل إنني نفسي لم أكن لأتوقعه!
لطالما كنتُ طيبة و متساهلة معها و تحمّلتُ الكثير من سوء معاملتها لي... من أجل وليد...
و أنا متأكدة أنها جاءتْ إلى هنا بحثا عنه! و لكن... متى تدرك هذه المراهقة أن وليد هو زوجي أنا ؟؟
توجهتُ لحظتها نحو كيس المجوهرات و جلبته إلى رغد و أنا أقول:

" إليك ِ أشياؤك... لستُ بحاجة إليها و لديّ أضعاف أضعافها... و ما هو أهم منها يا رغد "

نقلتْ رغد بصرها بيننا نحن الاثنتين... و تحوّل وجهها إلى اللون الأحمر... و بدأتْ عضلات فمها بالتقوس للأسفل... كانتْ على وشك البكاء!
وضعتُ الكيس قرب قدمها و أشحتُ بوجهي عنها منتظرة انصرافها...
سمعتُ صوت يدها تطبق على الكيس... ثم رأيتها تعبر فتحة الباب إلى الخارج فتوغلتُ أنا إلى الداخل و صفعتُ بالباب بقوّة !
سمعت ُ حينها صوت رغد تقول من خلف الباب:

" سأخبر وليد عن هذا "

قلت ُ بغضب و تحدٍ:

" تجدينه في مكتبه ... أسرعي ! "

في الداخل استقبلتني والدتي بنظرات غاضبة و وبختني... أدركُ أن تصرفي كان سيئا لكنني لم أتمالك نفسي بعد كل الذي حدث مؤخرا... و أصبحتْ لدي رغبة مفاجئة في إزاحة رغد عن طريقي...
أمّي أرادتْ اللحاق بها لتهدئة الموقف لكنني عارضتها و قلت ُ:

" لا تقلقي على المدللة... سيتكفّل وليد بذلك ! "


~~~~~~~~~~~~~~~


حملتُ كيس المجوهرات توجهتُ إلى غرفة مكتب وليد... كنتُ قد بحثتُ عنه في أرجاء مختلفة من المنزل و لم أره، و ذهبتُ لسؤال السيدة ليندا عنه حين فاجأتني أروى بموقفها الجديد هذا
حسنا ! تبا لك ِ يا أروى... سترين !
طرقتُ الباب و لم أسمع جوابا، ففتحته و دخلتُ الغرفة. الوقت آنذاك كان وقت غروب الشمس... الغرفة كانتْ تسبح في السواد إلا عن بصيص بسيط يتسلل عبر فتحة صغيرة بين ستائر إحدى النوافذ...
البصيص كان يشقّ طريقه عبر فراغ الغرفة و يقع رأسا على جسم مغناطيسي... طويل... عريض... ضخم... محشور فوق أحد المقاعد !
متأكدة أن البصيص اختار الانجذاب طوعا إليه هو... دونا عن بقية الأجسام... الطويلة العريضة الضخمة... التي تفرض وجودها بكل ثقة في أرجاء هذه الغرفة !
لا أعرف ما الذي دهاني !؟
كنتُ قادمة بمشاعر غاضبة تريد أن تنفجر... و فجأة تحوّلتْ مشاعري إلى نهر دافئ ينجرف طوعا نحو وليد !
أغلقتُ الباب و على هدى النور الخافت سرتُ نحو وليد أحمل الكيس بحذر...
وقفتُ قربه و أنا أشعر بأنه أقرب إليّ من الهواء الذي يلامسني، و من المشاعر التي تختلج صدري...
وضعتُ الكيس جانبا فأصدر صوتا... لكن وليد لم ينتبه له... يبدو أنه نائم بعمق ! و لكن لماذا ينام هنا و بهذا الشكل المتعب و في مثل هذا الوقت؟ كنتُ على وشك أن أهتف باسمه إلا أن هتافا أقوى و أعظم تسلل عبر زجاج نوافذ الغرفة أو جدرانها و ملأ داخلها إصغاء ً و خشوعا

( الله أكبر الله أكبر )

و لم ينتبه وليد لصوت الأذان...
توجهتُ نحو تلك النافذة... و أزحتُ الستائر و فتحتها بهدوء... فاندفع صدى الأذان أقوى و أخشع نحو الداخل... و انتشر النور الباهت في الغرفة...
النافذة تطل على الفناء الخلفي للمنزل، و الذي كانت تستعمره حديقة جميلة في الماضي... تحولتْ إلى صحراء قاحلة خالية إلا من بعض قطع الأثاث و السجاد القديمة التي ركناها هناك عند مجيئنا للمنزل...
أما السماء فقد كانت تودع خيوط الشمس الراحلة... و التي لم تشأ توديع الكون قبل أن ترسل بصيصها الأخير... إلى وليد !
انتهى الأذان و وليد لم يسمعه ... و لم يشعر بحركة شيء من حوله ! قررتُ أخيرا أن أوقظه !
ناديته بضع مرات و بصوتٍ يعلو مرة تلو الأخرى إلى أن سمعني و استيقظ أخيرا !
فتح وليد عينيه و هو ينظر نحو النافذة مباشرة !

قلت ُ :

" صحوة حميدة ! "

وليد مغط ذراعيه و تثاءب ثم قال:

" من ؟ أهذه أنتِ رغد ؟؟ "

أجبتُ :

" نعم "

وليد أخذ يدلّك عنقه قليلا... ربما يشعر بألم بسبب نومه على المقعد ! لا أعرف لم يحبّ وليد النوم على المقاعد ؟؟

قلت ُ :

" لماذا تنام هنا وليد ؟؟ "

أسند وليد رأسه إلى مسند المقعد لبرهة ثم أخذ ينظر إلى ساعة يده:

" كم الساعة الآن ؟؟ "

قلت ُ :

" تقريبا السادسة ! رُفع أذان المغرب قبل قليل فأردتُ إيقاظك ! "

قال وليد :

" آه... هل نمتُ كل هذا !؟ إنني هنا منذ الظهيرة "

ابتسمتُ و قلتُ:

" نوم العافية ! "

وليد فجأة نظر نحوي... ثم أخذ يتلفتْ يمينا و شمالا ... ثم نهض واقفا و هو ينظر نحوي و قال :

" رغد ؟؟! ماذا تفعلين هنا ؟؟ "

و كأنه انتبه للتو أنني موجودة ! و كأنه استيقظ الآن فقط من النوم !

قلت ُ باستغراب :

" أتيتُ لإيقاظك ! وقت الصلاة "

قال :

" و النافذة ؟ "

قلتُ :

" كنتُ أستمع إلى الأذان... و أراقب السماء ! "

وليد حكّ شعر رأسه قليلا ثم سار باتجاهي... حتى صار عند الطرف الآخر من النافذة ثم قال :

" و لكن أين المطر "

استغربتُ و سألت ُ:

" المطر ؟ أي مطر ؟؟ "

قال :

" ألم تقولي أنك كنتِ تراقبين المطر ؟ "

قلتُ :

" أبدا ! قلتُ أنني كنتُ استمع إلى الأذان و أراقب السماء ! أي مطر هذا و نحن في قلب الصيف ! "

قال وليد :

" لم أسمع جيدا "

قلتُ و أنا أبتسم :

" يبدو أنك لا تزال نائما ! "

ابتسم وليد و ألقى نظرة على السماء و مجموعة من العصافير تطير عائدة إلى أعشاشها...

التفت إليّ بعدها و سأل:

" صحيح رغد... كيف أنت ِ الآن ؟ "

و تذكّرت ُ لحظتها الدوخة الذي داهمتي صباحا بسبب الجوع ... و كيف أنه أغشي عليّ بضع دقائق... و انهرتُ بين ذراعي وليد !
و شعرت ُ بطعم السكّر في فمي... فازدرتُ ريقي وأنا أطأطئ رأسي خجلا و أهمس:

" بخير... "

وليد قال :

" جيّد ! و هل تناولت ِ وجبة بعد البيتزا ؟ "

قلت :

" لا "

" سيء ! لماذا رغد ؟ أنت ِ صغيرة و نحيلة و لا تتحملين الجوع لوقت ٍ طويل... تكرر هذا معنا في البر... أتذكرين ؟ "

رفعتُ بصري إليه و ابتسمت ُ... طبعا أذكر ! من ينسى يوما كذلك اليوم ؟؟ و نحن حفاه جياع عطشى مرعوبون و هائمون في البر؟؟
و لكن لحظة ! هل أنا صغيرة لهذا الحد ؟؟

قلت ُ :

" لا تقلق... متى ما شعرتُ بالجوع سأحضّر لي بعض البطاطا المقلية "

ابتسم وليد و قال :

" طبقك ِ المفضّل ! "

اتسعتْ ابتسامتي تأييدا و أضفت ُ:

" و الوحيد ! فأنا لا أجيد صنع شيء آخر ! "

ضحك وليد... ضحكة عفوية رائعة... أطربت ْ قلبي... و كدتُ أنفجر ضحكا من السعادة لولا أنني كتمتُ أنفاسي خجلا منه !

في ذات اللحظة، انفتح باب الغرفة ... التفتنا نحن الاثنان نحو الباب... فوجدنا أروى تطلّ علينا... و لأن الإضاءة كانتْ خافتة جدا... يصعب عليّ كشف تعبيرات وجهها... لم تتحدّث أروى بادئ الأمر، كما ألجم الصمت لسانينا أنا و وليد... بعدها قالت أروى:

" استيقظتَ ؟ جيّد إذن... كنت ُ سأوقظك لتأدية الصلاة "

وليد قال و هو يسير نحو الباب مبتعدا عنّي :

" نعم أروى... نهضت لتوّي "

وصل وليد إلى مكابس مصابيح الغرفة، فأضاءها... الإنارة القوية ضيّقت بؤبؤي عينيّ المركزين على أروى، للحد الذي كادا معه أن يخنقاها !
كانت أروى تنظر نحوي، ثم نقلتْ نظرها إلى وليد...
سمعتُ وليد و الذي صار قربها يهمس بشيء لم تترجمه أذناي... ثم رأيتُ أروى تشيح بوجهها و تغادر الغرفة.
وليد وقف على وضعه لثوان... ثم استدار و هو يتنهّد و قال أخيرا :

" سأذهب إلى المسجد... هل تريدين شيئا أحضره ؟ "

قلتُ و أنا مشغولة البال بفك رموز همسة وليد السابقة :

" كلا... شكرا "

و غادر وليد الغرفة...


~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~


و الآن... الغاضبة هي أروى و هذا دورها! ربّاه ! هل أنتهي من إحداهما لأبدأ مع الأخرى؟؟ إن أعصابي ما كادتْ تستفيق من صدمة الصباح، و ها هي على وشك الاحتراق بحادثة أخرى...
كنتُ أود تلطيف الأجواء و لو قليلا... و الاسترخاء في هواء طلق يزيح عنّي شحنات الصباح القوية... و يطمئنني أكثر إلى أن رغد بخير...
اقترحتُ في تلك الليلة الليلاء أن نخرج في نزهة و نتناول عشاءنا في أحد المطاعم. رغد وافقتْ و الخالة ليندا رحبتْ بالفكرة غير أن أروى ردت بـِ:

" اذهب أنت َ و ابنة عمّك المدللة... و استمتعا بوقتكما... أنا و أمي سنبقى ها هنا "

كنتُ ساعتها مع أروى في غرفتها و قد قدمتُ للتو لأعرض عليها الفكرة... و لمّا سمعتُ ردها حزنتُ و قلت ُ :

" لم يا أروى ؟ والدتك ِ كذلك رحبتْ بالفكرة و بادرتْ بالاستعداد للنزهة "

أبعدت ْ أروى نظرها عنّي هروبا من سؤالي.... لكنني واصلت ُ:

" هيا يا أروى ! دعينا نروّح عن أنفسنا قليلا ! الأجواء خانقة هنا ! "

اعني بذلك المشكلة الأخيرة بيننا أنا و رغد و أروى ...

نظرتْ أروى إليّ و قالتْ:

" كلا و شكرا... لا أريد الذهاب معكم "

صمتُ قليلا ثم قلت ُ:

" أما زلت ِ غاضبة مني ؟؟ "

لم تجب أروى، بمعنى أنها تؤيد هذا...

قلتُ :

" و لم كل هذا ؟ "

قالتْ بعصبية :

" أنتَ تعرف السبب ... فلم تسأل ؟ "

و بدا و كأنها تنتظر الشرارة لتشعل الحريق ! لم أكن أريد أن نبدأ الجدال من جديد بل على العكس... أردتُ أن نجدد الأجواء و نرخي أعصابنا المشدودة منذ يومين...

" ليس بالوقت المناسب لإعادة فتح الموضوع من جديد يا أروى ! "

ردّتْ أروى بعصبية أكبر:

" و من قال أنني أغلقته أصلا؟؟ سيبقى معلقا إلى أن تخبرني بكل الحقائق التي تخفيها عنّي"

كنتُ أقف عند الباب و لما اشتد صوت أروى خشيتُ أن يتسرب إلى آذان أخرى...
دخلتُ الغرفة و أغلقتُ الباب و اقتربتُ منها و قلتُ برجاء:

" لا نريد أن نثير شجارا الآن... أرجوكِ يا أروى... لا استطيع إيضاح المزيد... و لن أفعل ذلك مستقبلا فلا تعاودي الضغط عليّ "

ردتْ أروى مباشرة:

" إلى هذا الحد ؟؟ "

قلتُ مؤكدا :

" نعم . إلى هذا الحد "

ضيّقتْ أروى فتحتي عينيها و قالتْ:

" و رغد ؟؟ "

لم تقلها ببساطة... كانت تحدّق في عينيّ بحدة ثاقبة... كأنها تتوقع رؤية الحقائق تختبئ خلف بؤبؤيهما... بدّلت ُ تعبيرات وجهي إلى الجدية و التحذير و قلتُ و أنا أشير بسبّابتي:

" إياك ِ أن تقتربي منها ثانية ! يكفي ما حصل هذا الصباح... إياك ِ يا أروى "

أروى تأملتْ تعبيراتي برهة ثم أشاحتْ بوجهها و هي تقول:

" اذهب... قبل أن يتأخر الوقت "

قلتُ :

" و هل ستبقين بمفردك ؟ "

" نعم "

قلتُ معترضا :

" لا يريحني ذلك ! "

استدارتْ أروى و قالتْ بلهجة أقرب للسخرية:

" لا تقلق بشأني ! فأنا لا أخاف البقاء منفردة و ليستْ لديّ عقدة من الوحدة ! "

آنذاك... لم أشأ أن أطيل النقاش حرفا زائدا... و غادرتُ غرفتها و ذهبتُ إلى غرفة المعيشة الرئيسية حيث كانتْ رغد و الخالة ليندا تجلسان... قلت ُ :

" هيا بنا "

الخالة ليندا سألتْ:

" أين أروى ؟ "

تنهّدتُ و قلتُ:

" لا تريد الذهاب "

تمتمتْ الخالة بعبارات الاحتجاج ثم قالتْ أخيرا:

" إذن... اذهبا أنتما فأنا لن أتركها وحدها "

نهاية الأمر التفتُ إلى الصغيرة و سألت ُ:

" إذن... أتذهبين ؟ "

و لعلي لن أفلح في وصف التعبيرات التي كانتْ تملأ وجهها و هي تجيبُ :

" نعم ! بالتأكيد "


~~~~~~~~~~


" نعم بالتأكيد ! "

و هل أضيع فرصة رائعة كهذه ؟؟
أنا و وليد نخرج في نزهة ليلية ! نتجول في شوارع المدينة... نتناول الطعام من أحد المطاعم... و نحلّي بكرات البوظة ! تماما كما كنا نفعل في الماضي ! يــــاه ! ما أسعدني !... و تحقق الحلم الذي كان أبعد من الخيال! و قضينا نحو ثلاث ساعات في نزهة رائعة أنا و وليد قلبي فقط و فقط !
أوقف وليد سيارته عند الموقف الجانبي لأحد الجسور المؤدّية إلى جزيرة اصطناعية ترفيهية صغيرة يرتادها الناس للتنزه... و وقفنا أنا و هو على الجسر... عند السياج نتأمل الجزيرة و نراقب أمواج البحر و نتنفس عبقه المنعش... و من حولنا الناس يستمتعون بالأجواء الرائعة ...

" منظر مدهش وليد ! ليتنا أحضرنا معنا آلة تصوير ! "

وليد ابتسم، و أخرج هاتفه المحمول من جيبه و استخدم الكاميرا التابعة له و التقط بعض الصور... ثم دفعه لي كي أتفرج عليها !

" عظيم ! ليتني اقتني هاتفا كهذا ! "

كرر وليد ابتسامته و قال:

" بكل سرور! أبقه معك لتصوري ما تودين الليلة! مع أن الظلام لن يسمح بالكثير"

و مع ذلك التقطتُ بعض الصور الأخرى، و الأهم... صورة مختلسة لوليد التقطتها بحذر دون أن يدري... و قد أبقيتُ الهاتف معي طوال النزهة لئلا يراها! و راودتني فكرة أن أنقلها إلى الحاسوب، ثم أقوم بطباعتها و من ثم أرسمها بيدي... و أعيد إلى مجموعة لوحاتي صورة جديدة لوليد قلبي... عوضا عن تلك التي احترقتْ في منزلنا المنكوب...
آه ! كم أنا سعيدة! و لأنني كنتُ في غمرة لا توصف من البهجة فقد تخليتُ عن جزء من حذري و رحتُ أراقب وليد بلهفة و تمعن و أرصد تحركاته و تعبيرات وجهه بدقة منقطعة النظير... أتمنى فقط ألا يلحظ هو ذلك !
و نحن عند الجسر... و فيما أنا منغمسة في مراقبته... مرت لحظة أغمض وليد فيها عينيه و أخذ يتنفس بعمق... و يزفر الهواء مصحوبا بتنهيدات حزينة من صدره ... كرر ذلك مرارا و كأنه يريد أن يغسل صدره من الهواء الراكد الكئيب فيه !

شعرتُ ببعض القلق فسألتُ :

" ما بك وليد ؟ "

التفتَ إليّ و هو يفتح عينيه و يبتسم و يجيب:

" لا شيء! أريد أن أملأ رئتيّ من هذا النقاء! جميل جدا... كيف تفوّتْ أروى و الخالة شيئا كهذا؟"

إذن... ربما كان يفكّر في أروى ! خذلتني جملته بعض الشيء... ففيما أنا مكرسة نظري و فكري فيه... يشتغل باله بالتفكير بها هي؟؟
مرتْ بذاكرتي صورة أروى و هي تشيح بوجهها عن وليد و تخرج من غرفة مكتبه هذا اليوم...عند المغرب... بدتْ غاضبة... وبدا وليد حينها منزعجا... و كأن بينهما خصام ما... الفضول تملّكني هذه اللحظة و ربما كانتْ الغيرة هي الدافع، فسألت ُ:

" لماذا رفضتْ المجيء معنا ؟؟ هل... هل هي غاضبة؟ "

وليد نقل بصره إلى البحر... و قال بعد قليل :

" نعم... منّي "

لستُ شريرة و لا خبيثة ! لكن... يا إلهي أشعر بسرور غير لائق ! لم استطع كتمه و قلتُ باندفاع فاضح:

" هل أنتما متخاصمان ؟؟ "

التفتَ إلي ّ وليد مستغربا ! لقد كان صوتي و كذلك تعبيرات وجهي تنم عن البهجة !
شعرتُ بالخجل من نفسي فطأطأتُ رأسي نحو الأرض فيما تصاعدتْ الدماء إلى وجنتيّ !
لم أسمع ردا من وليد... فرفعتُ بصري اختلس النظر إليه... فوجدته و قد سبحتْ عيناه في البحر بعيدا عنّي... ثم سمعته يقول :

" تريد العودة إلى لمزرعة "

اندهشتُ ... و أصغيتُ باهتمام مكثف ... وليد تابع:

" مصرة على ذلك و قد فشلتُ في ثنيها عن الأمر... اضطررتُ لشراء التذاكر و موعد السفر يوم الأحد "

ماذا ! عجبا ! قلتُ :

" أحقا ؟ ستتركها تذهب ؟؟ "

وليد أجاب و هو لا يزال ينظر إلى البحر:

" و الخالة كذلك... "

قلتُ مباشرة :

" و أنتَ ؟؟ و أنا ؟ "

التفتَ وليد إليّ و كأن هذه الجملة هي أكثر ما يثير اهتمامه! ركز النظر في عينيّ لحظة ثم قال :

" سنرافقهما طبعا "

صمتُ و علامات التعجب تدور فوق رأسي !!!

قلتُ بعدها :

" نعود للمزرعة ! كلا ! و الكلية ؟ و الدراسة ؟؟ "

وليد تنهد ثم قال :

" سنرافقهما إلى المزرعة ثم نعود... مساء الثلاثاء "

بدأ قلبي يدق بسرعة ... نعود يقصد بها.. أنا و هو ؟؟ أم ماذا ؟؟

خرجتْ الحروف مرتجفة على لساني :

" أأأ ... نـ...ـعود أنا و أنتَ ؟ "

وليد قال :

" نعم "

عدتُ أسأل لأتأكد:

" و ... أروى و أمها... ستظلان في... المزرعة ؟؟ "

وليد قال :

" نعم ! إلى أن تهدأ الأوضاع قليلا "

أتسمعون ؟؟
أنا و وليد وحدنا ... و لا شقراء بيننا !
مدهش ! يا لسعادتي ! تخلـّـصت ُ منها أخيرا
أكاد أطير من الفرح ! بل إنني طرتُ فعلا ! هل ترون ذلك ؟؟

تعبيرات وجهي بالتأكيد كانت صارخة... و لو لم أمسك نفسي آنذاك لربما انفجرتُ ضحكا... لكن وليد مع ذلك سألني و بشكل متردد:

" ما رأيك ؟ "

آه يا وليد أ وَ تسأل عن رأيي ؟
ألا تدرك أنه حلم حياتي يتحقق أخيرا ؟؟
وداعا أيتها الشقراء !

و لئلا أفضح فرحي بهذا الشكل طأطأتُ رأسي و خبأتُ نظري تحت حذاء وليد !
و قلتُ مفتعلة التماسك :

" لا أعرف... كما ترى أنتَ "

وليد عاد يسأل و بشكل أكثر جدية و بعض القلق امتزج بصوته:

" هل تقبلين بهذا كحل مؤقت طارئ... حتى نجد الحل الأنسب ؟ "

قلتُ و أنا لا أزال أدعي التماسك و عدم الانفعال:

" لا بأس "

تحركتْ قدم وليد قليلا باتجاه الجسر... رفعتُ عيني عنها إليه فوجدته وقد عاد يغوص بأنظاره في أعماق البحر... و سمعته يقول:

" سنمر بسامر و أطلب منه العودة معنا... "

تعجبتُ و سألتُ:

" سامر ؟! "

أجاب :

" نعم. طلبتُ منه مرارا أن يأتي للعيش و العمل معنا هنا و قد تكون هذه فرصة جيدة لإقناعه "

سامر من جديد ؟
لا أتخيل أن أعود للعيش معه تحت سقف بيت واحد ثانية ! لا أعرف بأي طريقة سنتعامل... يكفي الحرج الذي عانيناه عندما اضطررتُ للمبيت في شقته أنا و وليد بعد حادث السيارة...
أتذكرون ؟؟
و رغم أني لم أحبذ الفكرة لم أشأ التعليق عليها... و على كل ٍ لا أظن سامر سيرحب بها هو بدوره...
وليد تابع :

" أما الخادمة فسنجعلها تعمل ليلا أيضا و تباتُ في المنزل و نضاعف لها الراتب "

علقتُ :

" يبدو أنك خططتَ لكل شيء! "

استدار وليد إليّ و قال :

" لم أنم الليلة الماضية من شدة التفكير! هذه الحلول المؤقتة حاليا... يمكننا تدبر بعض الأمور الأخرى بشكل أو بآخر... "

قلت ُ :

" و ماذا عن الطعام ؟ "

فأروى و والدتها كانتا تتوليان أمر المطبخ و تعدان الوجبات الرئيسية... و الأطباق الأخرى و التي كان وليد لا يستغني عنها و يمتدحها دائما!

وليد رد :

" لدينا المطاعم "

ابتسمت ُ و قلتُ مداعبة:

" يمكنك الاعتماد عليّ ! البطاطا المقلية يوميا كحل طارئ مؤقت ! "

ابتسم وليد فأتممت ُ :

" لكن لا تقلق! سأشتري كتاب الطهي و أتعلم ابتداء من الغد ! سترى أنني ذكية جدا و أتطور بسرعة "

ضحك وليد ضحكة خفيفة كنتُ أريد أن أختم نزهتي الرائعة بها...
و مع خبر مذهل كخبر سفر الشقراء أخيرا ... أصبحتْ معنوياتي عالية جدا و دبّ النشاط و الحيوية في جسدي و ذهني و ألححتُ على نقل الصور من هاتف وليد إلى جهاز الحاسوب في مكتبه و تنسيقها في تلك الليلة... قبل أن يكتشف صورته من بينها... و رغم أن الليل كان قد انتصف و لم يبقَ أمامي غير ساعات بسيطة للنوم إلى موعد الكلية إلا أنني أنجزتُ الأمر و بدأتُ برسم أولي لوجه وليد بقلم الرصاص على بعض الأوراق...

الساعة تجاوزت الثانية عشر و النصف، و أخيرا انتهيتُ !
كنتُ على وشك النهوض عندما رنّ هاتف وليد و الذي كان معي، موضوعا على المكتب.
و لكن هل يتصل أصحابه به في ساعة متأخرة ؟؟ أتراه لا يزال مستيقظا؟ اعتقد أن الجميع قد خلدوا للنوم !

حملتُ الهاتف و أوراقي و شرعتُ بالمغادرة بسرعة، حينها توقف رنين الهاتف...
واصلتُ طريقي نحو السلّم و في نيّتي المرور بغرفة وليد و إعادة الهاتف إليه إن كان مستيقظا قبل لجوئي إلى فراشي...
و فيما أنا أصعد السلّم عاد الهاتف للرنين... حثثتُ الخطى صعودا لأوصله إلى وليد...
و في منتصف الطريق رأيت ُ جسما يقف على الدرجات ينظر نحوي !
كانت أروى !
توقفتُ ثوانٍ و ألقيتُ عليها نظرة لا مبالية و صعدتُ خطوة جديدة...

و هنا سمعتها تخاطبني :

" أليس هذا هاتف وليد ؟ "

نظرتُ إليها و أجبتُ:

" بلى "

سألتْ :

" و لم هو عندك ؟ "

رمقتها بنظرة تجاهلية و قلتُ:

" سأعيده إليه "

و صعدتُ خطوة بعد...
كانتْ أروى تقف مباشرة في طريق خطواتي... تنحيتُ للجانب قليلا لأواصل طريقي إلا أنها تنحتْ لتعترضني !
نظرتُ إليها و رأيتها تمد يدها إليّ قائلة:

" هاتيه... أنا سأعيده "

توقف الهاتف عن الرنين، يبدو أن المتصل قد يئس من الرد...

أضافت أروى :

" وليد نائم على أية حال... لكنه يستخدمه كمنبّه لصلاة الفجر... سأضعه قرب وسادته "

شعرتُ بالغيظ ! يكفي أن ألقي نظرة على هذه الفراشة الملونة حتى أفقد أعصابي!

قلتُ :

" سأفعل أنا ذلك، بما أن غرفته في طريقي "

فجأة تحوّل لون الفراشة إلى الأحمر الدموي! أروى بيضاء جدا و حين تنفعل يتوهج وجهها احمرارا شديدا !

قالتْ بنبرة غاضبة :

" عفوا؟؟ تقصدين أن تتسللي إلى غرفة زوجي و هو نائم؟؟ من تظنين نفسك؟ "

فوجئتُ من هذا السؤال الذي لم أكن لأتوقع صدوره من أروى ! و المفاجأة ألجمتْ لساني...

أروى قالتْ بانفعال :

" وليد هو زوجي أنا... يجب أن تدركي ذلك و تلزمي حدودكِ "

صعقتُ... عمّ تتحدّث هذه الدخيلة ؟؟ قلتُ بصوت متردد :

" مـ ... ماذا تعنين ؟؟ "

هتفتْ أروى باندفاع :

" تعرفين ما أعني... أم تظنين أننا بهذا الغباء حتى لا ندرك معنى تصرفاتك ؟؟ "

ذهلتُ أكثر و كررتُ :

" ما الذي تقصدينه ؟؟ "

و كأن أروى قنبلة موقوتة انفجرتْ هذه اللحظة ! رمتْ بهذه الكلمات القوية دون تردد و دون حساب !

" لا تدعي البراءة يا رغد ! ما أبرعكِ من ممثلة ! أنتِ ماكرة جدا... و تستغلين تعاطف وليد و شعوره بالمسؤولية تجاهكِ حتى تفعلين ما يحلو لكِ ! دون خجل و لا حدود... لكن... كل شيء أصبح مكشوفا يا رغد... أنا أعرف ما الذي تخططين له... تخططين لسرقة زوجي منّي ! أليس كذلك ؟؟ تستميلين عواطفه بطرقك ِ الدنيئة! أنت ِ خبيثة يا رغد... و سأكشف نواياك ِ السيئة لوليد ليعرف حقيقة من تكونين ! "

ذهلتُ ... وقفتُ كالورقة تعصف بي كلمات أروى... لا تكاد أذناي تصدقان ما تسمعان...
كنتُ أنظر إلى أروى بأوسع عينين من شدّة الذهول... عبستْ أروى بوجهها و ضغطتْ على أسنانها و هي تقول :

" كنتِ تمثلين دور المتعبة هذا الصباح... و مثلتِ دور المريضة ليلة حفلتنا أنا و وليد... و دور المرعوبة ليلة سهرنا أنا و وليد... هنا و في المزرعة و في بيت خالتكِ و في أي مكان... تمثلين أدوار المسكينة لتجعلي عقل وليد يطير جنونا خوفا عليك ِ ! تدركين أنه لا يستطيع إلا تنفيذ رغباتك شعورا منه بالمسؤولية العظمى تجاهكِ! ما أشد دهائكِ و خبثك ِ... لكنني سأخبر وليد عن كل هذا... وإن اضطررتُ لفعل ذلك الآن ! "

كنتُ أمسك بهاتف وليد في يدي اليمنى و بالأوراق في يدي اليسرى... و للذهول الذي أصابني من كلام أروى رفعتُ يدي اليمنى تلقائيا ووضعتها على صدري...
فجأة تحركتْ يد أروى نحوي... و همّتْ بانتزاع الهاتف و هي تقول:

" هاتي هذا "

و كردة فعل تشبثتُ بالهاتف أكثر... فسحبته هي بقوة أكبر... ثم انزلق من بين أيدينا و وقع على عتبات الدرج...
استدرتْ منثنية بقصد التقاطه بسرعة فتحرتْ أروى لمنعي فجأة و اصطدمتْ بي...
حركتها هذه أفقدتني التوازن ... فالتوتْ قدمي و فتحتُ يدي اليسرى بسرعة موقعة بالأوراق أرضا... و مددتها نحو ذراع أروى وتشبثتُ بها طالبة الدعم... الأمر الذي أفقد أروى توازنها هي الأخرى... وفجأة انهرنا نحن الاثنتان متدحرجتين على الدرَج ... و لأنني كنتُ في الأسفل... فقد وقع جسدها عليّ و انتهى الأمر بصرخة مدوية انطلقتْ من أعماق صدري من فرط الألم...


~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~


لأنني نمتُ معظم النهار، لم يستجب النعاس لندائي تلك الليلة و بقيتُ أتقلّب في فراشي لبعض الوقت...
كنتُ استعيد ذكريات النزهة الجميلة التي قضيناها أنا و صغيرتي هذه الليلة و التي أنعشتْ الذكريات الماضية الرائعة في مخيلتي... خصوصا و أن صغيرتي بدتْ مسرورة و مبتهجة بشكل أراحني و وئد خوفي عليها المولود هذا الصباح...
كل شيء كما في السابق... إنها نفس الفتاة التي كنتُ أصطحبها في النزهات باستمرار... في أرجاء المدينة... و أقضي بصحبتها أمتع الأوقات و أطيبها على نفسي !
غير أنها كبرتْ و لم يعد باستطاعتي أن أحملها على كتفيّ كما في الماضي !
كانتْ مهووسة بامتطاء كتفيّ و هي صغيرة و لم تتخلى عن هوسها حتى آخر عهدي بها قبل دخولي السجن...
يا ترى... هل تتذكر الآن؟؟
يا ترى كيف تشعر حين تكون معي و هل أعني لها ما عنيتُ في الماضي؟؟
لا أعرف لِمَ كان طيف رغد يسيطر عليّ هذه الليلة... بالتأكيد... خروجي معها في هذه النزهة هو ما هيّج المكنون من مشاعري القديمة... الأزلية...
جلستُ و توجهتُ إلى محفظتي... و منها استخرجتُ قصاصات الصورة الممزقة لرغد... و عدتُ أركّب أجزاءها كما كانت...

أقسم... بأنني أستطيع تجميعها بالضبط كما كانت و أنا مغمض العينين !

أخذتُ القصاصات إلى سريري و جلستُ و أغمضتُ عينيّ... لأثبت لكم صدق قسمي...
أتحسسها قصاصة ً قصاصة ً... حافة ً حافة ً ... طرفا ً طرفا ً ..
ها أنا ذا انتهيتُ !
فتحتُ عينيّ و نظرتُ إلى الصورة المكتملة و شعرتُ بالسرور! إنها رغد ... و دفتر تلوينها... و أقلام التلوين الجميلة !
يا لي من مجنون !
ما الذي أفعله في مثل هذا الوقت المتأخر بعد منتصف الليل !

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
اللؤلؤة السوداء
القائد "V"
القائد
اللؤلؤة السوداء


عدد المساهمات : 186
النقاط : 10340
التقييم : 5
تاريخ التسجيل : 21/07/2011
العمر : 38

رواية انت لي - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: رواية انت لي   رواية انت لي - صفحة 2 Emptyالأحد يوليو 31, 2011 7:18 am


وضعتُ القصاصات تحت الوسادة و أرخيتُ جفوني... سأنام على صورتكِ يا رغد !
فجأة... صحوتُ على صوتُ جلبة... أشبه بارتطام شيء ما بالأرض... مصحوبة بصراخ قوي !
نهضتُ بسرعة و سمعتُ صوت صرخات متتالية و متداخلة مع بعضها البعض في آن واحد... أسرعتُ للخروج من غرفتي و هرولتُ ناحية مصدر الصراخ...
إنه السلّم...
وصلتُ أعلى عتباته و ألقيتُ نظرة سريعة نحو الأسفل و ذهلتُ !
قفزتُ العتبات قفزا حتى وصلتُ إلى منتصف الدرَج... حيث وجدتُ رغد و أروى جاثيتين على العتبات إحداهما تئن بفزع... و الأخرى تتلوى ألما و تطلق الصرخات...
و مجموعة من الأوراق مبعثرة على العتبات من حولهما...

" ماذا حدث ؟؟ "

سألتُ مفزوعا... و لم تجب أيهما بأكثر من الأنين و الصراخ...

" رغد...أروى ...ماذا حدث ؟؟ "

ردّتْ أروى و هي تضغط على كوعها بألم :

" وقعنا من أعلى السلم "

لم يكن لدي مجال لأندهش... فقد كانتْ رغد تصرخ بألم و تنقل يدها اليسرى بين يمناها و رجلها اليسرى...

قلتُ بسرعة :

" أأنتما بخير ؟؟ "

أروى وقفتْ ببطء و استندتْ إلى الجدار... و أما رغد فقد بقيتْ على وضعها تئن و تصرخ

" رغد هل أنت ِ بخير ؟؟ "

عصرتْ رغد وجهها من الألم فسالتْ الدموع متدفقة على وجنتيها المتوهجتين...

قلتُ :

" رغد ؟؟ "

فأجابتْ باكية متألمة صارخة:

" يدي... قدمي... آه... تؤلماني... لا أحتمل... ربما كسرتا "

أصبتُ بالهلع... أقبلتُ نحوها حتى جلستُ قربها تماما... و سألتُ :

" هذه ؟ "

مادا يدي إلى يدها اليمنى و لكني ما أن قرّبتُ يدي حتى صرختْ رغد بقوة و أبعدتْ يدها عنّي...

" رغد "

هتفتُ بهلع، فردتْ :

" تؤلمني بشدة... آي... لا تلمسها "

فوجهتُ يدي إلى يدها اليسرى :

" و هذه؟ أتؤلمك؟ "

" كلا "

فأمسكتُ بها و أنا أقول:

" إذن... دعيني أساعدكِ على النهوض"

رغد حركتْ رأسها اعتراضا و قالتْ:

" لا أستطيع... قدمي ملتوية... تؤلمني كثيرا... لا أستطيع تحريكها "

و نظرتْ نحو قدمها ثم سحبتْ يدها اليسرى من يدي و أمسكتْ برجلها اليسرى بألم
و كانتْ قدمها ملوية إلى الداخل، يخفي جوربها أي أثر لأي كدمة أو خدش أو كسر...

قلتُ :

" سأحاول لفها قليلا "

و عندما حركتها بعض الشيء... أطلقتْ رغد صرخة قوية ثقبتْ أذني و أوقفتْ نبضات قلبي...
يبدو أن الأمر أخطر مما تصورتُ ... ربما تكون قد أصيبتْ بكسر فعلا...
تلفتُ يمنة و يسرة في تشتت من فكري... كانت أروى متسمّرة في مكانها في فزع... بدأ العرق يتصبب من جسمي و الهواء ينفذ من رئتيّ... ماذا حلّ بصغيرتي ؟؟
التفت ُ إلى رغد بتوتر و قلتُ:

" سأرفعكِ "

و مددتُ ذراعي بحذر و انتشلتُ الصغيرة من على العتبة و هي تصرخ متألمة... و هبطتُ بها إلى الأسفل بسرعة... و أثناء ذلك ارتطمتْ قدمي بشيء اكتشفتُ أنه كان هاتفي المحمول ملقى ً أيضا على درجات السلم...
حملتُ رغد إلى غرفة المعيشة و وضعتها على الكنبة الكبرى... و هي على نفس الوضع تعجز عن مد رجلها أو ثنيها... أما يدها اليمنى فقد كانتْ تبقيها بعيدا خشية أن تصطدم بي...

" رغد... "

ناديتها باضطراب... لكنها كانتْ تكتم أنفاسها بقوة حتى احتقن وجهها وانتفختْ الأوردة في جبينها... و برزتْ آثار اللطمات التي أمطرتها بها صباحا أكثر... حتى شككتُ بأنها آثار جديدة سببها الدرج من شدّة توهجها...
بعدها انفجر نفَس رغد بصيحة قوية قطّعت حبالها الصوتية...

قلتُ مفزوعا :

" يا إلهي... يجب أن آخذك إلى الطبيب "

وقفتُ ثم جثوتُ على الأرض ثم وقفتُ مجددا... خطوتُ خطوة نحو اليمين و أخرى نحو اليسار... تشتتُ و من هول خوفي على رغد لم أعرف ماذا أفعل... أخيرا ركزتْ فكرة في رأسي و ركضتُ في اتجاه غرفتي، أريد جلب مفاتيح السيارة...

عند أول عتبات السلّم كانتْ أروى تقف متسمرة تنم تعبيرات وجهها عن الذعر...!
وقفتُ برهة و أنا طائر العقل و قلتُ باندفاع :

" ماذا حدث ؟ كيف وقعتما؟ ربما انكسرتْ عظامها ... سآخذها إلى المستشفى "

لم أدع لها المجال للرد بل قفزتُ عتبات الدرج قفزا ذهابا ثم عودة... و أنا أدوس عشوائيا على الأوراق المبعثرة عليها دون شعور... ثم رأيتُ أروى لا تزال قابعة في مكانها... فهتفتُ:

" تكلـّمي ؟؟ "

و أنا أسرع نحو غرفة المعيشة... توقفتُ لحظة و استدرتُ إلى أروى و قلتُ:

" و أنتِ بخير ؟ "

أومأتْ أروى إيجابا فتابعتُ طريقي إلى رغد... و لم أشعر بأروى و هي تتبعني...
وجدتُ رغد و قد كوّمت جزء ً من وشاحها لتعضّه بين أسنانها... حين رأتني خاطبتني و الوشاح لا يزال في فمها:

" وليد... سأموت من الألم...آي "

ركعتُ قربها و مددتُ ذراعيّ أريد حملها و أنا أقول:

" هيا إلى الطبيب... تحمّلي قليلا أرجوك "

و عندما أوشكتُ على لمس رجلها دفعتْ يدي بعيدا بيدها و صاحتْ:

" لا... أقول لك تؤلمني... لا تلمسها "

قلتُ :

" يجب أن أحملك ِ إلى المستشفى رغد... أرجوك ِ تحملي قليلا... أرجوكِ صغيرتي "

جمعت ْ رغد القماش في فمها مجددا و عضّت عليه و أغمضتْ عينيها بقوة...
حملتها بلطف قدر الإمكان متجنبا لمس طرفيها المصابين... و استدرتُ نحو الباب... هناك كانت أروى تقف في هلع تراقبنا...

قلتُ :

" هيا... اسبقيني و افتحي لي الأبواب بسرعة "

و هكذا إلى أن أجلستُ الصغيرة على مقعد السيارة الخلفي، ثم فتحتُ بوابة المرآب و انطلقتُ بسرعة...
لحسن الحظ كانت رغد لا تزال ترتدي عباءتها و وشاحها الأسودين، لم تخلعهما منذ خرجنا إلى النزهة أول الليل...
عندما وصلنا إلى المستشفى، استقبلنا فريق الإسعاف بهمة و حملنا رغد على السرير المتحرك إلى غرفة الفحص... كانت لا تزال تصرخ من الألم...

سألني أحد الأفراد :

" حادث سيارة ؟ "

قلتُ :

" لا ! وقعتْ من أعلى السلّم... ربما أصيبت ْ بكسر ما... أرجوكم أعطوها مسكنا بسرعة "

أراد الطبيب أن يكشف عن موضع الإصابة... تحمّلتْ رغد فحص يدها قليلا و لكنها صرختْ بقوة بمجرّد أن وجه الطبيب يده إلى رجلها اليسرى... و يبدو أن الألم كان أشد في الرجل... شجعتها الممرضة و حين همّتْ بإزاحة الغطاء عن رجلها استدرتُ و وقفتُ خلف الستارة...
عادتْ رغد تصرخ بقوة لم أحتملها فهتفتُ مخاطبا الطبيب:

" أرجوك أعطها مسكنا أولا... لا تلمس رجلها قبل ذلك... ألا ترى أنها تتلوى ألما؟؟"

و صرختْ رغد مرة أخرى و هتفتْ:

" وليد "

لم احتمل... أزحتُ الستارة و عدتُ إلى الداخل و مددتُ يدي إلى رغد التي سرعان ما تشبثتْ بها بقوة...

" معكِ يا صغيرتي... تحمّلي قليلا أرجوك "

و استدرتُ إلى الطبيب :

" أعطها مسكنا أرجوك... أرجوك في الحال "

الممرضة كشفتْ عن ذراع رغد اليسرى بهدف غرس الإبرة الوريدية في أحد عروقها... و لمحتْ الندبة القديمة فيها فسألتني :

" و ما هذا أيضا ؟ "

قلتُ غير مكترث:

" حرق قديم...لا علاقة له بالحادث "

و بمجرد أن انتهتْ الممرضة من حقن رغد بالعقار المسكن للألم عبر الوريد، عادتْ رغد و مدتْ يدها إليّ و تشبثتْ بي...

" لا تقلقي صغيرتي... سيزول الألم الآن "

قلتُ مشجعا و أنا أرى الامتقاع الشديد على وجهها المتألم الباكي...
و مضتْ بضع دقائق غير أن رغد لم تشعر بتحسن

" ألم يختفِ الألم ؟ "

سألتها فقالتْ و هي تتلوى و تهز رأسها:

" تؤلمني يا وليد... تؤلمني كثيرا جدا "

خاطبتُ الممرضة :

" متى يبدأ مفعول هذا الدواء ؟ أليس لديكم دواءٌ أقوى ؟؟ "

الطبيب أمر الممرضة بحقن رغد بدواء آخر فحقنته في قارورة المصل المغذي و جعلته يسري بسرعة إلى وريدها...

قلتُ مخاطبا الطبيب :

" هل هذا أجدى ؟ "

قال :

" فعال جدا "

قلتُ :

" إنه ألم فظيع يا دكتور... هل تظن أن عظامها انكسرتْ ؟ "

أجاب :

" يجب أن أفحصها و أجري تصويرا للعظام قبل أن أتأكد "

بعد قليل... بدأتْ جفون رغد تنسدل على عينيها... و صمتتْ عن الصراخ... و ارتختْ قبضتها المتشبثة بي...

نظرتُ إلى الطبيب بقلق فقال :

" هذا من تأثير المخدّر... ستغفو قليلا "

ثم باشر فحص رجل رغد و أعاد تفحص يدها اليمنى... و بقية أطرافها... و عندما انتهى من ذلك، أمر بتصوير عظام رجلَي رغد و يديها و حتى جمجمتها تصويرا شاملا...

" طمئني أيها الطبيب رجاء ً ... هل اتضح شيء من الفحص ؟؟ "

نظر إليّ الطبيب نظرة غريبة ثم سألني و هو يتكلم بصوتٍ منخفض:

" قل لي... هل حقا وقعتْ على درجات السلم ؟ "

استغربتُ سؤاله و بدا لي و كأنه يشك في شيء فأجبتُ :

" نعم... هذا ما حصل"

قال الطبيب :

" كيف ؟ "

قلتُ :

" لا أعرف فأنا لم أشاهد الحادث... و لكن لماذا تسأل ؟ "

قال :

" فقط أردتُ التأكد... فوجهها مكدوم بشكل يوحي إلى أنها تعرضتْ للضرب! و ربما يكون الأمر ليس مجرد حادث "

أثار كلام الطبيب جنوني و غضبي فرددتُ منفعلا :

" و هل تظن أننا ضربناها ثم رميناها من أعلى الدرج مثلا ؟ "

لم يعقّب الطبيب فقلتُ :

" وجهها متورم نتيجة شيء آخر لا علاقة له بالحادث "

تبادل الطبيب و الممرضة النظرات ذات المغزى ثم طلب منها اصطحاب رغد إلى قسم الأشعة.

و لأنني كنتُ هلعا على رغد عاودتُ سؤاله :

" أرجوك أخبرني... هل تبين شيء بالفحص لا قدّر الله ؟ "

رد صريحا :

" لا أخفي عليك... يبدو أن الإصابة في الكاحل بالغة لحد ما... أشك في حدوث تمزق في الأربطة "

ماذا ؟؟ ماذا يقول هذا الرجل ؟؟ تمزّق ؟ كاحل ؟؟ رغد ... !!

تابع الطبيب :

" الظاهر أن قدمها قد التوتْ فجأة و بشدّة أثناء الوقوع... و لديها تورم و رض شديد في منطقة الساق... قد تكون ساقها تعرضت لضربة قوية بحافة العتبة... أما يدها اليمنى فأتوقع أنها كُسِرتْ "

كسر؟؟ تمزق ؟؟ التواء؟؟ تورم؟؟ رض ؟؟ما كل هذا ؟؟ ماذا تقول ؟؟
شعرتُ بعتمة مفاجئة في عيني ّ و بالشلل في أعصابي... يبدو أنني كنتُ سأنهار لولا أن الطبيب أسندني و أقعدني على كرسي مجاور... وضعتُ يدي على رأسي شاعرا بصداع مباغت و فظيع... كأن أحد الشرايين قد انفجر في رأسي من هول ما سمعتُ...
الطبيب ثرثر ببعض جمل مواسية لم أسمع منها شيئا... بقيتُ على هذه الحال حتى أقبلتْ الممرضات يجررن سرير رغد و يحملن معهن صور الأشعة...
الطبيب أخذ الأفلام و راح يتأملها على المصباح الخاص... و ذهبتُ أنا قرب رغد حتى توارينا خلف الستار...
الصغيرة كانت نائمة و بقايا الدمع مبللة رموشها... تمزق قلبي عليها و أمسكتُ بيدها اليسرى و ضغطتُ بقوّة...
كلا يا رغد !
لا تقولي أن هذا ما حدث؟ أنتِ بخير أليس كذلك؟؟ ربما أنا أحلم... ربما هو كابوس صنعه خوفي المستمر عليك و جنوني بك !
رباه...
بعد ثوان ٍ تركتُ رغد و ذهبتُ إلى حيث كان الطبيب مع مجموعة أخرى من الأطباء يتفحصون الأشعة و يتناقشون بشأنها. وقفتُ إلى جانبهم و كأني واحدٌ منهم... أصغي بكل اهتمام لكل كلمة تتفوه بها ألسنتهم، و لا أفقه منها شيئا...
أخيرا التفتََ الطبيب ذاته إليّ فقلتُ بسرعة:

" خير؟؟ طمئني أرجوك ؟ "

قال الطبيب و هو يحاول تهوين الأمر:

" كما توقعتُ... يوجد كسر في أحد عظام اليد اليمنى... و شرخ في أحد عظام الرجل اليسرى و هناك انزلاق في مفصل الكاحل سببه تمزق الأربطة "
و لما رأى الطبيب الهلع يكتسح وجهي أكثر من ذي قبل، أمسك بكتفي و قال:

" بقية الأشعة لم توضح شيئا... الإصابة فقط في اليد اليمنى و الرجل اليسرى، أما الكدمات الأخرى فهي سطحية "

ازدرتُ ريقي واستجمعتُ شظايا قوتي و قلتُ غير مصدّق:

" أنتً... متأكّد ؟ "

قال :

" نعم. جميعنا متفقون على هذا "

و هو يشير إلى الأطباء ممن معنا...

قلتُ و صوتي بالكاد يخرج من حنجرتي واهنا :

" و... هل ... سيشفى كل ذلك ؟ "

قال :

" نعم إن شاء الله. لكن... ستلزمها عملية جراحية... و بعدها ستظل مجبّرة لبعض الوقت "
صُعِقتُ !! لا ! مستحيل !
عملية ؟؟ جبيرة ؟؟ أو كلا ! كلا !
كدتُ أهتف ( كلا ) بانفعال... لكنني رفعتُ يدي إلى فمي أكتم الصرخة... قهرا...
الطبيب أحس بمعاناتي و حاول تشجيعي و تهوين الأمر... لكن أي كارثة حلّتْ على قلبي يمكن تهوينها بالكلمات ؟؟

قلتُ بلا صوت:

" تقول ... عملية ؟ "

رد مؤكدا :

" نعم. ضرورية لإنقاذ الكسور من العواقب غير الحميدة "

أغمضتُ عيني و تأوهتُ من أثر الصدمة... و قلبي فاقد السيطرة على ضرباته... و لما لاحظ الطبيب حالتي سألني بتعاطف :

" هل أنت شقيقها ؟ "

فرددتُ و أنا غير واع ٍ لما أقول:

" نعم.. "

قال :

" و أين والدها ؟ "

قلتُ :

" أنا "

تعجب الطبيب و سأل :

" عفوا ؟ "

قلتُ :

" لقد مات... كلُهم ماتوا... أنا أبوها الآن... يا صغيرتي "

و أحشائي تتمزق مرارة... أنا لا أصدق أن هذا قد حصل... رغد صغيرتي الحبيبة... مهجة قلبي و الروح التي تحركني... تخضع لعملية؟؟
وقفتُ و سرتُ نحو سرير رغد بترنح... يظن الناظر إليّ أنني أنا من تحطمتْ عظامه و انزلقتْ مفاصله و تمزّقتْ أربطته و ما عاد بقادر على دعم هيكله...
اقتربتُ منها... أمسكتُ بيدها اليسرى... شددتُ عليها... اعتصرني الألم... و اشتعلتْ النار في معدتي...و أذابتْ أحشائي...
الطبيب لحق بي و أقبل إليّ يشجعني بكلمات لو تكررتْ ألف مرة ما فلحتْ في لمّ ذرتين من قلبي المبعثر...

قال أخيرا :

" علينا إتمام بعض الإجراءات الورقية اللازمة قبل أخذها لغرفة العمليات "

الكلمة فطرتْ قلبي لنصفين و دهستْ كل ٍ على حدة...
التفتُ إليه أخيرا و قلتُ متشبثا بالوهم:

" ألا يمكن علاجها بشكل آخر؟؟ أرجوك... إنها صغيرة و لا تتحمّل أي شيء... كيف تخضع لعملية؟؟ لا تتحمل... "

و كان الطبيب صبورا و متفهما و عاد يواسيني...

" لا تقلق لهذا الحد... عالجنا إصابات مشابهة و شفيتْ بإذن الله... "

لكن مواساته لم تخمد من حمم القلق شرارة واحدة.
هنا أقبلتْ الممرضة تخاطبه قائلة :

" أبلغنا أخصائي التخدير و غرفة العمليات جاهزة يا دكتور "

الطبيب نظر إليّ و قال :

" توكلنا على الله ؟ "

نقلتُ بصري بينه و بين الممرضة ثم إلى رغد ...

قلتُ :

" صبرا... دعني استوعب ذلك... أنا مصدوم... "

و أسندتُ رأسي إلى يدي محاولا التركيز.... ظلّ الطبيب و الممرضة واقفين بالجوار قليلا ثم تركاني لبعض الوقت، كي استوعب الموقف و أفكر... ثم عادا من جديد...

قال الطبيب:

" ماذا الآن؟ التأخير ليس من صالحها "

ازدردتُ ريقي و أنا ألهث من القلق... ثمّ نظرتُ إلى رغد و قلتُ :

" يجب أن تعرف ذلك أولا... "

كنتُ لا أزال ممسكا بيدها، اقتربتُ منها أكثر و همستُ :

" رغد "

كررتُ ذلك بصوت ميّت... ولم تستجب، فضربتُ يدها بلطف و أنا مستمر في النداء...
فتحتْ رغد عينيها و جالتْ فيما حولها و استقرتْ عليّ... كانت شبه نائمة من تأثير المخدر...

قلتُ بلهفة :

" صغيرتي..."

و شددتُ على يدها... استجابتْ بأن نطقتْ باسمي

قلتُ :

" كيف تشعرين ؟ كيف الألم ؟؟ "

قالتْ و هي بالكاد تستوعب سؤالي :

" أفضل... أشعر به ... لكن أخف بكثير "

قلتُ :

" الحمد لله... سلامتكِ يا صغيرتي ألف سلامة... "

قالتْ :

" سلّمك الله... آه... أشعر بنعاس ٍ شديد جدا وليد... دعنا نعود للمنزل "

لم أتمالك نفسي حينها و تأوهتُ بألم... آه يا صغيرتي... آه... رغد أحسّتْ بشيء... بدأتْ تستفيق و تدرك ما حولها

قالت:

" ما الأمر ؟؟ "

لم أتكلّم ... فنظرتْ نحو الطبيب و الممرضة و اللذين قالا بصوت واحد:

" حمدا لله على السلامة "

ثم تقدّم الطبيب نحوها و بلطف حرّك يدها المصابة و قد زاد تورمها و احمرارها فأنتْ رغد.

قال :

" ألا زالتْ تؤلمك ؟ "

أجابتْ :

" نعم. لكن أخف بكثير من ذي قبل "

قال :

" هذا من تأثير المسكن القوي و لكن الألم سيعود أقوى ما لم نعالجها عاجلا. انظري... لقد تفاقم التورم بسرعة "

رغد نظرتْ إلى يدها ثم إليّ بتساؤل... و لم أعرف بم أجيب و لا كيف أجيب...

" وليد ؟؟ "

ترددتُ ثم قلتُ :

" يبدو...أن الإصابة جدية يا رغد... يقول الطبيب أن لديك كسور و أنكِ بحاجة إلى جراحة "

و لو رأيتم مقدار الذعر الذي اكتسح وجه رغد... آه لو رأيتم !!
جفلتْ جفول الموتى... ثم سحبتْ يدها من بين أصابعي و وضعتها على صدرها هلعا... و كتمتْ أنفاسها قليلا ثم صاحتْ :

" ماذا !!؟؟ "

حاولتُ تهدئتها و أنا الأحوج لمن يهدئني... كانت ردة فعلها الأولى مزيجا من الذعر... و الفزع... و الخوف... و الارتجاف... و النحيب... و الرفض... والبكاء...
و انفعالات يعجز قلب وليد عن تحمّلها و شرحها...
و كانتْ مشوشة التركيز و التفكير بسبب الدواء المخدر و لا أدري إن كانتْ قد استوعبتْ بالفعل الخبر و ما إذا كانتْ تقصد بإرادة ردود فعلها تلك، أم أن الأمر كان وهما صنعه المخدر...؟؟

بعد أن هدأتْ قليلا و أنا ما أزال قربها أكرر:

" ستكونين بخير...لا تخافي صغيرتي... ستكونين بخير بإذن الله"

قالتْ و هي ممسكة بيدي :

" وليد أرجوك.. لا تتركني وحدي "

قلتُ مؤكدا بسرعة :

" أبدا صغيرتي... سأبقى معكِ طوال الوقت و لن أبتعد عن باب غرفة العمليات مترا واحدا... اطمئني"

نظرتْ رغد إليّ بتوسل... فكررتُ كلامي مؤكدا... حينها قالتْ :

" هل نحن في الحقيقة؟؟ هل يحصل هذا فعلا؟؟ هل أنا مصابة و في المستشفى؟؟ "

قلتُ بأسى :

" نعم لكن هوّني عليك يا رغد بالله عليك... قطّعتِ نياط قلبي...أرجوكِ يكفي... الحمد لله على كل حال ... بلاء من الله يا صغيرتي... لا تجزعي..."

ابتلعتْ رغد آخر صيحاتها و حبستْ دموعها و بدأتْ تتنفس بعمق و استسلام...
و بعد قليل نظرتْ إليّ و قالتْ :

" أشعر بنعاس شديد... ماذا حصل لي؟؟ عندما أصحو لا أريد أن أذكر من هذا الكابوس شيئا... أرجوك وليد "

وأغمضتْ عينيها و غابتْ عن الوعي مباشرة...
ناديتها بضع مرات فلم تجبْ... نظرتُ إلى الطبيب فأشار بإصبعه إلى المصل المغذي... ثم قال:

" علينا الاستعجال الآن... "

و بهذا ذهبتُ مفوضا أمري إلى الله و أتممتُ الإجراءات المطلوبة و من ثم تم نقل رغد إلى غرفة العمليات...
بقيتُ واقفا على مقربة التهم الهواء في صدري التهاما...علّه يخمد الحريق المتأجج فيه...
لم يكن معي هاتف و لم أشأ الابتعاد خطوة أخرى عن موقع رغد... وظللتُ في انتظار خروجها أذرع الممر ذهابا و جيئا و أنا أسير على الجمر المتقد... و لساني لا ينقطع عن التوسل إلى الله... إلى أن انتهتْ العملية بعد فترة و رأيتهم يخرجون السرير المتحرك إلى الممر...
لم يكن الطبيب موجودا فلحقتُ بسرعة بالممرضات اللواتي كنّ يقدن السرير و ألقيتُ نظرة متفحصة على وجه رغد...
كانت هناك قبعة زرقاء شبه شفافة تغطي شعرها و قارورتان من المصل الوريدي علّقتا على جانبيها تقطران السائل إلى جسمها...
اقتربتُ منها و أنا أنادي باسمها ففتحتْ عينيها و لا أدري إن كانت رأتني أم لا... ثم أغمضتهما و نامتْ بسلام...
سحبتُ الغطاء حتى غطيتُ رأسها كاملا... و سرتُ معها جنبا إلى جنب إلى أن أوصلتها الممرضات إلى إحدى الغرف... و هناك ساعدتُهن في رفعها إلى السرير الأبيض... و فيما نحن نحملها شاهدتُ الجبيرة تلف يدها و رجلها فكدتُ أصاب بالإغماء من مرارة المنظر...
شعرتُ بتعب شديد... و كأنني حملتُ جبلا حديديا على ذراعي لعشر سنين... و تهالكتُ بسرعة على حافة السرير قرب رغد...
و عندما همّتْ إحداهن بتغيير الغطاء أشرتُ إليها بألا تفعل... و طلبتُ منها أن تلف رأس رغد بوشاحها الأسود...

" متى ستصحو ؟ "

سألتُ بصوت ٍ متبعثر... فأجبنني :

" عما قريب. لا تقلق. من الخير لها أن تبقى نائمة "

سألتُ :

" و أين الطيب ؟ "

أجابتْ إحداهن :

" سيجري عملية طارئة لمريض آخر الآن "

بقيتْ إحدى الممرضات تفحص العلامات الحيوية لرغد و تدون ملاحظاتها لبضع دقائق ثم لحقتْ بزميلتيها خارج الغرفة...

في هذه اللحظة، أنا و صغيرتي نجلس على السرير الأبيض... هي غائبة عن الوعي... و أنا غائب عن الروح... لا أحسّ بأي شيء مما حولي... إلا بصلابة الجبيرة التي أمد إليها بيدي أتحسسها غير مصدّق... لوجودها حول يد طفلتي الحبيبة....
لا شيء تمنيته تلك الساعة أكثر من أن يوقظني أحدكم بسرعة و يخبرني بأنه كان مجرد كابوس...
تلفتُ يمنة و يسرة... ربما بحثا عن أحدكم... و لم يكن من حولي أحد...
لمحتُ هاتفا موضوعا على مقربة... و اشتغلتُ بعض خلايا دماغي المشلولة فأوحتْ إليّ بالاتصال بالمنزل...
وقفتُ و تحركتُ و أنا أجوف من الروح... لا أعرف ما الذي يحركني؟ لا أشعر بأطرافي و لا أحس بثقلي على الأرض... و لا أدري أي ذاكرة تلك التي ذكرتني برقم هاتف منزلي!
ظل الهاتف يرن فترة من الزمن... قبل أن أسمع أخيرا صوت أروى تجيب

" وليد ! أخيرا اتصلت َ؟ أخبرني أين أنتما و كيف حالكما و ماذا عن رغد ؟؟ "

عندما سمعتُ اسم رغد لم أتمالك نفسي...
أجبتُ بانهيار و بصري مركز على رغد :

" أجروا لها عملية... إنها ملفوفة بالجبائر... آه يا صغيرتي... منظرها يذيب الحجر... يا إلهي... "

و أبعدتُ السماعة ... لم أشأ أن تسمع أروى ما زفره صدري...

ثم قربتها و قلتُ :

" سأتصل حينما تستفيق... نحن في مستشفى الساحل... ادعي الله لأجلها معي "

و أنهيتُ المكالمة القصيرة و عدتُ إلى رغد...
و لا زلتُ لله داعيا متضرعا حتى رأيتُ رغد تتحرك و تفتح عينيها ! تهلل وجهي و اقتربتُ منها أكثر و ناديتها بشغف :

" رغد... صغيرتي... "

و أضفتُ :

" حمدا لله على سلامتك ِ أيتها الغالية... الحمد لله "

رغد رفعتْ رأسها قليلا و نظرتْ نحو يدها و سألتْ :

" هل... أجروا لي العملية ؟ "

و قبل أن أجيب كانت قد حركتْ ذراعها الأيمن حتى صارتْ يدها أمام عينيها مباشرة... تحسستْ الجبيرة الصلبة باليد الأخرى... ثم نظرتْ إليّ ...
ثم حاولتْ تحريك رجلها و علامات الفزع على وجهها... ثم سحبتْ اللحاف قليلا لتكشف عن قدمها المصابة و تحدق بها قليلا... و تعود لتنظر إليّ مجددا:

" لا استطيع تحريك رجلي ! وليد... هل أصبتُ بالشلل ؟ أوه لا.... "

إلى هنا و لا استطيع أن أتابع الوصف لكم... عما حلّ بالصغيرة آنذاك...
لقد سبب وجودنا إرباكا شديدا في القسم... و خصوصا للممرضات اللواتي على رؤوسهن وقعتْ مهمة تهدئة هذه الفتاة الفزعة و رفع معنوياتها المحطمة...

كان صراخها يعلو رغم ضعف بدنها... و كل صرخة و كل آهة و كل أنة... أطلقتها رغد... اخترقت قلبي قبل أن تصفع جدران الغرفة...

بجنون ما مثله جنون... تشبثتْ بي و هي تصرخ:

" أريد أمي "

ربما لم تكن رغد تعي ما تقول بفعل المهدئات... أو ربما... الفزع أودى بعقلها... أو ربما يكون الشلل قد أصاب رجلها فعلا...!!
عندما أتى الطبيب و أعطاها دواء ً مخدرا... بدأتْ تستسلم و هي تئن بين يديّ...
الطبيب أكد مرارا و تكرارا أن شيئا لم يصب العصب و أن الأمر لا يتعدى تأثير البنج المؤقت... و أن ردة فعلها هذه شيء مألوف من بعض المرضى... لكن كلامه لم يمنحني ما يكفي من الطمأنينة...

التفتُ إلى رغد التي كانتْ متمسكة بي بيدها اليسرى تطلب الدعم النفسي:

" لا تخافي صغيرتي... ستكونين بخير... ألم تسمعي ما قال الطبيب ؟؟ إنها أزمة مؤقتة و ستستعيدين كامل صحتك و تعودين للحركة و للمشي طبيعيا كما في السابق..."

رفعتْ رغد بصرها إليّ و قالتْ و هي تفقد جزء ً من وعيها:

" هل ... سأصبح معاقة و عرجاء ؟ "

هززتُ رأسي و قلتُ فورا:

" كلا يا رغد... من قال ذلك ؟؟ لا تفكري هكذا أرجوك "

قالتْ :

" لكن كاحلي تمزّق... و عظامي انكسرت ! ربما لن أستعيدها ثانية! ماذا سيحل بي إن فقدتُهما للأبد؟ ألا يكفي ما فقدتُ يا وليد؟ ألا يكفي؟؟ "

قلتُ منفعلا :

" لا تقولي هذا... فداكِ كاحلي و عظامي و كل جسمي و روحي يا رغد ! ليتني أصِبتُ عوضا عنكِ يا صغيرتي الحبيبة "

أمسكتُ برأسها.... كنتُ أوشك على أن أضمه إليّ بقوة... و جنون... نظرتُ إلى عينيها... فرأيتهما تدوران للأعلى و ينسدل جفناها العلويان ليغطياهما ببطء... بينما يظل فوها مفتوحا و آخر كلامها معلقا على طرف لسانها..

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
اللؤلؤة السوداء
القائد "V"
القائد
اللؤلؤة السوداء


عدد المساهمات : 186
النقاط : 10340
التقييم : 5
تاريخ التسجيل : 21/07/2011
العمر : 38

رواية انت لي - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: رواية انت لي   رواية انت لي - صفحة 2 Emptyالأحد يوليو 31, 2011 7:21 am


الحلقة الثانية و الأربعون









~ إلا رغد ! ~




و أنا على وشك الخروج للعمل صباحا تلقيتُ اتصالاً من رقم هاتفٍ غريب، و عرفتُ بعدها أنه صديقي وليد شاكر!
أخبرني وليد بأنّ قريبته قد أُصيبتْ إصابة بالغة في رِجلها و يدها و أنّه تمّ إدخالها إلى المستشفى و إجراء عمليّة طارئة لها آخر الليل... و رجاني أن أصطحِب زوجته و والدتها إلى المستشفى...

صديقي وليد كان منهاراً و هو يتحدّث إليّ عبر الهاتف وكان صوته حزيناً و أقرب إلى النحيب. و لأنني صديقه الأوّل فقد كان وليد يلجأ إليّ كلما ألمّتْ به ضائقة أو أصابته كربة... و كان يضعف قليلا لكنّه سرعان ما يستعيد قواه و يقف صامداً دون انحناء... أمّا هذه الأزمة فقد دهورتْ نفسيته بشكل سريع و شديد للغاية، ممّا أدى إلى انحدار صحّته و قدرته على العمل تباعا.
يعاني وليد من قرحة مزمنة في المعدة و هي تنشط و تتفاقم مع الضغوط النفسية. و قد كان الأطباء ينصحونه بالاسترخاء و النقاهة كلما تهيّجتْ و بالإقلاع عن التدخين، و أظنّه أقلع عن السجائر و لكنّه أهمل علاج قرحته في هذه الفترة إلى أن تطوّر وضعها للأسوأ كما ستعرفون لاحقاً.

وليد متعلّق بشدّة بابنة عمّه المصابة هذهِ و أخالهُ يخبل لو ألّم بها شيء!
و قد كانت ابنة عمّه ترافقه كالظلّ عندما كنّا صغارا في سني المدارس و كان يحبّها جدا و كثيرا ما اصطحبها معه في زياراته لي و في تجوالنا سوياً... و قد افترق عنها سنوات حبسه في السجن... و رحلتْ مع عائلته بعيدا عن المدينة... ثمّ دارتْ الأيام لتعيد جمعه بها من جديد... و تجعله وصياً شرعيا عليها و مسؤولا أولا عن رعايتها...

عندما وصلنا دخلت ْ السيدتان إلى غرفة المريضة و رأيتُ وليد يخرج إليّ بعد ذلك...

و كما توقـّعت ُ بدا الرجل متعباً جداً... و كأنّه قضى الليلة الماضية في عملٍ بدني شاق... سألته عن أحواله و أحوال قريبته فردّ ببعض الجمل المبتورة و تمتم بعبارات الشكر

" لا داعي لهذا يا عزيزي ! إننا أخوَان و صديقان منذ الطفولة ! "

ابتسم وليد ابتسامة شاحبةً جداً ثم قال:

" عليّ أن أسرع "

قلتُ مقاطعا :

" لا تبدو بحالةٍ جيدةٍ يا وليد ! دعني أقلّك بسيارتي... ذهاباً و عودةً "

و أعاد الابتسام و لكن هذه المرة بامتنان...
أوصلتُ وليد إلى منزله حيث قضى حوالي العشرين دقيقة رتّب خلالها أموره و شربنا سوية بعض الشاي على عجل...
الرجل كان مشغول البال جداً و مخطوف الفكر... و قد حاولتُ مواساته و تشجيعه لكنه كان قد تعدّى مستوى المساواة بكثير، و بما أنني أعرفه فأنا لا استغرب حالته هذه... إنه مهووس بقريبته و قد باح لي برغبته في الزواج منها رغم أي ظروف !
و قبل أن أركن السيارة في مواقف المستشفى الخاصة رأيته يفتح الباب و يكاد يقفز خارجاً

" على مهلكَ يا رجل ! هوّن عليك ! "

قال و هو يمسك بالباب المفتوح قليلا :

" أخشى أن تستفيق ثم لا تجدني و تصاب بالفزع... إنها متعبة للغاية يا سيف و إن أصابها شيء بها فسأجن "

ألم أقل لكم ؟؟

رددتُ عليه بتهوّر :

" أنت مجنون مسبقاً يا وليد "

و انتبهتُ لجملتي الحمقاء بعد فوات الأوان. التفتَ وليد إليّ و قد تجلّى الانزعاج على وجهه ممزوجاً بالأسى...فاعتذرتُ منه مباشرةً :

" آسِف يا وليد ! لم أقصد شيئاً "

تنهّد وليد و لم يعلّق... ثم شكرني و غادر السيارة... هتفتُ و أنا ألوّح له من النافذة و هو يهرول مبتعداً :

" اتصل بي و طمئني إن جدّ شيء "

و توليتُ بنفسي إبلاغ السيّد أسامة المنذر- نائب المدير- أن وليد سيتغيب عن العمل و أوجزتُ له الأسباب.

السيّد أسامة كان نائباً للمدير السابق عاطف - أبي عمّار - البحري رحمهما الله، و كان على علاقة وطيدة بآل بحري، و على معرفة جيّدة بنا أنا و والدي و فور اكتشافه بأن وليد هو ذاته قاتل عمّار، قدّم استقالته و رفض التعاون مع وليد و العمل تحت إدارته. و لكن... بتوصية منّي و من والدي، و بعد محاولات متكررة نجحنا في تحسين صورة وليد في نظره و أفلحنا في إقناعه بالعودة للعمل خصوصا و أن وجوده كان ضروريّا جدا بحكم خبرته الطويلة و أمانته. و مع الأيام توطّدتْ العلاقة بين وليد و السيّد أسامة الذي عرف حقيقة وليد و أخلاقه و استقامته. و صار يقدّره و يتعامل معه بكل الاحترام و المحبّة. أما بقيّة موظفي المصنع و الشركة، فكانتْ مواقفهم تجاه وليد متباينة و كنتُ في خشية على وليد من ألسنتهم. غير أن وليد تصرّفَ بشجاعةٍ و لم يعرْ كلامهم اهتماماً حقيقياً و أثبتَ للجميع قدرته على الصمود و تحمُّل مسؤولية العمل مهما كانتْ الأوضاع.



~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~














لوّحتُ لسيف بيدي و أسرعتُ نحو غرفة رغد.
وجدتُها لا تزال نائمةً... و إلى جوارها تجلسُ أروى و الخالة. سألتهما عما إذا كانت قد استيقظتْ فأجابتا بالنفي... اقتربتُ منها فإذا بأروى تمدّ يدها إليّ بهاتفي المحمول و تقول:

" تفضّل.. جلبته معي لكَ "

تناولتُ الهاتف و جلستُ على مقربة أتأمل وجه رغد... و ألقي نظرةً بين الفينة و الأخرى على شاشةِ جهاز النبض الموصول بأحد أصابعها...

بعد قليل مرّتْ الممرّضة لتفقّد أحوال رغد و نزعتْ الجهاز عنها. خاطبتها :

" كيف هي ؟ "

أجابتْ :

" مستقرة "

قلتُ :

" و لماذا لا تزال نائمة ؟ "

قالتْ :

" يمكنكم إيقاظها إن شئتم "

و بعد أن غادرتْ بقينا صامتين لوهلة... ثم التفتُّ نحو أروى و سألتها:

" كيف وقعتما ؟ "

ظهر التردد على وجه أروى و اكتسى ببعض الحمرة... ما أثار قلقي... ثم تبادلتْ نظرة سريعة مع خالتي و نطقتْ أخيرا :

" كنا... واقفتين على الدرجات... و... تشاجرنا... ثمّ..."

قاطعتها و سألتُ باهتمام :

" تشاجرتما ؟؟ "

أومأتْ أروى إيجابا... و سمعتُ خالتي تُتمتم:

" يهديكما الله "

قلتُ بشغف :

" في ذلك الوقت المتأخر من الليل؟؟ و على عتبات السلم؟؟ "

و تابعتُ :

" لأجل ماذا؟؟ و كيف وقعتما هكذا؟؟ "

قالتْ أروى مباشرةً و باختصار:

" كان حادثاً... عفوياً "

انتظرتُ أن تفصّل أكثر غير أنها لاذتْ بالصمت و هربتْ بعينيها منّي...
قلتُ مستدرّاً توضيحها:

" و بعد؟ "

فرمقتني بنظرة عاجلة و قالتْ :

" مجرّد حادثٍ عفوي"

انفعلتُ و أنا ألاحظ تهربّها من التفصيل فقلتُ بصوت ٍ قوي :

" مجرد حادثٍ عفوي؟؟ اُنظري ما حلّ بالصغيرة... ألم تجدي وصفاً أفظع من (حادث عفوي)؟؟ "

نطقتْ أروى في وجس :

" وليد ! "

فرددتُ بانفعال :

" أريد التفاصيل يا أروى؟ ما الذي يجعلكِ تتشاجرين مع رغد في منتصف الليل و على عتبات السلم ؟؟ أخبريني دون مراوغة فأنا رأسي بالكاد يقف على عنقي الآن "

هنا أحسسنا بحركةٍ صدرتْ عن رغد فتوجهتْ أنظارنا جميعا إليها...
فتحتْ رغد عينيها فتشدّقتُ بهما بلهفة... و اقتربتُ منها أكثر و ناديتُ بلطف :

" رغد ... صغيرتي ... "

الفتاة نظرتْ إليّ أولا ثم راحتْ تجوبُ بأنظارها فيما حولها و حين وقعتْ على أروى و القابعة على مقربة فجأة... تغيّر لونها و احتقنتْ الدماء في وجهها وصاحتْ :

" لا... أبْعِدْها عني... أبْعِدْها عنّي... "

أروى قفزتْ واقفةً بذعر... و الخالة مدّتْ يديها إلى رغد تتلو البسملة و تذكر أسماء الله محاولة تهدئتها...

أمسكتُ بيد رغد غير المصابة و أنا أكرر :

" بسم الله عليك ِ ... بسم الله عليك ِ ... اهدئي رغد أرجوك ِ ... "

رغد نظرتْ إليّ و صاحتْ بقوة:

" أبْعِدْها عني... لا أريد أن أراها... أبعدها... أبعدها ... أبعدها "

التفتُ إلى أروى و صرختُ:

" ما الذي فعلتِه بالفتاة يا أروى؟؟ أُخرجي الآن "

أم أروى قالتْ معترضةً :

" وليد ! "

فقلتُ غاضباً :

" ألا ترين حال الصغيرة ؟؟ "

و أتممتُ موجهاً الكلام إلى أروى :

" أُخرُجي يا أروى... أنا ما كدتُ أصدّق أنها هدأتْ قليلا... ابقي في الخارج هيّا "

و أروى سرعان ما أذعنتْ للأمر و هرولتْ إلى الخارج... حينها التفتُ إلى رغد و أنا أحاول تهدئتها :

" ها قد ذهبتْ ... أرجوك اهدئي يا صغيرتي... بسم الله عليكِ و يحفظكِ ... "

لكنها قالتْ و هي لا تتمالك نفسها:

" لا أريد أن أراها... أبْعِدْها عني... أتتْ تشمتُ بي... إنها السبب... أنا لا أطيقها...قلتُ لك لا أريد أن أراها... لماذا سمحتَ لها بالمجيء؟؟ هل تريد قتلي؟ أنتَ تريد لي الموت... لماذا تفعل هذا بي يا وليد ؟؟ ألا يكفي ما أنا فيه؟؟ لماذا قـُل لماذا... لماذا ؟؟ "

جمّدني الذهول حتّى عن استيعاب ما أسمعه... لا أدري إن كان هذا ما قالته بالفعل أو إن كانت رغد هي التي تتكلّم الآن... أنا لن أؤكد لكم بسماعي شيء... إن أذنيّ فقدتا حاسة السمع و دماغي فقد القدرة على الفهم و ذاكرتي أُتْلفتْ من كميّة الفزع المهولة التي اجتاحتني منذ البارحة و لا تزال تدكّ عظامي دكا ً...

ثوان ٍ و إذا بالممرضة تدخل الغرفة و تسأل:

" ما الذي حدث ؟؟ "

ترددتُ ببصري بين رغد الثائرة و الممرضة... ثم هتفتُ منفعلاً و موجهاً كلامي لها :

" أين هو طبيبكم دعوهُ يرى ما الذي حدث للفتاة إنها ليستْ بخير... ليستْ بخير..."

و بعدها جاء الطبيب - و هو غير الجراح الذي أجرى لرغد العملية - و لم تسمح له رغد بفحصها بل صرختْ :

" أخرجوا جميعكم... لا أريدكم... ابتعدوا عني... أيها المتوحشون "

جنّ جنون الفتاة... و تصرّفتْ بشكل أقرب للهستيريا... نعتتنا بالوحوش و الأوغاد... و حاولتْ النهوض عن السرير... و نزعتْ أنبوب المصل الوريدي من ذراعها فتدفقتْ الدماء الحمراء ملوّنة الألحفة البيضاء... و سال المصل مبللاً ما حوله... و عندما حاولتْ الممرضة السيطرة على النزيف زجرتها رغد بعنفٍ و رمتها بالوسادة التي كانتْ تنام عليها...

" ابتعدوا عنّي... أيها الأوغاد... أخرجوا من هنا... لا أريد أحداً معي... أكرهكم جميعاً... أكرهكم جميعاً..."

لدى رؤيتي الحالة المهولة لصغيرتي أصابني انهيار لا يضاهيه انهيار... و تفاقمتْ شكوكي بأنها جنّتْ... لا قدّر الله... و بنبرةٍ عنيفةٍ طلبتُ من... لا بل أمرتُ كلاً من الخالة و الطبيب و الممرضة بالمغادرة فوراً... علّي أفلح في تهدئة صغيرتي بمفردي... لقد كنتُ مذهول العقل عليها و أريد أن أطمئن إلى أنها بالفعل لم تُجن !

أذعنوا لأمري و طيور القلق محلّقة فوق رؤوسهم... و بعد أن خرجوا التفتُ إلى صغيرتي و التي كانت لا تزال تردد بانفعال:

" اخرجوا جميعكم ابتعدوا عنّي... "

قلتُ و أنا أسير عكس اتجاه أمرها و أراقب ثورتها و بالكاد تحملني مفاصلي من فزعي على حالها:

" لقد خرجوا يا رغد... إنه أنا وليد... "

و ازدردتُ ريقي :

" هل تريدينني أن أخرج أنا أيضا ؟ "

هذا أنا وليد... هل ترينني؟ هل تميزينني...؟ هل تعين ما تفعلين يا رغد؟ بالله عليك لا تجننيني معك...

رغد نظرتْ إليّ و هي لا تزال على انفعالها و قالتْ :

" أنتَ أحضرتها إليّ... تريدان قتلي غيظاً... أنتما تكرهانني... كلكم تكرهونني... كلكم متوحشون... كلّكم أوغاد... "

طار طائر عقلي... انفصمتْ مفاصلي... هويتُ على السرير قربها... مددتُ يديّ بضعف شديد إلى كتفيها و نطقتُ :

" رغد... ما الذي تهذين به؟؟ ماذا أصاب عقلك أنبئيني بربّك؟؟ آه يا إلهي هل ارتطم رأسكِ بالسلّم ؟؟ هذا أنا وليد... وليد يا رغد... وليد... هل تعين ما تقولين؟؟ ردي عليّ قبل أن أفقد عقلي ؟ "

و إذا بي أشعر بحرارة في جفوني... و بشيء ما يتحرّك على عينيّ...

رغد حملقتْ بي برهة و قد توقـّفتْ عن الصراخ... ثمّ أخذتْ تئِنّ أنين المرضى أو المحتضرين... و هي تنظر إليّ... و أنا أكاد أفقد وعيي من شدّة الذهول و الهلع...
اقتربتُ منها أكثر... أسحب ثقل جسدي سحباً... حتّى صرتُ أمامها مباشرة. حركتُ يديّ من على كتفيها و شددتُ على يدها السليمة إن لأدعمها أو لأستمد بعض الدعم منها... لكنها سحبتْ يدها من قبضتي... ثم رفعتها نحو صدري و راحتْ تضربني... بكلتا يديها
ضرباتها كانتْ ضعيفة قويّة... مواسية و طاعنة... غاضبة و خائفة... في آن واحد... و فوق فظاعة من أنا فيه رمتني في زوبعة الذكريات الماضية... الماضي الجميل... حيث كانتْ قبضة صغيرتي تصفع صدري عندما يشتدّ بها الغضب منّي...

استفقتُ من الشلل الذي ألمّ بحواسي و إدراكي على صوتها تقول بانهيار:

" لماذا أحضرتها إلى هنا ؟ تودّون السخرية منّي؟؟ أنتم وحوش... أكرهكم جميعاً "

صحتُ منكسرا:

" لا ! كلا... أنتِ لا تعنين ما تقولين يا رغد ! أنتِ تهذين... أنتِ غير واعية... لا ترين من أمامكِ... أنا وليد... انظري إليّ جيدا... أرجوك يا رغد... سيزول عقلي بسببكِ... آه يا رب... إلا هذا يا رب... أرجوك... أرجوك يا رب... إلا صغيرتي... لا احتمل هذا... لا احتمل هذا... "

أمسكتُ بيديها محاولاً إعاقتها عن الاستمرار في ضربي و لكن بلطفٍ خشية أن أوجعها...

" توقـّفي يا رغد أرجوكِ ستؤذين يدكِ... أرجوكِ كفى... أنتِ لا تدركين ما تفعلين..."

لكنها استمرّتْ تحركهما بعشوائية يمينا و يسارا و هما قيد قبضتَيّ ، ثم نظرتْ إلى الجبيرة و امتقع وجهها و صاحتْ بألم:

" آه يدي..."

تمزّقتُ لتألمها... أطلقتُ صراح يديها ثم حرّكتُهما بحذرٍ و لطفٍ دون أن تقاومني، و أرخيتهما على السرير إلى جانبيها و سحبتُ اللحاف و غطيتهما... و قلتُ :

" سلامتكِ يا رغد... أرجوكِ ابقي هادئة... لا تحرّكيها... أرجوكِ... عودي للنوم صغيرتي... أنتِ بحاجة للراحة... نامي قليلا بعد "

فأخذتْ تنظر إليّ و في عينيها خوفٌ و اتهامٌ... و عتابٌ قاسٍ... و أنظر إليها و في عينيّ رجاءٌ و توسّلٌ و هلعٌ كبير... كانت أعيننا قريبةً من بعضها ما جعل النظرات تصطدم ببعضها بشدّة...

قلتُ و أنا أرى كلّ المعاني في عينيها... و أشعر بها تحدّق بي بقوّة :

" أرجوكِ صغيرتي اهدئي... لن يحدث شيءٌ لا تريدينه... لن أدعها تأتي ثانيةً لكن سألتكِ بالله أن تسترخي و تهدّئي من روعكِ... أرجوكِ... "

رغد بعد هذه الحصّة الطويلة من النظرات القوية... هدأتْ و سكنتْ و أغمضتْ عينيها و أخذتْ تتنفس بعمق... مرّتْ لحظة صامتة ما كان أطولها و أقصرها... بعدها سمعتُ رغد تقول للغرابة:

" هل سأستطيع رسم اللوحة ؟ "

نظرتُ إلى وجهها بتشتتٍ... و هو مغمض العينين و كأحجية غامضة و مقفلة الحلول...

أي لوحة بعد ؟؟

قلتُ :

" أي لوحة ؟ "

رغد حرّكتْ يدها المجبّرة ثم قالتْ:

" لكنني رسمتها في قلبي... حيث أعيد رسمها كل يوم... و حتى لو لم أستطع المشي... احملني على كتفيك... أريد أن أطير إلى أمي"

ثم اكفهرّ وجهها و قالتْ :

" آه... أمّي..."

و صمتتْ فجأة...
بعد كل ذلك الجنون... و الهذيان... صمتتْ الصغيرة فجأة و لم تعد تتحرّك... حملقتُ في وجهها فرأيتُ قطرة يتيمة من الدموع الحزينة... تسيل راحلة على جانب وجهها ثم تسقط على الوسادة ... فتشربها بشراهة... و تختفي...
ناديتُها و لم ترد... ربّتُ عليها بلطفٍ فلم تُحس... هززتها بخفة ثم ببعض القوة فلم تستجب... خشيتُ أن يكون شيئا قد أصابها فجأة... فقد كانتْ قبل ثوانٍ تصرخ ثائرة و الآن لا تتحرّك... و لا تستجيب... ناديتُ بصوتٍ عالٍ:

" أيها الطبيب... أيتها الممرّضة..."

و كان الاثنان يقفان خلف الباب و سرعان ما دخلا و أقبلا نحونا

قلتُ هلِعاً :

" أنظرا ماذا حدث لها... إنها لا تردّ عليّ... "

الطبيب و الممرّضة اقتربا لفحصها فابتعدتُ لأفسح لهما المجال... أوصل الطبيب جهاز قياس النبض بإصبع رغد و تفحّصها ثم أمر الممرّضة بإعادة غرس أنبوب المصل في أحد عروقها فباشرتْ الممرضة بفعل ذلك دون أي مقاومة أو ردّة فعل من رغد... الأمر الذي ضاعف خوفي أكثر فأكثر...
جلبتْ الممرضة عبوة مصل أخرى و جعلتْ السائل يتدفق بسرعة إلى جسد رغد ثم أعادتْ فحصها و قياس ضغط دمها... و خاطبتْ رغد سائلةً:

" هل أنتِ بخير؟؟ كيف تشعرين؟؟ "

رغد عند هذا فتحتْ عينيها و نظرتْ إلى الاثنين و كأنها للتو تدرك وجودهما فعبستْ و قالتْ زاجرة:

" ابتعدا عنّي "

لكنّها كانت مستسلمة بين أيديهما.

سألتها بدوري في قلق :

" رغد هل أنتِ بخير ؟؟ "

فرّدتْ و هي تشيح بوجهها و تحرّك يدها المصابة :

" ابتعدوا عنّي... دعوني و شأني... متوحشون... آه... يدي تؤلمني "

استدرتُ إلى الطبيب و الذي كان يتحسّس نبض رسغها الأيسر و سألتُ:

" ما حلّ بها؟؟... طمئنّي؟؟ "

أجاب :

" ضغطها انخفض... لكن لا تقلق سيتحسّن بعد قليل "

سألتُ مفزوعاً :

" ضغطها ماذا ؟؟ انخفض؟؟ لماذا ؟ طمئنّي أرجوك هل هي بخير ؟؟ "

نظر إليّ نظرة تعاطف و طمأنة و قال :

" اطمئن. سيتحسّن بسرعة. إنها نزعتْ الأنبوب من يدها فجأة... و كان المصل يحتوي مسكنا للألم يجب أن يُخفّف بالتدريج كي لا يسبّب هبوطاً مفاجئاً في ضغط الدم. الوضع تحت السيطرة فلا تقلق "

و كيف لا أقلق و أنا أرى من أمر صغيرتي العجب ؟؟

قلتُ مستميتاً إلى المزيد من الطمأنة :

" كانتْ غير طبيعية البتة... ألا تظن أنه ربّما أُصيب رأسها بشيء؟؟... إنّها تهذي و تتصرّف على غير سجيتها... أرجوك تأكّد من أن دماغها بخير "

قال الطبيب :

" نحن متأكدون من عدم إصابة الرأس بشيء و الحمد لله. لكن الواضح أنّ نفسيّتها متعبة من جرّاء الحادث، و هذا أمرٌ ليس مستبعداً و يحدث لدى الكثيرين.. تحتاج إلى الدعم المعنوي و أن تكونوا إلى جانبها "

قلتُ متفاعلاً مع جملته الأخيرة:

" إنها لا تريد منّا الاقتراب منها "

و كأنّ رغد لم تسمع غير تعقيبي هذا فالتفتتْ إلينا و قالتْ :

" دعوني و شأني "

ثمّ سحبتْ يدها من يد الطبيب و أمسكتْ باللحاف و خبأتْ رأسها تحته كلياً...
و طلبتْ منّا أن نخرج جميعا و هذتْ بكلمات جنونية لم أفهم لها معنى...

نظرتُ إلى الطبيب بقلقٍ شديد :

" أظنّها جُنّتْ... يا دكتور.. افعل شيئا أرجوك... ربّما جنّتْ ! "

قال :

" كلا كلا... لا سمح الله. كما قلتُ نفسيتها متعبة... سأعطيها منوماً خفيفاً "

و بقيتْ رغد على حالها و سمعتها تقول و وجهها مغمور تحت اللحاف:

" لا تُعِدها إلى بيتنا ثانية... لا أريد أن أراها ... أبدا "

و كررتْ و هي تشدّ على صوتها :

" أبدا... هل تسمعني ؟ أبدا "

و لمّا لم تسمع ردا قالتْ :

" هل تسمعني؟؟ وليد إلى أين ذهبت ؟ "

لقد كانتْ تخاطبني من تحت اللحاف... و أنا لا أعرف إن كانت تعني ما تقول...
قلتُ و أنا أقترب لأُشعرها بوجودي فيما صوتي منكسر و موهون :

" أنا هنا... نعم أسمع... حاضر... سأفعل ما تطلبين... لكن أرجوك اهدئي الآن صغيرتي... أرجوكِ فما عاد بي طاقة بعد"

قالتْ:

" إنها السبب "

أثار كلامها اهتمامي... سألتُها :

" ماذا تعنين؟؟ "

و لم ترد...

فقلتُ :

" أ تعنين أنّ أروى... "

و لم أتمّ جملتي، إذ أنها صرختْ فجأة :

" لا تذكر اسمها أمامي "

قلتُ بسرعة و توتّر:

" حسناً حسناً... أرجوكِ لا تضطربي "

فسكنتْ و صمتتْ قليلا... ثم سمعتها و للذهول تقول :

" أريد أمّي "

شقّت كلمتها قلبي إلى نصفين...
الممرضة سألتني :

" أين والدتها؟ "

فعضضتُ على أسناني ألماً و أجبتُ بصوتٍ خافتٍ :

" متوفّاة "

حرّكتْ رغد رأسها من تحت اللحاف و راحتْ تنادي باكية :

" آه... أمي... أبي... عودا إليّ... لقد كسروا عظامي... هل تسمحان بهذا؟ أنا مدللتكما الغالية... كيف تتركاني هكذا... لا استطيع النهوض... آه... يدي تؤلمني... ساعداني... أرجوكما... لا تتركاني وحدي... من لي بعدكما... عودا إليّ... أرجوكما... عودا... "

الغرفة تشبعتْ ببخار الدموع المغلية التي لم تكد تنسكب على وجنتيّ حتى تبخّرتْ ... والتنفس أصبح صعبا داخل الغرفة المغمورة بالدموع...

طلبتُ بنفسي من الطبيب إعطاءها المنوّم الجديد في الحال... حتّى تنام و تكفّ عن النحيب الذي أفجع كلّ ذرّات جسمي... و قطّع نياط قلبي... و أثار حزن و شفقة حتّى الجدران و الأسقف... و بعد أمره أعطتها الممرضة جرعة من المنوم الذي سرعان ما أرسل رغد في دقائق إلى عالم النوم...

و كم تمنيتُ لو أن جرعة أخرى قد حُقنتْ في أوردتي أنا أيضا...

قالت الممرضة :

" ها قد نامتْ "

ثمّ أعادتْ قياس ضغط دمها مجددا و طمأنتني إلى أنه تحسّن... كما أن الطبيب أعاد فحص نبضها و أخبرني بأنه على ما يرام...

بقي الاثنان ملازمين الغرفة إلى أن استقرّ وضع رغد تماما ثم خرج الطبيب و ظلّتْ الممرّضة تسجّل ملاحظاتها في ملف رغد...
وجه رغد كان لا يزال مغمورا تحت اللحاف و خشيت أن يصعب تنفّسها فسحبته حتى بان وجهها كاملاً... و مخسوفاً

كان... كتلةً من البؤس و اليتم... يصيب الناظر إليه بالعمى و يشيب شعره... و آثار واهية من الكدمات تلوّن شحوب وجنتيه الهزيلتين...

قالتْ الممرضة و هي ترى التوتر يجتاحني و أنا أتأمّل وجه الفتاة:

" تبدو محبطةً جدا... من المستحسن أن تأتي شقيقاتها أو المقرّبات لديها لتشجيعها. الفتيات في مثل هذا السن مفرطات الإحساس و يتأثرن بسرعة حتى من أتفه الأمور فما بالكَ بإصابة بالغة..! "

أي شقيقات و أي قريبات ! أنتِ لا تدركين شيئاً...

ثم تابعتْ تكتب في الملف و أنا قابع إلى جوار رغد أتأمل كآبتها و أتألّم...

خاطبتني الممرضة :

" عفوا يا سيّد و لكنّي لاحظتُ شيئا... أريد التأكّد... إذ يبدو أنّ هناك خطأ في معلومات الكمبيوتر... هل اسم والدكما هو شاكر أم ياسر ؟؟ "

التفتُ إليها و قلتُ :

" رغد ياسر جليل آل شاكر... و أنا وليد شاكر جليل آل شاكر "

نظرتْ إليّ الممرضة بتعجّب و علقتْ :

" لستما شقيقين؟!"

قلتُ :

" إنها ابنة عمّي، و ابنتي بالوصاية "

زاد العجب على تعبيراتها و أوشكتْ على قول شيء لكنها سكتت و اكتفت بهز رأسها.

أثناء نوم رغد... أعدتُ استعراض شريط ما حصل منذ أفاقتْ قبل قليل إلى أن عادتْ للنوم محاولا تذكّر ما قالته و استيعاب تصرّفاتها... و تذكّرتُ جملتها ( إنها السبب ) و التي أشارتْ بها إلى أروى...
تباً لكِ يا أروى...
كبرتْ الفكرة في رأسي و تلاعبتْ بها الشياطين و لم أعد بقادر على حملها... و أردتُ التحدّث مع أروى حالاً...

طمأنتُ قلبي قليلا على سلامة الصغيرة و تأكدتُ من نومها، ثم طلبتُ من الممرّضة أن تبقى ملازمةً معها لحين عودتي، و خرجتُ من الغرفة بحثاً عن أروى و الخالة فوجدتهما تجلسان على مقربةٍ...
وقفتْ الاثنتان بقلقٍ لدى رؤيتي... أنظاري انصبّتْ على أروى و بدأتْ عيناي تتقدان احمرارا...

الخالة سألتْ :

" كيف هي الآن ؟ "

لم أجبها... إنما اتجهتُ مباشرة إلى أروى و قلتُ بحدة :

" ما الذي فعلتِه برغد ؟ "

التعجّب و الذعر ارتسما على وجه أروى... و لم تتحدّث...
يدي تحرّكتْ نحو ذراعها فأطبقتُ عليه بقسوة و كررتُ بحدّة أكبر :

" أجيبي ... ما الذي فعلتِه برغد ؟؟ "

الخالة تدخّلتْ قائلة :

" ماذا عساها تكون قد فعلتْ ؟ لقد وقعتا سويةً "

ضغطتُ بقوّة أكبر على ذراع أروى و صحتُ بوجهها :

" تكلّمي "

أروى حاولتْ التملّص من قبضتي عبثا... ثم استسلمتْ و قالتْ :

" كان حادثا... هل تظنّ أنني دفعتُ بها ؟ هل أنا مجنونة لأفعل ذلك؟؟ "

بخشونةٍ دفعتُ بأروى حتى صدمتها بالجدار الذي كانت تقف أمامه و قلتُ ثائراً :

" بل أنا المجنون ... لأفعل أي شيء... انتقاماً لها... "

الخالة اقتربتْ منا و قالتْ :

" وليد ! ماذا دهاك ؟؟ الناس يمرون من حولنا "

أخفضتُ صوتي و أنا أضغط على كتفَي أروى الملصقتين بالجدار أكاد أسحقهما به :

" الفتاة بحالةٍ سيئةٍ... أسوأ من سيّئةٍ... إصابتها بالغةٌ و نفسيّتها منهارةٌ... تتصرّف بغرابة... و تقول أنّكِ السبب... و تنفر منكِ بشدّة... لا تقولي أنّك لم تفعلي شيئاً... أخبريني ما الذي فعلتِه بها يا أروى تكلّمي ؟؟ "

" وليد ! "

صاحتْ أروى و حاولتْ التحرّر لكنني حشرتها بيني و بين الجدار و صحتُ :

" قلتُ لك ِ مراراً... لا تقتربي منها... إلاّ رغد يا أروى...إلاّ رغد... أي شيءٍ في هذا الكون إلاّ رغد... أنا لا أقبل أن يصيب خدش ٌ أظافرها... و لا يكفيني فيها غير إزهاق الأرواح... و أقسم يا أروى... أقسم بالله العظيم... إن أصاب الفتاة شيءٌ... في عقلها أو جسمها... و كنتِ أنتِ السبب بشكلٍ أو بآخر... فسترين منّي شيئاً لم تريه في حياتك قط... أقسم أنني سأعاقبكِ بأبشع طريقةٍ... و إن اضطررتُ لكسر عظامك كلّها و سحقها بيدي ّ هاتين "

و جذبتُ أروى قليلاً ثم ضربتها بالجدار بعنفٍ مرة أخرى...



~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~


و بعد نحو الساعة اصطحبني إلى المنزل، و تركنا أمّي مع رغد... و التي كانت تغط في نومٍ عميقٍ بعد جرعةٍ من المخدّر...
وليد لم يتحدّث معي طوال الوقت... بل كان ذهنه شارداً لأبعد حدود... و فور وصولي للمنزل ذهبتُ إلى غرفتي مباشرة و أخذتُ أبكي إلى أن تصدّع رأسي فأويتُ إلى الفراش...
عندما استيقظتُ لم أكن بحالة أفضل إلا قليلاً و قرّرتُ أن أخبر وليد بتفاصيل ما حصل البارحة... حتى تتضح له الحقيقة و يتوقـّف عن توجيه الاتهام الفظيع لي.

لم أكن قد نمتُ غير ساعةٍ أو نحو ذلك... و توقّعتُ أن أجد وليد مستلق ٍ على سريره في غرفته و لكنني لم أجد له أثراً في المنزل...
و استنتجتُ أنه عاد إلى المستشفى...
أنا لا أدري ما القصّة التي قصّتها رغد عليه للحادث بيد أنني لا استبعد أن تكون قد أوهمته بأنني دفعتُ بها عمداً من أعلى الدرج...

لكن.. و الله يشهد على قولي... كان ذلك حادثاً غير مقصودٍ إطلاقا... و لو كنتُ أتوقّع أن ينتهي بها الأمر إلى غرفة العمليات لما كنتُ اعترضتُ طريقها و لتركتها تحمل هاتف زوجي إليه و أنا أتفرّج...

(زوجي) كلمة لم أعرف معناها... كما لا أعرف حقيقة الوجه الآخر لوليد
فالنظرات و التهديدات و الطريقة الفظّة العنيفة التي عاملني بها هذا الصباح تكشف لي جوانب مرعبة من وليد لم أكن لأتوقّعها أو لأصدّق وجودها فيه... و قد بدأتْ بالظهور الآن...
هذا الرجل قتل شخصاً عندما كان في قمّة الغضب... و مهما كان السبب فإن الخلاصة هي أن الغضب قد يصل بوليد إلى حد القتل !

اقشعرّ بدني من الفكرة البشعة فأزحتها بعيداً عن تفكيري هذه الساعة و حاولتُ شغل نفسي بأشياء أخرى... كترتيب و تنظيم أثاث المنزل و ما إلى ذلك...

كنتُ قد رأيتُ فراش وليد مبعثراً حين دخلتُ غرفته بحثاً عنه... و الآن عدتُ إليها لأرتّب الفراش و أعيد تنظيم الغرفة... كالمعتاد
و أثناء ذلك، و فيما أنا أرفع إحدى الوسائد رأيتُ شيئاً غريباً !
كانت ورقة فوتوغرافية ممزّقـَة... و أجزاؤها موضوعة تحت الوسادة
بفضولٍ جمعتُ الأجزاء و شرعتُ بإعادة تركيبها إلى أن اكتملتْ الصورة الفوتوغرافية
فظهرتْ صورةٌ لطفلةٍ تبتسم و بيدها دفتر رسم للأطفال و أقلام تلوين...
و من التاريخ اتّضح لي أنها التُقِطتْ قبل نحو 13 عاماً...

الأمر أثار فضولي الشديد و تعجّبي... لـِمَ يضعُ وليد صورة قديمة و ممزّقة لطفلةٍ ما تحت وسادته ؟؟
لكن لحظة !
دقّقتُ النظر إلى ملامح تلك الطفلة... و إذا لم تكن استنتاجاتي خاطئةً فأعتقد أنني عرفتُ من تكون.... !

دعوني وحدي رجاء ً !

أنا في حالة ذهول ... و لا أريد قول المزيد !





~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~













ظلّتْ رغد نائمة لثلاث ساعات أخرى بعد المنوّم و أنا و الخالة إلى جانبها...

كنتُ أراقب أي تغيّر يطرأ عليها... الصغيرة كانت تهذي أثناء نومها و ذكرتْ أمّي أكثر من مرّة... و كانتْ في كل مرّة... تطعن قلبي دون أن تدرك...

تركناها تنام دون أي محاولةٍ لإيقاظها... إذ كنتُ في خشيةٍ من أن تداهما الحالة العصبية الجنونية تلك مرّة أخرى...


و عندما فتحتْ عينيها تلقائيا ً تسارعتْ نبضات قلبي قلقاً… و تشدّقت بها عيناي مستشفـّتيـْن حالتها… بدتْ هادئة و مستسلمة... نظرتْ من حولها و لم تُظهر أية ردّة فعل … كانت متقبّلة لوجودنا أنا و الخالة إلى جوارها... تركناها بصمتٍ في انتظار أي كلمةٍ أو حركة ٍ أو إشارة ٍ منها، و لمّا لم يصدر عنها شيءٌ، و للهفتي في الاطمئنان عليها، تجرّأتُ و سألتها بتردد:


" صحوة حميدة صغيرتي... هل أنتِ بخير؟ "

هربتْ رغد من نظراتي و رأيتُ فمها يتقوّس للأسفل... لكنها تمالكتْ نفسها و لم تبكِ...

هنا حضر الطبيب المشرف على رعايتها... لتفقدها و قد تجاوبتْ مع أوامره و أخبرته أنها لم تعد تشعر بالألم. تحدث إليها مشجعا و طمأنها إلى أنها تحسّنتْ كثيرا و حاول حثـّها على تناول الطعام، لكنها بطبيعة الحال رفضتْه.

على الأقل أنا مطمئنٌ أكثر الآن إلى أنها لم تُجنّ، و أن حالتها النفسية الفظيعة تلك قد زالتْ... و أن ضغط دمها مستقر و الحمد لله...

بعد خروج الطبيب التفتُّ إليها مجدداً و سألتها :

" صغيرتي... أخبريني ... هل تشعرين بتحسّن؟ "

كنتُ متلهفاً جدا لسماع أي كلمةٍ مطمئنةٍ منها هي... فأنا لا يهمّني فقط أن يكون وضعها الصحي مستقراً... بل أريد أن تشعر هي بأنها بخير و تخبرني بذلك...
حرّكتْ رغد يدها اليسرى نحوي فأسرعتُ بضمها بين أصابعي مؤازرة ً... و قلتُ :

" أنتِ بخير... ألستِ كذلك؟ ..."

كانت تنظر إليّ و لكنها لم تجب.. بدتْ غارقة في بئر من الحزن... رققتُ لحالها و قلتُ مشجعا:

" كلّميني يا رغد أرجوكِ... قولي لي أنكِ بخير...؟؟ أنا أحتاج لأن أسمع منكِ... "

نطقتْ رغد أخيرا :

" وليد "

شددتُ على يدها و قلتُ بلهفة :

" نعم صغيرتي... هنا إلى جانبك... أكاد أموتُ قلقا عليكِ... أرجوكِ... أخبريني أنكِ بخير... طمئنيني عليكِ و لو بكلمةٍ واحدةٍ... قولي لي أنّك بخير و أفضل الآن... هل أنتِ كذلك؟؟ "

قالت رغد أخيرا... و هي تقرأ التوسل الشديد في عينيّ :

" الحمد لله "

كررتُ بامتنان :

" الحمدُ لله... الحمدُ لله "

و عقّبتْ الخالة :

" الحمد لله "

حرّكتْ رغد يدها اليسرى نحو رجلها المصابة و بأطراف أصابعها ضربتْ فوق الجبيرة... ثم سألتْ :

" كم ستظلّ هذه ؟ "

كان الطبيب قد أخبرني مسبقا بأنها ستظلّ بالجبيرة بضعة أسابيع... و خشيتُ أن أذكر ذلك فتصاب الفتاة بإحباطٍ هي في غنىً تام عنه... فقلتُ :

" ليس كثيراً كما أكّد الطبيب... كما أنك ِ ستغادرين المستشفى إن شاء الله خلال أيام"

و الجملة طمأنتها قليلا... فصمتتْ ثم عادتْ تسأل :

" و الجامعة ؟ "

قلتُ :

" سأتّصل بهم و أخبرهم عن أمركِ "

قالت ْ و هي تستدير نحو الخالة ليندا :

" و السفر ؟؟ "

فأجابتْ الخالة :

" نؤجّله إلى أن تتحسّن صحّتك و تستعيدين عافيتك إن شاء الله "

فأخذتْ رغد تطيل النظر نحو يدها رجلها المصابتين… و تزفر التنهيدة خلف الأخرى بمرارة…

مددتُ يدي مرّة أخرى و أخذتُ أمسح على جبيرة يدها المصابة مواسياً و أنا أقول:

" اطمئنّي صغيرتي… بلاءٌ و سينفرج بإذن الله… ستتعافين بسرعةٍ بحوله تعالى "

قالتْ و كأن في ذهنها هاجس ٌ تريد أن تستوثق منه :

" هل سأستطيع المشي؟ "

قلتُ بسرعة:

" طبعا رغد… إصابتكِ ليستْ لهذه الدرجة "

فقالتْ متشكّكة :

" ألستَ تقول هذا لتهدئتي فقط ؟ لا تخف ِ عنّي شيئا "

أجبتُ مؤكداً :

" أبدا يا رغد.. أقسم لك أن هذا ما قاله الطبيب… هل كذبتُ عليكِ من قبل ؟؟ "

و ليتني لم أسأل هذا السؤال… لأنها نظرتْ إليّ نظرةً قويّةً ثم قالتْ :

" أنت أدرى "

ابتلعتُ نظرتها و جملتها… و قد حضر بذهني كيف كانتْ في العام الماضي تنعتني بالكذاب، لأنني أخلفتُ بوعدي لها بألاّ أسافر دون علمها و سافرتُ مضطرا…

الخالة ليندا قالتْ مؤيدة :

" أكّد الطبيب ذلك على مسمعٍ منّي أنا أيضاً. ستشفين تماماً بمشيئة الله… تحلّي بالصبر و قوّي أملكِ بنيّتي "

و سرتْ بعض الطمأنينة في قلب الصغيرة و إن بدا على وجهها شيء من القلق و هي تقول :

" الحمد لله... المهم أن أعود و أمشي طبيعياً... و أرسم من جديد "

و فهمتُ أن جلّ خوف رغد هو من أن تصاب بإعاقة لا قدّر الله في رجلها أو يدها... و صرفتُ الوقت في طمأنتها و تشجيعها و رفع معنوياتها....

قضيتُ النهار بكامله مع رغد... ما بين قراءة القرآن و الاستماع لتلاوته عبر التلفاز... و مراقبة و دعم رغد بين الحين و الآخر... و اطمأننتُ و لله الحمد إلى زوال حالة الهذيان الغريبة التي انتابتها صباحاً

و رغم الإرهاق الذي سيطر عليّ قاومتُ و تابعتُ إظهار صمودي و تماسكي و تأقلمي مع الوضع... من أجلها هي... من أجل أن تصمد و تتشجع و تستمد القوة منّي... و إن كان داخلي في الحقيقة منهاراً بشدّة...

في وقت الزيارة حضر صديقي سيف و أحضر زوجته لزيارة رغد و وجدتها فرصةً جيّدة لتجد رغد من يواسيها قليلاً ... و لكي استمدّ بدوري بعض الدعم من صديقي الحميم و لأشكره و اعتذر إليه و إن كنتُ أعلم أنّ سيف لم يكن لينتظرهما... بقي سيف و زوجته معنا لدقائق معدودةٍ و قبيل مغادرتهما سألتُ سيف أن يصطحب خالتي من جديد إلى المنزل على أن يعود بها ليلا مع بعض حاجيات رغد...


"و ماذا عنك يا رجل ؟ ألا تريد قسطاً من الراحة ؟؟ "

سألني سيف و نحن نقف في الممر بجوار غرفة رغد و أنا مستندٌ على الجدار أنشد دعمه... و هو أمامي يرى آثار الإرهاق مستنجدةً على وجهي و جسدي...

أجبتُ :

" عندما تعود بالخالة ليلاً سأذهب للنوم... طلبتُ منها أن تبقى مرافِقةً لرغد طوال الليل... و أبقى أنا طوال النهار "

سألني سيف :

" و ماذا عن زوجتك ؟ "

تنهّدتُ بمرارة ثم قلتُ :

" آه... اسكتْ يا سيف و لا تأتِ بذكرها داخل المستشفى... لا تريد رؤيتها و لا حتّى سماع اسمها... آه لو تعرف ما الذي حصل لها صباحاً... جُنّ جنونها حين رأتها.... تنفر منها بشكلٍ مفزعٍ يا سيف... يبدو أنها من تسبّب في الحادث... بشكلٍ أو بآخر... و لو لم أتمالك نفسي اليوم لكنتُ ... "


و صمتُ... إذ لم أشأ أن أعبّر عن مشاعر الغضب المجنونة أمام سيف... لكنني أعرف بأنه يدرك كل شيء...

قلتُ :

" ما كدتُ أصدّق أنها هدأتْ أخيراً... و لازلتُ متخوفاً من أنها قد تنهار في أيةِ لحظةٍ و لستُ مطمئناً لتركها وحدها مع الخالة... لكن... إنها مستشفى و لها قوانينها و أنظمتها و بقائي هنا طوال الوقت أمر غير لائق "


بعد صمت ٍ قصير سألني :

" كيف وقعتْ ؟ "

أجبتُ :

" لا أعرف يا سيف. تشاجرتْ مع أروى... هما و منذ أيام متخاصمتان... تشاجرتا معا و كانتا تقفان على درجات السلّم... و وقعتا سويةً... لكنّ الإصابة اختارتْ رغد "

و تنفستُ عميقاً ثم قلتُ :

" لم يحدث أن تعاركتا بالأيدي و لكن... يبدو أن هذا ما حصل على السلّم... فوقعتا... و أصيبتْ رغد "

تنهدتُ و واصلتُ :

" أنا خائفٌ عليها يا سيف... خائفٌ أن يسبّب الجرح مشكلةً مزمنة في رِجـْـل الفتاة... أو يدها"

قال سيف مباشرة:

" لا قدّر الله... تفاءل بالخير يا رجل "

تنهدتُ مجددا و قلتُ :

" الأمر بالنسبة لي... قضاء أحمد الله على لطفه فيه... و الطبيب طمأننا جداً... لكن... يظلّ خوفي الأساسي على الفتاة و نفسيتها... إنها صغيرةً و ضعيفةً جدا... لن تحتمل شيئاً كهذا... بل إنّ مجرّد تفكيرها في احتمال وقوعه يرسلها إلى الجحيم... الصغيرة قد لاقتْ من البلاء الكثير حتى اليوم... منذ الطفولة يا سيف و هي تعاني...
اليتم... و عمّار القذر... و فقد والديّ... و الحرب... و التشرّد و الغربة و الوحدة... كل هذا... على قلب فتاة صغيرةٍ بريئةٍ هشّةٍ... قل لي يا سيف من يحتمل ذلك؟؟ و بعد هذا كسرٌ و جبرٌ و عكّاز... و إعاقة... إن عقل فتاتي يكاد يزول يا سيف... بل إنه قد بدأ يزول فعلاً "

وقبضتُ يدي بشدة و في ألم مرير...
سيف أمسك بقبضتي مشجعاً و حين شعرتُ بدعمه أطلقت ُ العنان لصدري أكثر ليبوح بمخاوفه...

" أنا السبب الحقيقي في هذه الحادثة ! كنتُ أعرف أن التوتّر بينهما وصل حد الخطر... بل تجاوزه بكثير... كان يجب أن أبعدهما عن بعض منذ زمن... ليتني فعلتُ ذلك قبل فوات الأوان... تركتُ الأمر يصل إلى حد الكسر ! أوه يا إلهي ! أنا السبب... كيف أقابل ربّي؟؟ بأي وجه سألقى أبي و عمّي؟ و أمّي؟؟ ماذا سأقول لهم ؟؟ لقد أودعتموها أمانةً عظمى في عنقي و أنا... ببساطةٍ تركتها تتكسّـر ! "

و ضربتُ رأسي بالجدار الذي كان خلفي غضباً من نفسي... و تمنيتُ لو أنه تحطّم... أو أن عظامي هي التي انكسرتْ و لا مسّ الصغيرة خدش ٌ واحد...
سيف شدّ على يدي أكثر و نطق ببعض الكلمات المواسية... التي ما كان أحوجني إليها آنذاك...

بعد ذلك سألني :

" هل... عرف أقاربها بالأمر ؟ "

فتحتُ قبضتي بسرعة و كأنني تذكّرتُهم الآن فقط... فقلتُ و أنا أهزّ رأسي :

" كلا ! لن أخبرهم ! إنهم سيتهمونني بالتقصير في رعايتها... كانوا سيحرقونني بنظراتهم عندما أخذتها آخر مرّة من بيتهم... "

و تذكرتُ الطريقة التي كانتْ أم حسام تخاطبني بها في آخر لقاء... و كيف قالتْ لي: (الله الله في اليتيمة) و كأنها كانتْ تشكُ في أنني سآتي بها يوماً ما مكسورة العظام...!

و الأيام سترينا مدى صدق مخاوفي...

قال سيف:

" لا تحمّل نفسك الذنب يا وليد... فلنحمد الله على لطفه و ندعوه أن يعجّل الشفاء للمصابة و يجعل من وراء هذه الحادثة خيراً "

ابتسمتُ بامتنان ثم عانقتُ صديقي مستمداً منه بعض الطاقة و الشجاعة...

بعدها قال :

" بلّغها تحياتي و أمنياتي بالشفاء العاجل... و إذا احتجتم لأي شيء أو أي مساعدة منّي أو من أم فادي فلا تترددوا رجاء ً "




الساعة الثامنة مساء... انتهى وقتُ الزيارة... و أتت ْ إحدى موظفات المستشفى لتنبيهنا لذلك... و أنا واقفٌ إلى جوار رغد... و الخالة قد وصلتْ قبل قليل، و سيف قد غادر.

نظرتُ إلى رغد نظرة متردّدة ثم قلتُ :

" ستبقى الخالة برفقتكِ... اعتمدي عليها في أي شيء تريدينه و إذا احتجتما لي اتصلا في الحال "

ظهر الاهتمام على قسمات وجه رغد و قالتْ :

" إلى أين ستذهب ؟ "

أجبتُ بلطف :

" إلى البيت... إذ أنه لا يمكنني البقاء أكثر "

و هنا رأينا رغد تستوي جالسة... و تقول معترضة و وجهها يصفر ّ قلقاً :

" هل ستتركني وحدي ؟ "

تبادلتُ و الخالة النظرات ثمّ قلتُ :

" لا ... ستبقى خالتي معك "

و إذا برغد تهتف :

" أخرجني من هنا "

وضعها ينذر بأنها على وشك الثوران... لم استطع قول شيء فقالتْ الخالة :

" يهديك الله يا بنيّتي كيف يُخرجكِ هكذا ؟ "

لكنّ رغد لم تكن تمزح... بل أبعدتْ اللحاف و أرادتْ النهوض فأسرعتُ باعتراضها و أنا أقول:

" أوه كلا... أرجوكِ لا تتحرّكي "

فصاحتْ مرتاعة:

" كيف تذهب و تتركني؟ ألا ترى ما أنا فيه يا وليد؟ ألا ترى هذا ؟؟ "

قلتُ بهلع:

" حسناً حسناً ... سوف لن أذهب لكن أرجوك لا تنفعلي مجدداً... ابقـَي مكانك "

و أنا أعيد إسنادها إلى الوسادة... و أتنهد ثم أمسح زخات العرق التي نبتتْ على جبيني و أضغط على صدغي لأخفـّف الصداع الذي تفاقم لحظتها... ثمّ أجلس على طرف السرير باستسلام...

لابد أن التوتر و الضيق كانا فاضحين جداً على وجهي... للدرجة التي صعقتني رغد عندها بقول :

" ماذا ؟ هل ضقتَ ذرعاً بي ؟ إذن ارم ِ بي من هذه النافذة و أرح نفسك "

لا ! ليس من جديد... توقــّـفي عن جنونك يا رغد أرجوكِ كفى... كفى...

زحفتُ نحوها و قلتُ بألم و ما بي من بقايا طاقة تحتمل المزيد:

" ما الذي تقولينه يا رغد؟؟ أرجوك هذا يكفي "

قالتْ صارخةً :

" ألا ترى حالتي هذه؟؟ كيف تفكّر في الذهاب و تركي؟ ألا تشعر بما أنا فيه ؟ "

إنّكِ أنتِ من لا يشعر بما أنا فيه يا رغد...

قلتُ :

" لا لم أفكّر في ترككِ ، و لكن نظام المستشفى لا يسمح ببقاء رجل برفقةِ مريضة في قسم السيدات. حتّى لو كان أباها. لذلك طلبتُ من الخالة مرافقتك"

لكن رغد لم يعجبها هذا و أصرّتْ على أن أبقى معها تلك الليلة، و لم تكن حالتها تسمح بأن أتجاهل إصرارها...

و رغم الحرج الشديد الذي واجهته و أنا أطلب من المسؤولين السماح لي بالبقاء هذه الليلة مع المريضة و المرافقة... تعاطفا ً مع حالتها النفسية، رضختُ لرغبة رغد و تكبّلتُ العناء و قضيتُ الليلة الثانية ساهراً إلى جوار صغيرتي... تاركاً أروى تبات وحيدة في المنزل الكبير...


لم تكن ليلتي ليلة ً و لم يكن حالي حالاً... لا أنا و لا صغيرتي عرفنا للراحة طعماً... كنتُ أجلس على مقعد تحجبه عن سريرها الستارة... و لكنّي كنتُ أسمع كل حركاتها و تقلباتها و تأوّهاتها طوال الليل... كانتْ نوبات الألم تكرّ و تفرّ على عظام الصغيرة المكسورة و أنسجتها الممزقة... و الممرضة تأتي بين فترة وأخرى لإعطائها المسكّن...


في صباح اليوم التالي سمحتْ لي رغد بالخروج على أن أعود عصرا ... و ما كادتْ تفعل.

كان الإرهاق قد أخذ منّي ما أخذ و لم أكن قد نمتُ البارحة أبدا... غير غفوة قصيرة تملكتني بعد شروق الشمس. و يبدو أن الخالة قد نجحتْ في إقناعها بتركي أذهب أثناء غفوتي القصيرة أول الصباح.

وقفتُ قرب رغد أسألها عن أي شيء أخير تريده قبل مغادرتي...

" سآوي إلى فراشي مباشرةً ... و سأترك هاتفي عند وسادتي... اتصلا إن احتجتما أي شيء في أي وقت و بدون تردد"

قلتُ و أنا أنقل بصري بين رغد و الخالة... رغد أومأتْ موافِقة، و الخالة قالتْ مطمئِنة:

" لا تقلق يا بني. سنتصل عند الضرورة. اذهب و نم مطمئنا مسترخيا "

التفتُ إلى رغد و أطلتُ النظر... لم يكن قلبي بقادر على المغادرة لكن و لم أثق في موافقتها هذه... لكنّي كنت في غاية الإرهاق و بحاجة ماسة للنوم...

مددتُ يدي إليها و ربتُ على يدها و قلت ُ بصوت هادئ و حنون :

" حسنا صغيرتي... أتركك ِ في رعاية الله... ابقي هادئة رجاءً ... سوف لن أطيل الغياب "

الصغيرة شدّتْ على يدي و حملقتْ بي و ربما كان لسان حالها يقول (لا تذهب) لكنها أجبرتْ فمها على التقوس في شبه ابتسامة مترددة...

و ما كان منّي إلا أن شددتُ على يدها و قلتُ أخيرا بأحن صوت:

" أراكِ على خير و عافية... يا صغيرتي "


و هكذا تركتها أخيرا و عدتُ إلى البيت مثقلا بالتعب و الهموم...
في المنزل سرتُ ببطءٍ شديد حتى بلغتُ أسفل الدرج... و تذكرتُ صراخ رغد ليلة الحادثة فقرصني الألم في قلبي... صعدتُه خطوةً خطوة... و أنا مستمر في إنعاش صدى صرخاتها...
و انعكاس صورة وجهها المتألم...
و قادتني قدماي بشعور أو بغير شعور... ليس إلى غرفتي... بل إلى غرفتها...

دخلتُ الغرفة متجاوزاً كل اعتبار... و أخذتُ أحلّق بأنظاري في أرجائها... و أعانق بيدي جدرانها...

على الجدار الكائن خلف سرير رغد... كانتْ الورقة القديمة... للصورة التي رسمتها رغد لي... بشاربي الطويل... لا تزال تقف و منذ سنين... بكل بشموخ...

لم تحتمل عيناي رؤيتها... وسرعان ما خرّتْ دموعي صريعة الأسى...
جلستُ على حافة السرير... و مسّدتُ على الوسادة كما لو كانت هي صغيرتي... بكل عطف و حنان... فإذا بي أشعر بحبيبات رمل تعلق بكفي... و ألقي عليها نظرة فإذا بها ذرات السكر...
جذبتها إليّ و ضممتها إلى صدري... و هو أمر لم استطع أن أقدّمه لفتاتي المرعوبة... عوضا عن وسادتها... و كلّما تذكّرتُ كيف كانت مرحة و سعيدة جدا و نحنُ في النزهة أوّل الليل... ثم كيف صارتْ كومة من البؤس و الألم و الصراخ... ملقاة على السرير الأبيض التعيس آخره... عصرتها أكثر بين ذراعي...

انتابني شعور بنيران تحرق معدتي... و كأنها تنعصر قهراً مع الوسادة و تأوهتُ بألم...


" آه يا رغد... "

رفعتُ يدي من على الوسادة إلى السماء و زفرتُ الآهة مصحوبة باستغاثة يا رب...

" يا رب... يا رب... أنت تعرف أنني لا أعزّ شيئا في هذه الدنيا مثل رغد... يا رب... أنا أتحمّل أيّ بلا ٍ ... إلا فيها... أتوسّل إليك يا رب... ألطـُف بحالي و حالها... أتوسّل إليك... اشفِها و أخرجها سالمةً... و أعدها كما كانتً... يا رب... خـُذ من صحّـتي و أعطِها... و خـُذ من عمري و هبها... خـُذ منّي أي شيء... كل شيء... و احفظها لي سالمة... هي فقط... أنا لا أتحمّل أن يصيبها أيّ شيء... يا رب... أيّ شيء.... إلاّ رغد يا رب... أرجوك... لا تفجعني فيها... أنا أختنق يا رب... إلهي... أرجوك... اجعل لي من لطفكِ فرجاً عاجلاً... عاجلاً يا رب... عاجلاً يا رب... يا رب... "


و لو بقيتُ ها هنا لزهقتْ روحي من فرط المرارة ...
غادرتُ غرفة رغد و أنا شاعرٌ بها تملأ رئتي... أزفرها و أستنشقها مع كل أنفاسي و أناتي...

ذهبتُ إلى غرفتي و قضيتُ زمنا أناجي الله و أدعوه و أصلّي له... حتى سكنتْ نفسي و اطمأنّ قلبي و ارتاح بالي... و فوّضتُ أمري إلى الله اللطيف الرحيم...

أخيرا ... رميتُ برأسي المثقل على الوسادة... و نشرتُ أطرافي على فراشي بعشوائية... أخيرا سأستسلم للنوم...

أغمضتُ عينيّ بسلام... فإذا بي أتخيّل رغد من جديد... فتحتهما فرأيتها أمامي... لففتُ رأسي ذات اليمين ثم ذات الشمال... وكانت هي هناك... في كل مكان...

رفعتُ وسادتي و وضعتها على وجهي لأحول دون صورة رغد التي لم ترحم بحالتي تلك الساعة...

أرجوك ِ كفى! لماذا عدت ِ؟ دعيني أنام و لو لساعة! أرجوكِ يا رغد... رأفة ً بي...
لكنني رأيتها تحت الوسادة و لو قلبتُ وجهي على السرير لرأيتها فوقه أيضا تحاصرني كالهواء من كل الجهات

فجأة... تذكرتُ شيئا... لم يكن ينقصني تذكّره في تلك الساعة التعيسة...

رفعتُ الوسادة عن رأسي و جلستُ و بحثتُ بعيني تحت موضعها... قلبتُ بقية الوسائد... أزحتُ البطانية و فتـّشتُ هنا و هناك و لم أعثر على رغد !

" ربّاه ! أين اختفيت ِ فجأة ؟؟ "

ذهبتُ فورا إلى محفظتي و شرّحتها تشريحا دون جدوى !

فتشتُ أسفل السرير... و المنضدتين الجانبيتين و الأدراج... و كل مكان لم أكن لأترك فيه (رغد) ... ورغم أنها كانت موجودة في كلّ مكان، لم أجدها في أي مكان!

" أروى ! لابد أنها هي ! "

استنتجتُ فجأة...
فخرجتُ من غرفتي و توجهتُ إلى غرفة أروى... و التي لم أكن قد رأيتها مذ تشاحنتُ معها صباحاً و نحن في المستشفى...

لم أتردّد غير برهةٍ واحدةٍ بعدها طرقتُ الباب و ناديتُ :

" أروى... هل أنتِ نائمة ؟؟ "

الوقت كان مبكراً و خشيتُ أن تكون نائمةً، لكنني أعلم أنّ من عادتها النهوض باكراً كل صباح... أعدتُ الطرق فرأيتُ الباب يُـفتح بعد ثوان و تطلّ منه أروى بوجه قلِق.

اللحظة الأولى مرّتْ صامتة ساكنة حتى عن الأنفاس... و باردة كليلة شتاء...

" هل... كنتِ نائمة ؟ "

سألتها بعد ذلك البرود فأجابتْ :

"
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
اللؤلؤة السوداء
القائد "V"
القائد
اللؤلؤة السوداء


عدد المساهمات : 186
النقاط : 10340
التقييم : 5
تاريخ التسجيل : 21/07/2011
العمر : 38

رواية انت لي - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: رواية انت لي   رواية انت لي - صفحة 2 Emptyالأحد يوليو 31, 2011 7:26 am


سألتها بعد ذلك البرود فأجابتْ :

" نعم..."

و سألتْ بقلق :

" ماذا هناك؟؟ "

رددتُ :

" آسف لأنني أيقظتكِ "

قالتْ :

" كنتُ سأصحو قريبا على أية حال... لكن ماذا هناك ؟ متى عدتما؟ "

قاصدة إياي و الخالة، قلتُ :

" خالتي ظلّتْ مع رغد"

و كأنّ ذكر (رغد) أثار في وجه أروى بعض التعبيرات المنزعجة... و سرعان ما نقلتْ بصرها بعيدا عنّي...

قلتُ :

" كنتُ سأسألك ِ سؤالا "

التفتتْ إليّ و قالتْ مباشرة :

" و أنا أيضا أود أن نتحدّث يا وليد... "

و هي تفتح الباب أكثر... فرددتُ :

" كلا ليس هذا وقته. أنا متعب جدا و لا يحتمل رأسي أي شيء... و لا شيء "

و كأن إجابتي أصابتها بإحباطٍ مما بدا على وجهها...

تابعتُ :

" فقط أخبريني... ألستِ من قام بترتيب غرفة نومي؟ "

و كانتْ عادتها أن تفعل ذلك. لم تجب أروى مباشرة... بل أخذتْ لحظة تفكّر... ثم قالتْ :

" بلى "

قلتُ :

" و... هل رأيتِ شيئا قرب وسائد سريري؟ أعني... هل أخذتِ شيئا من هناك ؟ "

ربما لمعتْ عينا أروى بشكل لم أفهمه... رمقتني بنظرة حادّة لا تتناسب و برودة اللحظة... ثم قالتْ :

" شيء مثل ماذا ؟؟ "

و فهمتُ من ذلك أنها رأتْ الصورة الممزقة... فعضضتُ على أسناني ثم قلتُ :

" أين وضعتِها ؟ "

أروى رفعتْ حاجبيها و قالت ْ :

" القصاصات الممزقة ؟"

تشبثتْ عيناي بعينيها أكثر، إجابة على السؤال.. فتابعتْ هي :

" لقد... ألقيتُ بها في سلّة المهملات "

ماذا تقولين ؟؟ لم أسمع جيدا ؟؟ سلّة ماذا ؟؟
قلتُ بدهشة ممزوجة بعدم التصديق :

" ماذا؟؟ رميت ِ بها ؟؟ "

لم تعقـّبْ أروى... فكرّرتُ و قد اشتدّ صوتي و بدأتْ ألهبة النار تتراقص في عيني :

" تقولين رميت ِ بها ؟؟ "

و من البرود الذي صافحني به وجهها اشتعلتْ النيران في رأسي كليا...

" أروى !! رميتِ بها ؟؟ بهذه البساطة؟؟ و من أعطاك الحق بهذا التصرف؟ أوه... أروى ويحك !! في المرة السابقة رميتِ بالصندوق و الآن بالصورة.... كيف تسمحين لنفسك ِ بهذا؟؟ "

و لم يتجاوز ردّ أروى حدّ النظرات الصامتة !

" أخبريني في أي سلّة رميتِ بها ؟ "

دارتْ عين أروى قليلا و كأنّها تحاول التذكّر ثم قالتْ:

" أظن ... أن الخادمة قد أخرجتْ جميع أكياس المهملات إلى سلــّـة الشارع"

حينها لم أتمالك نفسي!

صرختُ بوجه أروى بعنف... و أحرقته بنار الغضب ...
أطبقتُ على ذراعيها و هززتـُها بقوّة و ركلتُ الباب ركلة عنيفة أوشكتْ على كسر عظام قدمي الحافية...

" ما الذي فعلتِه يا أروى ؟؟ لا تدركين ما فعلتِه ... كيف ستعيدينها الآن ؟؟ تباً لك ِ! ألا يكفي كل ما أحدثتِه لحد الآن؟ لن يتـّسع عمري لتصفية حساباتي معك... و الآن اذهبي و استخرجيها لي و لو من قعر الجحيم ! "

رأيتُ نهرين من الدموع يتفجران فجأة من عيني أروى و يسيلان على وجنتيها... و رأيتُ الاشتعال في وجهها إثر صفـْعِ صراخي القوي...

كنتُ غاضبا جدا...

ألم يكفها ما فعلتْ بالصغيرة ؟ و أيضا تحرمني من البقايا الممزّقة من ذكراها التي لم تفارقني لحظةً واحدة...منذ سنين ؟؟

صرختُ بخشونةٍ بالغةٍ :

" لا أريد دموعاً... أريد الصورة الآن و بأيّ طريقة... هيّا تحرّكي... في الحال... قبل أن تمزقكِ شياطين غضبي إربا... أتسمعين؟؟ "

و أفلتها من بين يدي بدفعةٍ قاسيةٍ...

أروى استندتْ إلى الجدار... ثم مسحتْ دموعها... ثم سارتْ ببطء نحو الداخل... ثم عادتْ إليّ تحمل شيئا في يدها و مدّته نحوي...

و سرعان ما اكتشفتُ أنها قصاصات صورة رغد الممزقة...

تجمّدتُ فجأة و لم أقو َ على الحراك... و تحوّلتْ نيراني إلى كتل ٍ من الجليد... رفعتُ بصري إلى عينيها فرأيتهما حمراوين و المزيد من الدموع تتجمع فيهما... و منهما تنبعثُ نظرات تعيسة...

" خـُـذ "

تكلــّمتْ بصوت ٍ هزيلٍ ضعيفٍ... و هي تحرّك يدها ...

تحرّكتْ يدي بلهفةٍ و تناولتْ القصاصات من يدها... و أخذتْ عيني تتفحّصها بشوقٍ و تتأكد من اكتمالها... ثمّ انتقلتْ أنظاري من القصاصات إلى أروى...

شعرتُ بالانهيار... و حرتُ في أمري...

و أخيرا... قلتُ بصوت ٍ تحطـّم فجأة و تحوّل من الصراخ الناري إلى الهمس البارد:

" لكن... إه... لماذا ادّعيت ِ أنك رميت ِ بها ؟ "

أروى ردّتْ وسط بحر الدموع :

" كنتُ... أريد اختبار ردّة فعلكَ... لأتأكّد "

و عصرتْ الدمع المتجمّع في عينيها بمرارة... ثم تابعتْ :

" و أنا الآن... متأكّدة... من كلّ شيء "

و أضافت ْ أخيرا :

" ستمزقني... حتّى من أجل... صورتها ! "

و بسرعة استدارتْ و هرولتْ نحو سريرها و أخفتْ وجهها بين الوسائد و بكتْ بانفعال...

واقفٌ كعمود الإنارة المحروق... لا يملك قدماً تخطو للأمام و لا للخلف... و مهما ثار يبقى منطفئا عاجزاً عن إنارة المنبت الذي يرتكز عليه... و رؤية أين يقف... تسمّرتُ أنا بين الذهول و الفزع... و بين الإدراك و الغفلة... و التصديق و الرفض... أنظر إلى أروى و أسمع دوي كلماتها الأخيرة يزلزل جمجمتي... دون أن يكون لي من القوّة أو الجرأة ما يكفي لفعل أي شيء !


أخيرا تمكّن لساني من النطق ...

" أروى ... "

لم ترد عليّ، ربما كان صوتي جدا ممزقاً... لممتُ شيئا منه و ناديتها ثانية :

" أروى ... "

و هذه المرّة ردّتْ فجاء صوتها مكتوماً عبر الوسائد :

" اتركني وحدي "


و على هذا... عدتُ أدراجي إلى غرفتي أحمل أشلاء صورة محبوبتي الصغيرة بين أصابعي... و أضمّها إلى صدري...
و مرة أخرى هويتُ برأسي المشحون بشتّى الأفكار على الوسادة... و لكنني لم أرَ إلا سواداً أودى بوعيي إلى قعر الغياب...
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
اللؤلؤة السوداء
القائد "V"
القائد
اللؤلؤة السوداء


عدد المساهمات : 186
النقاط : 10340
التقييم : 5
تاريخ التسجيل : 21/07/2011
العمر : 38

رواية انت لي - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: رواية انت لي   رواية انت لي - صفحة 2 Emptyالأحد يوليو 31, 2011 7:27 am


الحلقه الثالثة والاربعون

مـــــن حبيبتك؟؟
الساعه الثالثه إلا عشر دقائق عصراً أفقت من النوم مفزوعا على صوت رنين هاتفي.

تناولت الهاتف بسرعه وأنا استرجع وعيي فجأه واتذكر رغد وما ألم بها
أجبت بقلق:
نعم هذا أنا".
وسمعت صوت رغد يحدثني من الطرف الآخر:
مرحبا وليد. هل كنت نائما؟"
قلت:
نعم رغد هل انت بخير؟
قالت:
"أجل. اتصلت مرتين ولم ترد! كنت أريد أن أطلب منك جلب بعض حاجياتي معك.
متى ستأتي؟""
ألقيت نظرة على ساعة الحائط ثم قلت:
"بعد ساعة من الآن. لقد استغرقت في النوم ولم أحس بشي. أنا أسف. ماذا أجلب معي؟"
وذكرت لي عدة أشياء تلزمها... وإن كان (الحذاء) من بينها!
لم ألتق بأروى خلال تلك الساعة ولم أسمع ردا حين طرقت باب غرفتها
لأعلمها بانصرافي..
وذهبت إلى المستشفى وأنا أحمل باقة من الزهور الجميلة وعلبة شوكولا كبيرة بالإضافة إلى حاجيات رغد..
عندما وقعت أنظاري عليها للوهلة الأولى شعرت براحة..
إذ أنها بدت بحالة أفضل
وعاد لون الحياة إلى وجهها بعد الشحوب. كما أنها سرت بباقة الزهزر وشكرتني عليها.
أقللت خالتي إلى المنزل وعدت سريعا إلى رغد حيث قضيت معها ساعات الزياره..

تخلل تلك الساعات فترة العشاء وقد قمت بنفسي بتشجيع ومساعدة رغد على تناول
الطعام.
تجابها معي طمأنني إلى أنها تجاوزت مرحلة الانهيار النفسي وتقبلت لحد ما وضعها الحالي. هاذا إضافة إلى
أن كلام الطبيب منحني المزيد من الطمأنينة على وضعها هذا اليوم.
بعد أن أنهت عشائها بدا عليها بعض الشرود والتوتر ...
وأنا أعرف صغيرتي حين يشغل بالها شيء..
سألتها:
" أهناك شيء يا رغد؟"
نظرت إلي وفي عينيها التردد ولمحت أصابع يدها السليمه تتحرك باضطراب.
وكأنها تود قول شيء تخشاه.
قلت مشجعا:
"خير صغيرتي؟؟ ماذا يزعجك؟
قالت بعد تردد:
"ماذا قالت لك؟"
نظرت إليها مستنتجا ما تعنيه. كانت الإشارة إلى أروى طبعا. الاهتمام كان جليا على وجهها.
رددت عليها:
"لاشيء"
فسألت:
لاشي؟
فوضحت:
"أعني أنني لم أتحدث معها بعد. حقيقة لم أجد الوقت لذلك. كنت نائما طوال الساعات.
تلاشى جزء من توتر رغد وسكنت أصابعها ولكنها لم تزل مشغولة البال.
قلت:
"أهناك شيء تودين قوله لي يا رغد؟
اضطربت وأجابت:
" لا. لكن..."
"لكن ماذا؟"
"لاتتصغ لما تدعيه هي علي... إنها تكرهني".
وقد قالتها بانفعال فقلت:
"لا أحد يكرهك يا رغد.
فردت بانفعال أكثر:
"بل تكرهني.., وتعتبرني عالة عليك وعلى ثروتها.. وحتى على منزلنا".
قلت نافيا:
"غير صحيح يارغد... أروى ليست من هذا النوع".
قالت بعصبيه:
"قلت لك لا أريد سماع أسمها... لماذا تدافع عنها؟ ألم ترَ مافعلت بي؟؟ أنت لم تسمع ماقالته لي".
أحسست بأن أي شراره قد تشعل حريقا فظيعا... فأردت تدارك الأمر وقلت:
"لاتلقي بالا لشيء الآن. سنناقش المشكلة بعد خروجك سالمة إن شاءالله".
هدأت رغد وقرأت الرضا والامتنان على قسمات وجهها,ألحقتهما بابتسامة بسيطة بكلمة:
"شكرا على تفهمك".
ابتسامتها السطحية هذه أدت مفعولها وأشعرتني بتيار من الراحة... أما جملتها التالية فأطلقت قلبي محلقا في السماء...
"أنت طيب جدا... أثق بك كثيرا يا وليد".
غمرتني نشوى دخيلةٌ على الظروف والحال اللذين نمر بهما ... وأطلقت زفرة ارتياح وسرور من أعماق صدري...
وانقضت ساعات الزيارة وذهبت إلى المنزل مرتاح البال زمتهلل الوجه لحد ملحوظ...
ثماصطحبت الخالة ليندا إلى المستشفى لتبقى مع رغد طوال الليل...


عندما وصلنا إلى المستشفى, وبعد أن ركنت السيارة في أحد المواقف الخاصة,
خاطبتني الخالة قائلة:
" وليد يابني... عد إلى أروى وتحدث معها".
كانت نبرتها مزيجا من الجدية والحزن... أيقضتني من نشوة السرور التي كنت أغط فيها...
شعرت بالحرج وقلة الحيلة ولم أجرؤ على النظر إلى عينيها... الخلة تابعت:
"إنها ليست على مايرام يابني...أنت منشغل هنا مع رغد وإصابتها... لكنأروى أيضا في حالة سيئة وبحاجة إليك باركك الله".
بخجل رفعت بصري إليها وأطرقت برأسي مؤيداً...
حين وصلت إلى البيت وقفت أمام غرفة أروى في حيرة... لم تكن لدي الأفكار الحاضره لطرحها في الحديث...وأحاديثنا في الأيام الأخيرة كانت مشحونة جدا...
ومؤخرا تصرفت معها بخشونة بالغة...
مددت يدي أخيرا وطرقت الباب...
" هذا أنا... أيمكنني الدخول؟؟"
فلم ترد. فقلت:
"أروى... هل أنت نائمة؟؟"
فلم ترد.
كررت مناداتها إلى أن سمعتها تجيب أخيرا وبنبرة غاضبةٍ:
"نعم؟ ماذا تريد".
قلت:
"ام لاتردين علي؟؟ أقلقتني عليك".
فسمعتها ترد بأسلوب لم يعجبني:
"أحقا؟؟ لاداع لأن تقلق بشأني. يكفيك ما أنت فيه ومن تقلق بشأنهم. لاتتعب نفسك".
وقفت برهة حائرا ومنزعجا في مكاني.. فأنا لم أعتد الصدود من أروى بل رحابة الصدر وطول البال وحرارة الترحيب...
ثم ناديتها مرتين وطلبت منها الإذن لي بالدخول لنتحدث... ولما تجلهلت نداءاتي تجرأت وفتحت الباب!
دخلت الغرفة فرأيت أروى تهب واقفة مفاجأة من دخولي... ورأيت الاحمرار يطلي وجهها بسرعه... وأروى من النوع الذي يتغير لون وجهه بسرعه مع تغيرات انفعالاته...
قلت وأنا أراها تضطرب وترتد خطوة للوراء:
"أنا... أنا آسف ولكنني..."
وتنحنحت لأزيل الحروف التي تعثرت في حنجرتي... ثم تابعت بصوت خافت
وحنون:
"قلق بشأنك".
حل صمت عميق فيما بيننا فلا أنا قدرت على مواصلة الكلام ولا هي تكلمت لتشجعني... بل تراجعت خطوة أخرى للوراء وأدارت وجهها وأبعدت عينيها عني...
هل سنقف هكذا طويلا!؟؟ يجب أن أفعل شيئا!
تجرأت وخطوت بضع خطوات مترددة مقتربا من أروى... وهي لاتزال مديرة وجهها عني متحاشية النظر إلي...
"أروى".
ناديتها بصوت حنون...
وإن لم تنظر إليّ أو لم ترد علي... فهي على الأقل تسمعني...
قلت:
"أروى... أنا آسف لما بدر مني... أعرف أنني... أنني كنت فظا.. لكن... اعذريني فأنا أمر بظروف تفقد المرء اتزانه".
وأضفت:
"والأجدر بك كزوجة مساندتي وليس مؤاخذتي..."
هنا التفتت أروى إلي ورفعت بصرها نحوي... فقرأت في عينيها كلمات غاضبة...
ثم علقت:
"والأجدر بك كزوج... ملاطفتي وليس الصراخ في وجهي وسحق عظامي في الجدران".
لم أعرف بم أعقب! صعقني تعقيب أروى وأشعرني بذنب مؤلم...
أنا وأروى ومنذ ليلة شجارها مع رغد... على خلاف يتفاقم يوما بعد يوم... وأحدثت شجاراتها مع رغد بيننا فجوة كبيرة آخذة في الاتساع...

أولتني أروى ظهرها مجددا لتبعد عينيها وتعبيرات وجهها عن مرآي. ومرت اللحظة خلف اللحظة ونحن واقفان على هذا الوضع...
أردت أن أشعرها بندمي وبأنني راغب في أن نتفاهم ونتصالح...
مددت يدي ووضعتها على كتفها برفق... ثم أدرتها لتواجهني... وعندما التقت نظراتنا شاهدت بريق الدموع في عينيها...
"أروى..."
قلت هامسا:
"دعينا نتفاهم... أرجوك".
رفعت أروى يدها ومسحت الدمعة العالقة في رموشها قبل أن تطل... وأظهرت تعبيرات التماسك وقالت أخيرا:
"حسنا. عم تريدنا أن نتفاهم؟"
قلت وأنا لا أزال واضعا يدي على كتفها:
"عن كل شيء... والأهم عنك أنت".
نظرت إلي وهي وتضيق فتحتي عينيها وتقول:
"عني أنا؟"
أجبت:
"نعم. فأنا أود الاطمئنان عليك قبل كل شي الآن..."
قالت:
"وكيف تراني الآن؟؟"
قلت مشجعا:
"أراك بخير والحمدلله... ألست كذلك؟"
أمالت أروى إحدى زاويتي فمها للأعلى وعقبت:
"تلزمك نظارة".
وهي إجابة لم أتوقعها من أروى... ولم أستسغها... ثم أبعدت يدي عن كتفها إشارة إلى أنها غاضبة مني...
قلت محاولا استرضاءها:
"أروى... أنا آسف... آسف لأنني قصرت معك وأسأت التصرف... أرجوك أن تعذريني... إنني لا أعرف ماحصل ولكنني مأخوذا بإصابة رغد البالغة ولم أستطع التفكير في شيء أخر معها... أردت أن أسألك لتتضح الأمور... ولكن... تعرفين... كنت مضطرا لملازمة رغد في المستشفى ولم تسنح الفرصة".
قالت أروى وهي تعبر عن استيائها:
"مضطر؟؟"
قلت:
"أعني... أنه لابد من ذلك... لم يمكنني تركها وحيدة آنذاك لأنها تفزع من الوحده والغربة... إنه فزع مرضي كما أعلمتك مسبقا..."
قالت أروى بشيء من السخرية:
"وما الذي جعلك تتركهاالآن؟ هل تخلصت من مرضها أم ماذا؟"
لم أعقب على سؤالها, ثم قلت:
"اندع رغد لما بعد ولنتحدث عنك أنت الآن".
ولم أفهم سر التعبيرات التي طلعت على وجه أروى لحظتها...
بعدها قالت:
"بالنسبة لي أنا... فأنا أريد العودة إلى المزرعة".
فوجئت من كلامها وارتسمت على وجهي تعبيرات عدم التصديق... فنحن في ظروف ليست بحاجة للشرح ولايمكن لفكرة السفر أن تبقى في رأس أي منا...
قلت مستغربا:
"المزرعة؟؟"
فردت مؤكدة:
"نعم المزرعة. أريد العودة إلى المزرعة... إلى خالي... وفي أقرب فرصة".
أتعني ماتقول؟؟ ألا ترى وضعنا الحالي؟؟ أهي جادة في كلامها هذا؟؟
قلت:
"كيف يا أروى؟ عجبا! كيف تفكرين في هذا الآن؟؟ لانستطيع السفر وتدركين لماذا".
قالت موضحة:
"أما لم أقل نريد العودة... قلت أنني أنا أريد العودة... وإذا احتجتم لوالدتي فلا أظنها تمانع البقاء معكم... لكني أريد السفر وبسرعة... ولاتحاول ثنيي لأنني لن أغير موقفي".
وكان على وجهها الحزم والجد... فأدركت مدى الإصرار الذي تحمله...
رفعت يدي الاثنتين إلى كتفيها من جديد وقلت بصوت راجٍ:
"لماذا ياأروى؟ ألا تقدرين مانحن فيه؟"
أجابت بصوت غاضب, أفلت من مكابحه فجأة وفجر نافورة من الدماء في وجنتيها:
"لماذا؟ أوتسألني لماذا؟؟ لأنني تعبت يا وليد... أكاد أنفجر... ألاتشعر بما أعانيه؟؟
ألا تحس بي يا وليد؟؟ ألا تحس؟؟
وقبل أن تتم جملتها كانت الدموع قد فارقت من عينيها... فرفعت كفيها وخبأت وجهها وبكت بصوت عال...
كانت يداي لاتزالان قابعتين على كتفيها بحنان... ربما لتطبطبان على موضع القسوة التي عاملتها بها صباحا...
بكت أروى بألم.. فرققت لحالها وقلت:
"أرجوكِ... لاتبكي..."
لكنها استمرت في إطلاق الزفرات الباكية الحارة...
قلت بلطف:
"اهدئي رجاءً..."
أروى أزاحت كفيها عن وجهها ونظرت إلي من بين الدموع...
"ألا تحس بي يا وليد؟؟"
أجبت بعطف:
"من قال ذلك؟!"
أروى عصرت عينيها من الدموع وهي تحرك رأسهها نفيا وتقول:
"لا... لا تحس بي! إنك لا تشعر بما أشعر به... ولا بما أعانيه".
مدهشا من كلامها وقفت أحدق في عينيها وأصغي باهتمام...
وإذا بها تمد إحدى يديها إلى إحدى ذراعيّ الممدودتين إلى كتفيها فتشد عليها وتقول:
"وليد... وليد... أنا أحبك".
شعرت بشيء يقف في حلقي فجأة ويسد مجرى هوائي! فتوقفت عن الحركة وعن التنفس...
أما هي فتابعت:
"أتدرك ذلك؟؟"
ولما رأت سكوني هزت ذراعي وكررت:
"أتدرك ذلك يا وليد؟ أتحس بي؟؟"
أطلقت زفرة أخيرة مصحوبة بإجابة متوترو:
"آه... أجل... طبعا".
قالت:
"وأنت؟ هل تحبني؟"
ازداد توتري واستغرابي... ازدردت ريقي ثم قلت:
"ماذا دهاك يا أروى".
قاطعتني سائلة وهي تضغط على ذراعي:
"هل تحبني؟"
قلت:
"أروى!!؟"
فضغطت أكثر على ذراعي وقالت:
"أجب يا وليد..."
احتقنت الدماء في وجهي واشتعل احمرارا... وخرجت أنفاسي حارة لفحة وجه أروى وأوشكت أن تحرقه...
"بالطبع..."
وكأن الإجابة قد فجرت بركانا مملوء بالحمم في عينيها... نظرت إلي نظرة تشكك... وحركت رأسها نفيا... ثم دفنت كل تلك الحرائق في صدري...
"لماذا تفعل هذا بي يا وليد؟؟ أنا لا أتحمل... لا أتحمل... لا أتحمل".
انهارت أروى باكية على صدري بعمق.. فما كان مني إلا أن أحطتها بذراعي بعطف... وطبطبت عليها...
كنت أرغب في أن نتحدث معا ونستوضح الأمور... ونصلح الخصام القائم بيننا غير أن بكاءها وانهيارها بهذا الشكل جعلني أرجىء بعيدا الأفكار المبعثرة التتي كنت أحاول تجميعها قبل دخولي الغرفة...
تركتها تبكي على صدري وأخذت أمسح على شعرها الناعم... حتى هدأت قليلا...
فقلت مشجعا:
"يكفي يا أروى... أرجوكِ".
وأمسكت برأسها وأبعدته عني قليلا... حتى التقت نظراتنا... وكم كانت عميقة ومكتظة بالمعاني...
همست بعطف وقلق:
"ماذا حل بكِ... أروى؟"
فردت للعجب ردا لايمت لسؤالي بصلة:
"إنك حتى... لم تفكر في الاحتفاظ بصورة لي! أنا خطيبتك... وزوجتك شرعا".
نظرت إليها والدهشة تملأ وجهي... وبدأ سباق نبضات قلبي وانتهى بتوقف مفاجىء.
حين سمعت أروى تتابع قائلة:
"لكنك تحتفظ بصورتها هي!"
جفلت تيبست ذراعاي وتصلبت رجلاي... حملقت في أروى في عجز عن تحرير أنظاري من أسرها...
وإذا بها تقول:
"لايحتفظ الرجل بصورة فتاة تحت وسادته... إلا إذا كان يحبها... لا يحتاج المرء لذكاء خارق حتى يستنتج هذا".
هنا انكتمت أنفاسي كليا ووقف شعر جسدي مذهولا... حدقت عيناي في عيني أروى واستقبل وجهي كلماتها القوية... كصفعة مباغتة اصطدمت به حتى تمحي ملامحم...
وبالتأكيد... فإن ملامح وجهي بالفععل قد اختفت... لأنني رأيت عيني أروى تدوران فيه... تفتشان عن شيء لم تعثر عليه...
متسمرا في مكاني... وساكنا عن أي حركةٍ أو نفسٍ أو نبض, وقفت أما أروى أتلقى النظرات الثاقبة... ذات المعاني المستهدفة...
لما رأت أروى سكوني المهول... حركت يديها نحو كتفي وضغطت عليهما... وسألت:
"هل تحبها؟"
السؤال المفاجىء المهول... أجبر فمي على الانفغار... لكن نفسا لم يخرج منه... ونفسا لم يدخل إليه...
شعرت بيدي أروى تشدان أكثر على كتفي... وكانت تركز في عيني كمسمار دق على بصري فثبته ومنعه من الهروب...
كررت:
"أنت تحبها... أليس كذلك؟؟"
لم أتحرك!
قالت ووجهها يشع احمرارا:
"أجب يا وليد؟؟"
حاولت أن أبلع ريقي لكن الشلل أصاب حلقي... كما أن الجفاف الشديد صير لساني إلى قطعة خشب مهترئة عاجزة عن الحراك...
"أجبني".
ألحت أروى... وبصعوبة عصرت هذه الكلمات من لساني عصرا:
"بـــ... بالطبع... أليست ابنة عمي؟"
أروى هزت رأسها استنكارا وقالت:
"لا يا وليد! أنت تدرك ما أعني... أنت تحبها أكثر من ذلك... لا تحاول... إنك... أنت... آه".
ولم تكمل أروى جملتها... بل سحبت يديها وأخفت وجهها بهما وابتعدت عني...
وربماكان هذا أفضل مافعلته... لتطلق سراح عيني...
ترنحت عيناي في اللاشيء... واللاهدف... وتأرجحت ذراعاي على جانبي كبندول الساعة... وتراقصت كلمات أروى الأخيرة بين طبلتي أذني حتى مزقتهما...
العرق كان يتصبب من جسمي... والدماء تغلي في عروقي... وأشعر ببخار يخترق جلدي ويطير إلى السقف...
لم أتوقع أن تأتي هذه اللحظة ذات يوم... ولم أفكر بها... وبقيت متجاهلا لاحتمالها وهاربا منه... حتى جاءت بغتة... فلم تجد لدي أي استعداد لاستقبالها...
كانت لحظة من أصعب لحظات المواجهة... بيني وبين أروى... كان... موقفا لا أحسد عليه... ورغم أنه فاجأني لحد الذهول... لحد الذوبان والتيه واللاشي... لم تصدر عني أية ردة فعل تجاهه... كنت مشلولا تماما... وما كان أسرع ما استسلمت لحصوله... وانسقت لما فرضه علي... فلا يوجد ما يمكنني أن أنفيه أو أدعيه أو أشكك فيه...
عرفت يا أروى؟؟ لابد أنك كنت ستعرفين ذات يوم...
أنا... لاأستطيع بأي حال أن أفلح في إنكار حقيقة بهذا الحجم... بحجم السماء في سعتها... وبوضوح الشمس في سطوعها...وبعمق البحر في جوفه...
إنهها الحقيقة التي تحتل تسعاً وتسعين جزءا من المائة... من حياتي كلها... ولساني يبقى عاجزا تماما عن نفيها أو تحويرها... وأفكاري منقادة لأوامر القلب الذي يستحيل عصيانه... وجنوني يدفعني لأن...أحتفظ بصورتها القديمة الممزقة كل تلك السنين... كل تلك السنين... مخبأة عندي... نعم... فهي فقط... كل ما أستطيع الاحتفاظ به... قريبا من قلبي... هي فقط... ما أستطيع أن أتحسسه بيدي... وأتأمله بعيني... وأضمه إلى صدري...
وخلال التسع سنوات الماضية... لم تفارقني هذه الصورة الغالية... كنزي الثمين... ولا ليلة واحدة...
بعد مرور بضع دقائق أو شهور أو حتى سنين... أصابني الإعياء فسرت حتى جلست على طرف السرير... التقطت أنفاسي كعجوز طاعن... أتعبه الوقوف على رجليه لبعض الوقت...
وبقيت على صمتي لدهر...
كنت أسمع صوت بكاء أروى ولا أرفع نظري إليها... حتى إذا ما توقفت, تسللت عيناي إليها بحذر...
كانت مولية ظهرها إلي ولكنها استدارت بعد قليل ولما التقت نظراتنا أسرعت بالانسحاب عن عينيها...
سمعتها بعد ذلك تقول:
"أريد أن ترتب أمر سفري بأسرع ما يمكن..."
وخرجت الجملة متحشرجة هزيلة... وجهة إليها بصري من جديد فوجدت الدموع وقد جفت عن عينيها والجفون قد تورمتوالخدين قد توهجا من أثر الملوحة...
قالتها وانتظرت ردت فعلي...
ولأنني ساعتها لم أكن بقادر على الرد فقد اكتفيت بالتنهد وإمالة رأسي نحو الأرض... وحينما رفعته مجددا رأيتها تخرج من الغرفة وتتجه إلى الحمام... حاولت أن أناديها لكن الضعف الذي ألم بي حال دون حراكي...
انتظرتها حتى تعود... وأنا ألملم بعض أشلاء شجاعتي... وأعيد ترتيب كلماتي...
لكن الانتظار طال ولم تعد...
قمت وتوجهت نحو الحمام وطرقت الباب:
"أروى ألن تخرجي الآن؟"
أجابت:
"كلا... لاتنتظرني".
وأدركت أنها لا تريد مواصلة الحديث... فما كان مني إلا أن انسحبت.
وفي غرفتي أعدت حوارنا القصير... وتقليب الجمل التي قالتها أروى في رأسي مرارا... فيما كانت الصورة الممزقة تعبث بأصابعي...
( لا يحتفظ الرجل بصورة فتاة تحت وسادته... إلا إذا كان يحبها).
آه ياصغيرتي الممزقة...
ألم تكوني نائمة بأمان في محفظتي؟؟ لماذا أخرجتك تلك الليلة!؟ لماذا تخليت عن حذري هكذا؟؟
لقد... كنت دائما لي وحدي ولا يراك إلا عيناي... لماذا ظهرت لها وكشفت السر الدفين... وفي هذا الوقت بالذات؟؟
وتذكرت... أنه في منزلنا المحروق... في غرفة سامر... في إحدى المرات...
تركت صورة رغد الممزقة قرب وسادتي ونمت... ثم جاءت والدتي رحمها الله توقظني لتأدية الصلاة... ورأتها...
ظننت حينها... أن الموقف إنتهى في ساعته... ولو تعلمون... إلى أي مدى امتد... وماذا فعل...
طافت على مسمعي... ذكريات الكلمات الغامضة التي قالتها لي والدتي في لقائي الأخير لها قبل سفرها مع أبي إلى بيت الله... إلى حيث لارجعة عندما كانت توصيني برغد...
(" انتبه لرغد جيدا يابني".
" بالطبع أمي!")
أمي بدا المزيد من القلق جليا على وجهها وقالت:
("كنا سنؤجل حجنا للعام التالي لكن... كتبه الله لنا هذا العام... هكذا قضت الظروف يابني")
وهذا زادني حيرة!
قالت("لو أن الظروف سارت على غير ذلك... لكانت الأوضاع مختلفة الآن... لكنه قضاء الله يا ولدي... سأدعوه في بيته العظيم بأن يعوضك خيرا مما فاتك... فلنحمده على ما قسم وأعطى")
وقلت("الـــ... حمدلله على كل شيء... أمي أنت تلمحين لشيء معين؟؟")
فقالت:
("لم تتغير هي عما تركتها عليه قبل سنين... كما لم تتغير أنت...")
ثم أضافت:
("إلا أن الظروف هي التي تغيرت... وأصبح لكل منكما طريقه...").
وقد توهج وجهي منفعلا مع كلمات أمي والحقيقة الصارخة أمامي أنذاك...
ولم أستطع النبس ببنت شفة أمام نظراتها التي كشفت بواطن نفسي...
قالت:
("اعنت بها كما يعتن أي شقيق بشقيقته... كما تعتني بدانة, وادع معي الله أن يسعدهم هم الثلاثة, وأنت معهم").
آه يا أماه... إنك لاتعلمين ماحصل بعد رحيلك... لو تعلمين...!

في صباح اليوم التالي وفبل ذهابي إلى المستشفى التقيت بأروى صدفة في المطبخ...
كانت هادئة جدا... وتحضر بعض الطعام... وكانت بعض الأطباق موضوعة على المائدة... ورائحة الخبز المحمص والقهوة تملآن المكان...
وقفت أراقب أروى خلسة عند الباب... وأنا حائر... أأدخل... أم أنصرف...؟؟
هل سيزعجها مروري أم سترحب بي؟؟
بأي وجه أقابلها وأي كلام سأقول...؟ وأي موقف ستتخذ مني؟؟
وفيما أنا في حيرتي لمحتني أروى فجأة فارتاعت وأوقعت ما كان في يدها...
باشرت بالدخول وسرت نحوها والتقطت معها حبات الزيتون المبعثرة على الأرض وأنا أقول:
"أنا آسف... هل أفزعتك؟"
وهي ترد:
"فاجأتني".
وبعد فراغنا من جمع الحبات التهمت إحداها...
"طيبة المذاق".
قلت معلقا... متحاشيا إطالة النظر في عينيها قدر الإمكان... ومحاولا خلق جو جديد يمحو آثار جو البارحة الممطر... أو يلطفه...
قالت وهي تشير إلى طاولةالطعام, والتي وضعت عليها صحن الزيتون وبعض أطباق الفطور الأخرى:
"تفضل".
بدا الطعام شهيا... وذا رائحة طيبة... تسيل اللعاب... وارتحت لتجاوبها مع الجو الجديد... وقد أتناول شيئا من الفطور معها لإخماد الحريق... ولو مؤقتا...
نظرت بشكل عفوي إلى ساعة يدي... لمعرفة الوقت تحديدا فما كان من أروى إلا أن علقت بطريقة فاجأتني:
"أم أن المدللة الحبيبة تنتظرك؟"
اصطدمت نظراتنا وتعاركت معا... ثم عادت نظراتي تجر أذيال الهزيمة إلى...
إذن... النار مضرمة ومستمرة ولاسبيل لإطفائها بوجبة فطور...
ومع رد أروى الحاد لم أجرؤ على قول أكثر من:
"إلى اللقاء".
وسرت خارجا يلحقني صوتها وهي تقول:
"لاتنس موضوع السفر".


***
أخبرتني مرح أنها ستأتي مع والدها لزيارتي عصر هذا اليوم.
مرح هي صديقتي وزميلتي في الجامعة, وهي ابنة السيد أسامة المنذر... مساعد وليد الأول في العمل... وشقيق المحامي يونس المنذر الرجل الذي أتى إلى مزرعة الشقراء يخبرها عن إرث عمها قبل شهور... والذي يعمل كذلك مع وليد...
ومرح رسامة بارعة... وهي شقيقة وتلميذة لأحد الفنانين الأساتذة المعروفين والذائعي الصيت على مستوى البلد...
كنت بطبيعة الحال لا أزال محبوسة على السرير الأبيض منذ يومين, معتمدة على الممرضات والسيدة ليندا في كل شيء.
كانت أعصابي منهارة تماما في اليومين السابقين... ولكنني اليوم أفضل بكثير والحمدلله.
إنها فترة الزيارة... وليد يقضيها كلها إلى جانبي... بينما تعود السيدة ليندا فيها إلى البيت...
وليد ذهب إلى عمله هذا الصباح وأتى إلي مباشرة بعد العمل... وها هو يجلس بقربي ويطالع إحدى الجرائد وعلى وجهه اهتمام ملحوظ...
يبدو أنه يقرأ أخبارا مزعجة,وأظنها عن الحرب... فهو مهووس بمتابعة تطوراتها وما يحدث في البلد أولا بأول...
على المنضدة المجاورة كان وليد قد وضع باقة رائعة من الورود الخلابة التي تبهج النفوس...
وعلبة كبيرة من الشوكولا الفاخرة التي وزع شيئا من محتواها على الأطباء والممرضات الذين يرعونني...
وألاحظ أن الرعاية في هذه المستشفى دقيقة جدا! الأطباء والممرضات يأتون لتفقدي بتكرار... حتى في أوقات الزيارة!
ها هو وليد يتثاءب من جديد! بين الفنية وأختها أراه يتثاءب أو يفرك عينيه... لاشك أنه لم ينم جيدا... وربما هو متعب ويريد أن يقيل... لكنه لم يعد للبيت بل أتى ليبقى معي... هذا يشعرني بالذنب!
إنه حنون جدا... أغدق علي عطفه وعاملني بمنتهى اللطف والاهتمام ورحابة الصدر في أزمتي هذه... حتى أنه... يساعدني في تناول الطعام!
بين لحظة وأخرى... أجر نظراتي وأحبسها بعيدا عنه, فتغافلني وتسلل خلسة إليه... مخترقة أسوار اللياقة والخجل!
إنهيتدي زي العمل... بذلة زرقاء اللون... أنيقة جدا... أراها للمرة الأولى... وقد صفف شعره بمستحضر يظهر الشعر وكأنه مبلل وتدلت خصلة طويلة لحد ما على جبينه العريض... فوق أنفه المعقوف مباشرة!
أرجو أن يكون منهمكا في القراءة وألا يلاحظ نظراتي الحمقاء!
طرق الباب...
"لا بد أنها مرح".
قلت وأنا أنظر إلى الباب ثم إلى وليد, فوضع وليد الصحيفة جانبا وقام إلى الباب وفتحه وخرج...
وسمعت صوت رجل يحييه... ثم رأيت صديقتي مرح تطل من الباب, وتحمل باقة مذهلة من الزهور البديعة...
أخذتني بالأحضان وأمطرتني بالقبل وكلمات المواساة والتشجيع... ولا أخفي عليكم أنها رفعت من معنوياتي بقر كبير...
وبدأت بعد ذلك تتحدث وبشكل مستمر...
نسيت أن أخبركم أن مرح ثرثارة ومرحة جدا كاسمها...
حلوة المعشر وطيبة القلب... تحب الحياة وتنفق على متعتها بسخاء! إنها موهوبة في الرسم مثلي وأخوتها الرسامون يقيمون معارض فنية دورية... وقد أخبرتني بأن معرضهم التالي عما قريب وأنها ستشارك فيه ودعتني أيضا للمشاركة...
الفكرة أبهرتني...! مرح فتاة رائعة... وأفكارها رائعة أيضا...
وجود مرح معي في الجامعة في الواقع أبهج حياتي كثيرا... وساعدني على تطوير علاقاتي بالزميلات... وزيارتها هذه لي فجرت ينبوعا من الأمل والتفاؤل في صدري وأزاحت جزءا كثيرا من حزني وكآبتي... الحمدلله
فيما نحن نتجاذب أطراف الحديث حول المعرض الفني المرتقب طرق الباب ثم فتح ببطء وسمعت صوت وليد يتنحنح مستأذنا الدخول...
قلت:
"تفضل وليد".
ولما أذنت له بالدخول دخل وقال:
" المعذره... سآخذ هذه".
وتوجه نحو الصحيفة التي كان يطالعها قبل قليل فأخذها ثم قال موجها الكلام إلي وعيناه مركزتان على الصحيفة:
"أبو عارف يبلغك السلام ويحمد الله على سلامتك يا رغد".
قلت:
"سلمه الله. اشكره نيابة عني".
وهم وليد بالمغادره فقلت:
"وعلى الورد كذلك وليد"
قال:
"بالطبع".
ثم غادر...
كنت لا أزال أنظر إلى الباب حين سمعت مرح تقول:
"أوه! أهذا السيد وليد شاكر؟؟!!"
تعجبت والتفت إليها فوجدت الدهشه تعلو وجهها فسألت مستغربة:
"نعم,ولكن كيف تعرفينه؟"
ابتسمت مرح وقالت وهي لاتزال ترفع حاجبيها من الدهشة:
"الجميع يتحدث عنه! والدي وعمي وأخوتي! كلهم يتحدثون عنه! هذا هو إذن!!"
سألتها متعجبة:
"يتحدثون عنه؟"
ردت:
"نعم! كمدير لمصنع البناء! السيد وليد شاكر قال, والسيد وليد شاكر فعل, والسيد وليد شاكر ذهب, والسيد وليد شاكر عاد!! هذا هو السيد وليد شاكر!!"
وكان التعجب طاغ على تعبيرات وجهها!
قلت:
" ولم أنت مستغربه هكذا؟؟"
مرح أطلقت ضحكة خفيفة وقالت:
"لم أتوقعه أبدا شابا صغيرا! أوه إنه في مقتبل العمر ! أهلي دائما يصفونه بالسيد النبيل! يقولون أنه ذكي وجدي ومهذب, ومهاب... ولايضحك أبدا! تخيلته رجلا صارما منغلقا في منتصف العمر أو حتى بعمر والدي!"
ثم أشارت إلي وأضافت:
"وأنت أخبرتني أنه أبوك بالوصاية! حسبته أكبر بكثير !"
قلت وأنا ابتسم عفويا:
"إنه يكبرني بنحو 10 سنين فقط!"
قالت والضحك يمتزج بكلامها:
"وكيف تنادينه في البيت؟ أبي؟؟ أو ابن عمي؟ أو السيد وليد شاكر؟؟"
ضحكت بخفة لتعليق مرح... وعلقت:
"وليد فقط! كما اعتدت أن أناديهمنذ الطفولة... لقد ربيت معه في بيت واحد... بعد فقد والدي... وكثيرا ما كنا نلعب سويا... وقد كنت أعتبره مثل أمي وأنا صغيره! والآن صار مثل أبي!"
ويا للأيام...!
سرحت برهة لألقي نظرة استرجاعية على الماضي البعيد... حيث ككنت طفلة صغيرة غضة... عَنى لها وليد الدنيا بأسرها!
وحقيقة لا يزال!
انتبهت على صوت مرح تتابع حديثها وقد لمعت نظرة ماكرة في عينيها:
"أب شاب... ثري وقوي وذكي... ومهذب... و..."
وهنا طرق البااب ثانية... وسمعت وليد ينادي باسمي فأذنت له بالدخول...
"أرجو المعذرة... الحلوى للزوار".
قال وهو يسير نحو المنضدة المجاور لسريري حيث علبة الشوكولا...
قلت:
"ولصديقتي أيضا من فضلك".
إذ إنه يشق علي تحريكها من موضعي, خصوصا مع إصابة يمناي.
فحمل وليد العلبة واقترب منا ومدها إلى مرح:
"تفضلي أنستي".
مرح أخذت تقلب عينيهابين أنواع الشوكولا في حيرة أيها تختار! وأخيرا اختارت
إحدى القطع وهي تقول:
"شكرا... سننتظر حلوى خروجك من المستشفى بالسلامة يا رغد".
ابتسمت, أما وليد فعقب:
"قريبا عاجلا بحول الله... الحلوى والعشاء أيضا".
واستأذن وانصرف حاملا العلبة إلى والد مرح...
هذه المرة كانت أعيننا نحن الاثنتان تنظر إلى الباب, ثم إلى بعضها البعض في الوقت ذاته.
ثم إذا بي اسمع مرح تقول:
"إنه عطر (عمق المحيط) الرجالي!"
نظرت إليها باستغراب وقلت:
"عفوا!؟"
ابتسمت وقالت:
"أهديت زجاجة مماثلة لشقيقي عارف قبل أيام! شذى قوي وراق... وباهظ الثمن!"
يا لـهذه الــــ مرح!
عقدت حاجبي وضيقت عيني ونظرت إليها باستنكار... ثم قلت:
"ماذا كنا نقول؟"
قبل أن يقطع حديثنا وليد.
أجابت مرح:
"شاب... ثري... وقوي... وذكي... وراق..."
وتوقفت برهة ثم برقت عيناها وأضافت:
"وجذاب!"
أوه يا إلهي!
وقبل أن أنطق بأي تعليق طرق الباب مجددا والتفت رأسانا بسرعة نحوه... لكن الطارق هذه المرة كان السية أم فادي... زوجة السيد سيف صديق وليد المقرب...


*******
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
رواية انت لي
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 2 من اصل 3انتقل الى الصفحة : الصفحة السابقة  1, 2, 3  الصفحة التالية
 مواضيع مماثلة
-
» رواية ((ليل له آخر))
» رواية ((هذا هو الحب))
» رواية ((إني رحلة))
» رواية ((بين الأطلال))
» رواية ((إثنا عشر رجلا))

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
غذاء الروح :: مكتبة غذاء الروح :: المكتبة العربية-
انتقل الى: